اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

سورة [النازعات](١)

مكية ، وهي ست وأربعون آية ، ومائة وسبعون كلمة ، وسبعمائة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)(٥)

قوله تعالى : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) يجوز في «غرقا» أن يكون مصدرا على حذف الزوائد ، بمعنى : «إغراقا» ، وانتصابه بما قبله لملاقاته في المعنى.

وإمّا على الحال ، أي : ذوات إغراق ، يقال : أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل ، وبلغ أقصى غايته ، ومنه أغرق النازع في القوس أي : بلغ غاية المد والاستغراق والاستيعاب.

فصل في المراد بالنازعات

أقسم الله تعالى بهذه الأسماء الخمسة على أن القيامة حق.

و «النّازعات» قيل : هي الملائكة التي تنزع أرواح الكفّار ، قاله علي ، وابن مسعود ، ومسروق ، ومجاهد (٢).

قال ابن مسعود : يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم ، من تحت كل شعرة ، ومن تحت الأظافير ، وأصول القدمين نزعا ، كالسّفّود ينزع من الصوف الرّطب ، ثم يغرقها ، أي : يرجعها إلى أجسادهم ، ثم ينزعها ، فهذا عمله في الكفّار (٣).

وقال سعيد بن جبير : نزعت أرواحهم ، ثم غرقت ، ثم حرقت ، ثم قذف بها في النار (٤).

__________________

(١) في أ : الساهرة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢٠) ، عن ابن مسعود وابن عباس ومسروق وسعيد بن جبير.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٤١) ، والقرطبي (١٩ / ١٢٤).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢٠).

١٢١

وقيل : يرى الكافر نفسه في وقت النّزع كأنها تغرق.

وقال السدي : «والنّازعات» هي النفوس حين تغرق في الصّدور (١).

وقال مجاهد : هي الموت ينزع النفوس (٢).

وقال الحسن وقتادة : هي النّجوم تنزع من أفق إلى أفق (٣) ، أي : تذهب ، من قولهم : نزع إليها أي ذهب ، أو من قولهم : نزعت الخيل ، أي : «جرت» ، «غرقا» أي أنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر ، وهو قول أبي عبيدة وابن كيسان والأخفش.

وقال عطاء وعكرمة : «والنّازعات» القسيّ تنزع بالسهام.

«غرقا» بمعنى : إغراق ، وإغراق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدّ حتى ينتهي إلى النّصل ، ويقال لقشرة البيضة الدّاخلة «غرقىء».

وقيل : هم الغزاة الرّماة ، وهو والذي قبله سواء ؛ لأنه إذا أقسم بالقسي فالمراد : النازعون بها تعظيما لها ، كقوله تعالى : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) [العاديات : ١].

وقال يحيى بن سلام : هي الوحش تنزع من الكلأ (٤) وتنفر.

ومعنى «غرقا» أي : إبعادا في النزع.

قوله تعالى : (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً).

اعلم أن «نشطا ، وسبحا ، وسبقا» كلها مصادر.

والنّشط : الرّبط ، والإنشاط : الحل ، يقال : نشط البعير : ربطه ، وأنشطه : حله.

ومنه : «كأنّما أنشط من عقال» ، فالهمزة للسّلب ، ونشط : ذهب بسرعة ، ومنه قيل لبقر الوحش : النواشط ؛ وقال هميان بن قحافة : [الرجز]

٥٠٨٦ ـ أمست همومي تنشط المناشطا

الشّام بي طورا وطورا واسطا (٥)

ونشط الحبل أنشطه أنشوطة : عقدته ، وأنشطته : مددته ، ونشط ك «أنشط».

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٩) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن السدي. وأخرجه الطبري (١٢ / ٤٢١).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢١) ، عن مجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٩) ، وعزاه إلى عبد بن حميد وأبي الشيخ في «العظمة».

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢٢) ، عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٩) ، عن قتادة والحسن وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٤) قي أ : الكلاب.

(٥) ينظر اللسان (نشط) ، والقرطبي ١٩ / ١٢٥ ، والبحر ٨ / ٤٠٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٠ ، وروح المعاني ٣٠ / ٦.

١٢٢

قال الأصمعي : بئر أنشاط : أي : قريبة القعر ، يخرج الدّلو منها بجذبة واحدة ، وبئر نشوط ، قال : وهي التي لا تخرج الدلو منها حتى تنشط كثيرا.

فصل في المراد بالناشطات

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يعنى الملائكة تنشط نفس المؤمن ، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلّ عنه (١).

وقيل : يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب الذي يعقب به السّرج.

والنّشط : الجذب بسرعة.

ومنه الأنشوطة : عقدة يسهل انحلالها إذا جذبت مثل عقدة التكّة.

قال الليث : أنشطه بأنشوطة وأنشوطتين أي : أوثقته ، وأنشطت العقال ، أي : مددت أنشوطته فانحلّت.

ويقال : نشط بمعنى أنشط ، لغتان بمعنى.

وعن ابن عباس أيضا : أن الناشطات الملائكة ، لنشاطها تذهب وتجيء بأمر ربها حيثما كان (٢).

وقال مجاهد : هو الموت ينشط نفس الإنسان (٣).

وقال السدي : هي النفوس حين تنشط من القدمين (٤).

وقال قتادة ، والحسن والأخفش : هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق (٥) ، أي : تذهب.

قال الجوهريّ : يعنى النجوم تنشط من برج إلى برج ، كالثّور الناشط من بلد إلى بلد.

وقيل : «النازعات» للكافرين ، «والنّاشطات» للمؤمنين ، فالملائكة يجذبون أرواح المؤمنين برفق.

والنّزع : جذب بشدّة.

وقيل : هما جميعا للكفّار ، والاثنان بعدهما للمؤمنين.

قوله : (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً). قال عليّ رضي الله عنه : هي الملائكة تسبح أرواح المؤمنين(٦).

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي (١٩ / ١٢٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢٢).

(٣) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٢٥).

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٢٥).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢٢) ، عن قتادة وينظر تفسير البغوي (٤ / ٤٤٢) ، والمصدر السابق.

(٦) ذكره القرطبي (١٩ / ١٢٦) ، عن علي.

١٢٣

قال الكلبيّ : كالذي يسبح في الماء ، فأحيانا ينغمس ، وأحيانا يرتفع يسلّونها سلّا رفيقا بسهولة ، ثم يدعونها حتى تستريح (١).

وقال مجاهد وأبو صالح : هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله تعالى (٢) ، كما يقال للفرس الجواد : سابح إذا أسرع في جريه ، وعن مجاهد : السابحات : الموت يسبح في نفوس بني آدم. وقيل : هي الخيل الغزاة.

قال عنترة : [مجزوء الكامل]

٥٠٨٧ ـ والخيل تعلم حين تس

بح في حياض الموت سبحا (٣)

وقال قتادة والحسن : هي النجوم تسبح في أفلاكها (٤) ، وكذا الشمس والقمر.

قال تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء : ٣٣].

وقال عطاء : هي السّفن تسبح في الماء (٥).

وقال ابن عباس : أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى لقاء الله تعالى ورحمته حين تخرج (٦).

قوله تعالى : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً).

قال عليّ رضي الله عنه : هي الملائكة ، تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وهو قول مسروق ومجاهد (٧).

وعن مجاهد ـ أيضا ـ وأبي روق : هي الملائكة سبقت بني آدم إلى العمل الصّالح ، فتكتبه(٨).

وعن مجاهد ـ أيضا ـ الموت يسبق الإنسان (٩).

وقال مقاتل : هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنّة (١٠).

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢٣) ، عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٩) ، عن أبي صالح وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) ينظر : السراج المنير ٤ / ٤٧٦ ، والقرطبي ١٩ / ١٢٦.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٢٣) ، عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٩) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢٣) ، عن عطاء.

(٦) أخرجه القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٢٦) ، عن ابن عباس.

(٧) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٩٣) ، وينظر المصدر السابق.

(٨) ينظر المصدر السابق.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢٤) ، عن مجاهد.

(١٠) ذكره القرطبي (١٩ / ١٢٦).

١٢٤

وقال ابن مسعود : هي أنفس المؤمنين ، تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها ، وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله تعالى (١).

وقال قتادة والحسن ومعمر : هي النجوم تسبق بعضها (٢).

وقال عطاء : هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد (٣).

وقيل : يحتمل أن تكون «السّابقات» ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة ، أو نار ؛ حكاه الماورديّ.

قال الجرجانيّ : وذكر «فالسّابقات» بالفاء ؛ لأنها مشتقة من التي قبلها ، أي : واللاتي يسبحن فيسبقن ، تقول : قام فذهب ، فهذا يوجب أن يكون القيام سببا للذهاب.

قال الواحديّ : قول صاحب النّظم غير مطرد في قوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) ؛ لأنه يبعد أن يجعل السّبق سببا للتّدبير.

قال ابن الخطيب ويمكن الجواب عن اعتراض الواحديّ (٤) : بأنها لمّا أمرت سبحت ، فسبقت ، فدبّرت ما أمرت بتدبيره ، فتكون هذه أفعالا يتّصل بعضها ببعض ، كقولك : قام زيد ، فذهب ، فضرب عمرا ، أو لمّا سبقوا في الطّاعات يسارعون إليها ، ظهرت أمانتهم ، ففوّض إليهم التّدبير.

قوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً).

قيل : «أمرا» مفعول بالمدبّرات.

وقيل : حال ، تدبّره مأمورات ، وهو بعيد.

قال القشيريّ : أجمعوا على أن المراد : الملائكة.

وقال الماورديّ : فيه قولان :

أحدهما : الملائكة ، قاله الجمهور.

والقول الثاني : هي الكواكب السبع ، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل.

وفي تدبيرها الأمور وجهان :

أحدهما : تدبير طلوعها وأفولها.

__________________

(١) ذكره البغوي (٤ / ٤٤٢) ، عن ابن مسعود وينظر المصدر السابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢٤) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٩) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢٤) ، عن عطاء.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٣١.

١٢٥

والثاني : في تدبير ما قضى الله ـ تعالى ـ فيها من تقليب الأحوال.

وحكى هذا القول ـ أيضا ـ القشيري في تفسيره ، وأن الله ـ تعالى ـ علّق كثيرا من تدبير العالم بحركات النّجوم ، فأضيف التدبير إليها ، وإن كان من الله ـ تعالى ـ كما يسمّى الشيء باسم ما يجاوره.

وقال شهاب الدّين (١) : والمراد بهؤلاء إمّا طوائف الملائكة ، وإمّا طوائف خيل الغزاة ، وإما النجوم ، وإمّا المنايا ، وإمّا بقر الوحش وما جرى مجراها لسرعتها ، وإما أرواح المؤمنين يعني المذكورين في جميع القسم (٢).

فصل في تدبير الملائكة

«تدبير الملائكة» : نزولها بالحلال ، والحرام ، وتفصيله ، قال ابن عباس ، وقتادة ، وغيرهما إلى الله تعالى ، ولكن لمّا أنزلت الملائكة سمّيت بذلك ، كما قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤] ، وقوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ) [النحل : ١٠٢] يعني : جبريل نزّله على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله سبحانه وتعالى هو الذي أنزله.

وروى عطاء عن ابن عباس : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) ، هي الملائكة وكّلت بتدبير أحوال أهل الأرض في الرياح والأمطار (٣) ، وغير ذلك.

قال عبد الرّحمن بن ساباط : تدبير أمر الدنيا إلى أربعة :

جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت واسمه عزرائيل ، وإسرافيل ، فأمّا جبريل ، فموكّل بالرياح ، والجنود ، وأمّا ميكائيل ، فموكّل بالقطر والنّبات ، وأمّا ملك الموت فموكّل بقبض الأرواح في البرّ والبحر ، وأما إسرافيل ، فهو ينزل بالأمر عليهم ، وليس في الملائكة أقرب من إسرافيل ، وبينه وبين العرش خمسمائة عام.

وقيل : وكّلوا بأمور عرّفهم الله بها (٤).

فإن قيل : لم قال : «أمرا» ، ولم يقل : أمورا ، فإنهم يدبرون أمورا كثيرة؟.

فالجواب : أن المراد به الجنس ، فهو قائم مقام الجمع.

واعلم أنّ هذه الكلمات أقسم الله ـ تعالى ـ بها ، ولله ـ تعالى ـ أن يقسم بما شاء من خلقه ، وليس لنا ذلك.

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٤٧٠.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٢٧).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥١٠) ، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «شعب الإيمان».

١٢٦

قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ)(١٤)

قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) منصوب بفعل مقدّر ، وهو جواب القسم ، تقديره: لتبعثنّ ، لدلالة ما بعده عليه.

قال الفرّاء : ويدل عليه قوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) ، ألست ترى أنه كالجواب لقولهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) نبعث؟ فاكتفى بقوله : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً.

وقال الأخفش والزجاج : ينفخن في الصّور نفختين ، بدليل ذكر «الرّادفة» و «الرّاجفة» ، وهما النّفختان.

قال الزمخشريّ (١) : فإن قلت : كيف جعلت «يوم ترجف» ظرفا للمضمر الذي هو لتبعثنّ ، ولا يبعثون عند النفخة الأولى؟.

قلت : المعنى : لتبعثن في الوقت الواسع الذي تقع فيه النفختان ، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع ، وهو وقت النفخة الأخرى ، ودلّ على ذلك أن قوله : (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) جعل حالا عن «الرّاجفة».

وقيل : العامل مقدر ، أي : اذكر يوم ترجف.

وفي الجواب على هذا التقدير وجوه :

أحدها : قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) [النازعات : ٢٦].

واستقبحه أبو بكر بن الأنباري ، لطول الفصل.

الثاني : أنه قوله : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) [الإنسان : ١] ؛ لأن «هل» بمعنى : «قد».

وهذا غلط ؛ لأنه كما تقدّم في «هل أتى» أنّها لا تكون بمعنى : «قد» إلّا في الاستفهام على ما قال الزمخشري.

الثالث : أن الجواب : «تتبعها» وإنّما حذفت «اللام» ، والأصل : «اليوم ترجف الرّاجفة تتبعها» ، فحذفت «اللّام» ، ولم تدخل نون التوكيد على تتبعها للفصل بين «اللام» المقدّرة ، وبين الفعل المقسم عليه بالظرف ، ومثله : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) [آل عمران : ١٥٨].

وقيل : في الكلام تقديم ، وتأخير ، أي : يوم ترجف الرّاجفة ، تتبعها الرّادفة والنّازعات.

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٦٩٣.

١٢٧

وقال أبو حاتم : هو على التقديم ، والتأخير ، كأنه قال : فإذا هم بالساهرة والنازعات.

قال ابن الأنباريّ : وهذا خطأ ؛ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام.

وقيل : «يوم» منصوب بما دلّ عليه «راجفة» ، أي : يوم ترجف رجفت.

وقيل : بما دلّ عليه «خاشعة» أي : يوم ترجف خشعت ، وقوله : (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) يجوز أن يكون حالا من «الرّاجفة» ، وأن يكون مستأنفا.

فصل في تفسير الآية

قال عبد الرحمن بن زيد : «الرّاجفة» أي : المضطربة ، ومعناه : أنّ الأرض تضطرب ، و «الرّادفة» السّاعة.

وقال مجاهد : الزلزلة تتبعها الرادفة ، أي : الصيحة.

وعنه ـ أيضا ـ ، وابن عباس والحسن وقتادة : هما الصّيحتان ، أي : النفختان ، أمّا الأولى فتميت كلّ شيء بإذن الله تعالى ، وأمّا الثانية فتحيي كلّ شيء بإذن الله تعالى.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بين النّفختين أربعون سنة» (١).

وقال مجاهد : «الرّاجفة» الرجفة حين تنشقّ السّماء ، وتحمل الأرض والجبال ، فتدكّ دكّة(٢) واحدة [وذلك بعد الزلزلة وقيل : الرجفة تحرك الأرض والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرضين](٣).

وأصل «الرّجفة» الحركة ، قال تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) [المزمل : ١٤] ، وليست الرجفة هناك من الحركة فقط ، بل من قولهم : رجف الرّعد يرجف رجفا ورجيفا ، أي : أظهرت الصوت والحركة ، ومنه سمّيت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها ، وإفاضة النّاس فيها.

وقيل : الرجفة هذه منكرة في السحاب ، ومنه قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) [الأعراف : ٧٨].

وأما الرادفة : فكل شيء جاء بعد شيء آخر ، يقال : ردفه : أي : جاء بعده.

قوله : (قُلُوبٌ) مبتدأ ، و «يومئذ» منصوب ب «واجفة» ، و «واجفة» صفة القلوب ،

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢٥) ، عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥١٠) ، وعزاه إلى عبد بن حميد والبيهقي في «البعث».

(٣) سقط من : ب.

١٢٨

وهو المسوغ للابتداء بالنكرة ، و «أبصارها» مبتدأ ثان ، و «خاشعة» خبره ، وهو وخبره خبر الأول ، وفي الكلام حذف مضاف ، تقديره : أبصار أصحاب القلوب.

قال ابن عطية (١) : وجاز ذلك ، أي : الابتداء ب «قلوب» ؛ لأنها تخصصت بقوله : «يومئذ».

ورد عليه أبو حيان (٢) : بأن ظرف الزّمان لا يخصص الجثث ، يعني : لا يوصف به الجثث.

و «الواجفة» : الخائفة الوجلة ، قاله ابن عباس (٣) ، يقال : وجف يجف وجيفا ، وأصله: اضطراب القلب.

قال قيس بن الخطيم : [المنسرح]

٥٠٨٨ ـ إنّ بني جحجبى وأسرتهم

أكبادنا من ورائهم تجف (٤)

وقال السديّ : زائلة عن أماكنها ، ونظيره : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ)(٥) [غافر : ١٨].

وقال المؤرج : قلقة مستوفزة ، مرتكضة غير ساكنة.

وقال المبرد : مضطربة ، والمعنى متقارب ، والمراد : قلوب الكفّار ، يقال : وجف القلب يجف وجيفا : إذا خفق ، كما يقال : وجب يجب وجيبا ـ بالباء الموحدة ـ بدل الفاء ، ومنه وجيف الفرس والنّاقة في العدو.

والإيجاف : حمل الدابة على السير السريع.

قوله : (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي : منكسرة ذليلة من هول ما ترى ، نظيره : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [القلم : ٤٣].

قوله : (يَقُولُونَ) أي : يقول هؤلاء المكذّبون المنكرون للبعث إذا قيل لهم : إنكم تبعثون ، قالوا منكرين متعجبين : أنردّ بعد موتتنا إلى أول الأمر ، فنعود أحياء ، كما كنا قبل الموت؟ وهو كقولهم : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) [الإسراء : ٤٩].

__________________

(١) المحرر الوجيز ٥ / ٤٣١.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤١٣.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥١٠) ، وعزاه إلى ابن المنذر.

(٤) هذا البيت ملفق من بيتين من فائية قيس المشهورة ، أولهما قوله :

أبلغ بني جحجبى وقومهم

خطمة أنّا وراءهم أنف

والثاني بعد هذا البيت ، وهو قوله :

أنّا ولو قدّموا التي علموا

أكبادنا من ورائهم تجف

فركب من البيتين البيت المستشهد به ؛ أخذ صدر الأول ، وجعل له عجز البيت الثاني.

ينظر ديوان قيس بن الخطيم ص (١١١) ، والأصمعيات ص ١٩٨ ، والأغاني ٣ / ٢٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٤١٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٧١.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٢٨) ،

١٢٩

قوله : (فِي الْحافِرَةِ) «الحافرة» : الطّريقة التي يرجع الإنسان فيها من حيث جاء ، يقال : رجع في حافرته ، ثم يعبر عن الرجوع في الأحوال من آخر الأمر إلى أوله ؛ قال : [الوافر]

٥٠٨٩ ـ أحافرة على صلع وشيب؟

معاذ الله من سفه وعار (١)

يقول : أأرجع ما كنت عليه في شبابي مع الغزل والصبا بعد أن شبت وصلعت؟.

وأصله : أنّ الإنسان إذا رجع في طريقه أثرت قدماه فيها حفرا.

وقال الراغب : في قوله تعالى : (فِي الْحافِرَةِ) مثل لمن يرد من حيث جاء ، أي : أنحيا بعد أن نموت؟.

وقيل : «الحافرة» ، الأرض التي جعلت قبورهم فيها ، ومعناه : أئنّا لمردودون ونحن في الحافرة؟ أي : في القبور.

وقوله : «في الحافرة» على هذا في موضع الحال ، ويقال : رجع الشيخ إلى حافرته ، أي: هرم لقوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [النحل : ٧٠].

وقولهم : «النقد عند الحافرة» لما يباع نقدا ، وأصله من (٢) الفرس إذا بيع ، فيقال : لا يزول حافره ، أو ينقد ثمنه.

والحفر : تآكل الأسنان ، وقد حفر فوه حفرا ، وقد أحفر المهر للأثناء والأرباع.

والحافرة : «فاعلة» بمعنى : «مفعولة» ، وهي الأرض التي تحفر قبورهم فيها فهي بمعنى : «المحفورة» ، كقوله تعالى : (ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] ، و (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [القارعة : ٧] ، والمعنى : أئنّا لمردودون في قبورنا.

وقيل : على النسب ، أي : ذات حفر.

وقيل : سمّيت الأرض الحافرة ؛ لأنها مستقر الحوافر ، كما سمّيت القدم أرضا ؛ لأنها على الأرض ، لقولهم : الحافرة جمع حافر بمعنى : القدم أي : نمشي أحياء على أقدامنا ، ونطأ بها الأرض.

وقيل : هي أول الأمر.

ويقول التجار : «النقد في الحافرة» أي في أول السّوم ؛ وقال الشاعر : [السريع]

٥٠٩٠ ـ آليت لا أنساكم فاعلموا

حتّى يردّ النّاس في الحافره (٣)

__________________

(١) ينظر سمط اللآلىء ١ / ١٢٢ ، وإصلاح المنطق ص ٣٢٧ ، والكشاف ٤ / ٦٩٤ ، والطبري ٣٠ / ٢٢ ، واللسان (حضر) ، والقرطبي ١٩ / ١٢٨ ، والبحر ٨ / ٤١٠ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦٥١ ، والدر المصون ٦ / ٤٧١.

(٢) في ب : في.

(٣) ينظر القرطبي ١٩ / ١٢٨ ، والبحر ٨ / ٤١٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٢ ، وفتح القدير ٥ / ٣٧٤.

١٣٠

وقال ابن زيد : الحافرة «النّار» ، وقرأ : «تلك إذا كرّه خاسرة» (١).

وقال مقاتل وزيد بن أسلم : هي اسم من أسماء النار (٢).

وقال ابن عبّاس : الحافرة في كلام العرب : الأرض التي تغيّرت وأنتنت بأجساد موتاها (٣) ، من قولهم : حفرت أسنانه ، أي : تآكلت ، أي : دكها الوسخ من باطنها وظاهرها ، ويجوز تعلقه ب «مردودون» ، أو : بمحذوف على أنه حال.

فصل في تفسير الآية

قال ابن الخطيب (٤) : هذه الأحوال المتقدمة هي أحوال القيامة عند جمهور المفسرين.

وقال أبو مسلم : هذه الأحوال ليست هي أحوال القيامة ؛ لأنه فسّر «النّازعات» بنزع القوس ، و «النّاشطات» بخروج السّهم ، و «السّابحات» بعدو الفرس ، و «السّابقات» بسبقها ، و «المدبّرات» بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي ، والعدو ، ثم بنى على ذلك ، فقال : «الرّاجفة» هي خيل المشركين ، وكذلك «الرّادفة» ، وهما طائفتان من المشركين غزوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسبقت إحداهما الأخرى ، والقلوب الواجفة ، هي القلقة ، والأبصار الخاشعة ، هي أبصار المنافقين ، كقوله تعالى : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [محمد: ٢٠] ، كأنّه قيل : لمّا جاء خيل العدو ترجف ؛ لأنها اضطربت قلوب المنافقين خوفا ، وخشعت أبصارهم جبنا وضعفا ثم قالوا : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أي : نرجع إلى الدنيا حتى نتحمّل هذا الخوف لأجلها. وقالوا أيضا : (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) ، فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المشركين ، وأوسطه حكاية لحال المنافقين ، وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر ، ثم إنه ـ تعالى ـ أجاب عن كلامهم بقوله تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ).

قال ابن الخطيب (٥) : وكلام أبي مسلم محتمل ، وإن كان على خلاف قول الجمهور.

قوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً).

قرأ الأخوان وأبو بكر (٦) : «ناخرة» بألف.

والباقون : «نخرة» بدونها.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢٧ ـ ٤٢٨) ، عن ابن زيد.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٢٨).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر الفخر الرازي ٢١ / ٣٢.

(٥) الفخر الرازي ٣١ / ٣٣.

(٦) ينظر : السبعة ٦٧٠ ، ٦٧١ ، والحجة ٦ / ٣٧١ ، وإعراب القرارات ٢ / ٤٣٥ ، وحجة القراءات ٧٤٨.

١٣١

وهما ك «حاذر ، وحذر» فاعل لمن صدر عنه الفعل ، و «فعل» لمن كان فيه غريزة أو كالغريزة.

وقيل : ناخرة ، ونخرة بمعنى : بالية.

يقال : نخر العظم ـ بالكسر ـ أي بلي وتفتّت.

وقيل : ناخرة ، أي : صارت الريح تنخر فيها ، أي : تصوت ، ونخرة أي : ينخر فيها دائما.

وقيل : ناخرة ، أي : بالية ، ونخرة : متآكلة.

وعن أبي عمرو : النّاخرة : التي لم تنخر بعد ، والنّخرة : البالية.

وقيل : النّاخرة : المصوت فيها الريح ، والنّاخرة : البالية التي تعفّنت.

قال الزمخشري (١) : «نخر العظم فهو نخر وناخر ، كقولك : طمع ، فهو طمع وطامع ، و «فعل» أبلغ من فاعل ، وقد قرىء بهما ، وهو البالي الأجوف الذي تمرّ فيه الريح ، فيسمع له نخير».

ومنه قول الشاعر : [الطويل]

٥٠٩١ ـ وأخليتها من مخّها فكأنّها

قوارير في أجوافها الرّيح تنخر (٢)

وقال الرّاجز لفرسه : [الرجز]

٥٠٩٢ ـ أقدم سجاج إنّها الأساوره

ولا يهولنك رءوس نادره

فإنّما قصرك ترب السّاهره

ثمّ تعود بعدها في الحافره

من بعد ما كنت عظاما ناخره (٣)

ونخرة الريح ـ بضم النون ـ شدة هبوبها ، والنّخرة أيضا : مقدم أنف الفرس ، والحمار ، والخنزير ، يقال : هشم نخرته ، أي : مقدم أنفه.

و «إذا» منصوب بمضمر ، أي : إذا كنّا كذا نردّ ونبعث.

قوله تعالى : (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ).

«تلك» مبتدأ مشار بها إلى الرّجفة والردة في الحافرة ، و «كرّة» خبرها ، و «خاسرة»

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٩٤.

(٢) البيت للحارثي ينظر ديوان الحماسة ٢ / ١٦٥ ، والبحر ٨ / ٤١٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٢.

(٣) ينظر سمط اللآلىء ١ / ١٢٤ ، والاشتقاق لابن دريد ص ٦٧ ، ١٨ ، ٣١٦ ، والطبري ٣٠ / ٢٣ ، ٢٤ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦١ ، واللسان (نخر) ، والبحر ٨ / ٤١٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٢ ، والقرطبي ١٩ / ١٣٠.

١٣٢

صفة ، أي : ذات خسران ، أو أسند إليها الخسار مجازا والمراد أصحابها ، والمعنى : إن كان رجوعنا إلى القيامة حقا ، فتلك الرجعة رجعة خاسرة [خائبة](١) ، وهذا أفادته «إذن» فإنها حرف جواب وجزاء عند الجمهور.

وقيل : قد لا تكون جوابا.

وعن الحسن : أن «خاسرة» بمعنى كاذبة ، أي : ليست كائنة (٢).

وقال الربيع بن أنس : خاسرة على من كذّب بها (٣).

وقيل : كرّة خسران ، والمعنى : أهلها خاسرون ، كقولك : تجارة رابحة ، أي : يربح صاحبها.

وقال قتادة ومحمد بن كعب أي : لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنحشرن بالنّار ، وإنّما قالوا هذا لأنّهم أوعدوا بالنار (٤) ، و «الكرّ» : «الرجوع» ، يقال : كرّه ، وكرّ بنفسه ، يتعدى ولا يتعدّى.

والكرّة : المرّة ، الجمع : الكرّات.

قوله : (فَإِنَّما هِيَ) ضمير الكرة ، أي : لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله تعالى.

قال الزمخشري (٥) : «فإن قلت : بم يتعلق قوله : «فإنما هي»؟.

قلت : بمحذوف ، معناه : لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة» ، يعني بالتعلّق من حيث المعنى ، وهو العطف.

وقوله : «فإذا هم» المفاجأة والسبب هنا واضحان.

والزجرة : قال ابن عباس رضي الله عنهما : في النّفخة الواحدة «فإذا هم» أي : الخلائق أجمعون ، «بالساهرة» أي : على وجه الأرض من الفلاة ، وصفت بما يقع فيها ، وهو السهر لأجل الخوف (٦).

وقيل : لأن السراب يجري فيها من قولهم : «عين ساهرة» أي جارية الماء ، وفي ضدها نائمة.

[قال الزمخشري (٧) : «والساهرة : الأرض البيضاء المستوية ، سميت بذلك ؛ لأن

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٢٩).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٩٦) ، وينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر الكشاف ٤ / ٦٩٤.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٦ / ١٢٩) ، عن ابن عباس.

(٧) ينظر الكشاف ٤ / ٦٩٤.

١٣٣

السراب يجري فيها](١) من قولهم : عين ساهرة ، أي : جارية الماء ، وفي ضدّها نائمة ؛ قال الأشعث بن قيس : [الطويل]

٥٠٩٣ ـ وساهرة يضحي السّراب مجلّلا

لأقطارها قد جبتها متلثّما (٢)

أي : ساكنها لا ينام خوف الهلكة» انتهى ؛ وقال أميّة : [الوافر]

٥٠٩٤ ـ وفيها لحم ساهرة وبحر

وما فاهوا به لهم مقيم (٣)

يريد : لحم حيوان أرض ساهرة ؛ وقال أبو كبير الهذليّ : [الكامل]

٥٠٩٥ ـ يرتدن ساهرة كأنّ جميمها

وعميمها أسداف ليل مظلم (٤)

وقال الراغب : هي وجه الأرض.

وقيل : أرض القيامة ، وحقيقتها التي يكثر الوطء بها ، كأنّها سهرت من ذلك.

والأسهران : عرقان في الأنف.

والساهور : غلاف القمر الذي يدخل فيه عند كسوفه ؛ قال : [البسيط]

٥٠٩٦ ـ ...........

أو شقّة خرجت من بطن ساهور (٥)

أي : هذه المرأة بمنزلة قطعة القمر. وقال أمية بن أبي الصلت : [الكامل]

٥٠٩٧ ـ قمر وساهور يسلّ ويغمد (٦)

وروى الضحاك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : «السّاهرة : أرض من فضّة لم يعص الله عليها منذ خلقها» (٧).

وقيل : أرض يجددها الله يوم القيامة.

وقيل : السّاهرة : اسم الأرض السابعة يأتي الله تعالى بها ، فيحاسب عليها الخلائق ، وذلك حين تبدّل الأرض غير الأرض.

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) ينظر الكشاف ٤ / ٦٩٥ ، والسراج المنير ٤ / ٤٧٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٣.

(٣) ينظر معاني القرآن للفراء ٣ / ٢٣٢ ، والقرطبي ١٩ / ١٣٠ ، واللسان (سهر) ، والبحر ٨ / ٤١٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٣.

(٤) ينظر ديوان الهذليين ٢ / ١١١ ، والقرطبي ١٩ / ١٣٠ ، واللسان (سدف) ، و(سهر) ، والبحر ٨ / ٤١٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٣.

(٥) ينظر اللسان (سهر) ، والقرطبي ١٩ / ١٣٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٣.

(٦) عجز بيت وصدره :

لا نقص فيه غير أن خبيئه

ينظر ابن يعيش ٣ / ٢٥ ، والخصائص ٢ / ٤٥٣ ، والخزانة ٢ / ٢٣٢ ، واللسان (سهر) ، والصحاح (سهر).

(٧) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٢٩) ، عن ابن عباس.

١٣٤

وقال الثّوري : السّاهرة : أرض «الشّام».

وقال وهب بن منبه : جبل بيت المقدس.

وقال عثمان بن أبي العاتكة : إنّه اسم مكان من الأرض بعينه ، ب «الشام» ، وهو الصقع الذي بين جبل «أريحا» ، وجبل «حسّان» يمدّه الله كيف يشاء.

وقال قتادة : هي جهنّم (١) ، أي : فإذا هؤلاء الكفّار في جهنّم ، وإنّما قيل لها : ساهرة ؛ لأنّهم لا ينامون عليها حينئذ.

وقيل : السّاهرة بمعنى : الصحراء على شفير جهنّم ، أي : يوقفون بأرض القيامة ، فيدوم السهر حينئذ.

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى)(٢٦)

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) أي : قد جاءك وبلغك ، وهذه تسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : أنّ فرعون كان أقوى من كفار عصرك ، ثمّ أخذناه ، وكذلك هؤلاء.

وقيل : «هل» بمعنى : «ما» أي : ما أتاك ، ولكنّي أخبرك به ، فإنّ فيه عبرة لمن يخشى.

وقال ابن الخطيب (٢) : قوله : «هل أتاك» يحتمل أن يكون معناه : أليس قد أتاك حديث موسى ، هذا إن كان قد أتاه ذلك قبل هذا الكلام ، أمّا إن لم يكن قد أتاه ، فقد يجوز أن يقال : «هل أتاك» أي : أنا أخبرك وتقدم الكلام على موسى وفرعون فإنّ فيه عبرة لمن يخشى.

قوله : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) منصوب ب «حديث» لا ب «أتاك» ؛ لاختلاف وقتيهما ، وتقدم الخلاف بين القراء في «طوى» في سورة «طه : ١٢».

و «الوادي المقدس» : المبارك المطهّر.

قال الفراء : «طوى» واد بين «المدينة» و «مصر» ، قال : وهو معدول ، من «طاو» ، كما عدل «عمر» من «عامر».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٣١) ، عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥١٢) ، وعزاه إلى ابن المنذر.

وينظر تفسير الماوردي (٦ / ١٩٧) ، والبغوي (٤ / ٤٤٤) ، والقرطبي (١٩ / ١٣٠).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٣٦.

١٣٥

قال الفراء : من صرفه قال : هو ذكر ، ومن لم يصرفه جعله معدولا ك «عمر ، وزفر».

قال : «والصّرف أحبّ إليّ إذا لم أجد في المعدول نظيرا» أي : لم أجد له اسما من الواو والياء عدل من «فاعل» إلى «فعل» غير طوى.

وقيل : «طوى» معناه : يا رجل ، بالعبرانيّة ، فكأنّه قيل : اذهب يا رجل إلى فرعون ، [قاله ابن عباس.

وقيل : الطوى أي : ناداه بعد طويّ من الليل اذهب إلى فرعون](١) ؛ لأنك تقول : جئتك بعد طويّ ، أي بعد ساعة من الليل.

وقيل : معناه (بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي بورك فيه مرّتين.

قوله : (اذْهَبْ) يجوز أن يكون تفسيرا للنداء ، أي : ناداه اذهب ، ويجوز أن يكون على إضمار القول.

وقيل : هو على حذف ، أي : أن اذهب ، ويدل له قراءة (٢) عبد الله : أن اذهب.

و «أن» هذه الظّاهرة أو المقدرة ، يحتمل أن تكون تفسيرية ، وأن تكون مصدرية ، أي : ناداه ربّه بكذا.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي تجاوز القدر في العصيان.

قال ابن الخطيب (٣) : ولم يبيّن أنّه طغى في أيّ شيء.

فقيل : تكبّر على الله تعالى ، وكفر به.

وقيل : تكبّر على الخلق واستعبدهم.

روي عن الحسن قال : كان فرعون علجا من «همدان» (٤).

وقال مجاهد : كان من أهل «إصطخر» (٥) وعن الحسن ـ أيضا ـ كان من أهل «أصبهان» ، يقال له : ذو ظفر ، طوله أربعة أشبار (٦).

قوله : (هَلْ لَكَ) خبر مبتدأ مضمر.

و (إِلى أَنْ تَزَكَّى) متعلّق بذلك المبتدأ ، وهو حذف سائغ ، والتقدير : هل لك سبيل إلى التزكية ، ومثله : هل لك في الخير ، تريد : هل لك رغبة في الخير ؛ قال : [الطويل]

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٩٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٤.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٣٧.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٣١).

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر المصدر السابق.

١٣٦

٥٠٩٨ ـ فهل لكم فيها إليّ فإنّني

بصير بما أعيا النّطاسيّ حذيما (١)

وقال أبو البقاء (٢) : لمّا كان المعنى : أدعوك ، جاء ب «إلى».

وقال غيره : يقال : هل لك في كذا ، هل لك إلى كذا كما تقول : هل ترغب فيه وهل ترغب إليه؟.

قال الواحدي : المبتدأ محذوف في اللفظ ، مراد في المعنى ، والتقدير : هل لك إلى أن تزكّى حاجة.

وقرأ نافع وابن كثير (٣) : بتشديد الزاي من «تزّكّى» والأصل تتزكى ، وكذلك «تصدّى» في السورة تحتها ، فالحرميان : أدغما ، والباقون : حذفوا ، نحو تنزل ، وتقدّم الخلاف في أيتهما المحذوفة.

فصل في تفسير الآية

معنى (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي : تسلم فتطهر من الذّنوب.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هل لك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله.

و (أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) أي : تخافه وتتقيه (٤).

قال ابن الخطيب (٥) : سائر الآيات تدل على أنه ـ تعالى ـ لمّا نادى موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكر له أشياء كثيرة ، كقوله تعالى في سورة «طه» : (نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) إلى قوله : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٣ ، ٢٤].

فدلّ [قوله تعالى ـ هاهنا ـ : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى)](٦) أنه من جملة ما ناداه به [لا كل ما ناداه به](٧) ، وأيضا فليس الغرض أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى فرعون فقط بل إلى كل من كان في الطور ، إلّا أنّه خصّه بالذّكر ، لأنّ دعوته جارية مجرى دعوة كلّ القوم.

فصل في كلام المعتزلة

تمسّك المعتزلة (٨) بهذه الآية في إبطال القول بأن الله ـ تعالى ـ يخلق فعل العبد ،

__________________

(١) البيت لأوس بن حجر ينظر ديوانه ص ١١١ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣٧٠ ، ٣٧٢ ، ٣٧٣ ، ٣٧٦ ، وشرح شواهد الشافية ص ١١٦ ، ١١٧ ، واللسان (نطس) ، و(خدم) ، وجمهرة اللغة ص ٨٣٨ ، ١٣٢٧ ، والخصائص ٢ / ٤٥٣ ، وشرح المفصل ٣ / ٢٥ ، وضرائر الشعر ص ١٦٧.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٨٠.

(٣) ينظر : السبعة ٦٧١ ، والحجة ٦ / ٣٧٤ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٣٦ ، وحجة القراءات ٧٤٩.

(٤) ينظر المصدر السابق ، وقد روي معناه عن عكرمة ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥١٣) ، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٣٦.

(٦) سقط من : أ.

(٧) سقط من : أ.

(٨) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٣٧.

١٣٧

فإن هذا استفهام على سبيل التقرير ، أي : لك سبيل إلى أن تزكّى ، ولو كان ذلك بفعل الله ـ تعالى ـ لانقلب الكلام حجة على موسى.

والجواب : ما تقدّم في نظائره.

حكى القرطبيّ (١) عن صخر بن جويرية قال : «لمّا بعث الله تعالى موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى فرعون ، قال له : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) إلى قوله : (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) ، ولن يفعل ، فقال : يا رب ، وكيف أذهب إليه ، وقد علمت أنه لا يفعل ، فأوحى الله ـ تعالى ـ إليه أن امض إلى ما أمرت به ، فإنّ في السماء اثني عشر ألف ملك ، يطلبون علم القدر ، فلم يبلغوه ، ولم يدركوه».

قوله تعالى : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) «الفاء» في «فأراه» : معطوف على محذوف ، يعني فذهب فأراه ، كقوله تعالى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] أي : فضرب فانفجرت.

واختلفوا في الآية الكبرى ، أي : العلامة العظمى ، وهي المعجزة.

فقيل : هي العصا.

وقيل : اليد البيضاء تبرق كالشّمس ، قاله مقاتل والكلبي (٢).

والأول : قول عطاء وابن عباس ؛ لأنّه ليس في اليد إلا انقلاب لونها ، وهذا كان حاصلا في العصا ؛ لأنّها لمّا انقلبت حيّة ، فلا بد وأن يتغيّر اللون الأول ، فإذن كل ما في اليد ، فهو حاصل في العصا ، وأمور أخر ، وهي الحياة في الجرم الجمادي ، وتزايد الأجر إليه ، وحصول القدرة الكبيرة والقوّة الشديدة ، وابتلاعها أشياء كثيرة ، وزوال الحياة ، والقدرة عليها ، وبقاء تلك الأجزاء التي عظمت ، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حيّة ، وكلّ واحد من هذه الوجوه كان معجزا مستقلا في نفسه ، فعلمنا أن الآية الكبرى هي العصا.

وقال مجاهد : هي مجموع العصا واليد.

وقيل : فلق البحر ، وقيل : جميع آياته ومعجزاته.

(فَكَذَّبَ) أي : كذّب بنبيّ الله موسى و «عصى» ربّه تبارك وتعالى.

فإن قيل : كل من كذّب الله فقد عصى ، فما فائدة قوله : «فكذب وعصى»؟.

فالجواب : كذّب بالقول ، وعصى بالتمرّد والتجبر.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٣١.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣١ / ٣٨) ، عن مقاتل والكلبي.

١٣٨

(ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) أي : يعمل بالفساد في الأرض.

وقيل : يعمل في نكاية موسى.

وقيل : «أدبر يسعى» هاربا من الحيّة.

قال ابن الخطيب (١) : معنى «أدبر يسعى» أي : أقبل يسعى ، كما يقال : أقبل يفعل كذا ، يعني : إن شاء يفعل ، فموضع «أدبر» موضع «أقبل» لئلّا يوصف بالإقبال.

قوله : (فَحَشَرَ فَنادى) لم يذكر مفعولاهما ، إذ المراد : فعل ذلك ، أو يكون التقدير : فحشر قومه فناداهم.

وقوله «فقال» تفسير للنّداء.

وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : فنادى فحشر ؛ لأنّ النداء قبل الحشر ، ومعنى «حشر» ، أي : جمع السّحرة ، وجمع أصحابه ليمنعوه من الحيّة.

وقيل : جمع جنوده للقتال ، والمحاسبة ، و «السّحرة» : المعارضة.

وقيل : حشر النّاس للحضور «فنادى» ، أي : قال لهم بصوت عال.

(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي : لا ربّ فوقي.

وقيل : أمر مناديا ينادي فنادى في النّاس بذلك.

وقيل : قام فيهم خطيبا فقال ذلك.

وعن ابن عباس ، ومجاهد ، والسديّ ، وسعيد بن جبير ، ومقاتل : كلمته الأولى (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] والأخرى : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)(٢).

قال ابن عباس : كان بين الكلمتين أربعون سنة (٣) ، والمعنى : أمهله في الأولى ، ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه.

قال ابن الخطيب (٤) : واعلم أنّا بينّا في سورة «طه» أنه لا يجوز أن يعتقد الإنسان في نفسه كونه خالقا للسماوات والأرض والجبال والنبات والحيوان ، فإنّ العلم بفساد ذلك ضروريّ ، فمن تشكك فيه كان مجنونا ، ولو كان مجنونا لما جاز من الله بعثة الرسل

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٦ / ٣٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٣٤) ، عن ابن عباس ومجاهد والشعبي والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥١٣) ، عن الشعبي وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٣٤) ، عن مجاهد وخيثمة الجعفي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥١٣) ، عن خيثمة وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر.

وذكره أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٣٩.

١٣٩

إليه ، بل الرّجل كان دهريا منكرا للصّانع والحشر والنشر ، وكان يقول : ليس لأحد أمر ولا نهي إلّا لي «فأنا ربّكم» ، بمعنى مربيكم والمحسن إليكم ، وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمر ، أو نهي ، أو يبعث إليكم رسولا.

قال القاضي : وقد كان الأليق به بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية ألا يقول هذا القول ؛ لأن عند ظهور الدلالة والمعجزة ، كيف يليق أن يقول : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) فدلت هذه الآية أنّه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول.

قوله تعالى : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) يجوز أن يكون مصدر الأخذ ، والتجوز إما في الفعل ، أي : نكل بالأخذ نكال الآخرة ، وإما في المصدر ، أي : أخذه أخذ نكال ، ويجوز أن يكون مفعولا له ، أي : لأجل نكاله ، ويضعف جعله حالا لتعريفه ، وتأويله كتأويل جهدك وطاقتك ، غير مقيس.

ويجوز أن يكون مصدرا مؤكّدا لمضمون الجملة المتقدّمة ، أي : نكل الله [به] نكال الآخرة. قاله الزمخشريّ (١) ، وجعله كوعد الله ، وصبغة الله.

وقال القرطبيّ (٢) : وقيل : نصب بنزع حرف الصّفة ، أي : فأخذه الله بنكال الآخرة ، فلمّا نزع الخافض نصب.

والنكال : اسم لما جعل نكالا للغير ، أي : عقوبة له حتى يعتبر ، يقال : نكل فلان بفلان ، إذا ألحقه عقوبة ، والكلمة من الامتناع ، ومنه النّكول عن اليمين ، والنكل : القيد وقد مضى في سورة «المزمل» ، والنكال : بمنزلة التنكيل ، كالسلام بمعنى التسليم.

والآخرة والأولى : إمّا الدّاران وإمّا الكلمتان ، والآخرة قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ، والأولى : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] ، كما تقدم ، فحذف الموصول للعلم به.

فصل في تفسير الآخرة والأولى

قيل : الآخرة والأولى : هما الكلمتان كما تقدّم.

وقال الحسن وقتادة : «نكال الآخرة والأولى» : هو أن أغرقه في الدّنيا وعذّبه في الآخرة(٣).

وروي عن قتادة ـ أيضا ـ : الآخرة قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ، والأولى تكذيبه بموسى عليه الصلاة والسلام (٤).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٩٦.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٣٢.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٣٥) ، عن قتادة وذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٩٨).

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٣٢) عن قتادة.

١٤٠