اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

خبر مقدم ، و «حافظ» : مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر «كل» ، و «ما» : مزيدة بعد اللام الفارقة ، ويجوز أن يكون «عليها» : هو الخبر وحده ، و «حافظ» : فاعل به ، وهو أحسن ، ويجوز أن يكون «كل» : مبتدأ ، و «حافظ» : خبره ، و «عليها» : متعلق به ، و «ما»: مزيدة أيضا ، هذا كله تفريع على قول البصريين.

وقال الكوفيون : «إن» هنا : نافية ، واللام بمعنى : «إلّا» إيجابا بعد النفي ، و «ما»: مزيدة. وتقدم الكلام في هذا مستوفى.

قال الفارسي : ويستعمل «لما» بمعنى : «إلّا» في موضعين :

أحدهما : هذا ، والآخر : في باب القسم ، تقول : سألتك لما فعلت.

وروي عن الكسائيّ والأخفش وأبي عبيدة أنهم قالوا : لم نجد «لما» بمعنى : «إلا» في كلام العرب.

وأما قراءة التشديد : ف «إن» نافية ، و «لمّا» بمعنى : «إلا» وتقدمت شواهد ذلك في سورة «هود» (١).

وحكى هارون : أنه (٢) قرىء «إنّ» بالتشديد ، «كلّ» بالنصب على أنه اسمها ، واللام : هي الدالخة في الخبر ، و «ما» : مزيدة ، و «حافظ» : خبرها.

وعلى كل تقدير ف «إن» وما في خبرها : جواب القسم سواء جعلها مخففة أو نافية.

وقيل : الجواب : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ) وما بينهما اعتراض ؛ وفيه بعد.

فصل في المراد بالحافظ (٣)

قال قتادة : «حافظ» أي : حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك ، قال تعالى : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) [الأنعام : ٦١] ، وقال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار : ١٠ ، ١١] ، وقال تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١].

وقيل : الحافظ : هو الله تعالى.

وقيل : الحافظ : هو العقل يرشد الإنسان إلى مصالحه ، ويكفّه عن مضارّه.

قال القرطبيّ (٤) : العقل وغيره وسائط ، والحافظ في الحقيقة هو الله تعالى ، قال الله

__________________

(١) آية ١١١.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٤٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٣٤) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٤٦) ، وينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ٤).

(٤) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٤.

٢٦١

تعالى : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) [يوسف : ٦٤] ، وقال تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) [الأنبياء : ٤٣] وما كان مثله.

قال ابن الخطيب (١) : المعنى : لما كانت كل نفس عليها حافظ ، وجب أن يجتهد كل واحد ، ويشتغل بالمهم ، وأهم الأشياء معرفة المبدأ والمعاد والمبدأ يقدم.

قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) (١٠)

قوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) ، أي : ابن آدم ، «ممّ خلق» ، وجه الاتصال بما قبله وصية الإنسان بالنظر في أول أمره حتى يعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فليعمل ليوم الإعادة والحشر والجزاء ، ولا يملي على الحافظ إلا ما يسرّه في عاقبه أمره.

وقوله تعالى : (مِمَّ خُلِقَ) ، استفهام ، أي : من أيّ شيء خلق ، وهو جواب الاستفهام.

قوله : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ). فاعل بمعنى مفعول [كعكسه في قولهم : سيل مفعم](٢) ، كقوله تعالى : (حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء : ٤٥] على وجه.

وقيل : «دافق» على النسب ، أي : ذو دفق أو اندفاق.

وقال ابن عطية (٣) : يصح أن يكون الماء دافقا ؛ لأن بعضه يدفق بعضا ، أي : يدفقه ، فمنه دافق ، ومنه مدفوق انتهى.

والدّفق : الصّبّ ، ففعله متعدّ.

وقرأ زيد (٤) بن علي : «مدفوق» ، وكأنّه فسر المعنى.

قال القرطبيّ (٥) : الصبّ : دفق الماء ، دفقت الماء ، أدفقه دفقا ، أي : صببته فهو ماء دافق ، أي : مدفوق ، كما قالوا : سرّ كاتم ، أي : مكتوم ؛ لأنه من قولك : دفق الماء على ما لم يسم فاعله ، ولا يقال : دفق الماء ، ويقال : دفق الله روحه : إذا دعى عليه بالموت.

قال الفرّاء والأخفش : «ماء دافق» : أي مصبوب في الرّحم.

وقال الزجاج : «من ماء ذي اندفاق» ، يقال : دارع ، وفارس ، ونابل ، أي ذو فرس ودرع ونبل ، وهذا مذهب سيبويه.

والدّافق : هو المندفق بشدة قوته ، وأراد ماءين : ماء الرجل وماء المرأة ؛ لأن الإنسان مخلوق منهما ، لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١١٧.

(٢) سقط من : ب.

(٣) المحرر الوجيز ٥ / ٤٦٥.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٤٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٧.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٥.

٢٦٢

وقال ابن عباس : «دافق» لزج (١).

قوله : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) ، أي : هذا الماء من بين الصلب ، أي : الظّهر وقرأ العامة : «يخرج» مبنيا للفاعل ، وابن أبي عبلة وابن مقسم (٢) : مبنيا للمفعول. وقرأ ـ أيضا (٣) ـ : وأهل «مكة» : «الصّلب» بضم الصاد واللام.

وقرأ اليماني (٤) : بفتحها ؛ ومنه قول العجّاج : [الرجز]

٥١٦٣ ـ في صلب مثل العنان المؤدم (٥)

[وفيه أربع لغات : «صلب ، وصلب ، وصلب ، وصالب ، ومنه قوله](٦) : [المنسرح]

٥١٦٤ ـ تنقل من صالب إلى رحم

 .......... (٧)

والترائب : جمع تريبة ، وهي موضع القلادة من عظام الصّدر ؛ لأن الولد مخلوق من مائهما؛ فماء الرجل في صلبه ، وماء المرأة في ترائبها ، وهو معنى قوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢] ؛ وقال امرؤ القيس : [الطويل]

٥١٦٥ ـ مهفهفة بيضاء غير مفاضة

ترائبها مصقولة كالسّجنجل (٨)

وقال آخر : [الكامل]

٥١٦٦ ـ والزّعفران على ترائبها

شرق به اللّبّات والنّحر (٩)

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٤) ، عن ابن عباس.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٤٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٧.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٦٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٤٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٧.

(٤) السابق.

(٥) عجز بيت وصدره :

ريّا العظام فخمة المخدم

ينظر اللسان (صلب) ، والقرطبي ١٩ / ٦ ، والبحر ٨ / ٤٤٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٧.

(٦) في أما يلي :

وتقدمت لغاته في سورة «النساء» عند قوله تعالى : (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) وأعرفها صالب ، كقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.

(٧) تقدم.

(٨) ينظر ديوان امرىء القيس (١١٥) ، وشرح المعلقات للزرزني (٣٠) ، وإعراب القرآن ٥ / ٢٠٠ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٥ / ٣١٢ ، واللسان (ترب) ، والقرطبي ٢٠ / ٥ ، والبحر ٨ / ٤٤٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٧.

(٩) هو للمخبل السعدي ، ينظر اللسان (ترب) ، والطبري ٣٠ / ٦٣ ، ومجمع البيان ١٠ / ٧١٤ ، والقرطبي ٢٠ / ٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٤٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٧.

٢٦٣

وقال المثقب العبديّ : [الوافر]

٥١٦٧ ـ ومن ذهب يلوح على تريب

كلون العاج ليس له غضون (١)

وقال الشاعر : [الرجز]

٥١٦٨ ـ أشرف ثدياها على التّريب (٢)

وعن ابن عباس وعكرمة : الترائب : ما بين ثدييها (٣).

وقيل : التّرائب : التراقي.

وقيل : أضلاع الرجل التي أسفل الصلب.

وحكى الزجاج : أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر ، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر.

وعن ابن عبّاس : أطراف المرء : يداه ورجلاه وعيناه (٤) ، وهو قول الضحاك.

وقيل : عصارة القلب (٥) ، وهو قول معمر بن أبي حبيبة.

قال ابن عطية (٦) : وفي هذه الأقوال تحكم على اللغة.

وقال سعيد بن جبير : هو الجيد (٧).

وقال مجاهد : ما بين المنكبين والصدر (٨).

وقال القرطبيّ (٩) : والمشهور من كلام العرب أنها عظام الصّدر والنّحر.

جاء في الحديث : أن الولد يخلق من ماء الرجل ، يخرج من صلبه العظم والعصب ، وماء المرأة التي يخرج من ترائبها اللحم والدم (١٠).

حكى القرطبيّ (١١) : أنّ ماء الرجل يخرج من الدّماغ ، ثم يجتمع (١٢) في الأنثيين ، وهذا لا يعارض : (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) ؛ لأنه إن نزل من الدّماغ ، فإنما يمرّ بين الصلب والترائب.

قال قتادة : المعنى : يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة (١٣).

__________________

(١) ينظر شعر المثقب العبدي ص (٣٢) ، والمفضليات ص ٥٧٩ ، والطبري ٣٠ / ٩٣ ، وإعراب القرآن ٥ / ١٩٩ ، واللسان (ترب) والقرطبي ٢٠ / ٦ ، والبحر ٨ / ٤٤٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٧.

(٢) ينظر ابن الشجري ٢ / ٣٤١ ، والقرطبي ٢٠ / ٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٣٤).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٣٥).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٣٦).

(٦) ينظر المحرر الوجيز ٥ / ٤٦٥.

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٥).

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٣٥).

(٩) ينظر الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٥.

(١٠) تقدم تخريجه.

(١١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٦.

(١٢) في أ : ينزل.

(١٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٣٥).

٢٦٤

وحكى الفراء : أنّ مثل هذا يأتي عن العرب ، فيكون معنى من بين الصلب : من الصلب.

والمعنى من صلب الرجل وترائب المرأة ، ثم إنّا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن ، ولذلك يشبه الرجل والديه كثيرا ، وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني ، وأيضا فالمكثر من الجماع يجد وجعا في صلبه وظهره ، وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبسا من الماء.

قال المهدويّ : من جعل المنيّ يخرج من بين صلب الرجل وترائبه ، فالضمير في «يخرج» للماء ، ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، فالضمير للإنسان.

قوله : (إِنَّهُ). الضمير للخالق المدلول عليه بقوله تعالى : (خُلِقَ) ؛ لأنه معلوم أن لا خالق سواه سبحانه.

قوله : (عَلى رَجْعِهِ) ، في الهاء وجهان :

أحدهما : أنه ضمير الإنسان أي على بعثه بعد موته ، وهو قول ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة (١) ، وهو اختيار الطبري (٢) ، لقوله تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ).

والثاني : أنه ضمير الماء ، أي : يرجع المنيّ في الإحليل أو الصلب (٣).

قاله الضحاك ومجاهد ، والأول قول الضحاك أيضا وعكرمة.

[وعن الضحاك أيضا أن المعنى أنه على رد الإنسان من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الكبر. حكاه المهدوي (٤).

وفي الماوردي والثعلبي : إلى الصّبا ومن الصّبا إلى النّطفة (٥).

وقال ابن زيد : إنه على حبس ذلك الماء حتى يخرج لقادر.

وقال الماوردي : يحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعثه إلى الآخرة ؛ لأن الكفار يسألون فيها الرجعة ، والرجع مصدر رجعت الشيء أي : رددته](٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٣٧) عن قتادة.

(٢) ينظر : جامع البيان ١٢ / ٥٣٧.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٣٦) ، عن مجاهد وعكرمة والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦١) ، عن مجاهد وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وذكره أيضا عن عكرمة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٣٧).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٣٧) ، عن ابن زيد.

(٦) سقط من : ب.

٢٦٥

قوله : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ). فيه أوجه ، وقد رتبها أبو البقاء على الخلاف في الضمير ، فقال (١) : على القول بكون الضمير للإنسان ، فيه أوجه :

أحدها : أنه معمول ل «قادر».

إلّا أنّ ابن عطية قال (٢) ـ بعد أن حكى أوجها عن النحاة ـ : «وكل هذه الفرق فرّت من أن يكون العامل «لقادر» ، لئلّا يظهر من ذلك تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده».

ثم قال : «وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل «لقادر» ، وذلك أنه قال : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) ؛ لأنه إذا قدر على ذلك في هذا الوقت كان في غيره أقدر بطريق الأولى.

الثاني : أن يكون العامل مضمر على التبيين ، أي : يرجعه يوم تبلى.

الثالث : تقديره : اذكر ، فيكون مفعولا به ، وعلى عوده على الماء يكون العامل فيه : اذكر» انتهى ملخصا.

وجوّز بعضهم أن يكون العامل فيه «ناصر» ، وهو فاسد ؛ لأن ما بعد «ما» النافية وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلهما.

وقيل : العامل «رجعه» ، وهو فاسد ، لأنه قد فصل بين المصدر ومعموله بأجنبي ، وهو خبر «إنّ». وبعضهم يقتصره في الظرف.

قوله : «تبلى» تختبر وتعرف ؛ قال الراجز : [الرجز]

٥١٦٩ ـ قد كنت قبل اليوم تزدريني

فاليوم أبلوك وتبتليني (٣)

أي : أعرفك وتعرفني.

وقيل : (تُبْلَى السَّرائِرُ) تخرج من مخبآتها وتظهر ، وهو كل ما استسرّه الإنسان من خير ، أو شر ، وأضمره من إيمان ، أو كفر.

قال ابن الخطيب (٤) : والسرائر : ما أسر في القلوب ، والمراد هنا : عرض الأعمال ، ونشر الصحف ، أو المعنى : اختبارها ، وتمييز الحسن منها من القبيح لترتيب الثواب والعقاب.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ائتمن الله ـ تعالى ـ خلقه على أربع : الصّلاة ، والزّكاة والصّيام ، والغسل ، وهنّ السّرائر الّتي يختبرها الله ـ عزوجل ـ يوم القيامة» (٥). ذكره المهدوي.

وروى الماورديّ عن زيد بن أسلم ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأمانة ثلاث :

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٨٥.

(٢) المحرر الوجيز ٥ / ٤٦٦.

(٣) ينظر القرطبي ٢٠ / ٧.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١١٩.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦١) ، وعزاه إلى البيهقي في «شعب الإيمان» عن أبي الدرداء مرفوعا.

٢٦٦

الصّلاة ، والصّوم ، والجنابة ، استأمن الله ـ تعالى ـ ابن آدم على الصّلاة ، فإن شاء قال : صلّيت ، ولم يصلّ ، واستأمن الله تعالى ابن آدم على الصّوم ، فإن شاء قال : [صمت ولم يصم واستأمن الله تعالى ابن آدم على الجنابة فإن شاء قال :](١) اغتسلت ولم يغتسل ، اقرأوا إن شئتم : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ)(٢).

[وقال مالك ـ رضي الله عنه ـ : الوضوء من السرائر ، والسرائر ما في القلوب يجزي الله به العباد](٣).

وقال ابن العربيّ : قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : يغفر للشهيد إلّا الأمانة ، والوضوء من الأمانة ، والصلاة والزكاة من الأمانة ، والوديعة من الأمانة ، وأشد ذلك الوديعة ، تمثل له على هيئتها يوم أخذها ، فيرمى بها في قعر جهنم ، فيقال له : أخرجها ، فيتبعها ، فيجعلها في عنقه ، وإذا أراد أن يخرج بها زلت ، فيتبعها ، فيجعلها في عنقه ، فهو كذلك دهر الداهرين (٤).

وقال أبي بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها (٥).

وقال سفيان : الحيضة والحمل من الأمانة ، إن قالت : لم أحض وأنا حامل صدقت ما لم يأت ما يعرف فيه أنها كاذبة (٦).

قوله : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) ، أي : فما للإنسان من قوّة ، أي : منعة تمنعه ، ولا ناصر ينصره عن ما نزل به.

قال ابن الخطيب (٧) : ويمكن أن يتمسك بهذه الآية على نفي الشفاعة ، لقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة : ٤٨] الآية.

والجواب ما تقدم.

قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧)

قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ).

قيل : الرّجع : مصدر ، بمعنى رجوع الشمس والقمر إليها ، والنجوم تطلع من ناحيته ، وتغيب في أخرى.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي (٢٠ / ٨) ، وعزاه إلى الثعلبي.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي (٢٠ / ٨) ، وعزاه إلى الثعلبي.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٢٠.

٢٦٧

وقيل : الرّجع : المطر ؛ قال المتنخّل ، يصف سيفا يشبهه بالماء : [السريع]

٥١٧٠ ـ أبيض كالرّجع رسوب إذا

ما ثاخ في محتفل يختلي (١)

وقال : [البسيط]

٥١٧١ ـ ربّاء شمّاء لا يأوي لقلّتها

إلّا السّحاب وإلّا الأوب والسّبل (٢)

وقال الخليل : المطر نفسه ، وهذا قول الزجاج.

قال ابن الخطيب (٣) : واعلم أن كلام الزجاج ، وسائر علماء اللغة «صريح» في أن الرجع ليس اسما موضوعا للمطر ، بل سمي رجعا مجازا ، وحسن هذا المجاز وجوه :

أحدها : قال القفال : كأنه من ترجيع الصوت وهو إعادته ، ووصل الحروف به ، وكذا المطر ، لكونه يعود مرة بعد أخرى سمّي رجعا.

وثانيها : أن العرب كانوا يزعمون أنّ السّحاب يحمل الماء من بحار الأرض ، ثم يرجعه إلى الأرض.

والرجع ـ أيضا ـ نبات الربيع.

وقيل : «ذات الرّجع» أي : ذات النفع.

وقيل : ذات الملائكة ، لرجوعهم فيها بأعمال العباد ، وهذا قسم.

(وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) قسم آخر ، أي : تتصدع عن النبات ، والشجر ، والثمار ، والأنهار ، نظيره : (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) [عبس : ٢٦].

والصّدع : بمعنى الشق ؛ لأنه يصدع الأرض ، فتصدع به ، وكأنّه قال (٤) : والأرض ذات النبات الصادع للأرض.

[وقال مجاهد : الأرض ذات الطريق التي تصدعها المشاة.

وقيل : ذات الحرث لأنه يصدعها.

وقيل : ذات الأموات لانصداعها للنشور.

وقيل : هما الجبلان بينهما شق وطريق نافذ لقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً)](٥) [الأنبياء : ٣١].

__________________

(١) ينظر ديوان الهذليين ٢ / ١٢ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٩٤ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٥ / ٣١٢ ، والقرطبي ٢٠ / ٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٨ ، وفتح القدير ٥ / ٤٢٠.

(٢) البيت للمتنخل الهذلي ينظر : خزانة الأدب ٥ / ٣ ، ٧ ، وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٢٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣١٥ ، وشرح المفصل ٣ / ٥٨ ، ٥٩ ، واللسان (أوب).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٢٠.

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٤٩) ، والقرطبي (٢٠ / ٩).

(٥) سقط من : ب.

٢٦٨

قال ابن الخطيب (١) : واعلم أنّه تعالى ، كما جعل كيفية خلقه الحيوان دليلا على معرفة المبدأ والمعاد ، ذكر في هذا القسم كيفية خلقه النبات.

فقال تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي : كالأب ، (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) كالأم ، وكلاهما من النعم العظام ؛ لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء متكررا ، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك ، ثم أردف هذا القسم بالمقسم عليه ، وهو قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ). وهذا جواب القسم ، والضمير في «إنّه» للقرآن ، أي : إن القرآن يفصل بين الحق والباطل.

وقال القفال : يعود إلى الكلام المتقدم والمعنى : ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم يوم تبلى سرائركم قول فصل ، وحق ، والفصل : الحكم الذي ينفصل به الحق عن الباطل ، ومنه فصل الخصومات ، وهو قطعها بالحكم الجزم ، [ويقال : هذا قول فصل قاطع للشر والنزاع.

وقيل : معناه جد](٢) لقوله : (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ). أي : باللعب ، والهزل : ضد الجد والتشمير في الأمر ، يقال : هزل يهزل.

قال الكميت : [الطويل]

٥١٧٢ ـ تجدّ بنا في كلّ يوم وتهزل (٣)

قوله : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) ، أي : أنّ أعداء الله يكيدون كيدا ، أي : يمكرون بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مكرا.

قيل : الكيد ، إلقاء الشبهات ، كقولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [المؤمنون : ٣٧] (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨] ، (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] ، (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥].

وقيل : الطعن فيه بكونه ساحرا ، أو شاعرا ، أو مجنونا ، حاشاه من ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : قصدهم قتله ، لقوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٣٠] الآية.

وأما قوله : (وَأَكِيدُ كَيْداً). أي : أجازيهم جزاء كيدهم.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ١٢١.

(٢) سقط من : ب.

(٣) عجز بيت وصدره :

أرانا على حبّ الحياة وطولها

ينظر الكميت وقصائده الهاشميات ص ١٤١ ، واللسان (هزل) ، والقرطبي ٢ / ٩ ، والبحر ٨ / ٤٤٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٨.

٢٦٩

وقيل : هو ما أوقع الله ـ تعالى ـ بهم يوم «بدر» من القتل ، والأسر.

وقيل : استدراجهم من حيث لا يعلمون.

وقيل : كيد الله تعالى ، بنصره وإعلاء درجته صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسمية لأحد المتقابلين باسم الآخر ، كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ؛ وقول الشاعر : [الوافر]

٥١٧٣ ـ ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا (١)

وقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر : ١٩] ، (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢]. قوله : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ). أي : لا تدع بهلاكهم ، ولا تستعجل ، وارض بما تريده في أمورهم ، ثم نسخت بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].

قوله : (أَمْهِلْهُمْ). هذه قراءة العامة ، لما كرر الأمر توكيدا خالف بين اللفظين.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما : «مهّلهم» كالأول ، ومهّل وأمهل بمعنى مثل : نزل وأنزل ، والإمهال والتّمهيل : الانتظار ، يقال : أمهلتك كذا ، أي : انتظرتك لتفعله ، والاسم : المهلة والاستمهال : الانتظار ، والمهل : الرّفق والتّؤدة ، وتمهل في أمره : أي : أتاه ، وتمهّل تمهيلا : اعتدل وانتصب ، والامتهال : سكون وفتور ، ويقال : مهلا يا فلان ، أي رفقا وسكونا.

قوله : (رُوَيْداً). مصدر مؤكد لمعنى العامل ، وهو تصغير إرواد على الترخيم ، وقيل : بل هو تصغير «رود» كذا قال أبو عبيد.

وأنشد : [البسيط]

٥١٧٤ ـ كأنّه ثمل يمشي على رود (٢)

أي : على مهل. واعلم أن «رويدا» : يستعمل مصدرا بدلا من اللفظ بفعله ، فيضاف تارة ، كقوله تعالى : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤] ، ولا يضاف أخرى ، نحو : رويدا زيدا ، ويقع حالا ، نحو : ساروا رويدا ، أي : متمهلين ، ونعت المصدر ، نحو : «ساروا رويدا» ، أي : سيرا رويدا ، وتفسير «رويدا» مهلا ، وتفسير «رويدك» أمهل ؛ لأن الكاف إنما تدخله إذا كان بمعنى : «افعل» دون غيره ، وإنّما حرّكت الدال لالتقاء الساكنين ، ونصب نصب

__________________

(١) ينظر سمط اللآلىء ١ / ٥٨٠ ، والمحرر الوجيز ١ / ١٥٩ ، وشرح شواهد الكشاف ص ٥٥١.

(٢) عجز بيت للجموح الظفري ، وصدره :

تكاد لا تكلم البطحاء وطأتها

ينظر ابن يعيش ٤ / ١٩ ، واللسان (ورد) ، والقرطبي ٢٠ / ٩ ، وشرح القصائد السبع لابن الأنباري ٤٠٣ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٨.

٢٧٠

المصادر ، وهو مصغّر مأمور به ؛ لأنه تصغير الترخيم من «إرواد» : وهو مصدر : «أرود ، يرود» ، وله أربعة أوجه : اسما للفعل ، وصفة ، وحالا ، ومصدرا ، وقد تقدم ذكرها.

قال بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «رويدا» أي : قريبا (١).

وقال قتادة : قليلا (٢).

وقيل : (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) : إلى يوم القيامة ، وإنما صغّر ذلك من حيث إن كل آت قريب.

وقيل : (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) إلى يوم يرد.

روى الثعلبي عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) أعطاه الله تعالى من الأجر بعدد كلّ نجم في السّماء عشر حسنات»(٣). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٤١) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦٢) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٤١) ، عن قتادة.

(٣) تقدم تخريجه مرارا.

٢٧١

سورة الأعلى

مكيّة في قول الجمهور.

وقال الضحاك : مدنيّة ، وهي تسع عشرة آية ، واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وأربعة وثمانون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى)(٥)

قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى). يستحب للقارىء إذا قرأ : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أن يقول عقيبه : «سبحان ربي الأعلى» كذا جاء في الحديث (١) ، وقال جماعة من الصحابة والتابعين وقال ابن عباس والسديّ : معنى «سبح اسم ربك الأعلى» أي : عظّم ربك الأعلى ، والاسم صلة ، قصد بها تعظيم المسمى (٢).

كقول لبيد : [الطويل]

٥١٧٥ ـ إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما

 ........... (٣)

[وقيل : نزه ربك عن السوء ، وعما يقوله الملحدون ، وذكر الطبري أن المعنى : نزه اسم ربك الأعلى عن أن تسمي به أحدا سواه.

وقيل : المعنى : نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظّم لذكره ، وجعلوا الاسم بمعنى التسمية](٤).

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٢٩٦) ، كتاب : الصلاة ، باب : الدعاء في الصلاة رقم (٨٨٣) ، وأحمد (١ / ٢٣٢) ، والبيهقي (٢ / ٣١٠) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦٦) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

وقد ورد موقوفا عن ابن عباس من فعله ، أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٤٢) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦٦) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٥١) ، والبغوي (٤ / ٤٧٥) ، والقرطبي (٢٠ / ١١).

(٣) تقدم.

(٤) سقط من : ب.

٢٧٢

قال ابن الخطيب (١) : معنى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي : نزهه عن كل ما لا يليق به في ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله ، وفي أسمائه ، وفي أحكامه.

أمّا في ذاته ، فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض.

وأما في صفاته ، فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة.

وأمّا في أفعاله ، فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور.

وقالت المعتزلة : هو أن تعتقد أن كل ما فعله صواب حسن ، وأنه سبحانه لا يفعل القبيح ، ولا يرضى به ، وأما في أسمائه : فأن لا تذكره ـ سبحانه وتعالى ـ إلّا بالأسماء التي لا توهم نقصا بوجه من الوجوه ، سواء ورد الإذن فيها أو لم يرد.

وأمّا في أحكامه : فهو أن تعلم أن ما كلفنا به ليس لنفع يعود إليه ، بل لمحض المالكية على قولنا ، أو لرعاية مصالح العباد على قول المعتزلة.

فصل فيمن استدل بالآية على أن الاسم نفس المسمى

قال ابن الخطيب (٢) : تمسّك بهذه الآية في أن الاسم نفس المسمى.

وأقول : الخوض في هذه المسألة لا يمكن إلا بعد الكشف عن محل النزاع ، فنقول : إن كان الاسم عبارة عن اللفظ ؛ والمسمى عبارة عن الذات ، فليس الاسم المسمى بالضرورة ، فكيف يمكن الاستدلال على ما علم بالضرورة؟ نعم هنا نكتة ، وهي أنّ الاسم هو اللفظ الدّال على معنى في نفسه من غير زمن ، والاسم كذلك ، فيكون اسما لنفسه ، فالاسم هنا نفس المسمى ، فعلى هذا يرد من أطلق ذلك ؛ لأن الحكم بالتعميم خطأ ، والمراد : الذي يدل على أن الاسم نفس المسمى هو أن أحدا لا يقول : سبحان الله وسبحان اسم ربنا ، فمعنى «سبح اسم ربك» سبح ربك ، والربّ أيضا اسم ، فلو كان غير المسمى لم يجز أن يقع التسبيح عليه.

وهذا الاستدلال ضعيف ، لما بيّنا أنه يمكن أن يكون واردا بتسبيح الاسم ، ويمكن أن يكون المراد : سبح المسمى ، وذكر الاسم صلة فيه ، ويكون المراد : سبح باسم ربك ، كما قال تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧٤] ، ويكون المعنى : سبح بذكر أسمائه.

فصل في تفسير الآية

روى أبو صالح عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : صلّ بأمر ربك الأعلى قال : وهو أن يقول : «سبحان ربّي الأعلى» (٣) وروي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ وابن عباس ، وابن

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ١٢٤.

(٢) السابق.

(٣) ينظر المصدر السابق.

٢٧٣

عمر ، وابن الزبير ، وأبي موسى ، وعبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة ، قالوا : «سبحان ربّي الأعلى» امتثالا لأمره في ابتدائها ، فيختار الاقتداء بهم في قراءتهم ، لا أن سبحان ربيّ الأعلى من القرآن ، كما قاله بعض أهل (١) الزّيغ.

وقيل : إنّها في قراءة أبيّ (٢) : «سبحان ربّي الأعلى».

وروى ابن الأنباري بإسناده إلى عيسى بن عمر عن أبيه ، قال : قرأ علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في الصلاة : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، ثم قال : سبحان ربي الأعلى ، فلما انقضت الصلاة ، قيل له : يا أمير المؤمنين ، أتزيد هذا في القرآن؟ قال : ما هو؟ قالوا : سبحان ربي الأعلى ، قال : لا ، إنما أمرنا بشيء فقلته (٣).

وعن عقبة بن عامر الجهنيّ ، قال : لما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في سجودكم» (٤).

قال القرطبيّ (٥) : «هذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى ؛ لأنهم لم يقولوا : سبحان اسم ربي الأعلى».

وقيل : معناه : ارفع صوتك بذكر ربك ؛ قال جرير : [الكامل]

٥١٧٦ ـ قبح الإله وجوه تغلب كلّما

سبح الحجيج وكبّروا تكبيرا (٦)

قوله : «الأعلى» : يجوز جره : «صفة» ل «ربك» ، ونصبه صفة ل «اسم» ، إلا أن هذا يمنع أن يكون «الذي» صفة ل «ربك» ، بل يتعين جعله نعتا ل «اسم» ، أو مقطوعا لئلا يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بصفة غيره ؛ إذ يصير التركيب ، مثل قولك : جاءني غلام هند العاقل الحسنة ، فيفصل ب «العاقل» بين «هند» وبين صفتها. وتقدم الكلام في إضافة الاسم إلى المسمى.

قوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى).

قال ابن الخطيب (٧) : يحتمل أن يريد النّاس خاصة ، ويحتمل أن يريد الحيوان ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٤٢) ، عن علي وابن عمر وابن عباس. وينظر المصادر السابقة.

(٢) ونسبها الزمخشري لعلي ، ينظر : الكشاف ٤ / ٧٣٨ ، وفي المحرر الوجيز ٥ / ٤٦٨ نقلا عن الطبري أن ابن عمر وعليّا قرءا كذلك ، قال ابن عطية : وهي قراءة أبي موسى الأشعري ، وابن الزبير ، ومالك بن أبي دينار.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٢) ، وعزاه إلى ابن الأنباري.

(٤) تقدم تخريجه في آخر سورة الواقعة.

(٥) ينظر الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٢.

(٦) ينظر شرح ديوان جرير ص ٥٤٢ ، والإتقان في علوم القرآن ١ / ٣٦٣ والقرطبي ٢٠ / ١٢.

(٧) الفخر الرازي ٣١ / ١٢٦.

٢٧٤

ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه الله تعالى ، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوها :

أحدها : اعتدال قامته ، وحسن خلقته على ما قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

وثانيها : أن كل حيوان مستعد لنوع واحد من الأعمال فقط ، وأما الإنسان ، فإنه خلقه بحيث يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات.

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ هيأه للتكليف ، والقيام بأداء العبادات.

قال بعضهم : خلق في أصلاب الآباء ، وسوّى في أرحام الأمهات ، ومن حمله على جميع الحيوانات ، فمعناه : أنه أعطى كلّ حيوان ما يحتاج إليه من آلات ، وأعضاء ، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية هو أنه ـ تعالى ـ قادر على كل الممكنات ، عالم بجميع المعلومات ، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفا بالإحكام والإتقان ، مبرأ عن النقص والاضطراب.

قوله : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) ؛ قرأ الكسائيّ وعليّ ـ رضي الله عنه (١) ـ والسلميّ : «قدر» بتخفيف الدال ، والباقون : بالتشديد.

والمعنى : قدر كل شيء بمقدار معلوم.

ومن خفف ، قال القفّال (٢) : معناه : ملك فهدى ، وتأويله : أنه تعالى خلق كل شيء ، فسوى ، وملك ما خلق ، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد هذا هو الملك ، فهداه لمنافعه ومصالحه.

ومنهم من قال : إنهما لغتان بمعنى واحد ، وعليه قوله تعالى : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [المرسلات : ٢٣] بالتشديد والتخفيف ، وقد تقدم.

فصل في معنى الآية

قال مجاهد : قدّر الشقاوة والسعادة ، وهدى للرشد والضلالة ، وعنه : هدى الإنسان للسعادة والشقاوة ، وهدى الأنعام لمراعيها (٣).

وقيل : قدّر أقواتهم وأرزاقهم ، وهداهم لمعاشهم إن كانوا أناسا ، ولمراعيهم إن كانوا وحوشا.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٨٠ ، والحجة ٦ / ٣٩٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٦٦ ، وحجة القراءات ٧٥٨ ، والقرطبي ٢٠ / ١٢.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٢٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٤٣) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦٦) ، وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٢٧٥

وعن ابن عبّاس والسديّ ومقاتل والكلبيّ في قوله تعالى : «فهدى» : عرف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى ، كما قال تعالى في سورة «طه» : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه: ٥٠] ، أي : الذكر للأنثى (١).

وقال عطاء : جعل لكل دابّة ما يصلحها ، وهداها له (٢).

وقيل : «قدّر فهدى» أي : قدّر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه إليه ، وعرفه وجه الانتفاع به ، يقال : إن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت ، وقد ألهمها الله تعالى ، أن مسح العينين بورق الرازيانج الغض ، يرد إليها بصرها ، فربما كانت في بريّة بينها وبين الريف مسيرة أيام ، فتطوي تلك المسافة على طولها ، وعماها ، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرّازيانج ، لا تخطئها ، فتحك بها عينها ، فترجع باصرة بإذن الله تعالى.

[وهدايات الإنسان إلى أن مصالحه من أغذيته وأدويته ، وأمور دنياه ودينه وإلهامات البهائم والطيور ، وهوام الأرض باب ثابت واسع ، فسبحان ربي الأعلى](٣).

وقال السديّ : قدّر مدة الجنين في الرحم ، ثم هداه إلى الخروج من الرحم (٤).

وقال الفراء : «قدّى فهدى» أي : وأضل ، فاكتفى بذكر أحدهما ، كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، ويحتمل أن يكون بمعنى «دعا» إلى الإيمان كقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] أي لتدعو وقد دعا الكل إلى الإيمان](٥).

وقيل : «فهدى» أي : دلّهم بأفعاله على توحيده وكونه عالما قادرا.

واعلم أن الاستدلال بالخلق وبالهدى ، هي معتمد الأنبياء.

قال إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨].

وقال موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لفرعون : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] ، وقال هنا ذلك ، وإنما خصت هذه الطريقة لوضوحها وكثرة عجائبها.

قوله : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) ، أي : النبات ، لما ذكر سبحانه ما يختص بالناس ، أتبعه بما يختص بسائر الحيوان من النعم ، أي : هو القادر على إنبات العشب ، لا كالأصنام التي عبدتها الكفرة ، والمرعى : ما تخرجه الأرض من النبات ، والثمار ، والزروع ، والحشيش.

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٥٢) عن السدي وذكره القرطبي (٢٠ / ١٢) ، عن ابن عباس والسدي ومقاتل والكلبي.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٢) ، عن عطاء.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٥٢).

(٥) سقط من ب.

٢٧٦

قال ابن عبّاس : «المرعى» : الكلأ الأخضر (١).

قوله : (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى). «غثاء» : إما مفعول ثان ، وإما حال.

«والغثّاء» : ـ بتشديد الثاء وتخفيفها ـ وهو الصحيح ، ما يغترفه السيل على جوانب الوادي من النبات ونحوه ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٥١٧٧ ـ كأنّ طميّات المجيمر غدوة

من السّيل والأغثاء فلكة مغزل (٢)

ورواه الفراء : «والأغثاء» على الجمع ، وفيه غرابة من حيث جمع «فعالا» على «أفعال».

قوله تعالى : (أَحْوى). فيه وجهان :

أظهرهما : أنه نعت ل «غثاء».

والثاني : أنه حال من المرعى.

قال أبو البقاء (٣) : «فقدّم بعض الصلة» ، يعني : أن الأصل أخرج المرعى أحوى ، فجعله غثاء.

قال شهاب الدّين (٤) : ولا يسمى هذا تقديما لبعض الصلة.

والأحوى : «أفعل» من الحوّة ، وهي سواد يضرب إلى الخضرة ؛ قال ذو الرّمّة : [البسيط]

٥١٧٨ ـ لمياء في شفتيها حوّة لعس

وفي اللّثات وفي أنيابها شنب (٥)

وقد استدلّ بعض النحاة على وجود بدل الغلط بهذا البيت.

وقيل : خضرة عليها سواد ، والأحوى : الظبي ؛ لأن في ظهره خطّين ؛ قال : [الطويل]

٥١٧٩ ـ وفي الحيّ أحوى ينفض المرد شادن

مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد (٦)

ويقال : رجل أحوى ، وامرأة حوّاء ، وجمعها «حوّ» نحو : أحمر وحمراء وحمر ، قال القرطبيّ (٧) : «وفي «الصّحاح» : «والحوّة : حمرة الشفة ، يقال : رجل أحوى وامرأة

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٣).

(٢) ينظر ديوان امرىء القيس (٥) ، والقرطبي ٢٩ / ١٣ ، والبحر ٨ / ٤٥٣.

(٣) الإملاء ٢ / ٢٨٥.

(٤) الدر المصون ٦ / ٥٠٩.

(٥) تقدم.

(٦) البيت لطرفة بن العبد ، ينظر ديوانه (٤٧) ، شرح المعلقات السبع للزوزني ، واللسان (سمط) ، والبحر ٨ / ٤٥٢ ، والدر المصون ٦ / ٥١٠.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٣.

٢٧٧

حوّاء وقد حويت ، وبعير أحوى : إذا خالط خضرته سواد وصفرة ، قال : وتصغير أحوى : أحيو في لغة من قال : أسيود».

قال عبد الرحمن بن زيد : هذا مثل ضربه الله تعالى للكفّار لذهاب الدنيا بعد نضارتها (١) ، والمعنى : أنه صار كذلك بعد خضرته.

قال أبو عبيدة : فجعله أسود من احتراقه وقدمه ، والرطب إذا يبس اسود.

قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى)(٨)

قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ، قال الواحدي : «سنقرئك» : أي : سنجعلك قارئا ، أي : نؤهلك للقراءة فلا تنسى ما تقرأه ، أي : نجعلك قارئا للقرآن فتحفظه ، فهو نفي ، أخبر الله ـ تعالى ـ أن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينسى.

وقيل : نهي والألف للإشباع [وقد تقدم نحو من هذا في سورة يوسف وطه].

ومنع مكيّ أن يكون نهيا ؛ لأنه لا ينهى عما ليس باختياره ، وهذا غير لازم ، إذ المعنى : النهي عن تعاطي أسباب النسيان ، وهو الشائع ، وقيل : هذا بشرى من الله تعالى ، بشره تعالى بأن جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يفرغ من آخر الوحي ، حتى يتكلم هو بأوله لمخافة النسيان ، فنزلت هذه الآية ؛ فلا تنسى بعد ذلك شيئا.

قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فيه أوجه :

أحدها : أنه مفرّغ ، أي : إلا ما شاء الله أن ينسيكه ، فإنك تنساه ، والمراد رفع تلاوته ، وفي الحديث : «أنّه كان يصبح فينسى الآيات» (٢) ، لقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) [البقرة : ١٠٦].

وقيل : إن المعنى بذلك النّدرة والقلّة.

قال ابن الخطيب (٣) : يشترط أن لا يكون ذلك القليل من الواجبات بل من الآداب والسنن ، فإنّه لو نسي من الواجبات ، فلم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع ، وهو غير جائز ، كما ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسقط آية في صلاته ، فحسب أبيّ أنها نسخت ، فسأله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نسيتها (٤).

وقال الزمخشريّ (٥) : «والغرض نفي النسيان رأسا ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ذكره السيوطي في الدر المنثور ٨ / ٤٨.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٢٩.

(٤) أخرجه أحمد (٣ / ٤٠٧) ، وابن خزيمة في «صحيحه» (٦٦٤٧).

(٥) ينظر الكشاف ٤ / ٧٣٩.

٢٧٨

سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله ، ولم يقصد أستثني شيئا ، وهو استعمال القلة في معنى النفي» انتهى.

وهذا القول سبقه إليه الفراء ومكي.

قال الفراء ، وجماعة معه : هذا الاستثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى ، وليس شيى أبيح استثناؤه.

قال أبو حيان (١) : «وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى ، ولا في كلام فصيح ، وكذلك القول بأن «لا» للنفي ، والألف فاصلة» انتهى.

وهذا الذي قاله أبو حيان لم يقصده القائل بكونه زائدا محضا ، بل بالمعنى الذي ذكره ، وهو المبالغة في نفي النسيان ، أو النهي عنه.

وقال مكيّ : «وقيل : معنى ذلك إلا ما شاء الله ، وليس يشاء الله أن تنسى منه شيئا ، فهو بمنزلة قوله تعالى ، في سورة «هود» في الموضعين : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٧ ، ١٠٨] وليس يشاء جلّ ذكره ترك شيء من الخلود ، لتقدم مشيئته لهم بالخلود».

وروي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى ماتصلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقيل : هو استثناء من قوله تعالى : (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى). نقله مكي.

والمعنى : ما شاء الله أن يناله بنو آدم ، والبهائم ، فإنه لا يضير ذلك.

قال شهاب الدين (٣) : وهذا ينبغي ألّا يجوز ألبتّة.

قال القرطبيّ (٤) : «قيل : إلا ما شاء الله أن ينسى ، ثم يذكر بعد ذلك ، فإذا قد ينسى ، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسيانا كليا».

[وقيل هذا النسيان بمعنى النسخ إلا ما شاء الله ينسخه ، والاستثناء نوع من النسخ.

وقيل : النسيان بمعنى الترك أي : يعصمك من أن تترك العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه إياه ، فهذا في نسخ العمل ، والأول في نسخ القراءة ، ولا للنفي لا للنهي وقيل للنهي ، وإنما أثبتت الياء لرؤوس الآي ، والمعنى : لا تغفل قراءته وتكراره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة ، والأوّل هو المختار ؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتا معلوما.

وأيضا فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف وعليها القراءات.

وقيل : معناه : إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله](٥).

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٥٤.

(٢) ينظر : القرطبي (٢٠ / ١٤).

(٣) الدر المصون ٦ / ٥١٠.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٤.

(٥) سقط من : ب.

٢٧٩

فصل في كيفية تعليم القرآن

ذكر في كيفية هذا التعليم والإقراء وجوها :

الأول : أن جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ سيقرأ عليك القرآن مرات ، حتى تحفظه حفظا لا تنساه.

وثانيها : أنّا نشرح صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظه بالمرة الواحدة حفظا لا تنساه.

وثالثها : أنه تعالى لما أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول السورة بالتسبيح ، فكأنه تعالى قال : واظب على ذلك ، ودم عليه ، فإنّا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأوّلين ، والآخرين ، ويكون فيه ذكرك ، وذكر قومك ، وتجمعه في قلبك.

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) وهو العمل به.

فصل في الدلالة على المعجزة

هذه الآية تدلّ على المعجزة من وجهين :

الأول : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان رجلا أميّا ، فحفظه هذا الكتاب المطول من غير دراسة ، ولا تكرار ، ولا كتابة ، خارق للعادة.

والثاني : أنه إخبار عن الوقوع في المستقبل ، وقد وقع ، فكان هذا إخبارا عن الغيب فيكون معجزا.

فصل في المراد بالآية

قال بعضهم : المراد بقوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أمور :

أولها : التبرك بهذه الكلمة لقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤] ، فكأنه تعالى يقول : إني عالم بجميع المعلومات ، ثم بعواقب الأمور على التفصيل ، ومع ذلك لا أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة ، فأنت وأمتك يا محمد أولى بها ، وهذا بناء على أن الاستثناء غير حاصل في الحقيقة ، وأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينس بعد ذلك شيئا ، كما قاله ابن عبّاس والكلبي وغيرهما.

وثانيها : قال الفراء : إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا إلا أنّ المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسيا كذلك لقدر عليه ، كقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ١٦] ، ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك ، ونظيره قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦] مع أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أشرك ألبتّة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى ، يعرفه قدرته ، حتى يعلم أنّ عدم النّسيان من فضل الله ، وإحسانه ، لا من قوته.

٢٨٠