اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

القرآن ، والأعمال بخواتيمها (١) ، ويؤيده قراءة علي (٢) بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ واختاره الكسائي ، فإنه قرأ : «خاتمه مسك» أي : آخره ، كما يقال : خاتم النبيين ، ومعناه واحد.

قال الفراء : وهما متقاربان في المعنى ، إلا أن الخاتم : الاسم ، والختام : المصدر ، كقولهم : هو كريم الطّباع والطّابع ، والختام والخاتم.

وقال قتادة : يمزج لهم بالكافور ، ويختم لهم بالمسك (٣).

وقال مجاهد : مختوم ، أي : مطين (٤).

قوله : (خِتامُهُ) أي : طينه مسك.

قال ابن زيد : ختامه عند الله مسك ، وختام الدنيا طين.

وقرأ الكسائي (٥) : «خاتمه» بفتح التاء بعد الألف.

والباقون : بتقديمها على الألف.

فوجه قراءة الكسائي : أنه جعله اسما لما يختم به الكأس ، بدليل قوله : «مختوم».

ثم بين الخاتم ما هو ، فروي عن الكسائي أيضا : كسر التاء ، فيكون كقوله تعالى : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب : ٤٠] ، والمعنى : خاتم رائحته مسك ووجه قراءة الجماعة : أن الختام هو الطين الذي يختم به الشيء ، فجعل بدله المسك.

قال الشاعر : [الوافر]

٥١٣٠ ـ كأنّ مشعشعا من خمر بصرى

نمته البحت مشدود الختام (٦)

وقيل : خلطه ومزاجه.

وقيل : خاتمته أي : مقطع شربه يجد الإنسان فيه ريح المسك.

قيل : سمّي المسك مسكا ؛ لأن الغزال يمسكه في سرّته ، والمساكة : البخل وحبس

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره (١٩ / ١٧٤).

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٥٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٣٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٩٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٣) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٦١).

(٥) ينظر : الحجة للقراء السبعة ٦ / ٣٨٦ ـ ٣٨٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٥١ ، وحجة القراءات ٧٥٤.

(٦) يروى البيت برواية :

فبتن جنابتيّ مصوّعات

وبتّ أفضّ أغلاق الختام

ينظر معاني القرآن للفراء ٣ / ٣٤٨ ، واللسان (ختم) ، (غلق) ، والقرطبي ١٩ / ٩٧٤ ، والبحر ٨ / ٤٣٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٤.

٢٢١

المال ، يقال : رجل مسيك لبخله ، والمسك : الجلد لإمساكه ما فيه ، والماسكة : التي أخطأت خافضتها فأصابت من مسكها غير موضع الختان ، والمسكة : سوار من قرن أو عاج لتماسكه والمسكة ـ بضم الميم ـ : الشّيء القليل ، يقال : ما له مسكة ، أي : عقل.

قوله تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ). التّنافس : المغالبة في الشيء النفيس ، يقال : نفسته به نفاسة ، أي : بخلت به ، وأصله من النّفس لعزتها.

قال الواحديّ : نفست الشيء أنفسه نفاسة : بخلت به.

وقال البغوي (١) : وأصله من الشيء النّفيس أي : تحرص عليه نفوس النّاس ، ويريده كل واحد لنفسه ، وينفس به على غيره أي : يضنّ ، والمعنى : وفي ذلك فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى.

وقال مجاهد : فليعمل العاملون (٢) ، كقوله تعالى : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) [الصافات : ٦١].

وقال عطاء : فليستبق المستبقون (٣).

وقال مقاتل بن سليمان : فليتنازع المتنازعون (٤).

قوله : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) ، التسنيم : علم لعين في الجنّة.

فصل في المراد بالتسنيم

قال الزمخشريّ (٥) : «التسنيم» علم لعين بعينها ، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنّمه ، إذا رفعه.

قال شهاب الدّين (٦) : وفيه نظر ؛ لأنه كان من حقه أن يمنع الصّرف للعلمية والتأنيث ، وإن كان مجازيا ، ولا يقدح في ذلك كونه مذكر الأصل ؛ لأن العبرة بحال العلمية ، ألا ترى أنهم نصّوا على أنّه لو سمي ب «زيد» امرأة وجب المنع ، وإن كان في «هند» وجهان ، اللهم إلا أن يقول : ذهب بها مذهب النهر ، ونحوه ، فيكون ك «واسط ، ودانق».

فصل في معنى التسنيم

التسنيم : شراب ينصبّ عليهم من علوّ في غرفهم ومنازلهم.

وقيل : يجري في الهواء منسما فينصبّ في أوانيهم فيملأها.

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل (٤ / ٤٦١).

(٢) ينظر المصدر السابق وذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٣١).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر : الكشاف (٤ / ٧٢٣).

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٩٤.

٢٢٢

قال قتادة : وأصل الكلمة من العلو ، ويقال للشيء المرتفع سنام ، ومنه سنام البعير ، وتسنمت الحائط : إذا علوته.

وقال الضحاك : هو شراب اسمه : تسنيم ، وهو من أشرف الشراب (١).

قال ابن مسعود وابن عباس : هو خالص للمقربين يشربونها ، ويمزج لسائر أهل الجنّة ، وهو قوله تعالى : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)(٢).

وعن ابن عباس : أنّه سئل عن قوله تعالى : (مِنْ تَسْنِيمٍ) قال : هذا ما قال الله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(٣) [السجدة : ١٧].

قوله : (عَيْناً). فيه أوجه :

أحدها : أنّه حال.

قال الزجاج : يعني من تسنيم ، لأنه علم لشيء بعينه ، إلا أنه يشكل بكونه جامدا.

الثاني : أنه منصوب على المدح. قاله الزمخشري (٤).

الثالث : أنّها منصوبة ب «يسقون» مقدرا. قاله الأخفش.

وقوله : (يَشْرَبُ بِهَا) أي : منها ، والباء زائدة ، أو ضمير «يشرب» بمعنى يروى ، وتقدم هذا مشبعا في «هل أتى».

قال البغوي (٥) : التقدير : يشربها المقربون صرفا.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) ، أي : أشركوا ، يعني : كفّار قريش أبا جهل ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل من مترفي «مكة».

(كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) عمّار ، وخبّاب ، وصهيب ، وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين «يضحكون» استهزاء بهم.

وقوله : (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) : متعلّق ب «يضحكون» أي : من أجلهم ، وقدم لأجل الفواصل.

قوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ) يعني : المؤمنين بالكفار «يتغامزون» ، والغمز : الإشارة بالجفن والحاجب ، أي : يشيرون إليهم بالأعين استهزاء.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٦ / ٤٦٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٩٩ ـ ٥٠٠) عن ابن مسعود ومالك بن الحارث ومسروق وغيرهم. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٤) عن ابن مسعود وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المبارك وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وذكره عن ابن عباس وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٤) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) ينظر الكشاف ٤ / ٧٢٣.

(٥) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٤٦٢.

٢٢٣

وقيل : الغمز بمعنى : العيب يقال : غمزه ، أي : عابه ، وما في فلان غميز ، أي : ما يعاب به.

قوله تعالى : (وَإِذَا انْقَلَبُوا) يعني : الكفار (إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) معجبين بما هم فيه ، يتفكّهون تذكرهم بالسّوء.

وقرأ حفص : «فكهين» دون ألف.

والباقون (١) : بها.

فقيل : هما بمعنى ، وقيل : «فكهين» أشرين ، و «فاكهين» من التفكه.

وقيل : «فكهين» فرحين و «فاكهين» ناعمين.

وقيل : «فاكهين» أصحاب فاكهة ومزاح.

قوله : (وَإِذا رَأَوْهُمْ). يجوز أن يكون المرفوع للكفّار ، والمنصوب للمؤمنين ، أي : أن الكفار إذا رأوا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : (إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي : يأتون محمدا المختار ، يرون أنهم على شيء ، أي : هم على ضلال في تركهم التنعم الحاضر بسبب شراب لا يدرى هل له وجود أم لا؟ ويجوز العكس ، وكذلك الضميران في (أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ) يعني : المشركين عليهم ، والمعنى : (وَما أُرْسِلُوا) يعني المشركين «عليهم» يعني المؤمنين «حافظين» أعمالهم ، لم يوكلوا بحفظ أعمالهم.

قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا). «فاليوم» : منصوب ب «يضحكون» ، ولا يضرّ تقديمه على المبتدأ ، لأنه لو تقدم هنا العامل لجاز ، إذ لا لبس بخلاف «زيد قائم في الدار» لا يجوز «في الدار زيد قائم».

ومعنى ، «فاليوم» أي : في الآخرة يضحك المؤمنون من الكافرين ، وفي سبب هذا الضحك وجوه :

منها : أنّ الكفار كانوا يضحكون على المؤمنين في الدنيا ، بسبب ما هم فيه من التضرر والبؤس ، وفي الآخرة يضحك المؤمنون على الكافرين ، بسبب ما هم فيه من أنواع العذاب والبلاء.

ومنها : أنّهم علموا أنهم كانوا في الدنيا على غير شيء ، وأنهم باعوا الباقي بالفاني.

ومنها : أنّهم يرون أنفسهم أنهم قد فازوا بالنعيم المقيم ، ونالوا بالتعب اليسير راحة الأبد.

ومنها : أنّهم دخلوا الجنة ، فأجلسوا على الأرائك ينظرون إلى الكفّار كيف يعذبون

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٧٦ ، والحجة ٦ / ٣٨٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٥٢ ، وحجة القراءات ٧٥٥.

٢٢٤

في النار ، ويرفعون أصواتهم بالويل والثبور ، ويلعن بعضهم بعضا.

ومنها : قال أبو صالح : يقال لأهل النار ـ وهم فيها ـ اخرجوا ، ويفتح لهم أبوابها ، فإذا رأوها وقد فتحت أبوابها أقبلوا إليها يريدون الخروج ، والمؤمنون ينظرون إليهم ، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم ، فذلك سبب الضحك.

قوله : (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) : الجار متعلق ب «ينظرون» ، و «ينظرون» : حال من «يضحكون» ، أي : يضحكون ناظرين إليهم ، وإلى ما هم فيه من الهوان.

قوله : (هَلْ ثُوِّبَ). يجوز أن تكون الجملة الاستفهامية معلقة للنظر قبلها ، فتكون في محل نصب بعد إسقاط الخافض ب «ينظرون».

وقيل : استئناف لا موضع له ، ويجوز أن يكون على إضمار القول ، أي : يقولون : هل ثوب ، ومعنى «ثوّب» أي : جوزي ، يقال : ثوّبه وأثابه.

قال : [الطويل]

٥١٣١ ـ سأجزيك أو يجزيك عنّي مثوّب

وحسبك أن يثنى عليك وتحمدا (١)

ويدغم أبو عمرو والكسائي وحمزة (٢) : لام «هل» في الثناء.

قوله : «ما كانوا» فيه حذف ، أي : ثواب ما كانوا ، أو موصول اسمي أو حرفي.

قال المبرد : «ثوب» فعل من الثواب ، وهو ما ثوب ، يرجع على فاعله جزاء ما عمله من خير ، أو شر ، والثّواب : يستعمل في المكافأة بالشّر.

وأنشد أبو عبيدة : [الوافر]

٥١٣٢ ـ ألا أبلغ أبا حسن رسولا

فما لك لا يجيء إلى الثّواب (٣)

وثوّب وأثاب بمعنى واحد ، والأولى أن يحمل على سبيل التّهكّم ، كقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] ، كأنه ـ تعالى ـ يقول للمؤمنين : هل جازينا هؤلاء الكفار على استهزائهم بطريقتكم كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة ، فيكون هذا القول زائدا في سرورهم والله أعلم.

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة «المطفّفين» سقاه الله من الرّحيق المختوم يوم القيامة» (٤).

__________________

(١) البيت لأوس بن حجر ، ينظر الكشاف ٤ / ٧٢٤ ، والبحر ٨ / ٤٣٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٥.

(٢) ينظر : الحجة ٦ / ٤٨٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٥٢ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٥٥ ، وقال ابن عطية : قال سيبويه : وذلك حسن وإن كان دون إدغام في الراء لتقاربهما في المخرج.

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ١٠٣.

(٤) تقدم تخريجه.

٢٢٥

سورة الانشقاق

مكيّة ، وهي ثلاث وعشرون آية ، ومائة وسبع كلمات ، وأربعمائة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) (٥)

قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) كقوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير: ١] في إضمار الفعل وعدمه ، وفي «إذا» هذه احتمالات :

أحدها : أن تكون شرطية.

والثاني : أن تكون غير شرطية.

فعلى الأول في جوابها خمسة أوجه :

أحدها : أنها «أذنت» [الانشقاق : ٢ ، ٥] والواو مزيدة.

قال ابن الأنباري : وهذا غلط ؛ لأن العرب لا تقحم الواو إلا مع «حتى إذا» كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] ، أو مع «لمّا» كقوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ) [الصافات : ١٠٣ ، ١٠٤] ، أي : ناديناه ، والواو لا تقحم مع غير هذين.

الثاني : أنه «فملاقيه» أي فأنت ملاقيه وإليه ذهب الأخفش.

والثالث : أنّه (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) على حذف الفاء.

والرابع : أنّه (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) ايضا ، ولكن على إضمار القول ، أي : يقال : «يا أيّها الإنسان».

والخامس : أنّه مقدّر ، تقديره : بعثتم.

وقيل : تقديره : لاقى كل إنسان كدحه وهو قوله : «فملاقيه» ويكون قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) معترض ، كقولك : إذا كان كذا وكذا ـ يا أيها الإنسان ـ ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر.

٢٢٦

ونقل القرطبي (١) عن المبرد ، أنّه قال : فيه تقديم وتأخير ، أي : يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه إذا السماء انشقت.

وقيل : هو ما صرّح به في سورتي «التّكوير» و «الانفطار» ، وهو قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) [الانفطار : ٥] ، قاله الزمخشري (٢) ، وهو حسن.

ونقل ابن الخطيب (٣) عن الكسائيّ ، أنه قال : إنّ الجواب هو قوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) [الانشقاق : ٧] ، واعترض في الكلام على قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) [الانشقاق : ٦].

والمعنى : إذا انشقت السماء وكان كذا وكذا ، فمن أوتي كتابه بيمنه ، فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره ، فهو كذا ، ونظيره قوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ) [البقرة : ٣٨].

قال النحاس : وهذا أصحّ ما قيل فيه وأحسنه.

وعلى الاحتمال الثاني : فيه وجهان :

أحدهما : أنّها منصوبة مفعولا بها بإضمار «واذكر».

والثاني : أنها مبتدأ ، وخبرها «إذا» الثانية ، و «الواو» مزيدة ، تقديره : وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض ، أي : يقع الأمران في وقت. قاله الأخفش أيضا.

والعامل فيها إذا كانت ظرفا ـ عند الجمهور ـ جوابها ، إمّا الملفوظ به ، وإمّا المقدّر.

وقال مكيّ : وقيل : العامل «انشقت».

وقال ابن عطية (٤) : قال بعض النحاة : العامل «انشقت» وأبى ذلك كثير من أئمتهم ؛ لأن «إذا» مضافة إلى «انشقت» ، ومن يجيز ذلك تضعف عنده الإضافة ، ويقوى معنى الجزاء.

وقرأ العامة : «انشقت» بتاء التأنيث ساكنة ، وكذلك ما بعده.

وقرأ أبو عمرو في رواية (٥) عبيد بن عقيل : بإشمام الكسر في الوقف خاصة ، وفي الوصل خاصة بالسكون المحض.

قال أبو الفضل : وهذا من التغييرات التي تلحق الروي في القوافي ، وفي هذا

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٧٨.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٢٥.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٤١ / ٩٥.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٥٧.

(٥) ينظر : إعراب القراءات ٢ / ٤٥٤ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٥٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٣٧ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٧.

٢٢٧

الإشمام بيان أن هذه «التاء» من علامة تأنيث الفعل للإناث ، وليست مما ينقلب في الأسماء ، فصار ذلك فارقا بين الاسم والفعل ، فيمن وقف على باقي الأسماء بالتاء ، وذلك لغة طيّىء ، وقد حمل في المصاحف بعض التاءات على ذلك.

وقال ابن عطية (١) : قال بعض النحاة : وقرأ أبو عمرو «انشقت» يقف على القاف ، كأنه يشمها شيئا من الجر ، وكذلك في أخواتها.

قال أبو حاتم : سمعت أعرابيا فصيحا في بلاد قيس يكسر هذه التاءات.

وقال ابن خالويه (٢) : «انشقّت» ـ بكسر التاء ـ عبيد عن أبي عمرو.

قال شهاب الدين (٣) : كأنه يريد إشمام الكسر ، وأنّه في الوقف دون الوصل ؛ لأنه مطلق ، وغيره مقيد ، والمقيد يقضي على المطلق.

وقال أبو حيّان (٤) : وذلك أن الفواصل تجري مجرى القوافي ، فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي تكسر في الفواصل ؛ ومثال كسرها في القوافي ؛ قول كثير عزّة : [الطويل]

٥١٣٣ ـ وما أنا بالدّاعي لعزّة بالرّدى

ولا شامت إن نعل عزّة زلّت (٥)

وكذلك في باقي القصيدة ، وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف كقوله تعالى : (الظُّنُونَا) ، والرسولا ، في سورة «الأحزاب» [١٠ و ٦٦] ، وحمل الوصل على حالة الوقف موجود في الفواصل أيضا.

فصل في المراد بانشقاق السماء

انشقاق السماء من علامات القيامة ، وقد تقدّم شرحه.

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ أنّها تنشق من المجرّة ، وقال : المجرّة : باب السماء (٦).

قوله : (وَأَذِنَتْ). عطف على «انشقت» ، وقد تقدّم أنّه جواب على زيادة الواو.

ومعنى «وأذنت» : أي : استمعت أمره ، يقال : أذنت لك : استمعت لك ، وفي الحديث : «ما أذن الله لشيء كأذنه لنبيّ يتغنّى بالقرآن» (٧).

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٥٦.

(٢) إعراب القراءات السبع ٢ / ٤٥٤.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٩٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٣٧.

(٥) ينظر ديوان كثيّر عزّة (٤١) ، والبحر المحيط ٨ / ٤٣٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٧.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٧) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن علي.

(٧) أخرجه البخاري ١٣ / ٥١٨ في التوحيد : باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الماهر بالقرآن (٢٥٤٤) ، ومسلم ١ / ٥٤٥ ، في صلاة المسافرين : باب : استحباب تحسين الصوت بالقرآن (٢٣٣ / ٧٩٢).

٢٢٨

وأنشد أبو عبيدة والمبرد والزّجاج قول قعنب : [البسيط]

٥١٣٤ ـ صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (١)

وقال آخر : [البسيط]

٥١٣٥ ـ إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا

وما هم أذنوا من صالح دفنوا (٢)

وقال الجحاف بن حكيم : [الطويل]

٥١٣٦ ـ أذنت لكم لمّا سمعت هريركم

 .......... (٣)

ومعنى الاستعارة ـ هاهنا ـ أنّه لم يوجد في جرم السماء ما يمنع من تأثير قدرة الله تعالى في شقها ، وتفريق أجزائها ، فكأنّها في قبول ذلك التأثير كالعبد الطائع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المالك أنصت ، وأذعن ، ولم يمتنع كقوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ، وذلك يدل على نفوذ القدرة في الإيجاد والإبداع من غير ممانعة أصلا. قاله ابن الخطيب (٤).

قوله : «وحقّت». الفاعل في الأصل هو الله تعالى ، أي : حقّ الله عليها ذلك ، أي : بسمعه وطاعته ، يقال : هو حقيق بكذا ومحقوق ، والمعنى : وحقّ لها أن تفعل.

قال الضحاك : «حقّت» أطاعت وحقّ لها أن تطيع (٥).

وقال ابن الخطيب (٦) : هو من قولك : محقوق بكذا وحقيق به ، وهي حقيقة بأن تنقاد ، ولا تمتنع.

قوله : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) مد الأديم.

وقيل : «مدّت» بمعنى : أمدت وزيد في سعتها وقال مقاتل رضي الله عنه : سويت كمدّ الأديم ، فلا يبقى فيها بناء ولا جبل ، كقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ)(٧) [طه : ١٠] الآية.

__________________

(١) قائله قعنب ابن أم صاحب من شعراء عصر بني أمية ينظر ديوان الحماسة للتبريزي ٢ / ١٨٧ ، وسمط اللآلىء ١ / ٣٦٢ ، والاقتضاب في شرح أدب الكتاب : ص ٢٩٢ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٩١ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٥ / ٣٠٣ ، والطبري ٣٠ / ٧٢ ، واللسان (أذن).

(٢) تقدم.

(٣) صدر بيت وعجزه :

 ..........

فأسمعتموني بالخنا والفواحش

ينظر الكشاف ٤ / ٧٢٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٧.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٩٤.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٠٥) عن الضحاك ومثله عن السدي ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٧) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٩٤.

(٧) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٦٣).

٢٢٩

قوله : (وَأَلْقَتْ ما فِيها). أي : أخرجت ما فيها من الموتى والكنوز ، لقوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ٢] ، «وتخلّت» أي : خليت منها ، ولم يبق في بطنها شيء ، وذلك يؤذن بعظم الأمر كما تلقي الحامل ما في بطنها عند الشدة ، ووصفت الأرض بذلك توسعا وإلا فالتحقيق أنّ الله تبارك وتعالى هو المخرج لتلك الأشياء من بطن الأرض.

قوله تعالى : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ). تقدّم تفسيره ، وهذا ليس بتكرار ؛ لأن الأوّل في السماء وهذا في الأرض.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ).

قيل : المراد جنس الإنسان (١) ، كقولك : يا أيها الرجل ، فكان خطابا خص به كل واحد من الناس.

قال القفال (٢) : وهو أبلغ من العموم ؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين ، بخلاف اللفظ العام.

وقيل : المراد منه رجل بعينه ، فقيل : هو محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، والمعنى : أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله ـ تعالى ـ وإرشاد عباده ، وتحمل الضرر من الكفّار ، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل.

وقال ابن عبّاس : هو أبيّ بن خلف ، وكدحه : هو جده واجتهاده في طلب الدنيا ، وإيذاء الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والإصرار على الكفر (٣).

فصل في المراد بالكدح

الكدح : قال الزمخشريّ (٤) : جهد النفس ، والكدم فيه حتى يؤثر فيها ، ومنه كدح جلده إذا خدشه ، ومعنى «كادح» أي : جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت. انتهى. وقال ابن نفيل : [الطويل]

٥١٣٧ ـ وما الدّهر إلّا تارتان فمنهما

أموت ، وأخرى أبتغي العيش أكدح (٥)

__________________

(١) في أالناس.

(٢) الفخر الرازي ٣١ / ٩٦.

(٣) ينظر المصدر السابق عن ابن عباس.

(٤) الكشاف ٤ / ٧٢٦.

(٥) تقدم.

٢٣٠

وقال آخر : [الكامل]

٥١٣٨ ـ ومضت بشاشة كلّ عيش صالح

وبقيت أكدح للحياة وأنصب (١)

وقال الراغب : وقد يستعمل الكدح دون الكدم بالأسنان.

وقال الخليل : الكدح دون الكدم.

فصل في معنى الآية

معنى (كادِحٌ إِلى رَبِّكَ) أي : ساع إليه في عملك.

والكدح : عمل الإنسان وجهده في الخير والشر.

قال قتادة والكلبيّ والضحاك : عامل لربك عملا (٢) ، وقوله تعالى : (إِلى رَبِّكَ) أي : إلى لقاء ربك ، وهو الموت ، أي : هذا الكدح استمر إلى هذا الزمن.

وقال القفال (٣) : تقديره : أنك كادح في دنياك كدحا تصير به إلى ربك.

قوله : «فملاقيه» : يجوز أن يكون عطفا على (إِنَّكَ (٤) كادِحٌ) ، والسبب فيه ظاهر ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : فأنت ملاقيه ، وقد تقدم أنه يجوز أن يكون جوابا للشرط.

وقال ابن عطية (٥) : فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها ، والتقدير : فأنت ملاقيه. يعني بقوله : «على هذا» أي : على عود الضّمير على كدحك.

قال أبو حيّان (٦) : «ولا يتعين ما قاله ، بل يجوز أن يكون من عطف المفردات».

والضمير في «فملاقيه» : إمّا للربّ ، أي : ملاقي حكمه لا مفر لك منه. قاله الزجاج.

وإمّا ل «الكدح» إلا أن الكدح عمل ، وهو عرض لا يبقى ، فملاقاته ممتنعة ، فالمراد : جزاء كدحك.

وقال ابن الخطيب (٧) : المراد : ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال ، ويتأكد هذا بقوله بعده : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ).

__________________

(١) ينظر القرطبي ١٩ / ٢٧٨ ، والبحر ٨ / ٤٣٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٠٧) عن قتادة وابن زيد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٧) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٩٦.

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٥٧.

(٦) البحر المحيط ٨ / ٤٣٩.

(٧) الفخر الرازي ٣١ / ٩٦.

٢٣١

قوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) ، أي : ديوان أعماله بيمينه.

(فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) ، «سوف» من الله واجب ، كقول القائل : اتبعني فسوف تجد خيرا ، فإنه لا يريد الشك ، وإنما يريد تحقيق الكلام ، والحساب اليسير : هو عرض أعماله ، فيثاب على الطاعة ، ويتجاوز عن المعصيّة ، ولا يقال : لم فعلت هذا ، ولا يطالب بالحجّة عليه.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حوسب عذّب» ، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أو ليس يقول تعالى : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) ، فقال : «إنّما ذلك العرض ، ولكن من نوقش الحساب عذّب» (١).

قوله تعالى : (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) في الجنة من الحور العين ، والآدميّات والذريّات إذا كانوا مؤمنين [«مسرورا» أي : مغتبطا قرير العين](٢).

قال ابن الخطيب (٣) : فإن قيل : إنّ المحاسبة تكون بين اثنين ، وليس في القيامة لأحد مطالبة قبل ربّه فيحاسبه؟.

فالجواب : إن العبد يقول : إلهي ، فعلت الطاعة الفلانيّة ، والربّ ـ سبحانه وتعالى ـ يقول : فعلت المعصيّة الفلانيّة ، فكان ذلك من الرب ـ سبحانه وتعالى ـ ومن العبد محاسبة ، والدليل أنه ـ تعالى ـ خصّ الكفّار بأنه لا يكلمهم ، فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين ، فتلك المكالمة محاسبة.

قوله : «مسرورا» : حال من فاعل «ينقلب».

وقرأ زيد (٤) بن علي : «يقلب» مبنيا للمفعول من «قلبه» ثلاثيا.

قوله : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ).

قيل : نزلت في الأسود بن عبد الأسود. قاله ابن عباس. وقيل : عامة.

وقال الكلبيّ : لأن يمينه مغلولة إلى عنقه ، ويجعل يده اليسرى ممدودة وراء ظهره (٥).

وقيل : يحوّل وجهه إلى قفاه ، فيقرأ كتابه كذلك.

وقيل : يؤتى كتابه بشماله من ورائه ؛ لأنه إذا حاول أخذه بيمينه كالمؤمنين منع من ذلك ، وأوتي كتابه بشماله.

__________________

(١) تقدم.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٩٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٣٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٨.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣١ / ٩١) عن الكلبي.

٢٣٢

[فإن قيل : أليس أنه تعالى قال في سورة الحاقة : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ)](١) [الحاقة : ٢٥] ، فكيف قال هنا : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ.

فالجواب : أنّه يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره.

قوله : (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) ، أي : ينادي بالويل ، والثبور : الهلاك إذا قرأ كتابه يقول: يا ويلاه يا ثبوراه ، كقوله تعالى : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان : ١٣].

قوله : (وَيَصْلى سَعِيراً) ، قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم : بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام.

والباقون (٢) : بضم الياء وفتح اللام والتثقيل ، وقد تقدم تخريج القراءتين في سورة النساء عند قوله تعالى : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [الآية : ١٠].

وقرأ أبو الأشهب ونافع وعاصم وأبو عمرو (٣) في رواية عنهم : «يصلى» بضم الياء وسكون الصاد من أصلاه.

قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً).

قال القفال (٤) : منعّما مستريحا من التعب بأداء العبادات ، واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد ، مقدما على المعاصي ، آمنا من الحساب والعذاب والعقاب ، لا يخاف الله ـ تعالى ـ ولا يرجوه ، فأبدله الله بذلك السرور غما باقيا لا ينقطع.

وقيل : إن قوله : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) ، كقوله تعالى : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) [المطففين : ٣١] ، أي : متنعمين في الدنيا ، معجبين بما هم عليه من الكفر بالله ، والتكذيب بالبعث ، يضحك ممن آمن بالله وصدّق بالحساب ، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر» (٥).

قوله : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ). معنى «يحور» أي : يرجع ، يقال : حار يحور حورا ؛ قال لبيد : [الطويل]

٥١٣٩ ـ وما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (٦)

ويستعمل بمعنى : «صار» ، فيرفع الاسم وينصب الخبر عند بعضهم مستدلا بهذا البيت ، وموضع نصب «رمادا» على الحال.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : السبعة ٦٧٧ ، والحجة ٦ / ٣٩٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٥٥ ، وحجة القراءات ٧٥٥.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٥٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٣٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٨.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٩٨.

(٥) تقدم تخريجه.

(٦) تقدم.

٢٣٣

وقال الراغب : «الحور : التردد في الأمر ، ومنه : «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» ، أي : من التردد في الأمر بعد المضي فيه ، ومحاورة الكلام : مراجعته ، والمحور : العود الذي تجري فيه البكرة لترددها عليه ، والمحار : المرجع والمصير».

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ما كنت أدري ما معنى : «حور» حتى سمعت أعرابيا يقول لابنته : «حوري» أي : ارجعي (١).

وقال عكرمة وداود بن أبي هند : «يحور» : كلمة بالحبشية ، ومعناها : يرجع (٢).

قال القرطبي : «ويجوز أن تتفق الكلمتان ، فإنّهما كلمة اشتقاق ، ومنه : الخبز الحوارى ، لأنه يرجع إلى البياض».

والحور أيضا : الهلاك.

قال الراجز : [الرجز]

٥١٤٠ ـ في بئر لا حور سرى ولا شعر (٣)

وقوله تعالى : (أَنْ لَنْ يَحُورَ) : «أن لن» هذه «أن» المخففة كالتي في أوّل سورة القيامة ، وهي سادّة مسد المفعولين ، أو أحدهما على الخلاف.

وقوله : «بلى» جواب للنفي في «لن» ، و «أن» : جواب قسم مقدر ، والمعنى : إنه ظن أن لن يرجع إلينا ولن يبعث ، ثم قال : «بلى» أي : ليس كما ظن بلى يحور إلينا ، أي : يبعث.

(إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) [قال الكلبي : بصيرا به من يوم خلقه إلى أن يبعثه.

وقال عطاء : بصيرا](٤) بما سبق عليه في أمّ الكتاب من الشقاوة.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٢٥)

قوله : «فلا أقسم بالشفق» «لا» : صلة ، «بالشّفق» أي : بالحمرة التي تكون عند غروب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة.

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٨٠).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٨) عن عكرمة وعزاه إلى عبد بن حميد.

ومثله عن ابن عباس ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٨) وعزاه إلى الطستي في مسائله والطبراني.

(٣) تقدم.

(٤) سقط من ب.

٢٣٤

قال الراغب : الشّفق : هو اختلاط ضوء النّهار بسواد الليل عند غروب الشمس ، والإشفاق : عناية مختلطة بخوف ؛ لأن المشفق يحب المشفق عليه ، ويخاف ما يلحقه ، فإذا عدّي ب «من» فمعنى الخوف فيه أظهر ، وإذا عدي ب «على» فمعنى العناية فيه أظهر.

وقال الزمخشري (١) : «الشفق» الحمرة التي ترى في الغروب بعد سقوط الشمس ، وبسقوطه يخرج وقت المغرب ، ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء ، إلا ما روي عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين : أنه البياض. وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه ، سمي شفقا لرقته ، ومنه الشفقة على الإنسان ، رقة القلب عليه انتهى.

والشّفق : شفقان ، الشّفق الأحمر ، والآخر : الأبيض ، والشفق والشفقة : اسمان للإشفاق ؛ وقال الشاعر : [البسيط]

٥١٤١ ـ تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا

والموت أكرم نزّال على الحرم (٢)

تقدم اختلاف العلماء في القسم بهذه الأشياء ، هل هو قسم بها أو بخالقها؟ وأن المتقدمين ذهبوا إلى أن القسم واقع برب الشفق ، وإن كان محذوفا ؛ لأن ذلك معلوم من ورود الحظر بأن يقسم بغير الله تعالى.

واعلم أن الصحيح في الشفق : أنّه الحمرة ؛ لأن أكثر الصحابة ، والتابعين ، والفقهاء عليه ، وشواهد [كلام العرب](٣) ، والاشتقاق ، والسنة تشهد له.

قال الفراء : «وسمعت بعض العرب يقول : عليه ثوب مصبوغ أحمر كأنه الشفق».

وقال الشاعر : [الرجز]

٥١٤٢ ـ وأحمر اللّون كمحمرّ الشّفق (٤)

وقال آخر : [البسيط]

٥١٤٣ ـ قم يا غلام أعنّي غير مرتبك

على الزّمان بكأس حشوها شفق (٥)

ويقال للمغرة : الشّفقة.

وفي «الصّحاح» (٦) : الشّفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قرب من العتمة.

وقال الخليل : الشفق : الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة إذا ذهب قيل : غاب الشفق.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٢٧.

(٢) ينظر القرطبي ١٩ / ١٨١ ، والبحر ٨ / ٤٣٧ والدر المصون ٦ / ٤٩٩.

(٣) سقط من أ.

(٤) ينظر القرطبي ١٩ / ١٨١.

(٥) ينظر القرطبي ١٩ / ١٨١.

(٦) ينظر الصحاح ٤ / ١٥٠١.

٢٣٥

وأصل الكلمة من رقّة الشيء ، يقال : شيء شفق ، أي : لا تماسك له لرقته ، وأشفق عليه أي : رق قلبه عليه ، والشفقة : الاسم من الإشفاق ، وهو رقة القلب ، وكذلك الشفق ، فكأن تلك الرقة من ضوء الشمس.

وزعم بعض الحكماء : أن البياض لا يغيب أصلا.

وقال الخليل : صعدت منارة الإسكندرية ، فرمقت البياض ، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق ، ولم أره يغيب.

وقال ابن أبي أويس : رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر ، وكل ما يتجدّد وقته سقط اعتباره.

وروى النعمان بن بشير ، قال : أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة ، كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة (١). وهذا تحديد.

وقال مجاهد : الشفق النهار كله (٢) ؛ لأنه عطف عليه (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) ، فوجب أن يكون الأول هو النهار ، فعلى هذا يكون القسم واقع بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش ، والثاني: سكن ، والشفق أيضا : الرديء من الأشياء ، يقال : عطاء مشفق : أي : مقلل ؛ قال الكميت : [الكامل]

٥١٤٤ ـ ملك أغرّ من الملوك تحلّبت

للسّائلين يداه غير مشفّق (٣)

قوله : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) ، أي : جمع وضم ولف ، ومنه : الوسق ، وهو الطعام المجتمع الذي يكال أو يوزن ، وهو ستّون صاعا ، ثم صار اسما ، واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت ، والراعي وسقها ، أي : جمعها ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٥١٤٥ ـ إنّ لنا قلائصا حقائقا

مستوسقات لو يجدن سائقا (٤)

والوسق ـ بالكسر ـ : الاسم ، وبالفتح : المصدر ، وطعام موسق : أي : مجموع ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ١٦٧) كتاب الصلاة ، باب : في وقت العشاء الآخرة رقم (٤١٩) والترمذي (١ / ٣٠٦) أبواب الصلاة ، باب : ما جاء في وقت صلاة العشاء الآخرة رقم (١٦٥) والنسائي (١ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥) وأحمد (٤ / ٢٧٤) والدارمي (١ / ٢٧٥) والدارقطني (١ / ٢٧٠) والبيهقي (١ / ١٩٤ ـ ١٩٥) من حديث النعمان بن بشير.

وقال ابن العربي في «عارضة الأحوذي» (١ / ٢٧٧) : حديث النعمان حديث صحيح وإن لم يخرجه الإمامان.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥١٠) عن مجاهد.

(٣) ينظر شعر الكميت بن زيد ص ٢٥٩ ، واللسان (شفق) ، والقرطبي ١٩ / ١٨١.

(٤) هما للعجاج ينظر ملحقات ديوانه ٨٤ ، واللسان (وسق) ، والقرطبي ١٩ / ١٨٢ ، والبحر ٨ / ٤٣٧ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٩.

٢٣٦

ويقال : وسقه فاتّسق ، واستوسق ، ونظير وقوع «افتعل ، واستفعل» مطاوعين : اتسع واستوسع ، ومنه قولهم : وقيل : وسق ، أي : عمل فيه ؛ قال : [الطويل]

٥١٤٦ ـ ويوما ترانا صالحين وتارة

تقوم بنا كالواسق المتلبّب (١)

فصل في معنى الآية

قال عكرمة ـ رضي الله عنه ـ : (وَما وَسَقَ) ، أي : وما ساق من شيء إلى حيث يأوي (٢) فالوسق : بمعنى الطرد ، ومنه قيل للطّريد من الإبل والغنم : وسيقة.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (وَما وَسَقَ) أي : وما جنّ وستر (٣).

وعنه أيضا : وما حمل ، ووسقت الناقة تسق وسقا : أي : حملت وأغلقت رحمها على الماء فهي ناقة واسق ، ونوق وساق ، مثل : نائم ونيام ، وصاحب وصحاب ، ومواسيق أيضا ، وأوسقت البعير : حملته حمله ، وأوسقت النخلة : كثر حملها.

وقال يمان والضحاك ومقاتل بن سليمان : حمل من الظلمة (٤).

وقال مقاتل : حمل من الكواكب (٥).

وقال ابن جبير : (وَما وَسَقَ) أي : وما حمل فيه من التهجد والاستغفار بالأسحار(٦).

قوله : (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ). أي : امتلأ. قال الفراء : وهو امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر. وهو «افتعل» من «الوسق» وهو الضم والجمع كما تقدم ، وأمر فلان متسق : أي : مجتمع على الصلاح منتظم ، ويقال : اتسق الشيء إذا تتابع.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (إِذَا اتَّسَقَ) أي : استوى واجتمع وتكامل وتمّ واستدار (٧).

قوله : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) هذا جواب القسم.

وقرأ الأخوان ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومسروق ، وأبو وائل ، ومجاهد والنخعيّ ، والشعبيّ ، وابن جبير : بفتح الباء على الخطاب للواحد.

__________________

(١) ينظر اللسان (وسق) ، والقرطبي ١٩ / ١٨٢ ، والبحر ٨ / ٤٤٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥١١) عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٩) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٣٧) والقرطبي (١٩ / ١٨٢).

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٨٢).

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٦٥) وينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر المصدر السابق.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥١٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٩) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.

٢٣٧

والباقون (١) : بضمها على خطاب الجمع.

فالقراءة الأولى : روعي فيها إمّا خطاب الإنسان المتقدم ذكره في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) [الانشقاق : ٦] ، وإما خطاب غيره.

فقيل : خطاب للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أي : لتركبن يا محمد مع الكفار وجهادهم ، أو لتبدلن أنصارا مسلمين ، من قولهم : النّاس طبقات ولتركبن سماء [بعد سماء](٢) ، ودرجة بعد درجة ، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى.

وقيل : التاء للتأنيث ، والفعل مسند لضمير السماء.

قال ابن مسعود : لتركبن السماء حالا بعد حال تكون كالمهل وكالدخان ، وتنفطر وتنشق(٣).

والقراءة الثانية : روي فيها معنى الإنسان ؛ إذ المراد به : الجنس ، أي : لتركبنّ أيّها الإنسان حالا بعد حال من كونه نطفة ، ثم مضغة ، ثم حيا ، ثم ميتا وغنيا وفقيرا.

واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، قال : لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ذكره قبل هذه الآية فيمن يؤتى كتابه بيمينه ، ومن يؤتى كتابه وراء ظهره ، وقوله بعد ذلك (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي : لتركبن حالا بعد حال من شدائد يوم القيامة ، أو لتركبن سنّة من كان قبلكم في التكذيب ، والاختلاف على الأنبياء.

وقال مقاتل : يعني الموت ثم الحياة (٤).

وعن ابن عباس : يعني : الشدائد والأهوال والموت ، ثم البعث ، ثم العرض (٥).

وقال عكرمة : رضيع ، ثم فطيم [ثم غلام ،](٦) ثم شابّ ، ثم شيخ (٧).

قال ابن الخطيب (٨) : ويصلح أن يكون هذا خطابا للمسلمين بتعريف نقل أحوالهم

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٧٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٥٥ ، وحجة القراءات ٧٥٦ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٥٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٤٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٩.

(٢) سقط من أ.

(٣) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٣٨) وقال : رواه البزار وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف.

وأخرجه الطبري (١٢ / ٥١٣ ـ ٥١٤) عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٩) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى أبي عبيد في «القراءات» وسعيد بن منصور وابن منيع وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ١٣٨) وقال : رواه الطبراني ورجاله ثقات وذكره ابن حجر أيضا في «المطالب العالية» (٣ / ٣٩٦) رقم (٣٨٠٤) وعزاه إلى أحمد بن منيع.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٨٣).

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) سقط من : ب.

(٧) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٨٣).

(٨) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٠١.

٢٣٨

بنصرهم ، ومصيرهم إلى الظفر بعدوهم بعد الشدة التي تلقونها منهم كما قال تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [آل عمران : ١٨٦].

وقرأ عمر ـ رضي الله عنه (١) ـ : «ليركبنّ» بياء الغيبة وضم الباء على الإخبار عن الكفار.

وقرأ عمر ـ أيضا ـ وابن عباس (٢) ـ رضي الله عنهما ـ بالغيبة ، وفتح الباء ، أي : ليركبنّ الإنسان.

وقيل : ليركبنّ القمر أحوالا من إسرار والاستهلال.

وقرأ (٣) عبد الله وابن عباس : «لتركبنّ» بكسر حرف المضارعة ، وقد تقدم في «الفاتحة».

وقرأ بعضهم (٤) : بفتح المضارعة وكسر الباء ، على إسناد الفعل للنفس ، أي : لتركبن يا نفس.

قوله : «طبقا» : مفعول به أو حال.

والطبق قال الزمخشريّ (٥) : الطّبق : ما طابق غيره ، يقال : ما هذا بطبق كذا : أي : لا يطابقه ، ومنه قيل للغطاء : الطّبق ، وأطباق الثّرى ما تطابق منه ، ثم قيل للحال المطابقة لغيرها طبق ، ومنه قوله ـ عزوجل ـ : (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي : حالا بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول ، ويجوز أن يكون جمع طبقة ، وهي المرتبة ، من قولهم : هو على طبقات ، ومنه طبقات الظهر لفقاره ، الواحدة : طبقة على معنى : لتركبن أحوالا بعد أحوال ، هي طبقات في الشدة ، بعضها أرفع من بعض وهي الموت ، وما بعده من مواطن القيامة انتهى.

وقيل : المعنى : لتركبن هذه الأحوال أمّة بعد أمّة ؛ ومنه قول العباس فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [المنسرح]

٥١٤٧ ـ تنقل من صالب إلى رحم

وإذا مضى عالم بدا طبق (٦)

فعلى هذا التفسير ، يكون «طبقا» حالا ، كأنه قيل : أمة بعد أمة.

وأما قول الأقرع : [البسيط]

٥١٤٨ ـ إنّي امرؤ قد حلبت الدّهر أشطره

وساقني طبق منه إلى طبق (٧)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٥٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٤٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٩.

(٢) ينظر السابق.

(٣) السابق.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٤٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٠.

(٥) الكشاف ٤ / ٧٢٨.

(٦) ينظر القرطبي ١٩ / ١٨٤ ، والبحر ٨ / ٤٤٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٠.

(٧) ينظر القرطبي ١٩ / ١٨٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٠ والبحر ٨ / ٤٣٧.

٢٣٩

فيحتمل الأمرين ، أي : ساقني من حالة إلى أخرى ، أو ساقني من أمّة ناس إلى أمّة ناس آخرين ، ويكون نصب «طبقا» على المعنيين على التشبيه بالظرف أو الحال ، أي : متنقلا ، والطبق أيضا : ما طابق الشيء أي : ساواه ، [ومنه دلالة المطابقة.

قال امرؤ القيس :

٥١٤٩ ـ ديمة هطلا (١)

والطبق من الجراد أي الجماعة](٢).

قوله : «عن طبق» : في «عن» هذه وجهان :

أحدهما : أنها في محل نصب على الحال من فاعل «تركبن».

والثاني : أنّها صفة ل «طبقا».

وقال الزمخشري (٣) : فإن قلت : ما محل «عن طبق»؟ قلت : النصب على أنه صفة ل «طبقا» ، أي : طبقا مجاوزا لطبق ، [أو حال من الضمير في «لتركبن» ، أي : لتركبن طبقا مجاوزين لطبق ، أو مجاورا](٤) ، أو مجاورة على حسب القراءة.

وقال أبو البقاء (٥) : و «عن» بمعنى : «بعد» ؛ قال : [الكامل]

٥١٥٠ ـ ما زلت أقطع منهلا عن منهل

حتّى أنخت بباب عبد الواحد (٦)

لأن الإنسان إذا صار من شيء إلى شيء ، يكون الثاني بعد الأول فصلحت «بعد» و «عن» للمجاوزة ، والصحيح أنها على بابها ، وهي صفة ، أي : طبقا حاصلا عن طبق ، أي : حالا عن حال. وقيل : جيلا عن جيل. انتهى.

يعنى الخلاف المتقدم في الطبق ما المراد به ، هل هو الحال ، أو الجيل ، أو الأمة كما تقدم نقله؟ وحينئذ فلا نعرب طبقا مفعولا به ، بل حالا ، كما تقدم ، لكنه لم يذكر في طبق غير المفعول به ، وفيه نظر ، لما تقدم من استحالته ، يعني إذ يصير التقدير : لتركبن طبقة أمّة عن أمّة ، فتكون الأمة مركوبة لهم ، وإن كان يصح على تأويل بعيد جدا وهو حذف مضاف ، أي : لتركبن سنن ، أو طريقة طبق بعد طبق.

فصل في حدوث العالم

هذا أدلّ دليل على «حدوث العالم» وإثبات الصانع.

__________________

(١) ينظر ديوانه (٧٨) ، والبحر ٨ / ٤٣٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٠.

(٢) سقط من ب.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٢٨.

(٤) سقط من أ.

(٥) الإملاء ٢ / ٢٨٤.

(٦) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ١١٢.

٢٤٠