اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

ذلك؟ والتعجب أيضا إنما يليق بالجاهل بسبب الشّيء ، فالعالم به كيف يليق ذلك به؟.

فالجواب : أن ذلك ورد على أسلوب كلام العرب ، لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب ، حيث أتوا بأعظم القبائح كقولهم إذا تعجّبوا من شيء : قاتله الله ما أخسّه ، وأخزاه الله ما أظلمه ، والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا.

وقيل : ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه ، والاستفهام بقوله : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) قيل : استفهام توبيخ ، أي : أيّ شيء دعاه إلى الكفر.

وقيل : استفهام تحقير له ، فذكر أوّل مراتبه ، وهو قوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) ، ولا شك أن النطفة شيء حقير مهين ، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر ، وقوله : «فقدّره» أي: أطوارا.

وقيل : سوّاه لقوله تعالى : (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) [الكهف : ٣٧] ، وقدّر كلّ عضو في الكيفيّة والكميّة بالقدر اللائق لمصلحته ، لقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢] ، ثمّ لما ذكر المرتبة الوسطى قال تعالى : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ).

قيل : المراد : تيسير خروجه من بطن أمّه ، ولا شكّ أن خروجه حيّا من أضيق المسالك من أعجب العجائب ، يقال : إنه كان رأسه في بطن أمه من فوق ، ورجلاه من تحت ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب ، فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام ، المراد منه قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠] ، أي : التمييز بين الخير والشرّ.

وقيل : مخصوص بالدين.

قوله تعالى : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ). يجوز أن يكون الضمير للإنسان ، والسبيل ظرف ، أي : يسر للإنسان الطريق ، أي : طريق الخير ، والشر ، كقوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠].

وقال أبو البقاء (١) : ويجوز أن ينتصب بأنّه مفعول ثان ل «يسره» ، والهاء للإنسان ، أي : يسره السبيل ، أي : هداه له.

قال شهاب الدين (٢) : فلا بد من تضمينه معنى «أعطى» حتى ينصب اثنين ، أو حذف حرف الجر أي : يسّره للسّيبل ، ولذلك قدره بقوله : «هداه له» ، ويجوز أن يكون «السّبيل» منصوبا على الاشتغال بفعل مقدر ، والضمير له ، تقديره : ثم يسّر السبيل يسّره ، أي: سهله للناس ، كقوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] ، وتقدّم مثله في قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) [الإنسان : ٣].

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٨١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٨٠.

١٦١

فصل في تفسير الآية

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ومجاهد قالا : سبيل الشقاء والسعادة (١).

وقال ابن زيد : سبيل الإسلام (٢) ، وقال أبو بكر بن طاهر : يسّر على كلّ أحد ما خلقه له وقدره عليه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» (٣).

قوله تعالى : (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) هذه المرتبة الثالثة ، أي : جعل له قبرا يوارى فيه يقال : قبره إذا دفنه ، وأقبره ، أي : جعله بحيث يقبر ، وجعل له قبرا إكراما له ، ولم يجعله ممّن يلقى على وجه الأرض تأكله الطير. قاله الفراء.

قال أبو عبيدة : «أقبره» جعل له قبرا ، وأمر أن يقبر ، والقابر : هو الدّافن بيده ؛ قال الأعشى : [السريع]

٥١٠٨ ـ لو أسندت ميتا إلى نحرها

عاش ولم ينقل إلى قابر (٤)

يقال : قبرت الميت «أي» دفنته ، وأقبره الله أي : صيّره بحيث جعل له قبرا.

وتقول العرب : بترت ذنب البعير وأبتره الله ، وعضبت قرن الثور ، وأعضبه الله وطردت فلانا ، والله أطرده ، أي : صيّره طريدا.

قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ). أي : أحياه بعد موته ، ومفعول شاء محذوف ، أي: شاء إنشاره ، و «أنشره» جواب «إذا».

وقرأ العامة : «أنشر» ، بالألف.

وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب عن ابن أبي حمزة : «نشره» ثلاثيا بغير ألف (٥).

ونقلها أبو الفضل أيضا ، وقال : هما لغتان بمعنى الإحياء.

قال ابن الخطيب (٦) : وإنّما قال : (إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) إشعارا بأنّ وقته غير معلوم ، فتقديمه وتأخيره موكول إلى مشيئة الله تعالى.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٤٨) ، عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٠) ، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٤٨) ، عن ابن زيد.

(٣) أخرجه البخاري (١١ / ٥٠٣) ، كتاب : القدر ، باب : وكان أمر الله قدرا مقدورا حديث (٦٦٠٥) ، ومسلم (٤ / ٢٠٣٩) ، كتاب : القدر ، باب : كيفية الخلق حديث (٦ / ٢٦٤٧) ، من حديث علي.

(٤) يروى صدرها مكان (نحرها).

ينظر ديوان الأعشى ص ٩٣ ، وسمط اللآلىء ١ / ٢٧٥ ، ٢ / ٧٥٦ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٨٦ ، وإعراب القرآن للنحاس ٣ / ٦٢٩ ، ٥ / ١٥٢ ، والطبري ٣٠ / ٣٦ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦٦٣ ، والقرطبي ١٩ / ١٤٣.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٣٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٠.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٥٦.

١٦٢

قوله تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) «كلّا» : ردع للإنسان عن تكبّره ، وترفعه ، وعن كفره ، وإصراره على إنكار التوحيد ، وعلى إنكار البعث ، والحشر والنشر وقوله تعالى : (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) قال مجاهد وقتادة : لا يقضي أحد جميع ما أمر به ، وهو إشارة إلى أن الإنسان لا ينفكّ عن تقصير ألبتّة (١).

قال ابن الخطيب (٢) : وعندي في هذا التفسير نظر ؛ لأن الضمير فيه عائد إلى المذكور السّابق ، وهو الإنسان في قوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) وليس المراد من الإنسان هنا : جميع الإنسان ، بل الإنسان الكافر ، فقوله تعالى : (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) ، كيف يمكن حمله على جميع الناس؟.

وقال ابن فورك : كلّا لما يقض الله ما أمره ، [كلا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر ، بل أمره بما لم يقض له به وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول لما يقض ما أمره] : لم يبال بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

وقيل : المعنى : إن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به من التّأمّل في دلائل الله تعالى ، والتّدبّر في عجائب خلقه.

قوله : «ما أمره» ، «ما» : موصولة.

قال أبو البقاء (٣) : بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف ، أي : ما أمره به.

قال شهاب الدين (٤) : وفيه نظر ، من حيث إنّه قدر العائد مجرورا بحرف لم يجر الموصول ، ولا أمره به ، فإن قلت : «أمر» يتعدى إليه بحذف الحرف ، فاقدره غير مجرور.

قلت : إذا قدرته غير مجرور فإمّا أن تقدّره متصلا أو منفصلا ، وكلاهما مشكل ، لما تقدم في أول «البقرة» عند قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣].

وقال الحسن : «كلّا» معناه : «حقّا» ، «لما يقض» : أي : لم يعمل بما أمره به (٥).

قال القرطبي (٦) : و «ما» في قوله : «لما» عماد للكلام ، كقوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ١٥٩] ، وقوله تعالى : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) [المؤمنون : ٤٠].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٤٨) ، عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٠) ، وعزاه إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.

وينظر تفسير الماوردي (٦ / ٢٠٦) ، والقرطبي (١٩ / ١٤٣).

(٢) ينظر : الرازي ٣١ / ٥٦.

(٣) الإملاء ٢ / ٢٨١.

(٤) الدر المصون ٦ / ٤٨٠.

(٥) ذكره القرطبي في تفسيره (١٩ / ١٤٣) ، عن الحسن.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٤٣.

١٦٣

وقال ابن الأنباريّ : الوقف على «كلّا» قبيح ، والوقف على «أمره» و «نشره» جيد ، ف «كلا» على هذا بمعنى حقّا.

قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٢)

قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ).

قال ابن الخطيب (١) : اعلم أنّ عادة الله ـ تعالى ـ جارية في القرآن الكريم ، كلما ذكر دلائل الأنفس يذكر عقبها دلائل الآفاق ، فبدأ ـ هاهنا ـ بما يحتاج الإنسان إليه.

واعلم أنّ النّبت إنّما يحصل من القطر النازل من السماء الواقع في الأرض ، فالسماء كالذّكر ، والأرض كالأنثى ، فبيّن نزول الماء من السماء إلى الأرض بقوله : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ).

وقال القرطبي (٢) : لمّا ذكر تعالى ابتداء خلق الإنسان ، ذكر ما يسّر من رزقه ، أي : فلينظر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته ، وكيف هيأ له أسباب المعاش ليستعد بها للمعاد ، وهذا النظر نظر القلب بالفكر ، والتدبر.

قال الحسن ومجاهد : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) أي : إلى مدخله ومخرجه (٣).

روى الضحاك بن سفيان الكلابي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ضحّاك ، ما طعامك»؟ قلت : يا رسول الله ، اللّحم واللّبن ، قال : «ثمّ يصير إلى ماذا»؟ قلت : إلى ما قد علمته ، قال : «فإنّ الله ـ تعالى ـ ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدّنيا» (٤).

وقال أبو الوليد : سألت ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن الرجل يدخل الخلاء ، فينظر ما يخرج منه ، قال : يأتيه الملك فيقول : انظر ما بخلت به إلى ما صار (٥).

واعلم أنّ الطعام الذي يتناوله الإنسان له حالتان :

إحداهما متقدمة ، وهي التي لا بد من وجودها حتى يدخل ذلك الطعام في الوجود.

__________________

(١) الفخر الرازي ٣١ / ٥٦.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٤٣.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٤٤) ، ومثله عن ابن الزبير ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢١) ، وعزاه إلى ابن المنذر.

(٤) أخرجه أحمد (٣ / ٤٥٢) ، والطبراني في «الكبير» (٨ / ٣٥٩) ، من حديث الضحاك بن سفيان الكلابي.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٢٩١) ، وقال : رواه أحمد والطبراني ورجال الطبراني رجال الصحيح غير علي بن زيد بن جدعان وقد وثق.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٤٤) ، وروي بمعناه عن أبي قلابة ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢١) ، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

١٦٤

والحالة الثانية متأخرة وهي الأمور التي لا بد منها في بدن الإنسان ، حتى يحصل الانتفاع بذلك الطعام ، فلما كانت الحالة الأولى أظهر للحسّ ؛ لا جرم اكتفى الله تعالى بذكرها.

قوله تعالى : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا).

قرأ الكوفيون : «أنّا» بفتح الهمزة غير ممالة.

والباقون (١) : بالكسر.

والحسين بن علي : بالفتح والإمالة.

فأمّا القراءة الأولى ، ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها بدل من «طعامه» ، فيكون في محل جر ، واستشكل بعضهم هذا الوجه ، ورده بأنه ليس بواضح.

والثاني : أنه بدل اشتمال ، بمعنى أنّ صبّ الماء سبب في إخراج الطّعام ، فهو مشتمل عليه بهذا التقدير ، وقد نحا مكيّ إلى هذا فقال : لأن هذه الأشياء مشتملة على الطعام ومنها يتكون ، لأنّ معنى (إِلى طَعامِهِ) الى حدوث طعامه كيف يتأتى ، فالاشتمال في هذا إنما هو من الثاني على الأول ؛ لأن الاعتبار إنّما هو في الأشياء التي يتكون منها الطعام لا في الطعام نفسه.

والوجه الثاني : أنها على تقدير لام العلّة ، أي : فلينظر لأنا ، ثم حذف الخافض فجرى الخلاف المشهور في محلها.

قال القرطبيّ (٢) : ف «أنّا» في موضع خفض على الترجمة عن الطعام ، فهو بدل منه ؛ كأنّه قال : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) إلى (أَنَّا صَبَبْنَا) ، فلا يحسن الوقف على «طعامه» في هذه القراءة.

والوجه الثالث : أنّها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هو أنّا صببنا ، وفيه ذلك النظر المتقدم ؛ لأنّ الضمير إن عاد على الطعام ، فالطعام ليس هو نفس الصب ، وإن عاد على غيره ، فهو غير معلوم ، وجوابه ما تقدم.

وأما القراءة الثانية : فعلى الاستئناف ، تقديرا لنعمه عليه.

وأما القراءة الثالثة : «أنّى» التي بمعنى : «كيف» ، وفيها معنى التّعجّب ، فهي على هذه القراءة كلمة واحدة ، وعلى غيرها كلمتان.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٧٢ ، والحجة ٦ / ٣٧٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٤٠ ، وحجة القراءات ٧٥٠ ، والكشاف ٤ / ٧٠٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢١ ، والدر المصون ٦ / ٤٨١.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٤٤.

١٦٥

قال القرطبي (١) : فمن أخذ بهذه القراءة ، قال : الوقف على «طعامه» تام ، ويقال : معنى «أنّى» : أين ، إلّا أنّ فيها كناية عن الوجوه ، وتأويلها : من أي وجه صببنا ؛ قال الكميت : [المنسرح]

٥١٠٩ ـ أنّى ، ومن أين آبك الطّرب

من حيث لا صبوة ولا ريب (٢)

فصل في المراد بصبّ الماء

قوله : (صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) ، يعني : الغيث والأمطار ، (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي: بالنبات (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) أي : قمحا وشعيرا وسلقا ، وسائر ما يحصد ويدخر ، وإنما قدم ذلك لأنها كالأصل في الأغذية ، «وعنبا» وإنما ذكره بعد الحب ؛ لأنه غذاء من وجه ، وفاكهة من وجه.

قوله : (وَقَضْباً) : القضب هنا ، قال ابن عباس : هو الرطب ؛ لأنه يقضب النخل ، أي : يقطع ، ورجّحه بعضهم بذكره بعد العنب ، وكثيرا ما يقترنان.

وقيل : القت.

قال القتيبي : كذا يسميه أهل «مكة».

وقيل : كل ما يقضب من البقول لبني آدم.

وقيل : هو الرّطبة ، والمقاضب : الأرض التي تنبتها.

قال الراغب : والقضب : كالقضيب ، لكن القضيب يستعمل في فروع الشجر ، والقضب يستعمل في البقل ، والقضب : أي بالفتح قطع القضب والقضيب ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا رأى في ثوب تصليبا قضبه ، وسيف قاضب وقضيب ، أي : قاطع ، فالقضيب ـ هاهنا ـ بمعنى : الفاعل ، وفي الأول : بمعنى المفعول ، وكذا قولهم : ناقة قضيب ، لما تركب من بين الإبل ولما ترض ، ويقال لكل ما لم يهذب : مقتضب ، ومنه اقتضاب الحديث ، لما لم يترو فيه.

وقال الخليل : القضب : أغصان الشجرة يتّخذ منها سهام أو قسيّ.

وقال ابن عباس : إنه الفصفصة ، وهو القتّ الرطب (٣).

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) ينظر : الكميت وقصائده الهاشميات ص ١٣٣ ، وشرح شواهد الألفية ص ٣١٠ ، وشرح المفصل ٤ / ١٠٩ ، ١١١ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٤٢ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٧ ، والقرطبي ١٩ / ١٤٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٤٩) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢١) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

١٦٦

وقال الخليل : القضب : الفصفصة الرطبة.

وقيل : بالسين ، فإذا يبست فهو قتّ.

قوله : (وَزَيْتُوناً). وهي : شجرة الزيتون ، (وَنَخْلاً) يعني : النخيل.

قوله : (وَحَدائِقَ غُلْباً). جمع «أغلب وغلباء» ك «حمر» في : «أحمر ، وحمراء» ، يقال : حديقة غلباء ، أي : غليظة الشجر ملتفة ، واغلولب العشب أي : غلظ ، وأصله في وصف الرقاب يقال : رجل أغلب ، وامرأة غلباء ، أي : غليظة الرقبة.

قال عمرو بن معديكرب : [الكامل]

٥١١٠ ـ يسعى بها غلب الرّقاب كأنّهم

بزل كسين من الكحيل جلالا (١)

ويقال للأسد : الأغلب ؛ لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلا جميعا ؛ قال العجاج : [الرجز]

٥١١١ ـ ما زلت يوم البين ألوي صلبي

والرّأس حتّى صرت مثل الأغلب (٢)

والغلبة : القهر ؛ أن ينال وتصيب عليه رقبته ، هذا أصله ، وحديقة غلباء : ملتفة ، وحدائق غلب ، وقال ابن عباس : الغلب جمع أغلب ، وغلباء ، وهي الغلاظ ، وعنه أيضا : الطوال.

وقال قتادة ، وابن زيد : الغلب : النّخل الكرام (٣).

وعن ابن زيد أيضا وعكرمة : عظام الأوساط ، والجذوع (٤).

وقال مجاهد : ملتفة (٥). وتقدم الكلام على الحدائق في سورة «النمل».

قوله : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا). الفاكهة : ما يأكله الناس من ثمار الأشجار ، كالتين ، والخوخ ، وغيرهما.

قال ابن الخطيب (٦) : وقد استدلّ بعضهم بأنّ الله ـ تعالى ـ لمّا ذكر الفاكهة بعد ذكر العنب ، والزيتون ، والنخل ، وجب ألا يدخل هذه الأشياء في الفاكهة ، وهذا أقرب (٧) من جهة الظاهر ؛ لأن المعطوف مغاير للمعطوف عليه.

__________________

(١) ينظر شعر عمرو بن معديكرب ص ١٤١ ، والكشاف ٤ / ٧٠٤ ، والقرطبي ١٩ / ١٤٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٨١.

(٢) ينظر اللسان (بين) ، و(صلب) ، والقرطبي ١٩ / ١٤٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٥٠) ، عن قتادة وابن زيد.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٥٠) ، عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢١) ، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢١) ، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٦) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ٥٨.

(٧) في أ : قريب.

١٦٧

وأمّا الأبّ : فقيل : الأبّ للبهائم بمنزلة الفاكهة للنّاس.

وقيل : هو مطلق المرعى.

قال الشاعر يمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الطويل]

٥١١٢ ـ له دعوة ميمونة ريحها الصّبا

بها ينبت الله الحصيدة والأبّا (١)

وقيل : سمي المرعى أبّا ؛ لأنه يؤبّ ، أي : يؤم وينتجع ، والأبّ والأمّ بمعنى ؛ قال الشاعر: [الرمل]

٥١١٣ ـ جذمنا قيس ونجد دارنا

ولنا الأبّ به والمكرع (٢)

وأبّ لكذا يؤبّ أبّا ، وأبّ إلى وطنه ، إذا نزع الشيء نزوعا : تهيّأ لقصده ، وهكذا أب بسيفه ، أي : تهيّأ لسله ، وقولهم : «إبان ذلك» هو فعلان منه ، وهو الشيء المتهيّىء لفعله ومجيئه ، وقيل : الأبّ : يابس الفاكهة لأنها تؤب للشتاء ، أي تعد.

وقيل : الأبّ ما تأكله البهائم من العشب.

قال ابن عباس والحسن : الأبّ : كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس ، وما يأكله الآدميون ، هو : «الحصيد» (٣).

وعن ابن عباس وابن أبي طلحة : الأبّ ، الثّمار الرّطبة (٤).

وقال الضحاك : هو التّين خاصّة (٥). وهو محكي عن ابن عباس أيضا. وقيل : الأب الفاكهة رطب الثمار ويابسها.

وقال إبراهيم التيمي : سئل أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ عن تفسير الفاكهة والأبّ ، فقال : أيّ سماء تظلني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم (٦).

وقال أنس : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ، ثم قال : كل هذا عرفناه فما الأبّ؟ ثم رفع عصا كانت بيده ، ثم قال : هذا لعمر الله التكليف ، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأبّ؟.

ثم قال : اتّبعوا ما بين لكم في هذا الكتاب ، وما لا فدعوه (٧).

__________________

(١) ينظر القرطبي ١٩ / ١٤٥ ، والبحر ٨ / ٤١٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٢.

(٢) ينظر اللسان (أبب) ، والكشاف ٤ / ٧٠٤ ، والقرطبي ١٩ / ١٤٥ ، والبحر المحيط ٤٧١ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦٦٧.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٥٢.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٥٣.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٢) ، عن الضحاك وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٢) وعزاه إلى أبي عبيد في فضائله وعبد بن حميد.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٥١). وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٢) ، وزاد ـ

١٦٨

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خلقتم من سبع ، ورزقتم من سبع فاسجدوا لله على سبع»(١).

وإنما أراد بقوله عليه الصلاة والسلام : «خلقتم من سبع» يعني : (مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) [الحج : ٥] الآية.

والرزق من سبع ، وهو قوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً) إلى قوله «وفاكهة» ثم قال : «وأبّا» وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم ، وأنّه مما تختص به البهائم ، والله أعلم.

قوله : (مَتاعاً لَكُمْ) : نصب على المصدر المؤكد ؛ لأن إنبات هذه الأشياء متاع لجميع الحيوانات ، واعلم أنه ـ تعالى ـ لما ذكر ما يغتدي به الناس والحيوان ، قال جل من قائل : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).

قال الفراء : جعلناه منفعة لكم ومتعة لكم ولأنعامكم ، وهذا مثل ضربه الله لبعث الموتى من قبورهم ، كنبات الزرع بعد دثوره كما تقدم بيانه في غير موضع.

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٤٢)

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) : وهي الصّيحة التي تصخّ الآذان ، أي : تصمها لشدة وقعتها.

وقيل : هي مأخوذة من صخّه بالحجر أي : صكّه به.

وقال الزمخشري (٢) : «صخّ لحديثه مثل أصاخ له ، فوصفت النفخة بالصاخّة مجازا ؛ لأن النّاس يصخّون لها».

وقال ابن العربي : الصاخّة : التي تورث الصّمم ، وإنّها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة ؛ كقول الشاعر : [البسيط]

٥١١٤ ـ أصمّني سرّهم أيّام فرقتهم

فهل سمعتم بسرّ يورث الصّمما (٣)

وقال آخر : [الطويل]

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٤٥.

(٢) ينظر الكشاف ٤ / ٧٠٥.

(٣) ينظر القرطبي ١٩ / ١٤٦ ، والبحر ٨ / ٤٢١ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٢.

١٦٩

٥١١٥ ـ أصمّ بك النّاعي وإن كان أسمعا

 .......... (١)

وجواب «إذا» محذوف ، يدل عليه قوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) والتقدير : فإذا جاءت الصاخة اشتغل كل أحد بنفسه.

فصل في تعلق الآية

لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد ليتزودوا له بالأعمال الصالحة ، والإنفاق مما امتن به عليهم.

وقال ابن الخطيب (٢) : لمّا ذكر تعالى هذه الأشياء ، وكان المقصود منها أمور ثلاثة :

أولها : الدلائل الدالة على التوحيد.

وثانيها : الدلائل الدالة على القدرة والمعاد.

وثالثها : أن هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان ، لا يليق بالعاقل أن يتمرّد عن طاعته ، وأن يتكبّر على عبيده أتبع ذلك بما يكون كالمؤكّد لهذه الأغراض ، وهو شرح [أهوال الآخرة](٣) ، فإن الإنسان إذا سمعها خاف ، فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمل في الدلائل ، والإيمان بها ، والإعراض عن الكفر ، ويدعوه أيضا إلى ترك التكبّر على الناس ، وإلى إظهار التواضع فقال تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) يعني : صيحة القيامة ، وهي النفخة الأخيرة ، تصخّ الأسماع أي : تصمّها ، فلا تسمع إلا ما يدعى به الأحياء.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من دابّة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من السّاعة إلّا الجنّ والإنس» (٤).

قوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ) بدل من «إذا» ، ولا يجوز أن يكون «يغنيه» عاملا في «إذا» ، ولا في «يوم» ؛ لأنه صفة ل «شأن» ولا يتقدم معمول الصّفة على موصوفها.

والعامة على «يغنيه» من الإغناء.

__________________

(١) صدر بيت لأبي تمام الطائي وعجزه :

وأصبح مغنى الحسود بعدك بلقعا

ينظر ديوانه ٣٦١ ، والبحر ٨ / ٤٢١ ، والقرطبي ١٩ / ١٤٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٢.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ٥٨.

(٣) في أ : أحوال القيامة.

(٤) أخرجه أحمد (٢ / ٤٨٦) ، وأبو داود (١٠٤٦) ، والترمذي (٤٩١) ، والنسائي (٣ / ١١٣ ـ ١١٥) ، والحاكم (١ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩) ، وابن خزيمة (٣ / ١٢٠) ، رقم (١٧٣٨) ، وابن حبان (١٠٢٤ ـ موارد) ، والبيهقي (٣ / ٢٥٠ ـ ٢٥١) ، من حديث أبي هريرة وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

١٧٠

وابن محيصن (١) والزهري ، وابن أبي عبلة وحميد ، وابن السميفع : «يعنيه» بفتح الياء والعين المهملة من قولهم : عناني في الأمر ، أي : قصدني.

فصل في معنى الآية

قوله : «يفرّ» ، أي : يهرب في يوم مجيء الصاخّة ، «من أخيه» أي : من موالاة أخيه ، ومكالمته لأنه مشتغل بنفسه ، لقوله بعده : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ، أي : يشغله عن غيره.

وقيل : إنّما يفرّ حذرا من مطالبتهم إياه بالتبعات ، يقول الأخ : ما واسيتني بمالك ، والأبوان يقولان : قصرت في برنا ، والصاحبة تقول : أطعمتني الحرام ، والبنون يقولون : ما علمتنا.

وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه ، ولا يغنون عنه شيئا ، لقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) [الدخان : ٤١].

وقال عبد الله بن طاهر : يفرّ منهم لمّا تبين له عجزهم ، وقلّة حيلتهم.

وذكر الضحاك عن ابن عباس ، قال : يفر قابيل من أخيه هابيل ، ويفرّ النبي من أمّه ، ويفرّ إبراهيم من أبيه ، ونوح من ابنه ، ولوط من امرأته ، وآدم من سوءة بنيه (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : المراد : أن الذين كان المرء يفرّ إليهم في دار الدنيا ، ويستجير بهم ، فإنه يفرّ منهم في دار الآخرة ، وذكروا في فائدة الترتيب كأنّه قيل : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) ، بل من أبويه ، فإنهما أقرب من الأخوين ، بل من الصّاحبة والولد ؛ لأنّ تعلّق القلب بهما أشدّ من تعلّقه بالأبوين. ثم لمّا ذكر الفرار أتبعه بذكر سببه فقال تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

قال ابن قتيبة : «يغنيه» أي : يصرفه عن قرابته ، ومنه يقال : أغن عنّي وجهك ، أي : اصرفه.

وقال أهل المعاني : إنّ ذلك الهم الذي حصل له قد ملأ صدره ، فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر ، فصار شبيها بالغني في أنه ملك شيئا كثيرا.

قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ). لمّا ذكر تعالى حال يوم القيامة في الهول بيّن أن المكلفين فيه على قسمين : سعداء ، وأشقياء ، فوصف سبحانه السعيد بقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) أي : مضيئة مشرقة ، وقد علمت ما لها من الفوز ، والنعيم ، من أسفر الصبح : إذا أضاء ، وهي وجوه المؤمنين «ضاحكة» أي : مسرورة فرحة.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٤٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢١ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٢.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٤٦).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٥٩.

١٧١

قال الكلبي : يعني بالفراغ من الحساب (١)(مُسْتَبْشِرَةٌ) أي : بما آتاها الله تعالى من الكرامة.

وقال عطاء الخراسانيّ : «مسفرة» من طول ما اغبرت في سبيل الله.

وقال الضحاك : من آثار الوضوء (٢).

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : من قيام اللّيل (٣) ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «من كثرت صلاته باللّيل حسن وجهه بالنّهار» (٤).

قوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ).

قال المبرد : «الغبرة» الغبار ، والقترة : سواد كالدّخان.

وقال أبو عبيدة : القتر في كلام العرب : الغبار ، جمع القترة ؛ قال الفرزدق : [البسيط]

٥١١٦ ـ متوج برداء الملك يتبعه

موج ترى فوقه الرّايات والقترا (٥)

وفي عطفه على الغبرة ما يرد هذا إلا أن يقال : اختلف اللفظ فحسن العطف ، كقوله : [الوافر]

٥١١٧ ـ ..........

 .... كذبا ومينا(٦)

وقوله : [الطويل]

٥١١٨ ـ ..........

 .... النّأي والبعد(٧)

وهو خلاف الأصل ، وفي الحديث : «إنّ البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التّراب في وجوه الكفّار» (٨).

وقال زيد بن أسلم : القترة : ما ارتفعت إلى السماء ، والغبرة : ما انحطت إلى الأرض ، والغبار والغبرة واحد (٩).

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٤٦).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) أخرجه ابن ماجه (١٣٣٣) ، وابن عدي في «الكامل» (٢ / ٥٢٦) ، والعقيلي في «الضعفاء» (١ / ١٧٦) ، والخطيب في «تاريخ بغداد (١ / ٣٤١) ، وابن حبان في «المجروحين» (١ / ٢٠٧) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (٤٠٨ ، ٤٠٩ ، ٤١٠ ، ٤١١ ، ٤١٢) ، وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات (٢ / ١٠٩ ـ ١١١).

وقال البوصيري في «زوائد ابن ماجه» (١ / ٤٣٣) : هذا حديث ضعيف ذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» من عدة طرق وضعفها كلها وقال هذا حديث باطل لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) تقدم.

(٦) تقدم.

(٧) تقدم.

(٨) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٤٧).

(٩) ينظر المصدر السابق.

١٧٢

قال ابن عباس : «ترهقها» أي : تغشاها ، «قترة» أي : كسوف وسواد (١).

وعنه ـ أيضا ـ : ذلّة وشدّة (٢).

وقيل : ترهقها ، أي : تدركها عن قرب ، كقولك : رهقته الخيل إذا أدركته مسرعة ، والرّهق : عجلة الهلاك ، والقترة : سواد كالدّخان ، ولا يرى أوحش من اجتماع الغبار والسواد في الوجه ، كما ترى وجوه الزنوج إذا غبرت ، فجمع الله ـ تعالى ـ في وجوههم بين السواد ، والغبرة ، كما جمعوا بين الكفر ، والفجور ، والله أعلم.

والعامة : على فتح التاء في «قترة» ، وأسكنها (٣) ابن أبي عبلة.

قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ) : جمع كافر ، «الفجرة» : جمع فاجر ، وهو الكاذب المفتري على الله تعالى.

وقيل : الفاسق ، يقال : فجر فجورا ، أي : فسق ، وفجر : أي : كذب. وأصله الميل ، والفاجر المائل.

روى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (عَبَسَ وَتَوَلَّى) جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر» (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٥٤).

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢١٠).

(٣) ينظر البحر المحيط ٨ / ٤٢١ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٣.

(٤) تقدم تخريجه مرارا.

١٧٣

سورة التكوير

مكيّة ، وهي تسع وعشرون آية ، ومائة وأربع كلمات ، وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)(١٤)

قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) : في ارتفاع الشمس وجهان :

أصحهما : أنها مرفوعة بفعل مقدر مبني للمفعول ، حذف وفسّره ما بعده على الاشتغال ، والرفع على هذا الوجه ، أعني : إضمار الفعل واجب عند البصريين ؛ لأنهم لا يجيزون أن يليها غيره ، ويتأوّلون ما أوهم خلاف ذلك.

والثاني : أنّها مرفوعة بالابتداء ، وهو قول الكوفيين ، والأخفش ، لظواهر جاءت في الشعر ، وانتصر له ابن مالك.

قال الزمخشري (١) : ارتفاع «الشمس» على الابتداء ، أو الفاعليّة؟.

قلت : بل على الفاعلية ثم ذكر نحو ما تقدم ، ويعني بالفاعلية : ارتفاعها بفعل الجملة ، وقد مرّ أنّه يسمي مفعول ما لم يسم فاعله فاعلا ، وارتفاع «النجوم» وما بعدها ، كما تقدّم في «الشمس».

فصل في تفسير معنى التكوير

قد تقدّم تفسير التّكوير في أول «تنزيل».

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٠٧.

١٧٤

قيل : التّلفيف على جهة الاستدارة ، كتكوير العمامة.

وفي الحديث : «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» ، أي : من التشتت بعد الألفة.

وقيل : من فساد أمورنا بعد صلاحها.

والحور : بالحاء المهملة والراء ؛ الطيّ واللّف ، والكور والتّكوير واحد.

وسميت كارّة القصار : كارة ؛ لأنه يجمع ثيابه في ثوب واحد.

ثم إن الشيء الذي يلفّ يصير مختفيا عن الأعين ، فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس ، وغيبوبتها عن الأعين ب «التكوير».

فلهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : تكويرها : إدخالها في العرش (١).

وقال الحسن : ذهاب ضوئها (٢) ، وهو قول مجاهد وقتادة.

وروي عن ابن عباس أيضا وسعيد بن جبير : غورت (٣).

وقال الرّبيع بن خيثم : «كوّرت» : رمي بها.

ومنه كورته فتكور : أي : سقط.

قال الأصمعي : يقال : طعنه فكوّره وحوره أي : صرعه.

فمعنى «كورت» : أي : ألقيت ورميت عن الفلك.

وعن أبي صالح : «كورت» نكست.

وقال ابن الخطيب (٤) : وروي عن عمر (٥) ـ رضي الله عنه ـ أن لفظة «كوّرت» مأخوذة من الفارسية ، فإنه يقال للأعمى : كور (٦).

قوله : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ). أي : تناثرت وتساقطت.

قال تعالى : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) [الانفطار : ٢].

والأصل في الانكدار : الانصباب.

قال الخليل : انكدر عليهم القول إذا جاءوا أرسالا ، وانصبوا عليهم.

وقال أبو عبيدة : انصبّ كما ينصب العقاب إذا كسرت ؛ قال العجاج يصف صقرا : [الرجز]

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٤٨) عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٥٧) عن قتادة.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٥) وعزاه إلى ابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس. وذكره أيضا عن سعيد بن جبير وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٦١.

(٥) في أ : ابن عمر.

(٦) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣١ / ٦١) عن عمر.

١٧٥

٥١١٩ ـ أبصر خربان فضاء فانكدر

تقضّي البازي إذا البازي كسر (١)

روى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يبقى في السّماء يومئذ نجم إلّا سقط في الأرض» (٢).

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : أن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي الملائكة ، فإذا مات من في السموات ، ومن في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيدي الملائكة ؛ لأنه مات من كان يمسكها (٣).

قال القرطبي (٤) : «ويحتمل أن يكون «انكدارها» : طمس آثارها ، وسميت النجوم نجوما لظهورها في السماء بضوئها.

وعن ابن عباس ـ أيضا ـ : «انكدرت» : تغيّرت ، فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها(٥) ، والمعنى متقارب.

قوله : (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) ، يعني : قطعت عن وجه الأرض وسيرت في الهواء ، لقوله تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف : ٤٧] ، وقوله تعالى : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) [النبأ : ٢٠] في الهواء ، لقوله تعالى : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨].

وقيل : سيرها أن تحوّل عن صفة الجبال للحجارة ، فتكون كثيبا مهيلا ، أي : رملا سائلا ، وتكون كالعهن ، وتكون هباء منبثا ، وتكون مثل السّراب الذي ليس بشيء ، وعادت الأرض قاعا صفصفا ، (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧].

قوله تعالى : (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ). العشار : جمع عشراء ، وهي : الناقة التي مر لحملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع في تمام السّنة وكذلك يقال في جمع نفساء.

قال القرطبي (٦) : وهو اسمها بعد ما تضع أيضا ، ومن عادة العرب أن يسمّوا الشيء باسمه المتقدم ، وإن كان قد جاوز ذلك ، يقول الرجل لفرسه وقد قرح : قربوا مهري يسميه بمتقدم اسمه ، وإنّما خصّ العشار بالذكر ؛ لأنّها أعزّ ما يكون عند العرب ، وهذا على وجه المثل ؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء ، أو المعنى : أنّ يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطّلها ، واشتغل بنفسه ، يقال : ناقة عشراء ، وناقتان عشراوتان ، ونوق عشار وعشراوات ، يبدلون من همزة التأنيث واوا.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٤٩) من طريق الضحاك عن ابن عباس.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن (١٩ / ١٤٩).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٥٨).

(٦) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٤٩.

١٧٦

وقد عشرت الناقة تعشيرا : أي : صارت عشراء.

وقيل : «العشار» : السّحاب ، و «عطلت» : أي : لا تمطر.

والعرب تشبه السحاب بالحامل ، قال تعالى : (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) [الذاريات : ٢].

وقيل : الأرض تعطل زرعها.

والتعطيل : الإهمال ، ومنه قيل للمرأة : عاطل إذا لم يكن عليها حليّ. وتقدم في «بئر معطلة» (١).

قال امرؤ القيس : [الطويل]

٥١٢٠ ـ وجيد كجيد الرّئم ليس بفاحش

إذا هي نصّته ولا بمعطّل (٢)

وقرأ ابن كثير (٣) في رواية : «عطلت» بتخفيف الطاء.

قال الرازي : هو غلط ، إنما هو بفتحتين ، بمعنى : «تعطّلت» ؛ لأن التشديد فيه للتعدي ، يقال : عطلت الشيء ، وأعطله فعطل.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) ، الوحوش : ما لم يتأنس به من حيوان البرّ ، والوحش أيضا : المكان الذي لا أنس فيه ، ومنه : لقيته بوحش أي : ببلد قفر ، والوحش : الذي يبيت وجوفه خاليا من طعام ، وجمعه : أوحاش ، وسمّي به المنسوب إلى المكان الوحشيّ : وحشي ، وعبر بالوحشي عن الجانب الذي يضاد الإنسي ، والإنسي : ما يقبل من الإنسان وعلى هذا وحشي الفرس وإنسيه.

وقوله تعالى : (حُشِرَتْ). أي : جمعت ، والحشر : الجمع قاله الحسن وقتادة وغيرهما(٤).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : حشرها موتها ، رواه عكرمة (٥) ، وحشر كلّ شيء : الموت لغير الجن والإنس ، فإنهما يوافيان يوم القيامة.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : يحشر كلّ شيء حتى الذباب (٦).

وعن ابن عباس ـ أيضا ـ : يحشر الوحوش غدا ، أي : تجمع ، حتى يقتصّ لبعضها من بعض ، فيقتص للجمّاء من القرناء ثم يقال لها : كوني ترابا فتموت (٧).

__________________

(١) سورة الحج آية ٤٥.

(٢) ينظر : ديوانه ص ١٦ ، والمعلقات العشر للزوزني ٢٥ ، والبحر ٨ / ٤٢٤ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٧٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٨.

(٣) ينظر : إعراب القراءات ٢ / ٤٤٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٥.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٦٠) عن قتادة.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٥٩) من طريق عكرمة عن ابن عباس.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٧) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٧) تقدم في سورة النبأ.

١٧٧

وقرأ الحسن (١) وابن ميمون : «حشّرت» بتشديد الشين.

ومعنى الآية : أي : أنّ الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم؟.

وقيل : أي : أنّها مع نفرتها اليوم من النّاس ، وتبددها في الصحاري ، تنضمّ غدا إلى الناس من أهوال ذلك اليوم ؛ قاله أبي بن كعب.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ).

قرأ ابن كثير (٢) وأبو عمرو : «سجرت» بتخفيف الجيم.

والباقون : بتثقيلها على المبالغة والتنكير.

والمعنى : ملئت من الماء ، والعرب تقول : سجرت الحوض أسجره سجرا إذا ملأته ، وهو مسجور ، والمسجور والسّاجر في اللغة : الملآن.

وروى الربيع بن خيثم : «سجّرت» : فاضت وملئت ، قال تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) [الانفطار : ٣].

وقال الحسن : اختلطت وصارت شيئا واحدا (٣).

وقيل : أرسل عذبها على مالحها ، ومالحها على عذبها حتى امتلأت.

وقال القشيريّ : يرفع الله الحاجز الذي ذكره ـ تعالى ـ في قوله : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) [الرحمن : ٢٠] ، فإذا رفع ذلك البرزخ تفجّرت مياه البحار ، فعمّت الأرض كلّها ، وصارت بحرا واحدا.

وعن الحسن وقتادة وابن حيان : تيبس ، فلا يبقى من مائها قطرة (٤).

قال القشيريّ : وهو من سجرت التنور أسجره سجرا : إذا أحميته ، وإذا سلط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرّطوبة ، وتقدم اشتقاق هذه المادة.

قال القفال (٥) : وهذا التأويل يحتمل وجوها :

الأول : أن تكون جهنم في قعر البحار ، فهي الآن غير مسجرة بقوام الدنيا ، فإذا انتهت مدة الدنيا أوصل الله تعالى تأثير تلك النّيران إلى البحار ، فصارت مسجورة

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٤١ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٥.

(٢) ينظر : السبعة ٦٧٣ ، والحجة ٦ / ٣٧٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٢٤ ، وحجة القراءات ٧٥٠.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٥٠).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٦١) عن قتادة والحسن.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٧) عن الحسن والضحاك وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٦٣.

١٧٨

بالكلية ، وهذا قول ابن زيد ، وعطية ، وسفيان ، ووهب ، وأبيّ ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عباس في رواية ، والضحاك ـ رضي الله عنهم ـ أوقدت فصارت نارا.

الثاني : قال ابن عباس : يكوّر الله تعالى الشمس ، والقمر ، والنجوم في البحار ، فتصير البحار مسجورة بسبب ذلك يبعث الله ـ تعالى ـ [لها](١) ريحا دبورا ، فتنفخه حتى تصير نارا ، كذا جاء في الحديث (٢).

الثالث : أن يخلق الله ـ تعالى ـ تحت البحار نيرانا عظيمة حتى تسجر تلك المياه.

قال ابن الخطيب (٣) : وهذه وجوه متكلّفة ، ولا حاجة إلى شيء منها ؛ لأن القادر على تخريب الدنيا يقدر على أن يفعل في البحار ما شاء من تسجير مياهها ، ومن قلب مياهها نارا (٤) من غير حاجة إلى أن يلقي فيها الشمس والقمر ، أو يكون تحتها نار جهنم.

قال القرطبيّ (٥) : وروي عن ابن عمرو ـ رضي الله عنه ـ : لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم (٦).

وقال أبي بن كعب رضي الله عنه : ستّ آيات قبل يوم القيامة : بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس ، فتحيّروا ودهشوا ، فبينما هم كذلك ينظرون إذ تناثرت النجوم ، وتساقطت ، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت ، واضطربت ، واحترقت ، فصارت هباء منبثا ، ففزعت الجنّ إلى الإنس ، وفزعت الإنس إلى الجنّ ، واختلط الدواب ، والوحش ، والهوام والطير ، وماج بعضها في بعض ، فذلك قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) ، ثم قالت الجنّ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجّج ، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى ، وإلى السماء السابعة العليا ، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح ، فأماتتهم (٧).

وقال ابن الخطيب (٨) : وهذه العلامات يمكن أن تكون عند خراب الدنيا ، وأن تكون بعد القيامة.

وقيل : معنى «سجّرت» يحمر ماؤها حتى يصير كالدّم ، من قولهم : «عين سجراء» أي: حمراء.

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٠) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في «الأهوال» وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في «العظمة» عن ابن عباس.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٦٣.

(٤) في أ : نيرانا.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٥١.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي (١٩ / ١٥١).

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٦٣.

١٧٩

قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ).

العامة : على تشديد «الواو» من «زوّجت» من التزويج.

وروي عن عاصم (١) : «زووجت» على وزن «فوعلت».

قال أبو حيان (٢) : «والمفاعلة» تكون من اثنين.

قال شهاب الدّين (٣) : وهي قراءة مشكلة ؛ لأنّه لا ينبغي أن يلفظ بواو ساكنة ، ثم أخرى

مكسورة ، وقد تقدم أنه متى اجتمع مثلان ، وسكن أولهما وجب الإدغام حتى في كلمتين ، ففي كلمة واحدة أولى.

فصل في المراد بالآية

قال النّعمان بن بشير : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال : «يقرن كل رجل مع كلّ قوم كانوا يعملون كعمله» (٤).

قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : يقرن الفاجر مع الفاجر ، ويقرن الصالح مع الصالح (٥).

وقال ابن عباس رضي الله عنه : ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة : السّابقون زوج يعني صنفا ، وأصحاب اليمين زوج ، وأصحاب الشّمال زوج (٦).

وعنه أيضا قال : زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، وقرن الكفّار والمنافقون بالشّياطين(٧).

وقال الزجاج : قرنت النفوس بأعمالها.

وقيل : قرنت الأرواح بالأجساد أي : وقت ردت إليها قاله عكرمة.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٤٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٢٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٥.

(٢) البحر المحيط ٨ / ٤٢٤.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٨٥.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٧) وعزاه إلى ابن مردويه.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٦٢) والحاكم (٢ / ٥١٥ ـ ٥١٦) عن النعمان بن بشير عن عمر ابن الخطاب.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «البعث» وأبي نعيم في «الحلية».

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٥١).

(٧) ينظر : المصدر السابق.

١٨٠