اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وقيل غير ذلك.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ).

الموءودة : هي البنت تدفن حيّة من الوأد ، وهو الثقل ، لأنها تثقل بالتراب والجندل.

يقال : وأد يئد ، ك «وعد» «يعد».

وقال الزمخشري (١) : «وأد يئد» ، مقلوب من «آد يئود» إذا أثقل ، قال الله تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) [البقرة : ٢٥٥] ؛ لأنه إثقال بالتراب.

قال أبو حيان (٢) : ولا يدعى ذلك ؛ لأن كلّا منهما كامل التصرف في الماضي ، والأمر ، والمضارع والمصدر واسم الفاعل ، واسم المفعول ، وليس فيه شيء من مسوغات إدغام القلب ، والذي يعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهد له بالأصالة ، والآخر ليس كذلك ، أو أكثر استعمالا من الآخر ، وهذا على ما قرروه في أحكام علم التصريف.

فالأول : ك «يئس وأيس».

والثاني : ك «طأمن واطمأنّ».

والثالث : ك «شوائع وشواعي».

والرابع : ك «لعمري ، ورعملي».

قرأ العامة : «الموءودة» بهمزة بين واوين ساكنتين ، كالموعودة.

وقرأ البزي (٣) في رواية بهمزة مضمومة ، ثم واو ساكنة. وفيه وجهان :

أحدهما : أن تكون كقراءة الجماعة ، ثم نقل حركة الهمزة إلى «الواو» قبلها ، وحذفت الهمزة فصار اللفظ : «الموودة» بواو مضمومة ، ثم أخرى ساكنة ، فقلبت «الواو» المضمومة همزة ، نحو «أجوه» في «وجوه» فصار اللفظ كما ترى ، ووزنها الآن «مفعولة» ؛ لأن المحذوف «عين».

والثاني : أن تكون الجملة اسم مفعول من «آده يئوده» مثل «قاده يقوده» ، والأصل : «مأوودة» ، مثل : «مقوودة» ، ثم حذف إحدى الواوين على الخلاف المشهور في الحذف من نحو : «مقول ، ومصون» ، فوزنها الآن إما «مفعلة» ، إن قلنا : إنّ المحذوف الواو الزائدة ، وإمّا «مفولة» إن قلنا : إن المحذوف عين الكلمة ، وهذا يظهر فضل علم التّصريف. وقرأ الموودة ـ بضم الواو الأولى ـ على أنه نقل حركة الهمزة بعد حذفها ، ولم يقلب الواو همزة.

__________________

(١) الكشاف ٤ / ٧٠٨.

(٢) البحر المحيط ٨ / ٤٢٤.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٢٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٥.

١٨١

وقرأ الأعمش (١) : «المودة» ، [بسكون الواو](٢) ، وتوجيهه : أنه حذف الهمزة اعتباطا ، فالتقى ساكنان ، فحذف ثانيهما ، ووزنها «المفلة» : لأن الهمزة عين الكلمة ، وقد حذفت.

وقال مكي : بل هو تخفيف قياسي ، وذلك أنه نقل حركة «الهمزة» إلى «الواو» لم يهمزها ، فاستثقل الضمة عليها فسكّنها ، فالتقى ساكنان ، فحذف الثاني.

وهذا كله خروج عن الظاهر.

وإنما يظهر في ذلك ما نقله الفراء من أن حمزة وقف عليها كالموزة.

قالوا : لأجل الخط لأنها رسمت كذلك ، والرسم سنة متبعة.

والعامة على : «سئلت» مبنيا للمفعول ، مضموم السين.

والحسن (٣) : يكسرها من سال يسال.

وقرأ أبو جعفر (٤) : «قتّلت» ـ بتشديد التاء ـ على التكثير ؛ لأن المراد اسم الجنس ، فناسبه التكثير.

وقرأ عليّ وابن مسعود وابن عباس (٥) ـ رضي الله عنهم ـ «سألت» مبنيا للفاعل ، «قتلت» بضم التاء الأخيرة والتي للمتكلم ، حكاية لكلامها.

وعن أبيّ وابن مسعود ـ أيضا ـ وابن يعمر (٦) : «سألت» مبنيا للفاعل ، «قتلت» بتاء التأنيث الساكنة ، كقراءة العامة.

فصل في وأد أهل الجاهلية لبناتهم

كانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين :

إحداهما : كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، فألحقوا البنات به ؛ تبارك وتعالى عن ذلك.

والثانية : مخافة الحاجة والإملاق ، وإمّا خوفا من السّبي والاسترقاق.

قال ابن عبّاس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة ، وتمخّضت على رأسها فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وردّت التراب عليها ، وإن ولدت غلاما حبسته (٧) ، ومنه قول الراجز : [الرجز]

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٤٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٦.

(٢) في أبزنة الموزة.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٤٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٦.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٢٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٦.

(٧) ينظر : القرطبي (١٩ / ١٥١).

١٨٢

٥١٢١ ـ سمّيتها إذ ولدت تموت

والقبر صهر ضامن زمّيت (١)

وقيل : كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد إبقاء حياتها ألبسها جبّة من صوف ، أو شعر ، ترعى له الإبل والغنم في البادية ، وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا بلغت قامتها ستة أشبار فيقول لأمّها : طيّبيها ، وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أقاربها [وقد حفر لها بئرا في الصحراء](٢) ، فيذهب بها إلى البئر ، فيقول لها : انظري فيها ، ثم يدفعها من خلفها ، ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض.

وكان صعصعة بن ناجية ممن يمنع الوأد ؛ فافتخر الفرزدق به في قوله : [المتقارب]

٥١٢٢ ـ ومنّا الذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم يوأد (٣)

فصل

روي أنّ قيس بن عاصم جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله : إنّي وأدت ثماني بنات كنّ لي في الجاهليّة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأعتق عن كلّ واحدة منهنّ رقبة» ، قال : يا رسول الله إنّي صاحب إبل ، قال عليه الصلاة والسلام : «فأهد عن كلّ واحدة منهنّ بدنة إن شئت» (٤).

واعلم أنّ سؤال الموءودة سؤال توبيخ لقاتلها ، كما يقال للطفل إذا ضرب : لم ضربت ، وما ذنبك؟.

قال الحسن : أراد الله توبيخ قاتلها ؛ لأنها قتلت بغير ذنب (٥).

وقال ابن أسلم : بأي ذنب ضربت ، وكانوا يضربونها (٦).

وقيل في قوله تعالى : (سُئِلَتْ) معناه : طلبت ، كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل ، وهو كقوله تعالى : (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) [الأحزاب : ١٥] أي : مطلوبا ، فكأنها طلبت منهم ، فقيل : أين أولادكم؟.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ المرأة الّتي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلّق ولدها بثدييها ، ملطّخا بدمائه ، فيقول : يا ربّ ، هذه أمّي ، [وهذه](٧) قتلتني» (٨).

__________________

(١) ينظر : اللسان (زمت) ، ومجمع البيان ١٠ / ٦٧٤ ، والقرطبي ١٩ / ١٥٢.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ينظر ديوان الفرزدق ١ / ١٧٣ ، واللسان (وأد) والكشاف ٤ / ٧٠٨ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦٧٢ ، والقرطبي ١٩ / ١٥٢ ، والبحر ٨ / ٤٢٥.

(٤) تقدم تخريجه.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٥٢).

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) سقط من : أ.

(٨) ينظر : تفسير القرطبي (١٩ / ١٥٢).

١٨٣

والأول قول الجمهور ، كقوله تعالى لعيسى ابن مريم : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) [المائدة : ١١٦] ، على جهة التوبيخ ، والتبكيت لهم ، فكذلك سؤال الموءودة : توبيخ لوائدها وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها ؛ لأن هذا مما لا يصحّ إلا بذنب ، أي : فبأي ذنب كان ذلك ، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها كان أعظم في البيّنة وظهور الحجة على قاتلها ، وفي الآية دليل على أن أطفال المشركين لا يعذّبون ، وعلى أن التعذيب لا يستحقّ إلّا بذنب.

قوله تعالى : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ).

قرأ الأخوان (١) وابن كثير وأبو عمرو : بالتثقيل ، على تكرار النشر للمبالغة في تقريع العاصي ، وتبشير المطيع.

وقيل : لتكرير ذلك من الإنسان.

والباقون : بالتخفيف. ونافع وحفص وابن ذكوان «سعّرت» بالتثقيل ، والباقون بالتخفيف.

قوله : (نُشِرَتْ) ، أي : فتحت بعد أن كانت مطويّة ، والمراد : صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال العباد من خير أو شر ، تطوى بالموت ، وتنشر في يوم القيامة ، فيقف كل إنسان على صحيفته ، فيعلم ما فيها ، فيقول : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩].

قوله تعالى : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) ، أي : قشرت ، من قولهم : كشط جلد الشّاة ، أي : سلخها. وقرأ عبد الله «قشطت» ـ بالقاف ـ وقد تقدم أنهما متعاقبان كثيرا ، وأنه قرىء: وقافورا [وكافورا](٢) في (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) [الإنسان : ١]. [يقال : لبكت الثريد ولبقته](٣).

قال القرطبي (٤) : «يقال : كشطت البعير كشطا ، نزعت جلده ، ولا يقال : سلخته ، لأن العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته» ، والمعنى : أزيلت عما فوقها.

قال الفراء : طويت.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) ، أي : أوقدت ، فأضرمت للكفّار ، وزيد في إحمائها يقال : سعرت النّار وأسعرتها.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوقد على النّار ألف سنة حتّى اسودّت فهي مظلمة» (٥).

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٧٣ ، والحجة ٦ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٤٥ ، وحجة القراءات ٧٥١.

(٢) سقط من : ب.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٥٣.

(٥) أخرجه الترمذي (٣ / ٣٤٦) وابن ماجه (٢ / ٥٨٧) من حديث أبي هريرة.

١٨٤

احتج بهذه الآية من قال : إن النار مخلوقة الآن ؛ لأنه يدل على أنّ سعيرها معلّق بيوم القيامة.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) ، أي : أدنيت وقرّبت من المتّقين.

قال الحسن ـ رضي الله عنه ـ [إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها.

وقال عبد الله بن زيد](١) : زيّنت ، والزّلفى في كلام العرب : القربة.

قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) ، هذا جواب «إذا» أوّل السّورة وما عطف عليها ، والمعنى : ما عملت من خير وشرّ.

وروي عن ابن عباس وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أنهما قرآها ، فلما بلغا (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) قالا : لهذا أجريت القصّة.

قال ابن الخطيب : ومعلوم أنّ العمل لا يمكن إحضاره ، فالمراد : إذا ما أحضرته في صحائفها ، أو ما أحضرته عند المحاسبة ، وعند الميزان من آثار تلك الأعمال ، أو المراد : ما أحضرت من استحقاق الجنّة والنّار ، فإنّ كلّ نفس تعلم ما أحضرت ، لقوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران : ٣٠].

والتنكير في قوله : «نفس» من عكس كلامهم الذي يقصدون به المبالغة ، وإن كان اللفظ موضوعا للتقليل ، لقوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحجر : ٢] ، أو يكون المراد : أنّ الكفار كانوا يتعبون أنفسهم فيما يظنونه طاعة ، ثم يظهر لهم في القيامة خلاف ذلك.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ)(٢٥)

قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) ، أي : «أقسم» ، و «لا» زائدة ، كما تقدم.

«والخنّس» : جمع خانس ، والخنوس : الانقباض ، يقال : خنس بين القوم ، وانخنس.

وفي الحديث : «فانخنست» ، أي : استخفيت. يقال : خنس عنه يخنس ـ بالضم ـ خنوسا.

__________________

(١) سقط من : ب.

١٨٥

والخنس : تأخر الألف عن الشّفة مع ارتفاع الأرنبة قليلا.

ويقال : رجل أخنس ، وامرأة خنساء ، ومنه : الخنساء الشاعرة.

والخنّس في القرآن ، قيل : الكواكب السبعة السّيارة القمران ، وزحل ، والمشتري والمريخ ، والزهرة ، وعطارد ؛ لأنها تخنس في المغيب أو لأنها تختفي نهارا.

وعن علي رضي الله عنه : هي زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطارد (١).

وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان :

أحدهما : لأنّها تستقبل الشمس ، قاله بكر بن عبد الله المزني (٢).

الثاني : تقطع المجرة ، قاله ابن عباس (٣).

وقيل : خنوسها : رجوعها ، وكنوسها : اختفاؤها تحت ضوء الشمس.

قال ابن الخطيب (٤) : الأظهر أنّ ذلك إشارة إلى رجوعها واستقامتها.

وقال الحسن وقتادة : هي النجوم كلها ؛ لأنها تخنس بالنهار إذا غربت ، وتظهر بالليل ، وتكنس في وقت غروبها ، أي : تتأخر عن البصر لخفائها ، وتكنس أي : تستتر ، كما تكنس الظّباء في المغارة ، وهي الكناس ، والكنس : الداخلة في الكناس ، وهي بيت الوحش ، والجواري : جمع جارية (٥).

وعن ابن مسعود : هي بقر الوحش ؛ لأن هذه صفتها (٦).

وروي عن عكرمة قال : الخنّس : البقر ، والكنس : هي الظباء ، فهي خنس إذا رأين الإنسان خنس ، وانقبضن وتأخرن ودخلن كناسهنّ (٧).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٨) وعزاه إلى ابن أبي حاتم من طريق الأصبغ بن نباتة عن علي.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٥٤) وأخرجه الطبري (١٢ / ٤٦٧).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٦٥.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٦٧) عن الحسن.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٦٨) والحاكم (٢ / ٥١٦) والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٣٧) عن ابن مسعود.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وقال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله رجال صحيح.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٩) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور والفريابي وابن سعد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر من طرق عن عبد الله بن مسعود.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩) عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٩) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد.

١٨٦

قال القرطبيّ (١) : «والخنّس» على هذا : من الخنس في الأنف ، وهو تأخير الأرنبة ، وقصر القصبة ، وأنوف البقر والظّباء خنس ، والقول الأول أظهر لذكر الليل والصبح بعده.

وحكي الماورديّ : أنها الملائكة ، والكنّس : الغيب ، مأخوذة من الكناس ، وهو كناس الوحش الذي يختفي (٢) فيه ، والكنّس : جمع كانس وكانسة.

قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ). يقال : عسعس وسعسع ، أي : أقبل.

قال العجاج : [الرجز]

٥١٢٣ ـ حتّى إذا الصّبح لها تنفّسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا (٣)

أي : أدبر.

قال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى «عسعس» : أدبر حكاه الجوهري.

وقيل : دنا من أوله وأظلم ، وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض.

وقيل : «أدبر» من لغة قريش خاصّة.

وقيل : أقبل ظلامه ، ورجحه مقابلته بقوله تعالى (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) ، وهذا قريب من إدباره.

وقيل : هو لهما على طريق الاشتراك.

قال الخليل وغيره : عسعس الليل : إذا أقبل ، أو أدبر.

قال المبرد : هو من الأضداد ، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد ، وهو ابتداء الظلام في أوله ، وإدباره في آخره.

قال الماورديّ : وأصل العسّ : الامتلاء.

ومنه قيل للقدح الكبير : عسّ ، لامتلائه بما فيه ، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه ، وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه ، فعلى هذا يكون القسم بإقبال الليل وبإدباره ، وهو قوله تعالى: (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) لا يكون فيه تكرار.

وعسعس : اسم موضع بالبادية ، وأيضا : هو اسم رجل.

ويقال للذئب : العسعس والعسعاس ؛ لأنه يعسّ في الليل ويطلب.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٥٥.

(٢) في : ب يجتمع.

(٣) رواية البيت الثاني كما في الديوان :

وأعّسف اللّيل إذا اللّيل غسا

ينظر ديوان العجاج ١٢٩ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٨٨ ، والطبري ٣٠ / ٥٠ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦٧٦ ، والكشاف ٤ / ٧١١ ، والقرطبي ١٩ / ١٥٥ ، والبحر ٨ / ٤٢٢ وقد نسب البيتان إلى علقمة بن قرط.

١٨٧

ويقال للقنافذ : العساعس ، لكثرة ترددها بالليل ، والتّعسعس : الشم ، والتّعسعس ـ أيضا ـ : طلب الصيد.

قوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) ، أي : امتد حتى يصير نهارا واضحا.

يقال للنهار إذا زاد : تنفس ، ومعنى التنفس : خروج النسيم من الجوف.

وفي كيفية المجاز قولان :

الأول : أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم ، فجعل ذلك نفسا له على المجاز ، فقيل : تنفس الصبح.

الثاني : أنه شبّه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي خنس بحيث لا يتحرك ، فإذا تنفس وجد راحة ، فهاهنا لما طلع الصبح ، فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس.

وقيل : (إِذا تَنَفَّسَ) أي إذا انشق وانفلق ، ومنه تنفّست القوس : أي : تصدعت.

[وهذا آخر القسم](١).

قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ). قال الحسن وقتادة والضحاك : الرسول الكريم : جبريل (٢).

والمعنى : إنّه لقول رسول كريم من الله كريم على الله ، وأضاف الكلام إلى جبريل ، ثم عزاه عنه فقال : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الواقعة : ٨٠] ، ليعلم أهل التحقيق في التصديق أن الكلام لله تعالى.

وقيل : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن جعله جبريل ، فقوته ظاهرة ؛ لما روى الضحاك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه (٣).

وقوله تعالى : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) أي : عند الله سبحانه وتعالى.

«مكين» أي : ذي منزلة ومكانة.

وروى أبو صالح قال : يدخل سبعين سرادقا بغير إذن.

وقيل : المراد : القوة في أداء طاعة الله تعالى ، وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف.

وقوله تعالى : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) هذه العندية ليست عندية الجهة ، بل عندية الإشراف ، والتكريم ، والتعظيم.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٧١) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٣٠) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر. وذكره عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٥٦) عن الضحاك عن ابن عباس.

١٨٨

وقوله تعالى : «أنا عند المنكسرة قلوبهم» ، وقوله سبحانه : (مَكِينٍ) : قال الكسائي: يقال : مكن فلان عند فلان ـ بضم الكاف ـ تمكّنا ومكانة ، فعلى هذا هو ذو الجاه الذي يعطى ما يسأل.

قوله تعالى : (مُطاعٍ ثَمَّ) ؛ أي : في السموات.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : من طاعة الملائكة جبريل ـ عليه‌السلام ـ أنّه لمّا أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال جبريل لرضوان خازن الجنان : افتح له ففتح ، فدخلها ، فرأى ما فيها وقال لمالك خازن النار : افتح له ففتح ، فدخلها ، ورأى ما فيها (١).

وقوله تعالى : (أَمِينٍ) ، أي : مؤتمن على الوحي الذي يجيء به.

ومن قال : إن المراد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ذي قوة» على تبليغ الوحي «مطاع» أي : يطيعه من أطاع الله عزوجل.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) حتى يتّهم في قوله ، وهو من جواب القسم والضمير في قوله : «إنّه» يعود إلى القرآن الذي نزل به جبريل ـ عليه‌السلام ـ على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : يعود إلى الذي أخبركم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنّ أمر الساعة في هذه السورة ليس بكهانة ، ولا ظنّ ، ولا افتعال ، إنما هو قول جبريل أتاه به وحيا من الله تعالى.

فصل فيمن استدل بالآية على تفضيل جبريل على سيدنا محمد

قال ابن الخطيب (٢) : احتج بهذه الآية من فضل جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إذا وازنت بين قوله سبحانه : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ، وبين قوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) ظهر التفاوت العظيم.

قوله : «عند ذي» : يجوز أن يكون نعتا ل «رسول» ، وأن يكون حالا من «مكين» ، وأصله الوصف ، فلما قدم نصب حالا.

قوله : (ثَمَّ أَمِينٍ). العامة : على فتح الثّاء ؛ لأنه ظرف مكان للبعد ، والعامل فيه «مطاع».

وأبو البرهسم (٣) ، وأبو جعفر وأبو حيوة : بضمها ، جعلوها عاطفة ، والتراخي هنا في الرتبة ؛ لأن الثانية أعظم من الأولى.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) ، أي : لقد رأى جبريل في صورته في ستمائة

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٣٠) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٢) الفخر الرازي ٣١ / ٦٨.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٤٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٧.

١٨٩

جناح (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي : حيث تطلع الشمس من قبل المشرق.

وقيل : «بالأفق المبين» ؛ أقطار السماء ونواحيها.

قال الماورديّ : فعلى هذا ففيه ثلاثة أقوال :

الأول : أنه رآه في الأفق الشرقيّ. قاله سفيان.

الثاني : في أفق السماء الغربي ، حكاه (١) ابن شجرة.

الثالث : أنه رآه نحو «أجياد» ، وهو مشرق «مكة» ، قاله مجاهد (٢).

وقيل : إنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه ـ عزوجل ـ بالأفق المبين ، وهو قول ابن مسعود وقد تقدم ذلك في سورة «والنجم».

وفي «المبين» قولان :

أحدهما : أنه صفة للأفق ، قاله الربيع.

الثاني : أنّه صفة لمن رآه ، قاله مجاهد.

قوله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ).

قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي (٣) : بالظاء ، بمعنى متهم ، من ظن بمعنى : اتهم ، فيتعدى لواحد.

وقيل : معناه بضعيف القوة عن التبليغ من قولهم : «بئر ظنون» أي : قليلة الماء ، والظّنّة التهمة ، واختاره أبو عبيدة وفي مصحف عبد الله (٤) كذلك.

والباقون : بالضاد ، بمعنى : بخيل بما يأتيه من قبل ربّه ، من ضننت بالشيء أضنّ ضنّا ، يعني : لا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ، ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلوانا ، إلا أنّ الطبري قال : بالضاد خطوط المصاحف كلها.

وليس كذلك لما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بها ، وهذا دليل على التمييز بين الحرفين خلافا لمن يقول : إنه لو وقع أحدهما موقع الآخر بحال لجاز لعسر معرفته ، وقد شنّع الزمخشريّ على من يقول ذلك ، وذكر بعض المخارج ، وبعض الصفات بما يطول ذكره (٥).

__________________

(١) في ب : قاله.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٧٢) عن مجاهد وينظر تفسير الماوردي (٦ / ٢١٨) والقرطبي (١٩ / ١٥٧).

(٣) ينظر : السبعة ٦٧٣ ، والحجة ٦ / ٣٨٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٤٦ ، وحجة القراءات ٧٥٢.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٧١٣ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٤٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٧.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٧١٣.

١٩٠

و (عَلَى الْغَيْبِ) متعلق ب «ظنين» ، أو ب «ضنين».

و «الغيب» : القرآن ، وخبر السماء هذا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : صفة جبريل عليه‌السلام.

قوله تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) ، أي : مرجوم ، والضمير في «هو» للقرآن ، قالت قريش : إنّ هذا القرآن يجيء به شيطان ، فيلقيه على لسانه ، فنفى الله ذلك ، يريدون بالشيطان : الأبيض الذي كان يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه.

فصل في الكلام على الآية

قال ابن الخطيب (١) : فإن قيل : إنّه حلف على أن القرآن قول جبريل ـ عليه‌السلام ـ فوجب علينا أن نصدقه ، فإن لم نقطع بوجوب حمل اللفظ على الظاهر ، فلا أقلّ من الاحتمال ، وإذا كان كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتمل أن يكون كلام جبريل لا كلام الله تعالى ، وبتقدير أن يكون كلام جبريل لا يكون معجزا ، ولا يمكن أن يقال بأن جبريل معصوم ؛ لأنّ عصمته متفرعة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كون القرآن معجزا ، وكون القرآن معجزا متفرع على عصمة جبريل ، فيلزم دور.

فالجواب : أنّ الإعجاز ليس في الفصاحة ، بل في سلب تلك الدواعي عن القلوب ، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلّا الله تعالى ، لأن سلب القدرة عما هو مقدور لا يقدر عليه إلا الله تعالى.

ثم قال في قوله تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) : فإن قيل (٢) : القول بصحة النبوة موقوف على نفي هذا الاحتمال فكيف يمكن نفيه بالدليل السمعي؟.

قلنا : قد بينّا أنّه على القول بالصرف لا يتوقف صحة النبوة على نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي.

قوله تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢٩)

قوله تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) «أين» : منصوب ب «تذهبون» ؛ لأنه ظرف مبهم.

وقال أبو البقاء (٣) : أي : إلى أين؟ فحذف حرف الجرّ ، كقولك : ذهبت «الشام» ، ويجوز أن يحمل على المعنى ، كأنه قال : أين تؤمنون ، يعني : أنه على الحذف ، أو على التضمين ، وإليه نحا مكيّ أيضا.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٦٧.

(٢) الفخر الرازي ٣١ / ٦٨.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٨١.

١٩١

ولا حاجة إلى ذلك ألبتّة لأنه ظرف مكان مبهم لا مختص.

فصل في تفسير الآية

قال قتادة : فإلى أين تعدلون عن هذا القول ، وعن طاعته (١).

وقال الزجاج : فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيّنت لكم.

ويقال : أين تذهب وإلى أين تذهب.

وحكى الفراء عن العرب : ذهبت «الشام» ، وخرجت «العراق» ، وانطلقت السوق ، أي : إليها ؛ وأنشد لبعض بني عقيل : [الوافر]

٥١٢٤ ـ تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا

وأيّ الأرض تذهب للصّياح (٢)

يريد : إلى أيّ أرض تذهب ، فحذف «إلى».

قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) ، يعني : القرآن ذكر للعالمين ، أي : موعظة ، وزجر. و «إن» بمعنى : «ما».

وقيل : ما محمد إلا ذكر.

قوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) بدل من «للعالمين» بإعادة العامل ، وعلى هذا فقوله : (أَنْ يَسْتَقِيمَ) : مفعول «شاء» أي : لمن شاء الاستقامة ، ويجوز أن يكون «لمن شاء» خبرا مقدما ، ومفعول شاء محذوف ، وأن يستقيم مبتدأ ، وتقدم نظيره والمعنى : لمن شاء منكم أن يستقيم.

قال أبو جهل : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم وهذا هو القدر ، وهو رأس القدرية ، فنزلت : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله تعالى ، ولا شرّا إلا بخذلانه.

قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، أي : إلا وقت مشيئة الله تعالى.

وقال مكيّ : «أن» في موضع خفض بإضمار «الباء» ، أو في موضع نصب بحذف الخافض.

يعني : أن الأصل «إلا بأن» ، وحينئذ تكون للمصاحبة.

فصل في تفسير الآية

قال الحسن : والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله تعالى لها (٣).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٥٨).

(٢) ينظر معاني القرآن ٣ / ٢٤٣ ، والقرطبي ١٩ / ١٥٨.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٥٨).

١٩٢

وقال وهب بن منبه ـ رضي الله عنه ـ : قرأت في تسعة (١) وثمانين كتابا مما أنزل الله ـ تعالى ـ على الأنبياء : من جعل إلى نفسه شيئا فقد كفر ، وفي التنزيل : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١].

وقال تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [يونس : ١٠٠].

وقال تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] ، والآي في هذا كثيرة ، وكذلك الأخبار وأن الله ـ تعالى ـ هدى بالإسلام ، وأضلّ بالكفر(٢).

قال ابن الخطيب (٣) : وهذا عين (٤) مذهبنا ؛ لأن الأفعال موقوفة على مشيئتنا ، ومشيئتنا موقوفة على مشيئة الله ، والموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء ، فأفعال العباد ثبوتا ونفيا موقوفة على مشيئة الله تعالى ، وحمل المعتزلة ذلك على أنها مخصوصة بمشيئة الإلجاء والقهر ، وذلك ضعيف ؛ لأن المشيئة الاختيارية حادثة ، فلا بد من محذوف ، فيعود الكلام. والله تعالى أعلم.

روى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ، أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته» (٥). والله أعلم بالصواب.

__________________

(١) في أ : سبعة.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٦٩.

(٤) في أ : غير.

(٥) تقدم تخريجه.

١٩٣

سورة الانفطار

مكيّة ، وهي تسع عشرة آية ، وكلماتها ثمانون كلمة ، وثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)(٥)

قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) ، معناه : إذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة يحصل الحشر والنشر ، ومعنى «انفطرت» : انشقت لنزول الملائكة ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان : ٥] ، (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) [الرحمن : ٣٧] (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) [النبأ : ١٩] ، (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل : ١٨].

قال الخليل : ولم يأت هذا على الفعل بل هو كقولهم : مرضع ، وحائض ، ولو كان على الفعل لكان «منفطر».

وقال القرطبيّ (١) : «تفطرت لهيبة الله تعالى ، والفطر : الشق ، يقال : فطرته فانفطر ، ومنه : فطر ناب البعير إذا طلع ، فهو بعير فاطر ، وتفطّر الشيء : تشقّق ، وسيف فطار : أي فيه شقوق». وقد تقدم.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) تساقطت ؛ لأن عند انتقاض تركيب السماء تنتثر النجوم على الأرض ، يقال : نثرت الشيء أنثره نثرا فانتثر. والنّثار ـ بالضم ـ ما تناثر من الشيء.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ).

العامة على بنائه للمفعول مثقلا.

وقرأ مجاهد (٢) : مبنيا للفاعل مخففا من الفجور ، نظرا إلى قوله تعالى : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) [الرحمن : ٢٠] ، فلما زال البرزخ بغيا.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٦٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٧١٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢٧ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٨.

١٩٤

وقرأ مجاهد ـ أيضا ـ والربيع بن خيثم ، والزعفراني ، والثوري (١) : مبنيا مخففا.

ومعنى «فجّرت» أي : دخل بعضها في بعض ، واختلط العذب بالملح ، فصار واحدا بارتفاع الحاجز الذي جعله الله تعالى برزخا بينهما.

وقيل : إنّ مياه البحار الآن راكدة مجتمعة ، فإذا انفجرت تفرقت ، وذهب ماؤها.

وقال الحسن : فجرت : يبست.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ). أي : قلبت ، يقال : بعثره وبحثره ـ بالعين والحاء ـ قال الزمخشري (٢) : وهما مركبان من البعث والبحث ، مضموم إليهما راء ، يعني أنهما مما اتفق معناهما ؛ لأن الراء مزيدة فيهما ، إذ ليست من حروف الزيادة وهذا ك «دمث» و «دمثر» و «بسط» و «بسطر».

فصل في المراد ببعثرة القبور

والمعنى : قلب أعلاها وأسفلها ، وقلب ظاهرها وباطنها ، وخرج ما فيها من الموتى أحياء.

وقيل : التبعثر : إخراج ما في باطنها من الذهب والفضة ثم يخرج الموتى بعد ذلك.

وقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) : جواب «إذا» ، والمعنى : ما قدمت من عمل صالح ، أو شيء ، أو أخرت من سيئة أو حسنة ، وقيل : ما قدمت من الصدقات وأخرت من التركات على ما تقدم في قوله تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣].

والمقصود منه الزجر عن المعصية ، والترغيب في الطاعة.

فإن قيل : أيّ وقت من القيامة يحصل هذا العلم؟.

قال ابن الخطيب (٣) : أمّا العلم الإجمالي ، فيحصل في أول زمان الحشر ؛ لأن المطيع يرى آثار السعادة في أول الأمر والعاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر ، وأمّا العلم التفصيلي ، فإنما يحصل عند قراءة الكتب ، والمحاسبة.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)(٨)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي : المتجاوز.

والعامة : على «غرّك» ثلاثيا ، و «ما» الاستفهامية : في محل رفع على الابتداء.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٤٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢٧ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٨.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٧١٤.

(٣) الفخر الرازي ٣١ / ٧١.

١٩٥

وقرأ ابن جبير ، والأعمش (١) : «ما أغرّك» ، فاحتمل أن تكون استفهامية ، وأن تكون تعجبية ، ومعنى «أغرّه» : أدخله في الغرّة ، أو جعله غارّا.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها

لما أخبر في تلك الآية الأولى عن وقوع الحشر والنشر ، ذكر هاهنا ما يدل عقلا ونقلا على إمكانه ، أو على وقوعه ، وذلك من وجهين :

الأول : أن الإله الكريم الذي لا يجوز من كرمه أن يقطع مواد نعمه عن المذنبين ، كيف يجوز في كرمه ألا ينتقم من الظالم؟.

الثاني : أن القادر على خلق هذه البنية الإنسانية ، ثم سوّاها ، وعدلها ، إمّا أن يقال : إنه ـ تعالى ـ خلقها لا لحكمة ، وذلك عبث ، وهو على الله تعالى محال ؛ لأنه ـ تعالى ـ منزّه عن العبث ، أو خلقها لحكمة ، فتلك الحكمة أن تكون عائدة على الله تعالى ، وذلك باطل ؛ لأنه منزّه عن الاستكمال والانتفاع ، فتعين أن تكون الحكمة عائدة إلى العبد ، وتلك الحكمة أن تظهر في الدنيا ، فذلك باطل ؛ لأن الدنيا دار بلاء وامتحان لا دار انتفاع وجزاء ، فثبت أن تلك الحكمة إنما تظهر في دار الجزاء ، فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق ، والتسوية ، والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه تعالى يبعث الأموات ويحشرهم.

فصل في نزول الآية

هذا [خطاب](٢) لمنكري البعث.

روى عطاء عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنها نزلت في الوليد بن المغيرة (٣).

وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في الأشرم بن شريق (٤) ، وذلك أنّه ضرب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يعاقبه الله تعالى ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية.

وقيل : يتناول جميع العصاة ؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومعنى «ما غرّك» : ما خدعك وسوّل لك الباطل حتى تركت الواجبات ، وأثنيت بالمحرمات.

والمعنى : ما الذي أمّنك من عقابه ، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة ، فإن حملناه على الكافر ، فالمعنى : ما الذي دعاك إلى الكفر ، وإنكار الحشر والنشر.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧١٥ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٤٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢٧ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٨.

(٢) في ب : جواب.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٦١).

(٤) ينظر المصدر السابق.

١٩٦

فإن قيل : كونه كريما يقتضي ألا يغتر الإنسان بكرمه ؛ لأنه جواد مطلق ، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع ، وعصيان المذنب ، وهذا لا يوجب الاغترار وروي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أنّه دعا غلامه مرات ، فلم يجبه ، فنظر فإذا هو بالباب ، فقال له : لم لا تجبني؟ فقال : لثقتي بحلمك ، وأمني من عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه.

وقالوا ـ أيضا ـ من كرم الرجل سوء أدب غلمانه ، وإذا ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله ـ هاهنا ـ مانعا من الاغترار؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : أن المعنى لما كنت ترى حلم الله ـ تعالى ـ عن خلقه ظننت أن ذلك لا حساب ، ولا دار إلا هذه الدار ، فما الذي دعاك إلى الاغترار وجرّأك على إنكار الحشر ، والنشر ، فإنّ ربك كريم ، فهو من كرمه ـ تعالى ـ لا يعاجل بالعقوبة بسطا في مدة التوبة ، وتأخيرا للجزاء ، وذلك لا يقتضي الاغترار.

الثاني : أنّ كرمه تعالى لمّا بلغ إلى حيث لا يمنع العاصي من أن يطيعه ، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم كان أولى ، فإذا كان كونه كريما يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار ، وترك الجزاء والاغترار.

الثالث : أنّ كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة ، والاستحياء من الاغترار.

الرابع : قال بعضهم : إنما قال : «بربّك الكريم» ليكون ذلك جوابا عن ذلك السؤال حتى يقول : غرني كرمك ، فلو لا كرمك لما فعلت ؛ لأنك رأيت فسترت ، وقدرت فأمهلت.

وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) ليس هو «الكافر».

فصل في غرور ابن آدم

قال قتادة ـ رضي الله عنه ـ : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان (١) وقال مقاتل : غرّه عفو الله حين لم يعاقبه أوّل مرة (٢).

وقال السديّ : غرّه عفو الله (٣).

وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة ، فيقول تعالى : ما

__________________

(١) ينظر المصدر السابق وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٥٥).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٥٥).

(٣) ينظر المصدر السابق.

١٩٧

غرّك يا ابن آدم ، ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين (١)؟.

قوله : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) ، يحتمل الإتباع على البدل والبيان ، والنعت ، والقطع إلى الرفع والنصب.

واعلم أنه ـ تعالى ـ لما وصف نفسه بالكرم ، ذكر هذه الأمور الثلاثة ، كالدلالة على تحقق ذلك الكرم ، فقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكَ) لا شكّ أنّه كرم ؛ لأنه وجود ، والوجود خير من العدم ، والحياة خير من الموت ، كما قال تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] ، وقوله تعالى : «فسوّاك» أي : جعلك سويا سالم الأعضاء ، ونظيره قوله تعالى: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) [الكهف: ٣٧] ، أي : معتدل الخلق والأعضاء.

قال ذو النون : أي : سخّر لك المكونات أجمع ، وما جعلك مسخّرا لشيء منها ، ثم أنطق لسانك بالذكر ، وقلبك بالعقل ، وروحك بالمعرفة ، ومدك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي ، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا.

قوله : «فعدلك». قرأ الكوفيون : «عدلك» مخففا ، والباقون (٢) : مثقّلا.

فالتثقيل بمعنى : جعلك مناسب الأطراف ، فلم يجعل إحدى يديك ورجليك أطول ، ولا إحدى عينيك أوسع ، فهو من التعديل ، وهو كقوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [القيامة : ٤].

قال علماء التشريح : إنّه ـ تعالى ـ ركّب جانبي الجثة على التساوي حتى أنه لا تفاوت بين نصفيه ، لا في العظام ، ولا في أشكالها ، ولا في الأوردة والشرايين ، والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها.

وقال عطاء عن ابن عبّاس رضي الله عنهما : جعلك قائما معتدلا ، حسن الصّورة ، لا كالبهيمة المنحنية (٣).

وقال أبو عليّ الفارسي : «عدلك» خلقك ، فأخرجك في أحسن تقويم ، مستويا على جميع الحيوان والنبات ، وواصلا في الكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم.

وأمّا قراءة التخفيف فيحتمل هذا ، أي : عدل بعض أعضائك ببعض ، ويحتمل أن يكون من المعدول ، أي : صرفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال والأشباه ، وهذا قول الفراء.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر : السبعة ٦٧٤ ، والحجة ٦ / ٣٨٢ ، وإعراب القراءات ٥ / ٤٤٨ ، وحجة القراءات ٧٥٢.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣١ / ٧٤) من طريق عطاء عن ابن عباس.

١٩٨

ثم قال : والتشديد أحسن الوجهين ؛ لأنك تقول : عدلتك إلى كذا ، أي : صرفتك إلى كذا وكذا ، ولا يحسن : عدلتك فيه ، ولا صرفتك فيه.

وفي القراءة الأولى : جعل «في» من قوله : (فِي أَيِّ صُورَةٍ) للتركيب ، وهو حسن.

وفي قراءة الثانية جعل «في» صلة لقوله : «فعدلك» ، وهو ضعيف.

ونقل القفّال (١) عن بعضهم : أنّهما لغتان بمعنى واحد.

قوله : (فِي أَيِّ صُورَةٍ) ، يجوز فيه أوجه :

أحدها : أن يتعلق ب «ركبك» ، و «ما» : مزيدة على هذا ، و «شاء» صفة ل «صورة» ، ولم يعطف «ركّبك» على ما قبله بالفاء ، كما عطف ما قبله بها ؛ لأنه بيان لقوله : «فعدلك» ، والتقدير : فعدلك ركبك في أيّ صورة من الصور العجيبة الحسنة التي شاءها ـ سبحانه وتعالى ـ والمعنى : وضعك في صورة اقتضتها مشيئته من حسن وقبح وطول ، وقصر ، وذكورة ، وأنوثة.

الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال ، أي : ركبك حاصلا في بعض الصور.

الثالث : أنه يتعلق بعد ذلك ب «عدلك» نقله أبو حيان (٢) عن بعض المتأولين ، ولم يعترض عليه ، وهو معترض بأن في «أيّ» معنى الاستفهام ، فلها صدر الكلام ، فكيف يعمل فيها ما تقدمها؟.

وكأن الزمخشري استشعر هذا فقال (٣) : ويكون في «أيّ» معنى التعجب ، أي : فعدلك في أي صورة عجيبة ، وهذا لا يحسن أن يكون مجوّزا لتقدّم العامل على اسم الاستفهام ، وإن دخله معنى التعجب ، ألا ترى أن «كيف ، وأي» ، وإن دخلهما معنى التعجب ، لا يتقدم عاملهما عليهما.

وقد اختلف النحويون في اسم الاستفهام إذا قصد به الاستئناف ، هل يجوز تقديم عامله أم لا؟.

والصحيح أنّه لا يجوز ، ولذلك لا يجوز أن يتقدّم عامل «كم» الخبرية عليها لشبهها في اللفظ بالاستفهامية ، فهذا أولى ، وعلى تعلقها ب «عدلك» ، تكون «ما» منصوبة على المصدر.

قال أبو البقاء (٤) : يجوز أن تكون «ما» زائدة ، وأن تكون شرطية ، وعلى الأمرين الجملة نعت ل «صورة» ، والعائد محذوف ، أي : ركبك عليها ، و «في» : تتعلق ب «ركّبك».

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٧٤.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٢٨.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧١٦.

(٤) الإملاء ٢ / ٢٨٢.

١٩٩

وقيل : لا موضع للجملة ؛ لأن «في» تتعلق بأحد الفعلين والجميع كلام واحد ، وإنما يتقدم الاستفهام على ما هو حقه. قوله : بأحد الفعلين ، يعني : «شاء وركبك» ، فيحصل في «ما» ثلاثة أوجه : الزيادة ، وكونها شرطية ، وحينئذ جوابها محذوف ، والنصب على المصدرية ، أي : واقعة موقع مصدر.

قوله تعالى : (كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)(١٢)

قوله تعالى : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ).

العامة : على «تكذبون» خطابا ، والحسن وأبو جعفر وشيبة (١) : بياء الغيبة.

قال ابن الخطيب (٢) : لما بين بالدلائل العقلية صحة القول بالبعث ، والنشور على الجملة فرع عليها شرح تفاصيل الأحوال المتعلقة بذلك ، وهي أنواع :

الأول : أنه ـ تعالى ـ زجرهم عن ذلك الاغترار بقوله «كلا» ، و «بل» : حرف وضع في اللغة لنفي شيء قد تقدّم تحقيق غيره ، فلا جرم ذكروا في تفسير «كلّا» وجوها :

الأول : قال القاضي : معناه أنكم لا تستقيمون على توجيه نعمي عليكم ، وإرشادي لكم، بل تكذبون بيوم الدين.

الثاني : «كلّا» ردع ، أي : ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله تعالى ، كأنه قال : وإنهم لا يرتعدون عن ذلك ، بل يكذّبون بالدين.

الثالث : قال القفال : أي : ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ، ولا نشور ؛ لأن ذلك يوجب أن الله ـ تعالى ـ خلق الخلق عبثا ، وحاشاه من ذلك ، ثم كأنه قال : إنهم لا ينتفعون بهذا البيان ، بل يكذّبون بالدين.

وقال الفراء : ليس كما غررت به ، والمراد بالدين : الجزاء على الدين والإسلام.

وقيل : المراد من الدين : الحساب ، أي : تكذّبون بيوم الحساب.

النوع الثاني : قوله (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) : يجوز أن تكون الجملة حالا من فاعل «تكذّبون» ، والحالة هذه ، ويجوز أن تكون مستأنفة أخبرهم بذلك لينزجروا والمراد بالحافظين : الرّقباء من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم.

«كراما» على الله «كاتبين» يكتبون أقوالكم وأعمالكم.

قال ابن الخطيب (٣) : والمعنى : التعجب من حالهم ، كأنّه ـ تعالى ـ قال : إنكم

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٤٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٩.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٧٥.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٥٧.

٢٠٠