اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وثالثها : أن الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوّز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي ، أن يكون ذلك هو المستثنى ، فلا جرم كان يبالغ في التثبّت ، والتحفّظ في جميع المواضع ، وكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التيقّظ في جميع الأحوال.

قوله : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) الجهر : هو الإعلان من القول والعمل ، «وما يخفى» من السرّ.

عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ما في قلبك ونفسك (١).

وقال محمد بن حاتم : يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها (٢).

وقيل : الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك ، «وما يخفى» هو ما نسخ في صدرك.

فصل في الكلام على «ما»

«ما» : اسمية ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لئلا يلزم خلو الفعل من فاعل ، ولو لا ذلك لكان المصدرية أحسن ليعطف مصدر مؤول على مصدر صريح.

قوله : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) : عطف على (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ، فهو داخل في حيز التنفيس ، وما بينهما من الجملة اعتراض.

واليسرى : هي الطّريقة اليسرى ، وهي أعمال الخير ، والتقدير : سنقرئك فلا تنسى ، ونوفقك للطريقة التي هي أسهل وأيسر ، يعني في حفظ القرآن.

[قال ابن مسعود : اليسرى الجنة أي نيسرك للعمل المؤدي إلى الجنة (٣) وقيل نهوّن عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به وقيل نوفقك للشريعة لليسرى وهي الحنيفية

السهلة السمحة ، قال الضحاك :](٤) فإن قيل : المعهود في الكلام أن يقال : يسر الأمر لفلان ، ولا يقال : يسر فلان للأمر.

فالجواب أن هذه العبارة كأنها اختيار القرآن هنا وفي سورة «والليل» ، فكذا هي اختيار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» ، وفيه لطيفة : وهي أن الفاعل لا يترجح عنده الفعل عن الترك ، ولا عكسه ، إلّا لمرجح ، وعند ذلك المرجح يجب الفعل ، فالفاعل إذن ميسر للفعل ، إلّا أن الفعل ميسر للفاعل ، فذلك الرجحان هو المسمى ب «التيسير».

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٥).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٥٤) ، وينظر المصدر السابق.

(٤) سقط من : ب.

٢٨١

قوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (١٥)

قوله : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى). أي : فعظ قومك يا محمد بالقرآن (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي : الموعظة ، و «إن» شرطية ، وفيه استبعاد لتذكرهم ؛ ومنه قوله : [الوافر]

٥١٨٠ ـ لقد أسمعت لو ناديت حيّا

ولكن لا حياة لمن تنادي (١)

وقيل : «إن» بمعنى : «إذا» كقوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: ١٣٩] أي : إذا كنتم مؤمنين.

وقيل : هي بمعنى : «قد» ذكره ابن خالويه ، وهو بعيد.

وقيل : بعده شيء محذوف ، تقديره : إن نفعت الذكرى ، وإن لم تنفع ، كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، قاله الفراء والنحاس والجرجاني والزهراوي.

وقيل : إنّه مخصوص في قوم بأعيانهم.

وقيل : «إن» بمعنى : «ما» أي : فذكر ما نفعت الذّكرى ، فتكون «إن» بمعنى : «ما» لا بمعنى : الشرط ؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال. قاله ابن شجرة.

فصل في فائدة هذا الشرط

قال ابن الخطيب (٢) : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى الكل ، فيجب عليه تذكيرهم سواء إن نفعت الذكرى ، أو لم تنفعهم ، فما فائدة هذا الشرط ، وهو قوله : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى)؟ والجواب من وجوه : إمّا أن يكون المراد : التنبيه على أشرف الحالين ، وهو وجود النفع الذي لأجله شرعت الذكرى ، قال : والمعلق ب «إن» على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، ويدل عليه آيات منها هذه الآية ، ومنها قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة : ١٧٢] ، ومنها قوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) [النساء : ١٠١] ، فإن القصر جائز عند الخوف وعدمه ، ومنها قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٣٠] ، والمراجعة جائزة بدون هذا الظنّ ، وإذا كان كذلك ، فهذا الشرط فيه فوائد منها ما تقدم ، ومنها : البعث على الانتفاع بالذكرى ، كما يقول الرجل لمن يرشده : قد أوضحت لك إن كنت تعقل ، وهو تنبيه للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنه لا تنفعهم الذكرى ، أو يكون هذا في تكرير الدعوة ، فأما الدعاء الأول فعام.

__________________

(١) ينظر : البحر ٨ / ٤٥٤ ، والدر المصون ٦ / ٥١٠.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ١٣١.

٢٨٢

فإن قيل : الله ـ تعالى ـ عالم بعواقب الأمور بمن يؤمن ، ومن لا يؤمن ، والتعليق بالشرط ، إنما يحسن في حق من ليس بعالم.

فالجواب : أن أمر البعثة والدعوة شيء ، وعلمه تعالى بالمغيبات ، وعواقب الأمور غيره ، ولا يمكن بناء أحدهما على الآخر ، كقوله تعالى لموسى وهارون ـ عليهما الصلاة والسلام ـ : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] ، وهو تعالى عالم بأنه لا يتذكر ولا يخشى.

فإن قيل : التذكير المأمور به ، هل هو مضبوط بعدد أو لا؟ وكيف يكون الخروج عن عهدة التذكير؟.

والجواب أن المعتبر في التذكير والتكرير هو العرف.

قوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) ، أي : يتّقي الله ويخافه. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ نزلت في ابن أم مكتوم (١).

وقيل : في عثمان بن عفان قال الماوردي : وقد يذكره من يرجوه إلا أنّ تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي ؛ فلذلك علقها بالخشية والرجاء قيل المعنى : عمّم أنت التذكير والوعظ وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى ، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء. حكاه القشيري ، ولذلك علقها بالخشية دون الرجاء ، وإن تعلّقت بالخشية والرجاء.

فإن قيل : التذكير إنما يكون بشيء قد علم ، وهؤلاء لم يزالوا كفارا معاندين؟.

فالجواب : أن ذلك لظهوره وقوة دليله ، كأنه معلوم ، لكنه يزول بسبب التقليد والعناد ، فلذلك سمي بالتذكير ، والسين في قوله : «سيذكر» يحتمل أن تكون بمعنى : «سوف» ، و «سوف» من الله تعالى واجب ، كقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن من خشي ، فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التذكير والنّظر.

قوله : (وَيَتَجَنَّبُهَا) أي : الذّكرى ، يبعد عنها الأشقى ، أي : الشقي في علم الله تعالى ، لمّا بيّن من ينتفع بالذكرى بيّن بعده من لا ينتفع بها وهو الكافر الأشقى.

قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.

(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي : العظمى ، وهي السفلى من طباق النّار. قاله الفراء.

وعن الحسن : «الكبرى» : نار جهنّم ، والصّغرى : نار الدّنيا (٢).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٥) ، عن ابن عباس.

(٢) ينظر القرطبي (٢٠ / ١٥) ، عن ابن عباس.

٢٨٣

وقيل : في الآخرة نيران ودركات متفاضلة ، كما في الدنيا ذنوب ومعاصي متفاضلة ، فكما أنّ الكافر أشقى العصاة ، فكذلك يصلى أعظم النيران.

فإن قيل : لفظ الأشقى لا يستدعي وجود الشقي فكيف حال هذا القسم؟.

فالجواب أن لفظ «الأشقى» لا يستدعي وجود الشقي إذ قد يرد هذا اللفظ من غير مشاركة ، كقوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤] ، (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) ، كقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧].

وقال ابن الخطيب (١) : الفرق ثلاث : العارف ، والمتوقف ، والمعاند ، فالسعيد : هو العارف ، والمتوقف له بعض الشقاء ، والأشقى : هو المعاند.

قوله : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) ؛ لا يموت فيستريح ، ولا يحيى حياة تنفعه ، كقوله تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦].

فإن قيل : هذه الآية تقتضي أن ثمّة حالة غير الحياة والموت ، وذلك غير معقول؟.

فالجواب : قال بعضهم : هذا كقول العرب للمبتلى بالبلاء الشديد : لا هو حي ، ولا هو ميت.

وقيل : إن نفس أحدهم في النار تمرّ في حلقه ، فلا تخرج للموت ، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم ، فيحيى.

وقيل : حياتهم كحياة المذبوح وحركته قبل مفارقة الروح ، فلا هو حي ؛ لأن الروح لم تفارقه بعد ، ولا هو ميت ؛ لأن الميت هو الذي تفارق روحه جسده. و «ثمّ» للتراخي بين الرتب في الشدة.

قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي : صادف البقاء في الجنة ، أي : من تطهّر من الشّرك بالإيمان قاله ابن عباس وعطاء وعكرمة (٢).

وقال الربيع والحسن : من كان عمله زاكيا ناميا (٣) وهو قول الزجاج.

وقال قتادة : «تزكّى» ، أي : عمل صالحا (٤).

وعن عطاء ، وأبي العالية : نزلت في صدقة الفطر (٥).

__________________

(١) ينظر الرازي ٣١ / ١٣٣.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٤٦) ، عن ابن عباس وقتادة وعكرمة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦٨) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٤٦) ، عن الحسن. وذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٥٥) ، عن الربيع والحسن. وذكره القرطبي (٢٠ / ١٦).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٤٦) ، من طريق معمر عن قتادة. وذكره القرطبي (٢٠ / ١٦).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٤٧) ، عن أبي العالية. وينظر المصدر السابق.

٢٨٤

قال ابن سيرين : «قد أفلح من تزكّى ، وذكر اسم ربه فصلّى» قال : خرج فصلّى بعد ما أدى (١).

والأول أظهر ؛ لأن اللفظ المعتاد أن «يقال» في المال : زكّى ، ولا يقال : تزكّى ، قال تعالى : (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) [فاطر : ١٨].

وقال أبو الأحوص وعطاء : المراد بالآية : زكاة الأموال كلها (٢).

قال بعضهم : لا أدري ما وجه هذا التأويل ؛ لأن هذه السورة مكية ، ولم يكن ب «مكة» عيد ، ولا زكاة فطر.

قال البغويّ (٣) : يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم ، كقوله تعالى : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ٢] ، والسورة مكية ، وظهر أثر الحل يوم الفتح ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحلّت لي ساعة من نهار».

وقيل : هذا في زكاة الأعمال ، لا زكاة الأموال ، أي : زكى أعماله من الرياء [والتقصير](٤) وروى جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) ؛ أي: شهد أن لا إله إلا الله ، وخلع الأنداد ، وشهد أنّي رسول الله» (٥). وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وروى عطاء عن ابن عباس ، قال : نزلت في عثمان ـ رضي الله عنه ـ قال : كان ب «المدينة» منافق كانت له نخلة ب «المدينة» ، مائلة في دار رجل من الأنصار ، إذا هبت الرياح أسقطت البسر والرطب في دار الأنصاري ، فيأكل هو وعياله ، فخاصمه المنافق ، فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إلى المنافق ، وهو لا يعلم بنفاقه ، فقال : إنّ أخاك الأنصاريّ ذكر أنّ بسرك ورطبك يقع إلى منزله ، فيأكل هو وعياله ، فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنّة بدلها؟ فقال : أبيع عاجلا بآجل؟ لا أفعل ، فذكروا أن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أعطاه حائطا من نخل بدل نخلته ، ففيه نزلت : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) ، ونزلت في المنافق : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى)(٦).

وقال الضحاك : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه (٧).

قوله : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى).

قال ابن عباس والضحاك : وذكر اسم ربه في طريق المصلى ، فصلى صلاة العيد (٨).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٦).

(٢) ذكره الماوردي (٦ / ٢٥٥) ، وينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٤٧٧.

(٤) سقط من : ب.

(٥) ينظر تفسير القرطبي ٢٠ / ١٦.

(٦) ذكره القرطبي (٢٠ / ١٦).

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ينظر : القرطبي (٢٠ / ١٦).

٢٨٥

قال القرطبيّ (١) : «والسورة مكية في قول الجمهور ، ولم يكن ب «مكة» عيد».

قال القشيريّ : ولا يبعد أن يكون أثنى على من يمتثل أمره في صدقة الفطر ، وصلاة العيد فيما يأمر به في المستقبل.

قوله : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) ، أي : وذكر ربه.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما : معناه ذكر معاده وموقفه بين يدي الله تعالى ، فعبده وصلى له (٢).

وقيل : ذكر اسم ربه : التكبير في أوّل الصلاة ؛ لأنها لا تنعقد إلا بذكره ، وهو قوله : «الله أكبر» ، وبه يحتجّ على وجوب تكبيرة الإحرام وعلى أنّها ليست من الصلاة ؛ لأنّ الصلاة معطوفة عليها ، وفيه حجّة لمن قال : الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء الله تعالى.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «هذا في الصلوات المفروضة».

روى عبد الله رضي الله عنه : «من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له».

قوله تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(١٩)

قوله : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) ، قرأ أبو عمرو (٣) : بالغيبة.

والباقون : بالخطاب ويؤيده قراءة أبيّ (٤) : «أنتم تؤثرون».

وعلى الأول معناه : بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا على الاستكثار من الثواب.

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : أنّه قرأ هذه الآية ، فقال : أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قال : لأن الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها وطعامها وشرابها ولذاتها وبهجتها ، والأخرى : غيبت عنا فأخذنا العاجل ، وتركنا الآجل (٥).

قوله : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) ، أي : والدّار الآخرة خير ، أي : أفضل وأبقى أي : أدوم.

قوله : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى).

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٧.

(٢) ينظر : القرطبي (٢٠ / ١٦).

(٣) ينظر : الحجة ٦ / ٣٩٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٦٧ ، وحجة القراءات ٧٥٩.

(٤) وقرأ بها ابن مسعود كما في : الكشاف ٤ / ٧٤١ ، وقراءة أبيّ في : المحرر الوجيز ٥ / ٤٧٠.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٤٨) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٠) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر والطبراني والبيهقي في «شعب الإيمان».

٢٨٦

قرأ أبو عمرو (١) ، في رواية الأعمش وهارون : بسكون الحاء في الحرفين ، واختلفوا في المشار إليه بهذا.

فقيل : جميع السورة ، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس (٢).

وقال الضحاك : إن هذا القرآن «لفي الصحف الأولى» أي : الكتب الأولى (٣).

(صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) يعني : الكتب المنزلة عليهما ، ولم يرد أن هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف ، وإنما معناه : أن معنى هذا الكلام في تلك الصحف.

وقال قتادة وابن زيد : المشار إليه هو قوله تعالى : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) وقال : تتابعت كتب الله تعالى ـ كما تسمعون ـ أن الآخرة خير وأبقى وقال الحسن : إن هذا لفي الصحف الأولى يعني من قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلى آخر السورة ؛ لما روى أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول هل في أيدينا شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم» ، ثم قرأ أبو ذر : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلى آخر السورة.

وروى أبو ذرّ ـ رضي الله عنه ـ أنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كم أنزل الله من كتاب؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مائة وأربع كتب : على آدم عشرة صحف ، وعل شيث خمسون صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثون صحيفة ، وعلى إبراهيم عشرة صحائف ، والتّوراة والإنجيل والزّبور والفرقان»(٤).

قوله : «إبراهيم» قرأ العامة بالألف بعد الراء ، وبالياء بعد الهاء.

وأبو رجاء : بحذفهما (٥) والهاء مفتوحة ، أو مكسورة ، فعنه قراءتان.

وأبو موسى وابن الزبير (٦) : «إبراهام» ـ بألفين ـ وكذا في كل القرآن.

ومالك بن دينار (٧) : بألف بعد الراء فقط ، والهاء مفتوحة.

وعبد الرحمن (٨) بن أبي بكرة : «إبرهم» بحذف الألف وكسر الهاء وقد تقدم الكلام على هذا الاسم ولغاته مستوفى في سورة «البقرة» (٩) ولله الحمد على كل حال.

وقال ابن خالويه : وقد جاء «إبراهم» يعني بألف وضم الهاء.

__________________

(١) ينظر : إعراب القراءات ٢ / ٤٦٨ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٧١ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٥٥ ، والدر المصون ٦ / ٥١١.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٨).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) أخرجه ابن حبان (٩٤ ـ موارد) ، وأبو نعيم في «الحلية» (١ / ١٦٦) ، والطبراني في «الكبير» (١٦٥١) ، والبيهقي (٩ / ٤) ، وابن عدي في «الكامل» (٧ / ٢٦٩٩) ، من حديث أبي ذر.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٥٥ ، والدر المصون ٦ / ٥١١.

(٦) السابق.

(٧) السابق.

(٨) ينظر السابق ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٧١.

(٩) آية ١٢٤.

٢٨٧

وروى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله تعالى من الأجر عشر حسنات ، عدد كلّ حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد ، صلوات الله عليهم أجمعين» (١).

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٢٨٨

سورة الغاشية

مكية [بالإجماع](١) ، وهي ستّ وعشرون آية ، وثنتان وتسعون كلمة ، وثلاثمائة وإحدى وثمانون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)(٧)

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ). «هل» بمعنى : «قد» ، كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) [الإنسان : ١] قاله قطرب ، أي : قد جاءك يا محمد حديث الغاشية ، وهي القيامة ؛ لأنها تغشى الخلائق بأهوالها.

وقيل : هو استفهام على بابه ، ويسميه أهل البيان : التسويف ، والمعنى : إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك ، وهو معنى قول الكلبيّ.

وقال سعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب : الغاشية : النار تغشى وجوه الكفار (٢) ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس لقوله تعالى : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم : ٥٠].

وقيل : المراد النفخة الثانية للبعث ؛ لأنها تغشى الخلق.

وقيل : الغاشية أهل النار يغشونها ، ويقحمون فيها.

وقيل : معنى «هل أتاك» أي : هذا لم يكن في علمك ، ولا في علم قومك ، قاله ابن عباس (٣) أي : لم يكن أتاه قبل ذلك على التفصيل المذكور.

قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ). قد تقدّم نظيره في سورة «القيامة» ، وفي «النازعات» ، والتنوين

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٥٧) والقرطبي (٢٠ / ١٩).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٩).

٢٨٩

في «يومئذ» ؛ عوض من جملة ، مدلول عليها باسم الفاعل من «الغاشية» ، تقديره : يومئذ غشيت الناس ؛ إذ لا تتقدم جملة مصرح بها ، و «خاشعة» وما بعدها صفة.

فصل في تفسير الآية

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : لم يكن أتاه حديثهم ، فأخبره عنهم ، فقال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة ، (خاشِعَةٌ)(١).

قال سفيان : أي : ذليلة بالعذاب ، وكل متضائل ساكن خاشع (٢).

يقال : خشع في صلاته إذا تذلل ونكس رأسه ، وخشع الصوت : إذا خفي ، قال تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) [طه : ١٠٨].

[والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه.

قال قتادة وابن زيد : خاشعة أي في النار ، والمراد بالوجوه وجوه الكفار كلهم قاله يحيى بن سلام (٣). وقال ابن عباس : أراد وجوه اليهود والنصارى (٤)](٥).

قوله تعالى : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) هذا في الدنيا ؛ لأن الآخرة ليست دار عمل ، فالمعنى : وجوه عاملة ناصبة في الدنيا خاشعة في الآخرة.

قال أهل اللغة : يقال للرجل إذا دأب في سيره : قد عمل يعمل عملا ، ويقال للسحاب إذا دام برقه : قد عمل يعمل عملا.

وقوله : «ناصبة» أي : تعبة ، يقال : نصب ـ بالكسر ـ ينصب نصبا : إذا تعب ونصبا أيضا ، وأنصبه غيره.

قال ابن عباس : هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى ، وعلى الكفر مثل عبدة الأوثان ، والرهبان ، وغيرهم ، ولا يقبل الله ـ تعالى ـ منهم إلّا ما كان خالصا له (٦).

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «تحقّرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم ، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرميّة» الحديث (٧).

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر المصدر السابق ومثله عن قتادة أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٥١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٢) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٥٧) والقرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٩).

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٣) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٥) سقط من : ب.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٢٠).

(٧) ينظر المصدر السابق ، وتقدم تخريج الحديث.

٢٩٠

وروى سعيد عن قتادة : «عاملة ناصبة» قال : تكبرت في الدنيا عن طاعة الله ـ عزوجل ـ ، فأعملها الله وأنصبها في النار ، بجر السلاسل الثّقال ، وحمل الأغلال ، والوقوف حفاة عراة في العرصات في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة (١).

قال الحسن وسعيد بن جبير : لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له ، فأعملها وأنصبها في جهنم.

وقرأ ابن كثير في رواية ، وابن محيصن وعيسى وحميد (٢) : «ناصبة» بالنصب على الحال.

وقيل : على الذّم.

والباقون : بالرفع ، على الصفة ، أو إضمار مبتدأ فيوقف على «خاشعة».

ومن جعل المعنى : في الآخرة جاز أن يكون خبرا بعد خبر عن «وجوه» ، فلا يوقف على «خاشعة» [وقيل : عاملة ناصبة أي : عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة ، وعلى هذا يحمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة خاشعة](٣).

وروى الحسن ، قال : لما قدم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ «الشام» ، أتاه راهب ، شيخ كبير عليه سواد ، فلما رآه عمر ـ رضي الله عنه بكى ، فقيل : يا أمير المؤمنين ، ما يبكيك؟ قال : هذا المسكين ، طلب أمرا فلم يصبه ، ورجا رجاء فأخطأه ، وقرأ قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ)(٤).

قوله : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) : هذا هو الخبر.

قرأ أبو عمرو وأبو بكر (٥) ويعقوب ـ رضي الله عنهم ـ بضم التاء على ما لم يسم فاعله.

والباقون : بالفتح ، على تسمية الفاعل ، [والضمير على](٦) كلتا القراءتين للوجوه.

وقرأ أبو رجاء (٧) : بضم التاء ، وفتح الصّاد ، وتشديد اللام ، وقد تقدم معنى ذلك كله في سورتي : «الانشقاق والنساء».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٥١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٢) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٧٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٥٧ ، وزاد : عكرمة والسدي ، والدر المصون ٦ / ٥١٢.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٢٠) عن الحسن وبمعناه عن أبي عمران الجوني أخرجه الحاكم وعبد الرزاق وابن المنذر كما في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٣).

(٥) ينظر : السبعة ٦٨١ ، والحجة ٦ / ٣٩٩ ، وحجة القراءات ٧٥٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٦٩.

(٦) سقط من ب.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٥٧ ، والدر المصون ٦ / ٥١٢.

٢٩١

فصل في معنى الآية

والمعنى : يصيبها صلاؤها وحرّها ، «حامية» أي شديدة الحرّ ، أي قد أوقدت وأحميت مدة طويلة ، ومنه : حمي النهار ـ بالكسر ـ وحمي التنور حميا فيهما ، أي : اشتد حره ، وحكى الكسائي : اشتد حمى الشمس وحموها بمعنى.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله أوقدها ألف سنة حتّى احمرّت ، ثمّ أوقد عليها ألف سنة حتّى ابيضّت ، ثمّ أوقد عليها حتّى اسودّت ، فهي سوداء مظلمة» (١).

قال الماوردي : فإن قيل : فما معنى وصفها بالحمي ، وهي لا تكون إلا حامية ، وهو أقل أحوالها ، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟.

قيل : قد اختلف في المراد بالحامية هاهنا.

قيل : المراد : أنها دائمة [الحمي](٢) ، وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها.

الثاني : أن المراد بالحامية أنّها حمى من ارتكاب المحظورات ، وانتهاك المحارم ، لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله في أرضه محارمه ، ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» (٣).

الثالث : أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها ، وترام مماستها ، كما يحمي الأسد عرينه ؛ كقول الشاعر : [البسيط]

٥١٨١ ـ تعدو الذّئاب على من لا كلاب له

وتتّقي صولة المستأسد الحامي (٤)

الرابع : وقيل : المراد أنّها حامية حمي غيظ وغضب مبالغة في شدة الانتقام ، كقوله تعالى (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) [الملك : ٨].

قوله : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ). أي : حارة التي انتهى حرّها ، كقوله تعالى : (بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤] ، و «آنية» : صفة ل «عين» ، وأمالها هشام ، لأن الألف غير منقلبة من غيرها ، بل هي أصل بنفسها ، وهذا بخلاف «آنية» في سورة : «الإنسان» ، فإن الألف هناك بدل من همزة ، إذ هو جمع : «إناء» فوزنها : «فاعلة» ، وهناك «أفعلة» ، فاتحد اللفظ واختلف التصريف ، وهذا من محاسن علم التصريف.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه البخاري (١ / ١٥٣) كتاب الإيمان : باب فضل من استبرأ لدينه رقم (٥٢) وفي كتاب البيوع : باب الحلال بين والحرام بين (٢٠٥١) ومسلم (٣ / ١٢١٩ ـ ١٢٢٠) كتاب المساقاة : باب أخذ الحلال وترك الشبهات (١٠٧ / ١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير.

(٤) البيت للنابغة الذبياني ينظر القرطبي ٢٠ / ٢١.

٢٩٢

قال القرطبيّ (١) : «الآني : الذي قد انتهى حرّه ، من الإيناء بمعنى : «التأخير» ، يقال: أنّاه يؤنيه إيناء ، أي : أخره وحبسه وأبطأه ، نظيره قوله تعالى : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤] ، روي أنه لو وقعت [نقطة](٢) منها على جبال الدنيا لذابت».

قوله : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ). لمّا ذكر شرابهم ذكر طعامهم.

والضّريع : شجر في النار ، ذو شوك لاصق بالأرض ، تسميه قريش : الشّبرق إذا كان رطبا ، وإذا يبس فهو الضريع ، لا تقربه دابة ، ولا بهيمة ، ولا ترعاه ، وهو سم قاتل. قاله عكرمة ، ومجاهد وأكثر المفسرين (٣)

وروى الضحاك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ قال : شيء يرمي به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام لا الناس ، وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع ، وهلكت هزلا (٤).

والصحيح الأول ؛ قال أبو ذؤيب : [الطويل]

٥١٨٢ ـ رعى الشّبرق الرّيان حتّى إذا ذوى

رعا ضريعا بان منه النّحائص (٥)

وقال الهذلي يذكر إبلا وسوء مرعاها : [الكامل]

٥١٨٣ ـ وحبسن في هزم الضّريع فكلّها

حدباء دامية اليدين حرود (٦)

وقال الخليل : الضريع : نبات منتن الريح ، يرمي به البحر.

وقال أيضا : ويقال للجلدة التي على العظم تحت اللحم ، هي الضريع ، فكأنه تعالى وصفه بالقلة ، فلا جرم لا يسمن ولا يغني من جوع.

وقيل : هو الزقوم.

وقيل : يابس العرفج إذا تحطم.

وقيل : نبت يشبه العوسج.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : هو شجر من نار ، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض ، وما عليها (٧).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٢١.

(٢) في أ : شرارة.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٥٢ ـ ٥٥٣) عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٣) عن مجاهد وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد. وعن عكرمة وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٢١).

(٥) ينظر الكشاف ٤ / ٧٤٢ ، والقرطبي ٢٠ / ٢١ ، والبحر ٨ / ٤٥٦ ، والدر المصون ٦ / ٥١٣.

(٦) ينظر ديوانة الهذليين ٣ / ٧٣ ، واللسان (ضرع) ، والكشاف ٤ / ٧٤٢ والبحر ٨ / ٤٥٦ ، والدر المصون ٦ / ٥١٢.

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٢٢).

٢٩٣

وقال سعيد بن جبير ، وعكرمة : هي حجارة من نار (١).

وقال القرطبيّ (٢) : والأظهر أنه شجر ذو شوك حسب ما هو في الدنيا.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الضريع شيء يكون في النّار: يشبه الشّوك ، أشدّ مرارة من الصّبر ، وأنتن من الجيفة ، وأحرّ من النّار سماه الله ضريعا» (٣).

قال القتيبيّ : ويجوز أن يكون الضريع ، وشجرة الزقوم : نبتين من النار ، أو من جوهر لا تأكله النّار ، وكذلك سلاسل النار ، وأغلالها ، وحياتها ، وعقاربها ، ولو كانت على ما نعلم لما بقيت على النار ، وإنما دلّنا الله على الغائب عند الحاضر عندنا ، فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة ، وكذلك ما في الجنة من شجرها وفرشها.

وزعم بعضهم : أنّ الضريع : ليس بنبت في النار ، ولا أنهم يأكلونه ؛ لأن الضريع من أقوات الأنعام ، لا من أقوات الناس ، وإذا وقعت الإبل فيه لم تشبع ، وهلكوا هزلا ، فأراد أن هؤلاء يقتاتون بما لا يشبعهم ، وضرب الضريع له مثلا.

والمعنى أنهم يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع.

وقال الحكيم الترمذي : وهذا نظر سقيم من أهله ، يدل على أنهم تحيّروا في قدرة الله تعالى ، وأن الذي أنبت في هذا التراب الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار ، كما جعل ـ سبحانه وتعالى ـ في الدنيا من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ، فلا النار تحرق الشجر ، ولا رطوبة الماء في الشجر تطفىء النار ، قال تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) [يس : ٨٠] ، وكما قيل : حين نزلت : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [الإسراء : ٩٧] ، قالوا : يا رسول الله ، كيف يمشون على وجوههم؟ فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «الّذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» (٤) ، فلا يتحيّر في مثل هذا إلا ضعيف العقل (٥) ، أو ليس قد أخبرنا أنه : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [النساء : ٥٦] ، وقال تعالى : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) [إبراهيم : ٥٠].

وعن الحسن : لا أدري ما الضريع ، ولم أسمع فيه من الصحابة شيئا.

قال ابن كيسان : هو طعام يضرعون عنده ، ويذلون ، ويتضرعون منه إلى الله تعالى ، طلبا للخلاص منه ، فسمي بذلك ؛ لأن آكله يتضرع في أن يعفى منه ، للكراهة وخشونته.

قال أبو جعفر النحاس : قد يكون مشتقا من الضارع ، وهو الذليل ، أي : ذو ضراعة ، أي : من شربه ذليل تلحقه ضراعة.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٢٢.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٢١).

(٤) تقدم.

(٥) في أ : القلب.

٢٩٤

فإن قيل : قد قال تعالى في موضع آخر : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٥ ، ٣٦]. وقال تعالى ـ هاهنا ـ : (إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وهو غير الغسلين ، فما وجه الجمع؟.

والجواب : أن النار دركات ، فمنهم من طعامه الزقوم ومنهم من طعامه الغسلين ، ومنهم من طعامه الضريع ، ومنهم من شرابه الحميم ، ومنهم من شرابه الصديد.

قال الكلبيّ : الضريع في درجة ليس فيها غيره ، والزقوم في درجة أخرى (١).

قوله : (لا يُسْمِنُ).

قال الزمخشريّ (٢) : «مرفوع المحل ، أو مجرور على وصف طعام ، أو ضريع».

قال أبو حيان (٣) : «أما وصفه ب «ضريع» فيصح ؛ لأنه نبت نفي عنه السمن ، والإغناء من الجوع ، وأمّا رفعه على وصفه الطعام ، فلا يصح ؛ لأن الطعام منفي ، والسمن منفي ، فلا يصح تركيبه ؛ لأنه يصير التقدير : ليس لهم طعام لا يسمن ، ولا يغني من جوع إلا من ضريع ، فيصير المعنى : أن لهم طعاما يسمن ويغني من جوع من غير الضريع ، كما تقول : ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو ، فمعناه : أن له مالا لا ينتفع به من غير مال عمرو».

قال شهاب الدين (٤) : وهذا لا يرد ؛ لأنه على تقدير تسليم القول بالمفهوم ، وقد منع منه مانع ، كالسياق في الآية الكريمة.

ثم قال أبو حيّان (٥) : ولو قيل : الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في : (إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) ، كان صحيحا ؛ لأنه في موضع رفع ، على أنه بدل من اسم ليس ، أي : ليس لهم طعام إلّا كائن من ضريع ؛ إذ لا طعام من ضريع غير مسمن ، ولا مغن من جوع ، وهذا تركيب صحيح ، ومعنى واضح.

وقال الزمخشريّ (٦) أيضا : «أو أريد لا طعام لهم أصلا ؛ لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس ؛ لأن الطعام ما أشبع ، أو أسمن ، وهو عنهما بمعزل ، كما تقول : ليس لفلان ظلّ إلا الشمس ، تريد نفي الظل على التوكيد».

قال أبو حيّان (٧) : فعلى هذا يكون استثناء منقطعا ؛ لأنه لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظ طعام ، إذ ليس بطعام ، والظاهر : الاتصال فيه ، وفي قوله تعالى : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٦].

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره (٢٠ / ٢١).

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٤٣.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٤٥٨.

(٤) الدر المصون ٦ / ٥١٣.

(٥) البحر المحيط ٨ / ٤٥٨.

(٦) الكشاف ٤ / ٧٤٣.

(٧) البحر المحيط ٨ / ٤٥٨.

٢٩٥

قال شهاب الدين (١) : وعلى قول الزمخشري المتقدم لا يلزم أن يكون منقطعا ، إذ المراد نفي الشيء بدليله أي : إن كان لهم طعام ، فليس إلا هذا الذي لا يعده أحد طعاما ، ومثله : ليس له ظل إلا الشمس وقد مضى تحقيق هذا عند قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى)(٢) وقوله : [الطويل]

٥١٨٤ ـ ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

 .......... (٣)

ومثله كثير.

فصل في المراد بالآية

المعنى : أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس ؛ لأنه نوع من أنواع الشوك ، والشوك مما ترعاه الإبل ، وهذا النوع مما تنفر عنه الإبل ، فإذن منفعة الغذاء منتفية عنه ، وهما : إماطة الجوع ، وإفادة القوة والسمن في البدن أو يكون المعنى : ليس لهم طعام أصلا ؛ لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنسان ؛ لأن الطعام ما أشبع أو أسمن.

قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية ، قال المشركون : إن إبلنا لتسمن بالضريع ، فنزلت : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) وكذا فإن الإبل ترعاه رطبا ، فإذا يبس لم تأكله.

وقيل : اشتبه عليهم أمره ، فظنوه كغيره من النّبت النافع ؛ لأن المضارعة المشابهة ، فوجدوه لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيكون المعنى : أن طعامهم من ضريع لا يسمن من جنس ضريعكم ، إنما هو من ضريع غير مسمن ، ولا مغن من جوع.

قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١٦)

قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ). أي : ذات نعمة ، وهي وجوه المؤمنين ، نعمت بما عاينت من عاقبة أمرها (٤)

وقيل : ذات بهجة وحسن ، لقوله تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] ، أي : متنعمة «لسعيها» ، أي : لعملها الذي عملته في الدنيا «راضية» في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها ، وفيها واو مضمرة ، والتقدير : ووجوه يومئذ ، ليفصل بينها ، وبين الوجوه المتقدمة ، والوجوه عبارة عن الأنفس.

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٥١٣.

(٢) سورة الدخان أية ٥٦.

(٣) تقدم.

(٤) زاد في أ : لما ذكر تعالى وعيد الكفار أتبعه بشرح أحوال المؤمنين.

٢٩٦

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي : مرتفعة ؛ لأنها فوق السماوات.

وقيل : عالية القدر ، لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين.

قوله : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو (١) : بالياء من تحت مضمومة ؛ على ما لم يسم فاعله ، «لاغية» رفعا لقيامه مقام الفاعل.

وقرأ نافع كذلك إلا أنه بالتاء من فوق (٢) ، والتذكير والتأنيث واضحان ؛ لأن التأنيث مجازي.

وقرأ الباقون : بفتح التاء من فوق ، ونصب : «لاغية» ، فيجوز أن تكون التاء للخطاب ، أي : لا تسمع أنت ، وأن تكون للتأنيث ، أي : لا تسمع الوجوه.

وقرأ الفضل والجحدري (٣) : «لا يسمع» بياء الغيبة مفتوحة «لاغية» نصبا ، أي : لا يسمع فيها أحد.

و «لاغية» يجوز أن تكون صفة لكلمة على معنى : النسب ، أي : ذات لغو ، أو على إسناد اللغو إليها مجازا ، وأن تكون صفة لجماعة ، أي : جماعة لاغية ، وأن تكون مصدرا ، كالعافية والعاقبة ، كقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) [الواقعة : ٢٥] ، واللّغو : اللّغا واللاغية بمعنى واحد ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٥١٨٥ ـ عن اللّغا ورفث التّكلّم (٤)

قال الفراء والأخفش : أي : لا تسمع فيها كلمة لغو.

والمراد باللغو : ستة أوجه :

أحدها : كذبا وبهتانا وكفرا بالله عزوجل ، قاله ابن عباس (٥).

الثاني : لا باطل ولا إثم ، قاله قتادة (٦).

الثالث : أنه الشتم ، قاله مجاهد (٧).

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٨١ ، والحجة ٦ / ٣٩٩ ، ٤٠٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٦٩ ، وحجة القراءات ٧٦٠.

(٢) ينظر السابق.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٥١٤.

(٤) البيت للعجاج وقبله :

وربّ أسراب حجيج كظّم

ينظر : ديوان العجاج ص ٢٩٦ ، ومجاز القرآن ١ / ٧ ، والمحتسب ٢ / ٢٤٧ واللسان (رفث) ، و(كظم) ، و(سرب) ، والقرطبي ٢ / ٢٣.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٢٣).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٥٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٤) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٥٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٤) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.

٢٩٧

الرابع : المعصية ، قاله الحسن (١).

الخامس : لا يسمع فيها حالف يحلف بكذب ، قاله الفراء.

وقال الكلبي : لا يسمع في الجنة حالف بيمين برّة ولا فاجرة (٢).

السادس : لا يسمع في كلامهم كلمة لغو ؛ لأن أهل الجنّة لا يتكلمون إلا بالحكمة ، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم. قاله الفراء ، وهو أحسن الأقوال ، قاله القفال والزجاج.

قوله : (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ). أي : بماء مندفق ، وأنواع الأشربة اللذيذة على وجه الأرض من غير أخدود.

قال الزمخشريّ (٣) : يريد عيونا في غاية الكثرة ، كقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) [الانفطار : ٥].

قوله : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) ، أي : عالية في الهواء.

(وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) والأكواب : الكيزان التي لا عرى لها ، والإبريق : هو ما له عروة وخرطوم ، والكوب : ما ليس له عروة وخرطوم.

وقوله : (مَوْضُوعَةٌ) أي : معدة لأهلها.

وقيل : موضوعة على حافات العين الجارية.

وقيل : موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها ، لكونها من ذهب ، وفضة ، وجوهر ، وتلذذهم بالشرب منها.

وقيل : موضوعة عن حد الكبر ، أي هي أوساط بين الصغر والكبر ، كقوله تعالى : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) [الإنسان : ١٦].

قوله : (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) ، النمارق جمع «نمرق» وهي الوسادة قالت :

٥١٨٦ أ ـ نحن ينات طارق

نمشي على النّمارق (٤)

وقال الشاعر :

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٦٠) والقرطبي (٢٠ / ٢٣).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر الكشاف ٤ / ٧٤٣.

(٤) البيت لهند بنت عتبة في أدب الكاتب ص ٩٠ ؛ والأغاني ١٢ / ٣٤٣ ، ١٥ / ١٤٧ ؛ ولها أو لهند بنت بياضة بن رياح (أو رباح) بن طارق الإيادي في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٠٩ ؛ ولسان العرب (طرق) ولهند بنت بياضة بن رياح بن طارق الإياديّ في معحم ما استعجم ص ٧٠ ؛ ولهند بنت الفند الزماني (سهل بن شيبان) في الأغاني ٢٣ / ٢٥٤ ؛ ولهند دون تحديد في لسان العرب (نمرق) ؛ وللقرشية في جمهرة اللغة ص ٧٥٦ ؛ وبلا نسبة في الأغاني ١٢ / ٣٤٢ ؛ ومغني اللبيب ٢ / ٣٨٧ ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٧١.

٢٩٨

٥١٨٦ ب ـ كهول وشبّان حسان وجوههم

على سرر مصفوفة ونمارق (١)

والنمرق والنمرقة : وسادة صغيرة.

والنمرق : بضم النون والراء وكسرهما لغتان ؛ أشهرهما الأولى.

قوله : (وَزَرابِيُّ) : جمع «زربيّة» [بفتح الزاي وكسرها](٢) لغتان مشهورتان ، وهي البسط العراض.

وقيل : ما له منها خملة. قال أبو عبيدة : «الزّرابيّ» : الطنافس التي لها خمل رقيق ، واحدتها : زربيّة.

قال الكلبيّ والفراء : «المبثوثة» : المبسوطة (٣).

وقال عكرمة : بعضها فوق بعض (٤).

وقال الفراء : كثيرة.

وقال القتبي : متفرقة في المجالس.

قال القرطبي (٥) : وهذا أصح ، فهي كثيرة متفرقة ، ومنه قوله تعالى : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) [البقرة : ١٦٤].

وقال أبو بكر بن الأنباريّ : وحدّثنا أحمد بن الحسين ، قال : حدثنا حسين بن عرفة قال : حدثنا عمّار بن محمد ، قال : صليت خلف منصور بن المعتمر ، فقرأ : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) وقرأ (٦) : (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) : متكئين فيها ناعمين.

قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠)

قوله : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) ، لما ذكر الله ـ تعالى ـ أمر الدارين تعجب الكفّار من ذلك ، فكذبوا وأنكروا ، فذكرهم الله صنعته ، وقدرته ، وأنه ـ تعالى ـ قادر على كل شيء ، كما خلق الحيوانات والسماء والأرض ، وذكر الإبل أولا ؛ لأنها كثيرة في بلاد العرب ، ولم يروا الفيلة ، فنبّههم تعالى على عظيم من خلقه ، قد ذلله للصغير من خلقه يقوده وينيخه وينهضه ، ويحمل عليه الثقيل من الأحمال ، وهو بارك ، فينهض بثقيل حمله ، وليس ذلك في شيء من الحيوان غيره ، فأراهم عظيما من خلقه ، يدلهم بذلك على توحيده ، وعظيم قدرته تعالى.

__________________

(١) ينظر ديوانه (١١٣) ، والقرطبي ٢٠ / ٢٤ ، والبحر ٨ / ٤٥٧ والدر ٦ / ٥١٤.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ذكره القرطبي (٢٠ / ٢٤) عن الكلبي ومثله عن قتادة أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٥٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٤) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٤) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٢٤.

(٦) ينظر السابق.

٢٩٩

وعن بعض الحكماء : أنه حدث عن البعير ، وبديع خلقه ، وقد نشأ في بلاد لا إبل فيها ، ففكر ، ثم قال : يوشك أن تكون طوال الأعناق.

قال ابن الخطيب (١) : الإبل لها خواص ، منها أنه ـ تعالى ـ جعل الحيوان الذي يقتنى أنواعا ، فتارة يقتنى ليؤكل لحمه ، وتارة ليشرب لبنه ، وتارة ليحمل الناس في الأسفار ، وتارة لنقل المتاع من بلد إلى بلد ، وتارة للزّينة والجمال ، وهذه المنافع بأسرها حاصلة في الإبل ، ثم إنها فاقت في كل خصلة من هذه الخصال غيرها من الحيوان المختص ببعضها ، مع صبرها على العطش ، وقطع المفاوز بالأحمال الثقيلة ، وقناعتها في العلف بنبات البر ، ولقد ضللنا الطريق في مفازة ، فقدموا جملا واتبعوه ، فهداهم للطريق بعد زمان طويل ، مع كثرة المعاطف والتلول ، فانظر كيف ثبت واهتدى على ما عجزت عنه ذوو العقول.

ومنها : أنه في غاية القوة والصبر على العمل.

ومنها : أنها مع كونها كذلك منقادة للصّبي الصغير.

ومنها : أنها تحمل وهي باركة ، ثم تقوم بحملها ، وهذه الصفات توجب على العاقل أن ينظر في خلقها وتركيبها ، ويستدل بذلك على وجود الصانع الحكيم جلت قدرته.

فصل

قال قتادة ومقاتل وغيرهما : لما ذكر الله ـ تعالى ـ السرر المرفوعة ، قالوا : كيف نصعدها؟ فأنزل الله هذه الآية ، وبيّن أنّ الإبل «تبرك» حتى يحمل عليها ، ثم تقوم ، فكذلك تلك السرر تتطامن ، ثم ترتفع (٢).

وقال المبرد : الإبل هنا : القطع العظيمة من السّحاب.

وقال الثعلبي : ولم أجد لذلك أصلا في كتب الأئمة (٣).

قال القرطبي (٤) : قد ذكره الأصمعي أبو سعيد عبد الملك بن قريب ، قال أبو عمرو : من قرأها : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) بالتخفيف ، عنى بها : البعير ؛ لأنها من ذوات الأربع ، يبرك ، فتحمل عليه الحمولة ، وغيره من ذوات الأربع ، لا يحمل عليه إلا وهو قائم ، ومن قرأها بالتثقيل فقال : «الإبل» عنى بها السحاب التي تحمل الماء والمطر.

وقال الماورديّ : وفي الإبل وجهان :

أظهرهما : أنها «الإبل».

__________________

(١) الفخر الرازي ٣١ / ١٤٣.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٢٤).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر الجامع لأحكام القرآن (٢٠ / ٢٥).

٣٠٠