اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

تكذّبون بيوم الدين وهو يوم الحساب والجزاء ، وملائكة الله ـ تعالى ـ موكّلون بكم ، يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة ، ونظيره : قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٧ ، ١٨] وقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) [الأنعام : ٦١]

فصل في الرد على من طعن في حضور الكرام الكاتبين

قال ابن الخطيب : من الناس من طعن في حضور الكرام الكاتبين من وجوه :

الأول : لو كان الحفظة ، وصحفهم وأقلامهم معنا ، ونحن لا نراهم لجاز أن يكون بحضرتنا جبال ، وأشخاص لا نراهم ، وذلك دخول في الجهالات.

والثاني : هذه الكتابة ، والضبط إن كان لا لفائدة فهو عبث ، وهو غير جائز على الله تعالى ، وإن كان لفائدة ، فلا بد وأن تكون للعبد ؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ متعال عن النفع والضر ، وعن تطرق النسيان إليه ، وغاية ذلك أنّه حجّة على الناس وتشديد عليهم لإقامة الحجّة ، لكن هذا ضعيف ؛ لأنّ من علم أنّ الله تعالى لا يجور ، ولا يظلم ، لا يحتاج في حقه إلى إثبات هذه الحجة ، والذي لا يعلم لا ينتفع بهذه الحجة ، لاحتمال أنّه تعالى أمرهم بذلك ظلما.

الثالث : أنّ أفعال القلوب غير مرئية ، فهي من باب المغيبات ، والله ـ تعالى ـ مختص بعلم الغيب ، فلا تكتبوها ، والآية تقتضي ذلك.

والجواب عن الأول : أنّ البنية عندنا ليست شرطا في قبول الحياة ؛ ولأن عند سلامة الأعضاء ، وحصول جميع الشرائط لا يجب الإدراك ، فيجوز على الأوّل : أن يكونوا أجراما لطيفة ، تتمزق ، وتبقى حياتها ذلك ، وعلى الثاني : يجوز أن يكونوا أجراما كثيفة ، ونحن لا نراهم.

وعن الثاني : أن الله ـ تعالى ـ أجرى أموره على عباده على ما يتعارفونه في الدنيا فيما بينهم ؛ لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم في إخراج كتاب ، وشهود في إلزام الحجة ، كما يشهد العدول عند الحاكم على القضاة.

وعن الثالث : أن ذلك مخصوص بأفعال الجوارح ، فهو عام مخصوص ، وفي مدح الحفظة ، ووصفهم بهذه الصفات تعظيم لأمر الجزاء ، وأنّه من جلائل الأمور.

فصل في عموم الخطاب

هذا الخطاب وإن كان خطاب مشافهة إلّا أنّ الأمّة أجمعت على عموم هذا الحكم في حقّ المكلّفين.

وقوله تعالى : (لَحافِظِينَ) : جمع يحتمل أن يكونوا حافظين لجميع بني آدم ، من غير أن

٢٠١

يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم ، ويحتمل أن يكون الموكّل بكل واحد منهم جمعا من الملائكة ، كما قيل : اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، أو كما قيل : إنهم خمسة.

فصل في أن الكفار هل عليهم حفظة؟

اختلفوا في الكفّار ، هل عليهم حفظة؟.

فقيل : لا ؛ لأن أمرهم ظاهر وعلمهم واحد ، قال تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١].

وقيل : بل عليهم حفظة لقوله تعالى : (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) ، وأمّا من أوتي كتابه بشماله ، ومن أوتي كتابه وراء ظهره ، فأخبر أنّ لهم كتابا وعليهم حفظة.

فإن قيل : أي شيء يكتب الذي عن يمينه ، ولا حسنة له؟.

فالجواب : أنّ الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه ، ويكون صاحبه شاهدا على ذلك ، وإن لم يكتب.

فصل في معرفة الملائكة همّ الإنسان

سئل سفيان : كيف تعرف الملائكة أنّ العبد همّ بمعصية ، أو بحسنة؟ قال : إذا همّ العبد بحسنة وجد منه ريح المسك ، وإن همّ بسيئة وجد منه ريح منتن.

فصل في أن الشاهد لا يشهد إلا بعد العلم

دلّت هذه الآية على أنّ الشاهد لا يشهد إلّا بعد العلم ، لوصف الملائكة بكونهم حافظين كراما كاتبين ، يعلمون ما تفعلون ، فدلّ على أنهم يكونون عالمين بها حتى أنّهم يكتبونها ، فإذا كتبوها يكونون عالمين عند أداء الشهادة.

قال الحسن : لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم (١).

وقيل : يعلمون ما ظهر منكم دون ما حدثتم به أنفسكم.

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(١٩)

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ).

الأبرار : الذين بروا ، وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله تعالى ، واجتناب معاصيه.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٦٣).

٢٠٢

فصل في ذكر أحوال العالمين

لما وصف تعالى الكرام الكاتبين لأعمال العباد ، ذكر أحوال العالمين ، وقسمهم قسمين ، فقال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) وهو نعيم الجنّة ، (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) وهو النّار ، وهذا تهديد عظيم للعصاة ، وهذا التقسيم كقوله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧].

قوله : (يَصْلَوْنَها) : يجوز فيه أن يكون حالا من الضمير في الجار ، لوقوعه خبرا ، وأن يكون مستأنفا.

وقرأ العامة : «يصلونها» مخففا مبنيا للفاعل وتقدم مثله.

ومعنى (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) يدخلونها يوم القيامة.

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي : ليسوا غائبين عن استحقاق الكون في الجحيم ، ثم عظّم ذلك اليوم فقال : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) ثم كرره تعجيبا لشأنه ، فقال : (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ).

وقال ابن عباس : كلّ ما في القرآن من قوله : (وَما أَدْراكَ) فقد أدراه ، وكل شيء من قوله : (وَما يُدْرِيكَ) فقد طوي عنه (١).

قوله : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو (٢) : برفع «يوم» على أنّه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو يوم.

وجوز الزمخشريّ (٣) : أن يكون بدلا مما قبله يعني قوله : «يوم الدّين».

وقرأ أبو عمرو (٤) في رواية : «يوم» : مرفوعا منونا على قطعه عن الإضافة ، وجعل الجملة نعتا له ، والعائد محذوف ، أي : لا تملك فيه.

وقرأ الباقون : «يوم» بالفتح.

فقيل : هي فتحة إعراب ، ونصبه بإضمار أعني ، أو يتجاوزون ، أو بإضمار اذكر ، فيكون مفعولا به ، وعلى رأي الكوفيين يكون خبرا لمبتدأ مضمر ، وإنّما بني لإضافته للفعل وإن كان معربا ، كقوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) [المائدة : ١١٩].

قال الزجاج : يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه يبنى على الفتح ؛ لإضافته إلى قوله تعالى : (لا تَمْلِكُ) ، وما أضيف إلى غير المتمكن ، فقد يبنى على الفتح ، وإن كان في موضع رفع ، أو جرّ كما قال : [المنسرح]

__________________

(١) ينظر القرطبي (١٩ / ١٦٣).

(٢) ينظر : السبعة ٦٧٤ ، والحجة ٦ / ٣٨٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٤٩ ، وحجة القراءات ٧٥٣.

(٣) ينظر الكشاف ٤ / ٧٥٣.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٨٩.

٢٠٣

٥١٢٥ ـ لم يمنع الشّرب غير أن نطقت

حمامة ........ (١)

قال الواحدي : والذي ذكره الزجاج من البناء على الفتح ، إنّما يجوز عند الخليل وسيبويه إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي ؛ نحو قوله : [الطويل]

٥١٢٦ ـ على حين عاتبت ....

 .......... (٢)

البيت. أمّا مع الفعل المستقبل ، فلا يجوز البناء عندهم ، ويجوز البناء في قول الكوفيين.

قال ابن الخطيب (٣) : وذكر أبو عليّ أنّه منصوب على الظرفية ؛ لأن اليوم لما جرى في أكثر الأمر ظرفا ، فنزل على حالة الأكثرية ، والدليل عليه إجماع القراء في قوله تعالى : (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) [الأعراف : ١٦٨] ، ولا يدفع ذلك أحد ، ومما يقوّي النصب قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ) [القارعة : ٤ ، ٥] ، وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٢ ، ١٣] ، فالنصب في (يَوْمَ لا تَمْلِكُ) مثل هذا.

فصل فيمن استدل بالآية على نفي الشفاعة عن العصاة

تمسّكوا بهذه الآية في نفي الشفاعة للعصاة ، وهو قوله تعالى : (يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة : ٤٨] وقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة.

قال مقاتل : يعني النفس الكافرة شيئا من المنفعة (٤).

(وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) أي : لن يملّك الله ـ تعالى ـ في ذلك اليوم أحدا شيئا كما ملّكهم في الدنيا.

روى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أعطاه الله من الأجر بعدد كلّ قبر حسنة ، وبعدد كلّ قطرة ماء حسنة ، وأصلح الله تعالى له شأنه» (٥). ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ٧٩.

(٤) ينظر : القرطبي (١٩ / ١٦٣).

(٥) تقدم تخريجه.

٢٠٤

سورة المطففين

مدنيّة في قول الحسن وعكرمة ومقاتل.

قال مقاتل : وهي أوّل سورة نزلت ب «المدينة» (١)

وقال ابن عباس وقتادة : مدنيّة إلا ثمان آيات ، وهي من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) [المطففين : ٢٩] إلى آخرها مكي (٢).

وقال الكلبيّ ، وجابر بن زيد : نزلت بين «مكة» و «المدينة» (٣)

وقال ابن مسعود والضحاك : مكيّة. وهي ست وثلاثون آية ، ومائة وتسعة وستون كلمة ، وسبعمائة وثمانون حرفا (٤).

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٦)

قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ).

«ويل» : ابتداء ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء ، ولو نصب لجاز.

وقال مكيّ : والمختار في «ويل» وشبهه إذا كان غير مضاف الرّفع ، ويجوز النصب ، فإن كان مضافا ، أو معرفا كان الاختيار فيه النّصب نحو : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا) [طه : ٦١] ، و «للمطففين» خبره.

والمطفّف : المنقص ، وحقيقته : الأخذ في كيل أو وزن شيئا طفيفا ، أي : نزرا حقيرا ، ومنه قولهم : دون التّطفيف ، أي : الشيء التّافه لقلته.

__________________

(١) ذكره الماوردي (٦ / ٢٢٥) والقرطبي (١٩ / ١٦٤).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٢٥) عن ابن مسعود والضحاك.

٢٠٥

قال الزجاج : إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفّف ؛ لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلّا الشيء اليسير الطفيف.

فصل في تعلق هذه السورة بما قبلها

قال ابن الخطيب (١) : اتصال أوّل هذه السورة بالمتقدمة أنّه تعالى بيّن في آخر تلك السورة أنّ من صفة يوم القيامة أنه لا تملك نفس لنفس شيئا ، والأمر يومئذ لله ، وذلك يقتضي تهديدا عظيما للعصاة ، فلهذا أتبعه بقوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) والمراد منه الزجر على التطفيف ، وهو البخس في المكيال والميزان على سبيل الخفية.

واعلم أن الويل كلمة تذكر عند وقوع البلاء ، يقال : ويل لك ، وويل عليك ، وفي اشتقاق لفظ التطفيف قولان :

الأول : قول الزجاج المتقدم.

والثاني : أنّ طف الشيء ، هو جانبه وحرفه يقال : طفّ الوادي والإناء إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه ، ولم يمتلىء ، فهو طفافه وطففه ، يقال : هذا طف المكيال وطفافه إذا قارب ملأه ، لكنه بعد لم يمتلىء ، ولهذا قيل للذي «ينقص» الكيل ولا يوفيه مطفف. لأنه إنما يبلغ الطفاف.

فصل في نزول الآية

روى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المدينة» ، كانوا من أبخس النّاس كيلا ، فأنزل الله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ، فاجتنبوا الكيل ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأها عليهم ، وقال : «خمس بخمس ، ما نقص قوم العهد إلّا سلّط الله عليهم عدوّهم ، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر ، ولا ظهر فيهم الفاحشة إلّا ظهر فيهم الموت ، ولا طفّفوا المكيال إلّا منعوا النّبات وأخذوا بالسّنين ، ولا منعوا الزّكاة إلّا حبس عنهم المطر» (٢).

وقال السديّ : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المدينة» ، وبها رجل يقال له : أبو جهينة ، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ، ويكيل بالآخر فأنزل الله تعالى هذه الآية.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٨٠.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٨٣) وابن ماجه (٢ / ٧٤٨) والنسائي (٦ / ٥٠٨) من طريق عكرمة عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٣٦) وزاد نسبته إلى الطبراني وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان» بسند صحيح عنه.

قلت : وأخرجه ابن حبان (١٧٧٠ ـ موارد) والحاكم (٢ / ٣٣) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

٢٠٦

وروى ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : المطفف الرجل الذي يستأجر المكيال ، وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزن عليه (١).

قوله : (عَلَى النَّاسِ). فيه أوجه :

أحدها : أنّه متعلق ب «اكتالوا» ، و «على» و «من» «يتعاقبان» هنا. قال الفراء: يقال : اكتلت على النّاس : استوفيت منهم ، واكتلت منهم : أخذت ما عليهم.

وقيل : «على» بمعنى اكتل على ومنه بمعنى ، والأول أوضح.

وقيل : «على» يتعلق ب «يستوفون».

قال الزمخشري (٢) : لما كان اكتيالهم لا يضرهم ، ويتحامل فيه عليهم أبدل «على» مكان «من» للدلالة على ذلك ، ويجوز أن يتعلق ب «يستوفون» ، وقدّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية ، أي : يستوفون على الناس خاصّة ، فأمّا أنفسهم فيستوفون لها. وهو حسن.

قوله تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ). رسمتا في المصحف بغير ألف بعد الواو في الفعلين ، فمن ثم اختلف الناس في «هم» على وجهين.

أحدهما : هو ضمير نصب فيكون مفعولا به ، ويعود على الناس ، أي : وإذا كالوا الناس أو وزنوا الناس ، وعلى هذا فالأصل في هذين الفعلين التعدي لاثنين : لأحدهما بنفسه بلا خلاف وللآخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه.

وهل كل منهما أصل بنفسه ، أو أحدهما أصل للآخر؟ فيه خلاف ، والتقدير : وإذا كالوا لهم طعاما ، أو وزنوه لهم ، فحذف الحرف والمفعول ؛ وأنشد : [الطويل]

٥١٢٧ ـ ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر (٣)

أي : جنيت لك.

والثاني : أنّه ضمير رفع مؤكد للواو ، والضمير عائد على «المطففين» ، ويكون على هذا قد حذف المكيل والمكيل له ، والموزون والموزون له.

إلا أن الزمخشري رد هذا فقال (٤) : «ولا يصح أن يكون ضميرا مرفوعا

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٥١٧) من طريق إبراهيم بن يزيد عن عبد الرحمن بن الأعرج عن ابن عمر.

وسكت عنه الحاكم. وقال الذهبي : إبراهيم واه.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٧١٩.

(٣) ينظر الاشتقاق ص ٤٠٢ ، والإنصاف ١ / ٣١٩ ، وأوضح المسالك ١ / ١٨٠ ، وتخليص الشواهد ص ١٦٧ ، وجمهرة اللغة ص ٣٣١ ، والخصائص ٣ / ٥٨ ، ورصف المباني ص ٧٨ ، وسر صناعة الإعراب ص ٣٦٦ ، وشرح ابن عقيل ص ٩٦ ، ولسان العرب (حجر) ، و(سور) ، و(عير) ، و(وبر) ، و(جحش) ، و(أبل) و(حفل) ، و(عقل) ، و(اسم) ، و(جنى) ، و(نجا) ، والمحتسب ٢ / ٢٢٤ ، ومغني اللبيب ١ / ٥٢ ، ٢٢٠ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٩٨ ، والمقتضب ٤ / ٤٨ ، والمنصف ٣ / ١٣٤.

(٤) الكشاف ٤ / ٧١٩.

٢٠٧

«للمطففين» ، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد ، وذلك أن المعنى : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا أعطوهم أخسروا ، وإن جعلت الضمير «للمطففين» انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإن تولوا الكيل ، أو الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر ؛ لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر».

قال أبو حيان (١) : ولا تنافر فيه بوجه ، ولا فرق بين أن يؤكد الضمير ، وألّا يؤكد ، والحديث واقع في الفعل ، غاية ما في هذا أن متعلّق الاستيفاء ، وهو «على الناس» مذكور ، وهو في (كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) محذوف للعلم به ؛ لأنّه من المعلوم أنهم لا يخسرون ذلك لأنفسهم.

قال شهاب الدين (٢) : الزمخشري يريد أن يحافظ على أنّ المعنى مرتبط بشيئين : إذا أخذوا من غيرهم ، وإذا أعطوا غيرهم ، وهذا إنّما فهم على تقدير أن يكون الضمير منصوبا عائدا على الناس ، لا على كونه ضمير رفع عائدا على «المطففين» ، ولا شك أن هذا المعنى الذي ذكره الزمخشري وأراده أتم وأحسن من المعنى الثاني ، ورجّح الأول سقوط الألف بعد الواو ؛ لأنه دال على اتصال الضمير.

إلّا أن الزمخشري استدرك فقال (٣) : «والتعلق في إبطاله بخط المصحف ، وأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه ركيك ؛ لأن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الخط على أني رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة ، لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعا ؛ لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع ، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك : «هم لم يدعوا ، وهو يدعو» ، فمن لم يثبتها قال : المعنى كاف في التفرقة بينهما ، وعن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يرتكبان ذلك ، أي : يجعلان الضميرين «للمطففين» ، ويقفان عند الواوين وقيفة ، يبينان بها ما أرادوا». ولم يذكر فعل الوزن أوّلا ، بل اقتصر على الكيل ، فقال : (إِذَا اكْتالُوا) ، ولم يقل : إذا اتزنوا ، كما قال ثانيا : (أَوْ وَزَنُوهُمْ).

قال ابن الخطيب (٤) : لأن الكيل والوزن بهما البيع والشراء ، فأحدهما يدل على الآخر.

وقال الزمخشريّ (٥) : «كأنّ المطففين كانوا لا يؤخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين ، لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء ، والسرقة ؛ لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء ، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعا».

قوله : «يخسرون» جواب «إذا» ، وهو يتعدّى بالهمزة ، يقال : خسر الرجل وأخسرته

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٤٣١.

(٢) الدر المصون ٦ / ٤٩١.

(٣) الكشاف ٤ / ٧٢٠.

(٤) الفخر الرازي ٣١ / ٨١.

(٥) الكشاف ٤ / ٧٢٠.

٢٠٨

أنا ، فمفعوله محذوف ، أي : يخسرون الناس متاعهم. قال المؤرج : يخسرون أي ينقصون بلغة «قريش».

فصل في تفسير الآية

قال الزجاج : المعنى : إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل والوزن.

أي : إذا استوفوا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن ، «وإذا كالوهم أو وزنوهم» أي : كالوا لهم ، أو وزنوا لهم ، أي : للناس ، ولمّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالا فيه إضرار بهم ، وتحامل عليهم أقيم «على» مقام «من» للدلالة على ذلك.

وقال الكسائيّ والفراء : حذف الجار وأوصل الفعل ، وهذا من كلام أهل الحجاز ، ومن جاورهم ، يقال : وزنتك حقك ، وكلتك طعامك أي : وزنت لك ، وكلت لك ، كما يقال : نصحتك ، ونصحت لك ، وكسيتك ، وكسيت لك.

وقال الفراء : المراد اكتالوا من الناس ، و «على» و «من» يتعاقبان ؛ لأنه حق عليه فإذا قلت : اكتلت عليك ، فكأنه قال : أخذت ما عليك ، وإذا قلت : اكتلت منك فهو كقولك: استوفيت منك.

وقيل : على حذف مضاف ، أي : إذا كالوا مكيلهم ، أو وزنوا لهم موزونهم.

قوله : (أَلا يَظُنُّ) : الظّاهر أنّها «ألا» التحضيضية ، حضهم على ذلك ، ويكون الظنّ بمعنى : اليقين.

وقيل : هي «لا» النافية دخلت عليها همزة الاستفهام.

ومعنى الآية : ألا يستيقن أولئك الذين يفعلون ذلك بأنهم مبعوثون ليوم عظيم ، وهو يوم القيامة ، وفي الظن هنا قولان :

أحدهما : أنّ المراد به : العلم ، وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون المخاطبون بهذا الخطاب من جملة المصدّقين بالبعث ، ويحتمل ألّا يكونوا كذلك لتمكّنهم من الاستدلال عليه بالفعل.

الثاني : أنّ المراد بالظن هنا : هو الظن نفسه ، لا العلم ، ويكون المعنى : هؤلاء المطففون هب أنهم لا يجزمون بالبعث ، ولكن لا أقل من الظن لوضوح أدلّته ، فإنّ الأليق بحكمة الله ـ تعالى ـ ورحمته ، ورعايته مصالح خلقه ألّا يهمل أمرهم بعد الموت ، وأن يكون لهم نشر وحشر ، وأن هذا الظّن كاف في حصول الخوف.

قوله : (يَوْمَ) : يجوز نصبه ب «مبعوثون».

قال الزمخشريّ (١) : أو ب «يبعثون» مقدرا ، أو على البدل من محل اليوم ، أو

__________________

(١) الكشاف ٤ / ٧٢٠.

٢٠٩

بإضمار «أعني» ، أو هو مرفوع المحل لإضافته للفعل وإن كان مضارعا ، كما هو رأي الكوفيين ، ويدل على صحة هذين الوجهين ، قراءة (١) زيد بن عليّ : «يوم يقوم» بالرفع ، وما حكاه أبو معاذ (٢) القارىء : «يوم» بالجر على ما تقدّم.

فصل في المراد بقيام الناس لرب العالمين

قيام الناس لرب العالمين إمّا للحساب ، وإمّا قيامهم من القبور.

وقال أبو مسلم (٣) : قيامهم له عبارة عن طاعتهم له وانقيادهم ، كقوله تعالى : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩] ، وفي الحديث : «إنّ النّاس يقومون مقدار ثلاثمائة سنة لا يؤمر فيهم بأمر» (٤).

وعن ابن عباس : وهو في حقّ المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة (٥). وفي هذه الآيات مبالغات ، منها أنّ الويل إنما يذكر عند شدة البلاء ، ومنها الإنكار بقوله تعالى : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) ، ومنها استعظامه ـ تعالى ـ لليوم ، ومنها تأكيده بما بعده ، وما يوهم ذلك ، وما يقتضيه من خضوعهم وذلتهم ، وفي هذا نكتة ، وهي كأن قائلا يقول : هذا التشديد العظيم ، والوعيد البليغ ، كيف يكون على التطفيف مع نزارته ، وزهادته ، وكرم المولى وإحسانه؟.

فأشار بقوله : (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) إلى أنّه مربيهم ومسئول عن أمورهم ، فلا يليق أن يهمل من أمورهم شيئا.

فصل في الكلام على لفظ «المطفف»

قال القشيري : لفظ المطفّف يتناول التطفيف في الوزن والكيل ، وفي إظهار العيب ، وإخفائه ؛ وفي طلب الإنصاف والانتصاف ، ويقال : من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه ، فليس بمنصف ، والمباشرة والصحبة من هذه المادة ، والذي يرى عيب الناس ، ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة ، ومن طلب حقّ نفسه من الناس ، ولا يعطيهم حقوقهم ، كما يتطلبه.

قوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ)(٩)

قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ).

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٣٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٩١.

(٢) ينظر السابق.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٨٣.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٣٧) وعزاه إلى ابن مردويه عن أبي هريرة.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره (٣١ / ٨٣) عن ابن عباس.

٢١٠

«كلّا» : حرف ردع ، أي : ليس الأمر على ما هم عليه فليرتدعوا ، وهاهنا تم الكلام.

وقال الحسن : «كلّا» : ابتداء يتصل بما بعده على معنى «حقّا» إنّ كتاب الفجّار الذي كتب فيه أعمالهم لفي سجين (١).

اختلفوا في نون «سجّين».

فقيل : هي أصليّة ، واشتقاقه من السّجن ، وهو الحبس ، وهو بناء مبالغة «فعيلا» من السجن ، ك «سكّير» و «فسّيق» من السكر والفسق وهو قول أبي عبيدة والمبرد والزجاج.

قال الواحدي : وهذا ضعيف ؛ لأن العرب ما كانت تعرف سجينا.

وقيل : «النون» بدل من «اللام» ، والأصل : «سجيل» مشتقا من السّجل ، وهو الكتاب.

واختلفوا فيه أيضا : هل هو اسم موضع ، أو اسم كتاب مخصوص؟.

وقيل : هو صفة ، أو علم منقول من وصف ك «خاتم» ، وهو مصروف إذ ليس فيه إلا سبب واحد ، وهو العلمية.

وإذا كان اسم مكان ، فقوله تعالى : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) إمّا بدل منه ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، وهو ضمير يعود عليه.

وعلى التقديرين فهو مشكل ؛ لأن الكتاب ليس هو المكان.

فقيل : التقدير ، هو محل كتاب ، ثم حذف المضاف.

وقيل : التقدير : وما أدراك ما كتاب سجين ، والحذف إما من الأول وإمّا من الثاني.

وأما إذا قلنا : إنه اسم لكتاب فلا إشكال.

وقال ابن عطية (٢) : من قال : إن سجينا موضع ، فكتاب مرفوع على أنه خبر «إنّ» ، والظرف الذي هو «لفي سجين» ملغى ، ومن جعله عبارة عن الخسار ، ف «كتاب» خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : هو كتاب ، ويكون هذا الكلام مفسرا لسجين ما هو انتهى.

وهذا لا يصح ـ ألبتة ـ إذ دخول اللام يعيّن كونه خبرا ، فلا يكون ملغيا لا يقال : «اللام» تدخل على معمول الخبر ، فهذا منه ، فيكون ملغى ؛ لأنّه لو فرض الخبر ، وهو «كتاب» عاملا أو صفته عاملة ، وهو «مرقوم» لامتنع ذلك ، أمّا منع عمل «كتاب» ، فلأنه موصوف ، والمصدر الموصوف لا يعمل ، وأمّا امتناع عمل «مرقوم» ؛ فلأنه صفة ، ومعمول الصفة لا يتقدم على موصوفها ، وأيضا : فاللام إنما تدخل على معمول الخبر بشرطه ، وهذا ليس معمولا للخبر ، فتعيّن أن يكون الجار هو الخبر ، وليس بملغى.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٦٨) عن الحسن.

(٢) المحرر الوجيز ٥ / ٤٥١.

٢١١

وأمّا قوله ثانيا : ويكون هذا الكلام تفسيرا ل «سجين» ما هو ، فهو مشكل ، لأن الكتاب ليس هو الخسار الذي جعل الضمير عائدا عليه مخبرا عنه ب «كتاب».

وقال الزمخشري (١) : فإن قلت : قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجّار بأنه في سجّين ، وفسّر سجينا ب «كتاب مرقوم» ، فكأنه قيل : إنّ كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟.

قلت : سجين : كتاب جامع هو : ديوان الشر دون الله فيه أعمال الشياطين ، وأعمال الكفرة والفسقة من الجنّ والإنس ، وهو كتاب مرقوم مسطور بين الكتابة ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه ، فالمعنى : أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان ، وسمي «سجّينا» «فعيلا» من السجن ؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم انتهى.

فصل في تفسير معنى سجين

قال عبد الله بن عمر وقتادة ومجاهد والضحاك : «سجّين» هي الأرض السابعة السفلى ، فيها أرواح الكفّار (٢).

وروى البراء ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سجّين» أسفل سبع أرضين ، و «علّيّون» في السماء السّابعة تحت العرش (٣).

وقال الكلبي : هي صخرة تحت الأرض السابعة (٤).

وقال عكرمة : «لفي سجّين» لفي خسارة وضلال (٥).

قال القشيريّ : «سجين» : موضع في السافلين ، يدفن فيه كتاب هؤلاء ، فلا يظهر ، بل يكون

في ذلك الموضع كالمسجون.

قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) ، أي : ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ، ولا قومك.

قال القرطبي (٦) : وليس في قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) ما يدل على أن لفظ «سجين» ليس عربيا ، كما لا يدل قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ٢٠] ، بل هو تعظيم لأمر سجين.

__________________

(١) الكشاف ٤ / ٧٢١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٨٧) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٣٨) عن مجاهد وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ في «العظمة» والمحاملي في «أماليه». وذكره عن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

وقد ورد هذا المعنى مرفوعا من حديث عائشة ذكره السيوطي أيضا في «الدر المنثور» (٦ / ٥٣٨) وعزاه إلى ابن مردويه.

(٣) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٧٢).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٦٩.

٢١٢

قوله تعالى : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) ؛ قال المفسرون : ليس هذا تفسيرا ل «سجين» ، بل هو بيان للكتاب المذكور في قوله : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) أي : هو كتاب مرقوم ، أي : مكتوب فيه أعمالهم مثبت عليهم ، كالرقم لا ينسى ولا يمحى حتى يجازى به ، والرقم : الخط ؛ قال : [الطويل]

٥١٢٨ ـ سأرقم في الماء القراح إليكم

على بعدكم ، إن كان في الماء راقم (١)

وقيل : الرّقم : الختم بلغة حمير. [وتقدمت هذه المادة في سورة «الكهف»](٢).

وقال قتادة ومقاتل : رقم : نشر ، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنّه كافر.

قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧)

قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

قيل : إنّه متصل بقوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) لمن كذّب بأخبار الله تعالى.

وقيل : إنّ قوله : «مرقوم» معناه : مرقم أي : يدل على الشّقاوة يوم القيامة ، ثم قال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) في ذلك اليوم من ذلك الكتاب.

ثم إنه ـ تعالى ـ أخبر عن صفة من يكذّب بيوم الدين ، فقال تعالى : (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، فقوله تعالى : (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ) يجوز فيه الإتباع نعتا وبدلا وبيانا ، والقطع رفعا ونصبا.

واعلم أنه ـ تعالى ـ وصف المكذب بيوم الدين بثلاث صفات :

أولها : كونه معتديا ، والاعتداء هو التجاوز عن المنهج الحقّ.

وثانيها : الأثيم وهو المبالغة في ارتكاب الإثم والمعاصي.

وثالثها : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) والمراد : الذين ينكرون النبوة ، والمراد بالأساطير : قيل : أكاذيب الأولين. وقيل : أخبار الأولين.

قوله : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ). العامة على الخبر.

__________________

(١) ينظر اللسان (رقم) ، والقرطبي ١٩ / ١٦٩ ، والبحر ٨ / ٤٣٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٢.

(٢) سقط من أ.

٢١٣

والحسن : «أئذا؟» على الاستفهام الإنكاري (١).

والعامّة : «تتلى» بتاءين من فوق.

وأبو حيوة (٢) وابن مقسم : بالياء من تحت ؛ لأن التأنيث مجازي.

فصل في المراد بالمكذب في الآية

قال الكلبيّ : المراد بالمكذّب هنا : هو الوليد بن المغيرة ـ لعنه الله ـ لقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) إلى قوله : (مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) وقوله : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم : ١٠ ـ ١٥].

فقيل : هو الوليد بن المغيرة.

وقيل : هو النّضر بن الحارث.

وقيل : عام في كل موصوف بهذه الصفة (٣).

قوله : (كَلَّا). ردع وزجر ، أي : ليس هو أساطير الأولين.

وقال الحسن : معناها «حقّا» ران على قلوبهم.

وقال مقاتل : معناه : لا يؤمنون (٤) ، ثم استأنف : (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) قد تقدم وقف حفص على لام «بل» في سورة «الكهف».

والرّان : الغشاوة على القلب كالصّدأ على الشيء الصقيل من سيف ، ومرآة ، ونحوهما.

قال الشاعر : [الطويل]

٥١٢٩ ـ وكم ران من ذنب على قلب فاجر

فتاب من الذّنب الذي ران وانجلى (٥)

وأصل الرّين : الغلبة ، ومنه رانت الخمر على عقل شاربها.

وقال الزمخشري (٦) : «يقال : ران عليه الذنب ، وغان عليه ، رينا ، وغينا ، والغين : الغيم».

والغين أيضا : شجر متلف ، الواحدة غيناء ، أي : خضراء كثيرة الورق ملتفة الأغصان.

ويقال : ران رينا ورينا ، فجاء مصدره مفتوح العين وساكنها.

وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والفضل (٧) : «ران» بالإمالة ؛ لأن فاء الفعل

__________________

(١) ينظر ، البحر المحيط ٨ / ٤٣٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٢.

(٢) ينظر : السابق ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٥١.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٧٠).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر اللسان (رين) ، والبحر ٨ / ٤٣٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٣.

(٦) الكشاف ٤٠ / ٧٢١.

(٧) ينظر : السبعة ٦٧٥ ، والحجة ٦ / ٣٨٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٥١ ، وحجة القراءات ٧٥٤.

٢١٤

راء ، وعينه ألف منقلبة عن ياء ، فحسنت الإمالة ، ومن فتح فعلى الأصل مثل : كال وباع.

فصل في المراد بالرّين والإقفال والطبع

قال أبو معاذ النحويّ : الرّين ، والإقفال : [أن يسود القلب من الذنوب وهو](١) أشدّ من الطبع ، وهو أن يقفل على القلب ، قال تعالى : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤].

قال الزجاج : (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) بمعنى غطّى على قلوبهم.

وقال الحسن ومجاهد : هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب ، ويغشى ، فيموت القلب (٢).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إيّاكم والمحقرات من الذنوب ، فإنّ الذنب على الذّنب يوقد على صاحبه [جحيما](٣) ضخمة» (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها ، فإذا زاد زادت حتّى تعلو قلبه ، فذلكم الرّان الّذي ذكر الله ـ تعالى ـ في كتابه : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٥).

قوله : (ما كانُوا) هو الفاعل ، و «ما» : يحتمل أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى : «الذي» والعائد محذوف ، وأميلت ألف «ران» ، وفخمت ، فأمالها الأخوان وأبو بكر وفخّمها الباقون ، وأدغمت لام «بل» في الراء ، وأظهرت.

قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ).

قال الزمخشريّ (٦) : «كلّا» ردع عن الكسب الرّائن على قلوبهم.

وقال القفال (٧) : إنّ الله ـ تعالى ـ حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم ، أنه كان يقول : إن كانت الآخرة حقّا ، فإن الله ـ تعالى ـ يعطيه مالا وولدا ، ثم كذّبه الله ـ تعالى ـ بقوله : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [مريم : ٧٨].

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٩٠) عن مجاهد والحسن وذكره السيوطي عنهما وعزاه إلى عبد بن حميد ينظر «الدر المنثور» (٦ / ٥٤١).

(٣) سقط من : ب.

(٤) تقدم.

(٥) أخرجه الترمذي (٣٣٣١) والنسائي في «التفسير» كما في «تحفة الأشراف» (٩ / ٤٤٣) وأحمد (٢ / ٢٩٧) والطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٩٠) والحاكم (٢ / ٥١٧) وابن حبان (١٧٧١ ـ موارد) من حديث أبي هريرة.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٦) ينظر الكشاف ٤ / ٧٢١ ـ ٧٢٢.

(٧) ينظر الرازي ٣١ / ٨٧.

٢١٥

وقال أيضا : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) [الكهف : ٣٦] ، (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠] ، فلمّا تكرّر ذكره في القرآن ، ترك الله ذكره ـ هاهنا ـ وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي : ليس الأمر كما يقولون من أن لهم في الآخرة الحسنى ، بل هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. وقال ابن عباس أيضا : «كلّا» يريد لا يصدقون ، ثم استأنف ، فقال : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)(١) وقيل : قوله تعالى : «كلّا» تكرير ، وتكون «كلّا» هذه هي المذكورة في قوله : «كلا ، بل ران على قلوبهم».

قوله : (عَنْ رَبِّهِمْ). متعلق بالخبر ، وكذلك «يومئذ» ، والتنوين عوض عن جملة ، تقديرها : «يوم إذ يقوم الناس» ؛ لأنه لم يناسب إلا تقديرها.

فصل في حجب الكفار عن رؤية ربهم

قال أكثر المفسرين : محجوبون عن رؤيته ، وهذا يدل على أن المؤمنين يرون ربهم ـ سبحانه وتعالى ـ ولو لا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة.

وأيضا فإنه ـ تعالى ـ ذكر هذا الحجاب في معرض الوعيد ، والتهديد للكفار ، وما يكون وعيدا وتهديدا للكفّار لا يجوز حصوله للمؤمنين ، وأجاب المعتزلة عن هذا بوجوه :

أحدها : قال الجبائي (٢) : المراد أنهم محجوبون عن رحمة ربهم أي : ممنوعون كما تحجب الأم بالإخوة من الثّلث إلى السّدس ، ومن ذلك يقال لمن منع من الدخول : حاجب.

وثانيها : قال أبو مسلم : «لمحجوبون» غير مقرّبين ، والحجاب : الرّد ، وهو ضد القبول ، فالمعنى : أنهم غير مقبولين عند الرؤية ، فإنه يقال : حجب عن الأمير ، وإن كان قد رآه عن بعد ، بل يجب أن يحمل على المنع من رحمته.

وثالثها (٣) : قال الزمخشريّ (٤) : كونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم ؛ لأنه لا يرد على الملوك إلا المكرّمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا المبانون عنهم.

والجواب : أن الحجب في استعمالاته مشترك في المنع ، فيكون حقيقة فيه ، ومنع العبد بالنسبة إلى الله تعالى ، إمّا عن العلم ، وإمّا عن الرؤية ، والأول : باطل ؛ لأن الكفّار يعلمون الله تعالى ، فوجب حمله على الرؤية.

وأمّا الوجوه المذكورة فهو عدول عن الظاهر من غير دليل ، ويؤيد ما قلنا : أقوال السّلف من المفسرين :

__________________

(١) ذكره البغوي (٤ / ٤٦٠).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٨٧.

(٣) في أ : رابعها.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٢٢.

٢١٦

قال مقاتل : بل لا يرون ربّهم بعد الحساب ، والمؤمنون يرون ربهم.

وقال الكلبيّ : محجوبون عن رؤية ربهم والمؤمن لا يحجب (١) ، وسئل مالك بن أنس ـ رضي الله عنه ـ عن هذه الآية ، فقال : كما حجب الله تعالى أعداءه فلم يروه ، ولا بد أن يتجلّى لأوليائه حتى يروه.

وعن الشافعيّ ـ رحمه‌الله ـ كما حجب قوم بالسّخط دلّ على أنهم يرونه بالرضا.

قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ). أي : إن الكفّار مع كونهم محجوبين من الله يدخلون النار.

(ثُمَّ يُقالُ) أي : تقول لهم الخزنة : «هذا» أي : هذا العذاب (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ، وقوله : يقال يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل ما دلّت عليه جملة قوله : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ) ، ويجوز أن تكون الجملة نفسها ، ويجوز أن تكون المصدرية. [وقد تقدم تحريره في أول «البقرة»](٢).

قوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)

قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) : لمّا ذكر تعالى حال الكفار والمطففين أتبعه بذكر الأبرار الذين لا يطففون ، فقال : «كلّا» أي : ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجّار من إنكار البعث ، ومن أنّ كتاب الله أساطير الأولين ، بل كتابهم في سجّين ، وكتاب الأبرار في علّيّين.

وقال مقاتل : «كلّا» أي : لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه.

قوله : (لَفِي عِلِّيِّينَ). هو خبر «إنّ».

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣١ / ٨٨) عن الكلبي.

(٢) سقط من ب.

٢١٧

وقال ابن عطيّة هنا كما قال هناك (١) ، ويرد عليه بما تقدم ، و «علّيّون» : جمع «علّيّ» ، أو هو اسم مكان في أعلى الجنة ، وجرى مجرى جمع العقلاء ، فرفع بالواو ، ونصب وجر بالياء ، مع فوات شرط العقل.

وقال أبو البقاء (٢) : واحدها «عليّ» وهو الملك.

وقيل : هو صيغة للجمع مثل عشرين ، ثم ذكر نحوا مما ذكره في «سجّين» من الحذف المتقدم.

وقال الزمخشري (٣) : «علّيّون» علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كلّ ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع «عليّ» «فعيل» من العلو ك «سجين» من السجن ، سمي بذلك ، إمّا لأنّه سبب الارتفاع إلى أعلى الدرجات في الجنة ، وإما لأنّه مرفوع في السماء السابعة.

وتلك الأقوال الماضية في «سجّين» كلّها عائدة هنا.

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : أنّها السماء السابعة (٤).

وقال مقاتل وقتادة : هي سدرة المنتهى (٥).

وقال الفراء : يعني : ارتفاعها بعد ارتفاع لا غاية له.

وقال الزجاج : أعلى الأمكنة.

وقال آخرون : هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة.

وقال آخرون : عند كتاب أعمال الملائكة ، لقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) ، وذلك تنبيه على أنّه معلوم ، وأنه سيعرفه ، ثم قال تعالى : (كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) فبين أن كتابهم في هذا الكتاب بالمرقوم الذي يشهده المقربون من الملائكة ، فكأنّه ـ تعالى ـ كما وكلّهم باللوح المحفوظ ، فكذلك وكلّهم بحفظ كتب الأبرار في جملة ذلك الكتاب الذي هو أم الكتاب على وجه الإعظام له ، ولا يمنع أن الحفظة إذا صعدت تكتب الأبرار بأنهم يسلمونها إلى هؤلاء المقربين ، فيحفظونها كما يحفظون كتب أنفسهم ، أو ينقلون ما في تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وكّلوا بحفظه ، ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار ، فلذلك يحاسبون حسابا يسيرا.

وقيل : المعنى : ارتفاع بعد ارتفاع.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٥٢.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٨٣.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٢٢.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٩٣) عن كعب وقتادة ومجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤١) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٩٤) عن الضحاك.

٢١٨

وقال أبو مسلم : هذا كناية عن العلو والرفعة ، والأول كناية عن الذّلّ والإهانة.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : «علّيّون» : لوح من زبرجدة خضراء معلّق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه (١).

قال كعب وقتادة : هي قائمة العرش اليمنى (٢).

وقال ابن عباس : هو الجنة (٣).

وقال الضحاك : سدرة المنتهى (٤).

وقوله تعالى : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) : ليس فيه تفسير عليّين ، أي : مكتوب أعمالهم كما تقدم في كتاب الفجار.

وقيل : كتب هناك ما أعد الله لهم من الكرامة.

قوله : (يَشْهَدُهُ) : جملة يجوز أن تكون صفة ثانية ، وأن تكون مستأنفة ، والمعنى : أنّ الملائكة الذين هم في عليين يشهدون ، ويحضرون ذلك المكتوب وذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين.

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ). لمّا عظم كتابهم عظم منزلتهم بأنّهم في النعيم ، ثم بين ذلك النعيم بأمور ثلاثة : أولها : بقوله تعالى : (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ).

قال القفّال : «الأرائك» : الأسرّة في الحجال ، ولا تسمّى أريكة فيما زعموا إلا إذا كان كذلك.

وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ كنّا لا ندري ما الأريكة ، حتى لقينا رجل من أهل «اليمن» ، أخبرنا أن الأريكة عندهم ذلك (٥). وقوله : «ينظرون» قيل : إلى أنواع نعيمهم من الحور والولدان ، وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والمراكب وغيرها.

وقال مقاتل : ينظرون إلى عدوّهم حين يعذبون (٦).

وقيل : إذا اشتهوا شيئا نظروا إليه ، فيحضرهم ذلك الشيء في الحال وقيل : يحمل على الكل.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٧٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٩٣) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤١) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٩٤) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤١) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» ١٩ / ١٧٢.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣١ / ٨٩).

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٧٣).

٢١٩

قال ابن الخطيب (١) : إنهم ينظرون إلى ربهم بدليل قوله تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ).

قوله تعالى : (تَعْرِفُ). العامة : على إسناد الفعل إلى المخاطب ، أي : تعرف أنت يا محمد ، أو كل من صح منه المعرفة.

وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وشيبة وطلحة ويعقوب والزعفراني (٢) : «تعرف» مبنيا للمفعول ، و «نضرة» : بالرفع على قيامها مقام الفاعل.

وعلي بن زيد (٣) : كذلك إلا أنه بالياء أسفل ؛ لأن التأنيث مجازي.

والمعنى : إذا رأيتهم عرفت أنّهم من أهل النّعيم مما ترى في وجوههم من النور والحسن والبياض.

وقال الحسن : النضرة في الوجه والسّرور في القلب (٤).

قوله تعالى : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ).

قال الليث : الرّحيق : الخمر (٥).

وقيل : الخمر الصافية الطيبة.

وقال مقاتل : الخمر البيضاء (٦).

وقال ابن الخطيب (٧) : لعله الخمر الموصوف بقوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ).

قوله : «مختوم» ، أي : ختم ومنع أن تمسّه يد إلى أن يفكّ ختم الأبرار.

قال القفال (٨) : يحتمل أن يكون ختم عليه تكريما له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان ، وهناك خمر أخرى تجري أنهارا ، لقوله : (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [محمد : ١٥] ، إلّا أنّ هذا المختوم أشرف من الجاري.

وقال أبو عبيدة والمبرد والزجاج : «المختوم» : الذي له ختام أي : عاقبة.

وروى عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : المختوم أشرف من الجاري الممزوج ختامه ، أي : آخر طعمه وعاقبته مسك ، وختم كلّ شيء : الفراغ منه ، ومنه يقال : ختمت

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ٨٩.

(٢) ينظر المحرر الوجيز ٥ / ٤٥٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٣٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٤.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٣٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٩٤.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٦١).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٩٦ ـ ٤٩٧) عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة وابن زيد.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٦١).

(٧) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٩٠.

(٨) ينظر : السابق.

٢٢٠