اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

«فتأتون» أي : إلى موضع العرض.

«أفواجا» أي : أمما كل أمّة مع إمامهم.

روى معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قلت : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معاذ ، لقد سألتني عن أمر عظيم» ، ثم أرسل عينيه باكيا ـ ثم قال عليه الصلاة والسلام : «يحشر عشرة أصناف من أمّتي أشتاتا قد ميّزهم الله ـ تعالى ـ من جماعات المسلمين وبدّل صورهم ، فمنهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكّسين أرجلهم أعلاهم ووجوهم يسحبون عليها ، وبعضهم عميا ، وبعضهم صمّا ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلّاة على صدورهم ، يسيل القيح من أفواههم ، يتقذّرهم الجمع ، وبعضهم مقطّعة أيديهم وأرجلهم مصلّبين على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسين جلابيب لاصقة بجلودهم ، فأمّا الذين على صورة القردة : فالقتّات من النّاس ـ يعني : النّمّام ـ وأمّا الّذين على صورة الخنازير فأهل السّحت والحرام والمكس ، وأمّا المنكسون رءوسهم ووجوهم فأكلة الرّبا ، وأمّا العمي : فالّذين يجورون في الحكم ، وأمّا الصمّ البكم : فالمعجبون بأعمالهم ، وأمّا الّذين يمضغون ألسنتهم ، فالعلماء الّذين يخالف قولهم فعلهم ، وأمّا الّذين قطعت أيديهم وأرجلهم فالّذين يؤذون الجيران ، وأمّا المصلّبون في جذوع النّار ، فالسّعاة بالنّاس إلى السّلطان ، وأمّا الّذين أشدّ نتنا من الجيف ، فالّذين يتّبعون الشّهوات واللّذّات ، ويمنعون حقّ الله في أموالهم ، وأمّا الّذين يلبسون الجلابيب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» (١).

قوله تعالى : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً).

قرأ أبو عامر وحمزة والكسائي : «فتحت» خفيفة ، والباقون (٢) بالتثقيل.

والمعنى : كسرت أبوابها المفتّحة لنزول الملائكة كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥].

وقيل : تقطّعت ، فكانت قطعا كالأبواب ، فانتصاب الأبواب على هذا بحذف الكاف.

وقيل : التقدير : كانت ذات أبواب ؛ لأنها تصير كلها أبوابا.

وقيل : أبوابها : طرقها.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠١) ، وعزاه إلى ابن مردويه عن البراء بن عازب أن معاذ بن جبل الخ.

(٢) ينظر : السبعة ٦٦٨ ، والحجة ٦ / ٣٦٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٣١ ، وحجة القراءات ٧٤٥.

١٠١

وقيل : إنّ لكل عبد بابا في السماء لعمله ، وبابا لرزقه ، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب.

قال القاضي : هذا الفتح هو معنى قوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١١] ، (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] إذ الفتح والتشقق تتقارب.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا ليس بقوي ؛ لأن المفهوم من فتح الباب غير المفهوم من التشقّق والتفطّر ، فربما تفتح تلك الأبواب مع أنه لا يحصل في جرم السماء تشقق ولا تفطر ، بل الدلائل الصحيحة دلت على أن حصول فتح هذه الأبواب بحصول التفطّر والتشقّق بالكلّية.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) يفيد أنّ السّماء بكليتها تصير أبوابا بفعل ذلك.

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنّ تلك الأبواب لمّا كثرت جدّا صارت كأنّها ليست إلا أبوابا ؛ كقوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] أي : صارت كلها عيونا تتفجّر.

وثانيها : قال الواحديّ : هذا من باب حذف المضاف ، أي : فكانت ذات أبواب.

وثالثها : أنّ الضمير في قوله تعالى : (فَكانَتْ أَبْواباً) يعود إلى السماء ، والتقدير : فكانت تلك المواضع المفتوحة أبوابا لنزول الملائكة.

قوله تعالى : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً).

أي : لا شيء كما أن السراب كذلك يظنه الرائي ماء وليس بماء.

وقيل : نسفت من أصولها.

وقيل : أزيلت عن مواضعها.

قال ابن الخطيب (٢) : إن الله ـ تعالى ـ ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة ، ويمكن الجمع بينها بوجوه ، بأن نقول :

أول أحوالها : الاندكاك ، وهو قوله تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة : ١٤].

والحالة الثانية : أن تصير كالعهن المنفوش ، وهو قوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥].

والحالة الثالثة : أن تصير كالهباء ، وهو قوله تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١١.

(٢) السابق.

١٠٢

والحالة الرابعة : أن تنسف ؛ لأنها مع الأحوال المتقدمة تارة في مواضعها في الأرض ، فترسل الرياح ، فتنسفها عن وجه الأرض ، فتطيّرها في الهواء كأنها مارة ، فمن نظر إليها يحسبها لتكاثفها أجسادا جامدة ، وهي في الحقيقة مارة ، إلا أن مرورها (١) بسبب مرور الرياح بها مندكّة منتسفة.

والحالة الخامسة : أن تصير سرابا ، أي : لأي شيء كما رؤي السراب من بعد.

قوله تعالى : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً)(٣٠)

قوله تعالى : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) «مفعالا» من الرصد ، والرصد : كل شيء كان أمامك.

قرأ ابن يعمر وابن عمر والمنقري (٢) : «أنّ جهنّم بفتح «أن».

قال الزمخشريّ : على تعليل قيام الساعة ، بأن جهنم كانت مرصادا للطّاغين ، كأنّه قيل : كان ذلك لإقامة الجزاء ، يعني : أنه علّة لقوله تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) إلى آخره.

قال القفال (٣) : في المرصاد قولان :

أحدهما : أنّ المرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه ، كالمضمار اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل ، والمنهاج : اسم للمكان الذي ينهج فيه ، أي : جهنم معدّة لهم فالمرصاد بمعنى المحل ، وعلى هذا فيه احتمالان :

الأول : أنّ خزنة جهنم يرصدون الكفّار.

والثاني : أن مجاز المؤمنين ، وممرهم على جهنم ، لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] ، فخزنة الجنة يسقبلون المؤمنين عند جهنم ، ويرصدونهم عندها.

القول الثاني : أنّ «المرصاد» «مفعال» من الرصد ، وهو «الترقب» بمعنى أنّ ذلك يكثر منه ، و «المفعال» من أبنية المبالغة ك «المعطاء ، والمعمار ، والمطعان».

قيل : إنّها ترصد أعداء الله ، وتشتد عليهم لقوله تعالى : تكاد تميّز من الغيظ.

__________________

(١) في أ : مورها.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٨٨ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٢٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٥.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٢.

١٠٣

وقيل : ترصد كلّ منافق وكافر.

فصل

دلت الآية على أنّ جهنم كانت مخلوقة لقوله تعالى أن جهنم كانت مرصادا وإذا كان كذلك كانت الجنة لعدم الفارق.

قوله : (لِلطَّاغِينَ) يجوز أن يكون صفة ل «مرصادا» ، وأن يكون حالا من «مآبا» كان صفته فلما تقدّم نصب على الحال ، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون متعلقا بنفس «مرصادا» ، أو بنفس «مآبا» ؛ لأنه بمعنى مرجع.

قال ابن الخطيب (١) : إن قيل بأن : «مرصادا» للكافرين فقط ، كان قوله : «للطّاغين» من تمام ما قبله ، والتقدير : كانت مرصادا للطّاغين ، ثم قوله : «مآبا» يدل قوله : «مرصادا» ، وإن قيل : إنّ مرصادا مطلقا للكفّار والمؤمنين كان قوله تعالى : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) كلاما تاما وقوله تعالى : (لِلطَّاغِينَ مَآباً) كلاما مبتدأ ، كأنه قيل : إنّ جهنّم كانت مرصادا للكل ، و «مآبا» للطّاغين خاصّة ، فمن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله : «مرصاد» ومن ذهب إلى القول الثاني وقف عليه.

قال القرطبيّ (٢) : (لِلطَّاغِينَ مَآباً) بدل من قوله : «مرصادا» ، والمآب : المرجع ، أي: مرجعا يرجعون إليه ، يقال : آب يئوب أوبة : إذا رجع.

وقال قتادة : مأوى ومنزلا (٣) ، والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر ودنياه بالظلم.

قوله : (لابِثِينَ). منصوب على الحال من الضمير المستتر في «للطاغين» ، وفي حال مقدرة.

وقرأ حمزة (٤) : «لبثين» دون ألف.

والباقون : «لابثين» بألف.

وضعف مكي قراءة حمزة ، قال : ومن قرأ : «لبثين» شبهه بما هو خلقة في الإنسان نحو حذر وفرق ، وهو بعيد ؛ لأن اللبث ليس مما يكون خلقة في الإنسان وباب فعل إنما يكون لما هو خلقة في الإنسان. وليس اللبس بخلقة.

ورجّح الزمخشري قراءة حمزة ، فقال : «قرأ : لابثين «ولبثين» واللبث أقوى ؛ لأن

__________________

(١) ينظر : السابق ٣١ / ١٣.

(٢) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١١٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٠٣) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠١) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) ينظر : السبعة ٦٦٩ ، والحجة ٦ / ٣٦٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٣١ ، وحجة القراءات ٧٤٥.

١٠٤

اللّابث يقال لمن وجد منه اللبث ، ولا يقال : لبث إلا لمن شأنه اللبث ، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفكّ منه».

وما قاله الزمخشري أصوب.

وأمّا قول مكيّ : اللبث ليس بخلقة ، فمسلم ، لكنه بولغ في ذلك ، فجعل بمنزلة الأشياء المختلقة.

و «لابثين» اسم فاعل من «لبث» ، ويقويه أنّ المصدر منه «اللّبث» ـ بالإسكان ـ ك «الشرب». قوله : «أحقابا» منصوب على الظرف ، وناصبه «لابثين» ، هذا هو المشهور ، وقيل : منصوب بقوله : «لا يذوقون» ، وهذا عند من يرى تقدم معمول ما بعد «لا» عليها وهو أحد الأوجه ، وقد مر هذا مستوفى في أواخر الفاتحة وجوّز الزمخشري أن ينتصب على الحال. قال : «وفيه وجه آخر : وهو أن يكون من : حقب عامنا إذا قلّ مطره وخيره ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق ، فهو حقب وجمعه : «أحقاب» ، فينتصب حالا عنهم ، بمعنى : لابثين فيها حقبين جحدين». وتقدم الكلام على الحقب في سورة «الكهف» (١).

قال القرطبي (٢) : و «الحقبة» ـ بالكسر ـ : السّنة ، والجمع حقب ؛ قال متمم بن نويرة : [الطويل]

٥٠٧٥ ـ وكنّا كندماني جذيمة حقبة

من الدّهر حتّى قيل : لن يتصدّعا (٣)

والحقب ـ بالضم والسكون ـ : ثمانون سنة.

وقيل : أكثر من ذلك وأقل ، والجمع : «أحقاب».

قال الفراء : أصل الحقبة من الترادف والتتابع ، يقال : «أحقب» : إذا أردف ، ومنه الحقبة ، ومنه كل من حمل وزرا فقد احتقب ، فعلى هذا معناه : لابثين فيها أحقابا ، أي : دهورا مترادفة يتبع بعضهم بعضا.

فصل في تحرير معنى الآية

المعنى : ماكثين في النّار ما دامت الأحقاب ، وهي لا تنقطع ، فكلّما مضى حقب جاء حقب ، و «الحقب» ـ بضمتين ـ : الدّهر ، والأحقاب : الدهور ، والمعنى : لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها ، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليها ، إذ في الكلام ذكر الآخرة ، كما يقال : أيّام الآخرة ، أي : أيام بعد أيام إلى غير نهاية ، أي : لابثين فيها أزمانا ودهورا ، كلّما مضى زمن يعقبه زمن ، ودهر يعقبه دهر ، هكذا أبدا من غير انقطاع ، فكأنه

__________________

(١) الآية : ٦٠.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١١٦.

(٣) ينظر شعر متمم بن نويرة ص ١١١ ، والمفضليات ص ٥٣٥ ، والقرطبي ١٩ / ١١٦ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦٤١.

١٠٥

قال : أبدا ، وإنّما كان يدل على التوقيت لو قال : خمسة أحقاب ، أو عشرة ونحوه ، وذكر الأحقاب ؛ لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم ، فذكر ما يفهمونه ، وهو كناية عن التأبيد ، أي: يمكثون فيها أبدا.

وقيل : ذكر الأحقاب دون الأيام ؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب ، وأدل على الخلود ، وهذا الخلود في حق المشركين ، ويمكن حمله على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب.

وقيل : الأحقاب وقت شربهم الحميم والغسّاق ، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب ، ولهذا قال تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أي في الأرض لتقدم ذكرها ويكون (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) جهنم.

قوله : (لا يَذُوقُونَ). فيه أوجه :

أحدها : أنه مستأنف ، أخبر عنهم بذلك.

الثاني : أنه حال من الضمير في «لابثين» غير ذائقين ، فهي حال متداخلة.

الثالث : أنه صفة ل «أحقاب».

قال مكي : واحتمل الضمير ؛ لأنه فعل فلم يجب إظهاره كأن قد جرى صفة على غير من هو له ، وإنّما جاز أن يكون نعتا ل «أحقاب» لأجل الضمير العائد على «الأحقاب» في «فيها» ، ولو كان في موضع «يذوقون» اسم فاعل لكان لا بدّ من إظهار الضمير إذا جعلته وصفا ل «أحقاب».

الرابع : أنه تفسير لقوله تعالى : (أَحْقاباً) إذا جعلته منصوبا على الحال بالتأويل المتقدم عن الزمخشري ، فإنه قال : «وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً). تفسير له».

الخامس : أنه حال أخرى من «للطاغين» ك «لابثين».

فصل في معنى هذا البرد

قال أبو عبيدة : البرد : النوم ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٥٠٧٦ ـ فلو شئت حرّمت النّساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نعاجا ولا بردا (١)

وهو قول مجاهد والسديّ والكسائيّ والفضل بن خالد وأبي معاذ النحويّ.

والعرب تقول : منع البرد البرد ، يعني : أذهب النوم.

وقال ابن عباس رضي الله عنه : البرد برد الشراب.

__________________

(١) تقدم.

١٠٦

وعنه ـ أيضا ـ البرد : النّوم ، والشراب : الماء (١).

قال الزجاج : لا يذوقون فيها برد ريح ، ولا برد نوم ، ولا برد ظلّ. فجعل البرد كل شيء له رائحة.

وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بردا : أي روحا ورائحة (٢).

قوله : (إِلَّا حَمِيماً). يجوز أن يكون استثناء متّصلا من قوله : «شرابا» ، ويجوز أن يكون منقطعا.

قال الزمخشري : «يعني لا يذوقون فيها بردا ، ولا روحا ينفس عنهم حر النّار «ولا شرابا» يسكن من عطشهم ، ولكن يذوقون فيها حميما وغسّاقا».

قال شهاب الدين (٣) : «ومكي لمّا جعله منقطعا جعل البرد عبارة عن النوم ، قال : فإن جعلته النوم كان «إلا حميما» استثناء ليس من الأول».

وإنّما الذي حمل الزمخشري على الانقطاع مع صدق الشراب على الحميم والغسّاق ، وصفه له بقوله : «ولا شرابا يسكن من عطشهم» فبهذا القيد صار الحميم ليس من جنس هذا الشراب ؛ وإطلاق البرد على النوم لغة هذيل ، وأنشد البيت المتقدم.

وقول العرب : منع البرد البرد ، قيل : وسمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش ، والذوق على هذين القولين مجاز ، أعني : كونه روحا ينفس عنهم الحر ، وكونه النوم مجاز ، وأمّا على قول من جعله اسما للشراب البارد المستلذّ كما تقدّم عن ابن عباس رضي الله عنهما وأنشد قول حسان رضي الله عنه : [الكامل]

٥٠٧٧ ـ يسقون من ورد البريص عليهم

بردى تصفّق بالرّحيق السّلسل (٤)

قال ابن الأثير : البريص : الماء القليل ، والبرص : الشيء القليل ؛ وقال الآخر : [الطويل]

٥٠٧٨ ـ أمانيّ من سعدى حسان كأنّما

سقتك بها سعدى على ظمإ بردا (٥)

والذوق حقيقة ، إلا أنه يصير فيه تكرار بقوله بعد ذلك «ولا شرابا».

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١١٨).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر الدر المصون ٦ / ٤٦٥.

(٤) ينظر ديوانه ص ١٢٢ ، وجمهرة اللغة ص ٣١٢ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣٨١ ، ٣٨٢ ، ٣٨٤ ، ١١ / ١٨٨ ، والدرر ٥ / ٣٨) ، وشرح المفصل ٣ / ٢٥ ، ولسان العرب (برد) ، و(برص) ، و(صفق) ، ومعجم ما استعجم ص ٢٤٠ ، وأمالي ابن الحاجب ١ / ٤٥١ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٢٤ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥١ ، والطبري ٣ / ٦٧ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦٩١ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٥.

(٥) ينظر اللسان (سعد) ، (برد) ، والبحر ٨ / ٤٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٥.

١٠٧

الثالث : أنّه بدل من قوله : «ولا شرابا» ، وهو الأحسن ؛ لأن الكلام غير موجب.

قال أبو عبيدة : الحميم : الماء الحارّ.

وقال ابن زيد : دموع أعينهم تجمع في حياض ، ثم يسقونه.

وقال النحاس : أصل الحميم الماء الحار ، ومنه اشتقّ الحمّام ، ومنه الحمّى ومنه ظل من يحموم ، إنّما يراد به النهاية في الحر ، والغسّاق : صديد أهل النار وقيحهم.

وقيل : الزّمهرير ، وتقدم خلاف القرّاء في «غسّاقا» والكلام عليه وعلى «حميم».

قال أبو معاذ : كنت أسمع مشايخنا يقولون : الغسّاق : فارسية معربة ، يقولون للشيء الذي يتقذرونه : خاشاك.

قوله : (جَزاءً) منصوب على المصدر ، وعامله إما قوله : «لا يذوقون» إلى آخره ؛ لأنه من قوة جوزوا بذلك ، وإمّا محذوف ، و «وفاقا» نعت له على المبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي : ذا مبالغة.

قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : معناه : موافقا لأعمالهم ، فالوفاق بمعنى : «الموافقة» كالقتال من المقاتلة.

قال الفراء والأخفش : أي : جازيناهم جزاء وافق أعمالهم.

وقال الفراء أيضا : هو جمع الوفق واللّفق واحد.

وقال مقاتل : وافق العذاب الذنب ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار (١).

وقال الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله بما يسوؤهم (٢).

وقرأ أبو حيوة (٣) وابن أبي عبلة : بتشديد الفاء من «وفقه كذا».

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً). أي : لا يخافون حسابا ، أي : محاسبة على أعمالهم ، وقيل : لا يرجون ثواب حساب.

وقال الزجاج : إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ، فيرجون حسابهم ، فهو إشارة إلى أنّهم لم يكونوا مؤمنين.

قوله تعالى : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) قرأ العامة : «كذّابا» بتشديد الذال ، وكسر الكاف.

وكان من حق مصدر «فعّل» أن يأتي على «التّفعيل» نحو صرّف تصريفا.

__________________

(١) ينظر القرطبي (١٩ / ١١٨).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٨٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٥.

١٠٨

قال الزمخشري : و «فعّال» في باب «فعّل» كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره ، وسمعني بعضهم أفسر آية ، فقال : لقد فسرتها فسّارا ما سمع بمثله.

قال غيره : وهي لغة بعض العرب يمانية ؛ وأنشد : [الطويل]

٥٠٧٩ ـ لقد طال ما ثبّطتني عن صحابتي

وعن حاجة قضّاؤها من شفائيا (١)

يريد : تقضيتها ، والأصل على «التفعيل» ، وإنّما هو مثل «زكّى تزكية».

وسمع بعضهم يستفتي في حجه ، فقال : آلحلق أحبّ إليك أم القصّار؟ يريد التقصير.

قال الفراء : «هي لغة يمانية فصيحة ، يقولون : كذبت كذّابا ، وخرّقت القميص خرّاقا ، وكل فعل وزن «فعّل» ، فمصدره «فعّال» في لغتهم مشددة».

وقرأ علي والأعمش وأبو رجاء (٢) وعيسى البصري : بالتخفيف.

وهو مصدر أيضا ، إمّا لهذا الفعل الظاهر على حذف الزوائد ، وإمّا لفعل مقدر ك «أنبتكم من الأرض نباتا».

قال الزمخشري : «وهو مثل قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] يعني وكذبوا بآياتنا ، فكذبوا كذابا ، أو تنصبه ب «كذبوا» ؛ لأنه يتضمن معنى «كذّبوا» ، لأن كل مكذب بالحق كاذب ، وإن جعلته بمعنى المكاذبة ، فمعناه : وكذبوا بآياتنا ، فكاذبوا مكاذبة ، أو كذبوا بها مكاذبين ؛ لأنّهم كانوا عند المسلمين مكاذبين ، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنّهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب ، فعل من يغالب فيبلغ فيه أقصى جهده».

وقال أبو الفضل : وذلك لغة «اليمن» ، وذلك بأن يجعل مصدر «كذب» مخففا «كذبا» بالتخفيف مثل «كتب كتابا» فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه ، مثل : «أعطيته عطاء».

قال شهاب الدّين (٣) : أمّا «كذب كذابا» بالتخفيف ، فهو مشهور ، ومنه قول الأعشى : [مجزوء الكامل]

٥٠٨٠ ـ فصدقتها وكذبتها

والمرء ينفعه كذابه (٤)

__________________

(١) ينظر معاني القرآن للفراء ٣ / ٢٢٩ ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٥ / ٢٧٤ ، والقرطبي ١٩ / ١١٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٢٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٦.

(٣) الدر المصون ٦ / ٤٦٦.

(٤) ينظر ابن يعيش ٦ / ٤٤ ، وشواهد الإيضاح ص ٦٠٦ ، واللسان (صدق) ، والكشاف ٤ / ٦٨٩ ، والقرطبي ١٩ / ١١٨ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٨٣ ، والكامل ٢ / ٢٣٠ ، والتاج (صدق) ، والطبري ٣٠ / ١٤ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦٤١ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٦.

١٠٩

وقرأ عمر (١) بن عبد العزيز والماجشون : «كذابا» بضم الكاف وتشديد الذال ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنه جمع كاذب ، نحو : ضراب «في» ضارب ، وعلى هذا ، فانتصابه على الحال المؤكدة ، أي : وكذبوا في حال كونهم كاذبين. قاله أبو البقاء.

والثاني : أنّ «الكذّاب» بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، يقال : رجل كذاب ، كقولك : حسان ، فيجعل وصفا لمصدر كذبوا : أي تكذيبا لهم كذابا مفرطا كذبه. قاله الزمخشري.

قال القرطبي (٢) : وفي «الصّحاح» : وقوله تعالى : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) وهو أحد مصار المشدد ؛ لأن مصدره قد يجيء على «تفعلة» مثل «توصية» ، وعلى «مفعّل» مثل : (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ : ١٩].

قوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ) العامة على النصب على الاشتغال ، وهو الراجح ، لتقدم جملة فعلية.

وقرأ أبو السمال (٣) : برفع «كل» على الابتداء ، وما بعده الخبر وهذه الجملة معترض بها بين السبب والمسبب ، لأنّ الأصل : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) ف «ذوقوا» مسبّب عن تكذيبهم.

قوله : «أحصيناه». فيه أوجه :

أحدها : أنه مصدر من معنى أحصينا ، أي إحصاء ، فالتجوّز في نفس المصدر.

الثاني : أنه مصدر ل «أحصينا» لأنّه في معنى : «كتبنا» فالتجوّز في نفس الفعل.

قال الزمخشري : «لانتفاء الإحصاء» ، والكتبة في معنى الضبط ، والتحصيل.

قال ابن الخطيب (٤) : وإنّما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة ؛ لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قيّدوا العلم بالكتابة» ، فكأنّه تعالى قال : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) إحصاء في القوة والثبات والتأكّد ، كالمكتوب ، والمراد من قوله : «كتابا» تأكيد ذلك الإحصاء والعلم ، وهذا التأكيد إنّما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر ، فإن المكتوب يقبل الزوال ، وعلم الله ـ تعالى ـ بالأشياء لا يقبل الزوال ؛ لأنّه واجب لذاته.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٢٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٦.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١١٩.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٩٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٦.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٨.

١١٠

الثالث : أن يكون منصوبا على الحال ، بمعنى مكتوبا في اللوح المحفوظ ، لقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [يس : ١٢].

وقيل : أراد ما كتبته الملائكة الموكلون بالعباد ، بأمر الله ـ تعالى ـ إياهم بالكتابة ، لقوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار : ١٠ ، ١١].

فصل في المراد بالإحصاء

معنى (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) أي : علمنا كلّ شيء علما كما هو لا يزول ، ولا يتبدل ونظيره قوله تعالى : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة : ٦].

قال ابن الخطيب (١) : وهذه الآية لا تقبل التأويل ، لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ ذكر هذا تقديرا لما ادعاه من قوله تعالى : (جَزاءً وِفاقاً) ، كأنه تعالى قال : أنا عالم بجميع ما فعلوه ، وعالم بجهات تلك الأفعال ، وأحوالها ؛ واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب ، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلّا قدر ما يكون وفاقا لأعمالهم ، وهذا القدر إنما يتمّ بثبوت كونه عالما بالجزئيّات ، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كافر قطعا.

قوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً).

قال ابن الخطيب (٢) : هذه «الفاء» للجزاء ، فنبّه على أنّ الأمر بالذوق معلّل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم ، فهذه «الفاء» أفادت عين فائدة قوله : «جزاء وفاقا».

فإن قيل : أليس أنه ـ تعالى ـ قال في صفة الكفار : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٧٤].

فها هنا لمّا قال تعالى لهم : «فذوقوا» ، فقد كلّمهم؟.

فالجواب : قال أكثر المفسرين : ويقال لهم : «فذوقوا».

ولقائل أن يقول : قوله : (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ) لا يليق إلا بالله ، والأقرب في الجواب أن يقال: قوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) [آل عمران : ٧٧] معناه : ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع ، فإن تخصيص العموم سائغ عند حصول القرينة ، فإن قوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) إنما ذكره لبيان أنّه ـ تعالى ـ لا يقيم لهم وزنا ، وذلك لا يحصل إلا من الكلام الطيب.

فإن قيل : إن كانت هذه الزيادة غير مستحقة كانت ظلما ، وإن كانت مستحقة كان تركها في أول الأمر إحسانا ، والكريم لا يليق به الرجوع في إحسانه.

والجواب : أنّها مستحقة ، ودوامها زيادة لفعله بحسب الدوام ، وأيضا : فترك المستحق في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط.

__________________

(١) الفخر الرازي ٣١ / ١٧.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ١٨.

١١١

فصل في الالتفات في هذه الآية

قال ابن الخطيب (١) : قوله تعالى : (فَذُوقُوا) يفيد معنى التعليل ، وهو التفات من الغيبة للخطاب ، فهو دالّ على الغضب ، وفيه مبالغات : منها أنّ «لن» للتأكيد ، ومنها الالتفات ، ومنها إعادة قوله : «فذوقوا» بعد ذكر العذاب ، قال أبو برزة رضي الله عنه : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشد آية في القرآن ، قال عليه الصلاة والسلام : قوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ : ٥٦] أي : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها)(٢) [النساء : ٥٦] ، و (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧].

قوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً)(٣٧)

قوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازا). تقدم تفسير المتقين ، و «المفاز» : يحتمل أن يكون مصدرا ، بمعنى : فوزا وظفرا بالنعمة ، ويحتمل أن يكون المراد فوزا بالنجاة من العذاب ، ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها : مفازة ، تفاؤلا بالخلاص منها ، وأن يكون مجموع الأمرين.

وقال الضحاك (٣) : منتزها.

قوله : (حَدائِقَ) يجوز أن يكون بدلا من «مفازا» بدل اشتمال ، أو بدل كلّ من كل مبالغة في أن جعل نفس هذه الأشياء مفازا.

ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار «أعني» ، وإذا كان مفازا بمعنى الفوز ، فيقدّر مضاف ، أي فوز حدائق ، وهي جمع حديقة ، وهي البستان المحوط عليه ، ويقال : أحدق به أي أحاط.

والأعناب : جمع عنب ، أي : كروم أعناب ، فحذف ، والتنكير في قوله تعالى : (وَأَعْناباً) يدل على تعظيم تلك الأعناب.

قوله تعالى : (وَكَواعِبَ أَتْراباً). الكواعب : جمع كاعب ، وهي من كعب ثديها وتفلك ، أي يكون الثدي في النتوء كالكعب والفلكة ، وهي النّاهد ، يقال : كعبت الجارية تكعب

__________________

(١) السابق.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٤) ، عن أبي برزة موقوفا وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٣٩) ، عن الضحاك.

١١٢

كعوبا ، وكعّبت تكعّب تكعيبا ، ونهدت تنهد نهودا ؛ قال : [الطويل]

٥٠٨١ ـ وكان مجنّي دون من كنت أتّقي

ثلاث شخوص : كاعبان ومعصر (١)

وقال قيس بن عاصم المسعريّ : [الطويل]

٥٠٨٢ ـ وكم من حصان قد حوينا كريمة

ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر (٢)

وقال الضحاك : الكواعب : العذارى (٣) ، والأتراب الأقران في السن ، وقد تقدم ذكرهن في «الواقعة».

قوله تعالى : (وَكَأْساً دِهاقاً).

الدّهاق : الملأى المترعة.

قيل : هو مأخوذ من دهقه ، أي : ضغطه ، وشده بيده ، كأنه ملأ اليد فانضغط ، قال : [الوافر]

٥٠٨٣ ـ لأنت إلى الفؤاد أحبّ قربا

من الصّادي إلى كأس الدّهاق (٤)

وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي عبيدة ، والزجاج ، والكسائي.

وقال عكرمة : وربّما سمعت ابن عبّاس يقول : اسقنا وادهق لنا ، ودعا ابن عباس غلاما له فقال له : اسقنا دهاقا ، فجاء الغلام بها ملأى ، فقال ابن عباس : هذا الدّهاق.

وقيل : الدّهاق : المتتابعة ؛ قال رحمه‌الله : [الوافر]

٥٠٨٤ ـ أتانا عامر يبغي قرانا

فأترعنا له كأسا دهاقا (٥)

وهذا قول أبي هريرة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد.

قال الواحدي : وأصل هذا القول من قول العرب : أدهقت الحجارة إدهاقا ، وهي شدة ترادفها ، ودخول بعضها في بعض. ذكره الليث.

والتّتابع كالتّداخل.

وعن عكرمة وزيد بن أسلم : أنّها الصّافية ، وهو جمع «دهق» ، وهو خشبتان يعصر بهما.

والمراد بالكأس : الخمر.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر القرطبي ١٩ / ١١٩ ، والبحر ٨ / ٤٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٧.

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٨٨) ، والقرطبي (١٩ / ١١٩).

(٤) ينظر القرطبي ١٩ / ١٢٠ ، والبحر ٨ / ٤٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٧.

(٥) البيت لخداش بن زهير. ينظر القرطبي ١٩ / ١٢٠ ، والبحر ٨ / ٤٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٧.

١١٣

قال الضحاك : كل كأس في القرآن فهو خمر ، والتقدير : وخمر ذات دهاق ، أي عصرت وصفيت بالدهاق ، قاله القشيري.

وفي «الصحاح» (١) : وأدهقت الماء ، أي : أفرغته إفراغا شديدا ، قال أبو عمرو : والدّهق ـ بالتحريك ـ ضرب من العذاب ، وهو بالفارسية : «أشكنجه».

قال المبرد : والمدهوق : المعذّب بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه.

وقال ابن الأعرابي : دهقت الشيء : أي : كسرته وقطعته ، وكذلك : «دهدقته» و «دهمقته» بزيادة الميم المثلثة.

وقال الأصمعي : «الدّهمقة» : لين الطعام وطيبه ورقته ، وكذلك كل شيء لين ، ومنه حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ : لو شئت أن يدهمق لي لفعلت ، ولكن الله عاب قوما فقال تعالى : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها)(٢) [الأحقاف : ٢٠].

قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً). أي : في الجنة ، وقيل : في الكأس. (لَغْواً وَلا كِذَّاباً).

اللّغو : الباطل ، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح ، ومنه الحديث : «إذا قلت لصاحبك : أنصت ، فقد لغوت» (٣). وذلك أنّ أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم ، ولم يتكلموا بلغو بخلاف الدنيا ، و «لا كذّابا» أي : لا يتكاذبون في الجنّة.

وقيل : هما مصدران للتكذيب ، وإنّما خففها ؛ لأنّها ليست مقيّدة بفعل يصير مصدرا له ، وشدّد قوله : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) ؛ لأنّ «كذّبوا» يفيد المصدر بالكذاب.

قال شهاب الدين (٤) : «وإنّما وافق الكسائيّ الجماعة في الأول للتصريح بفعله المشدد المقتضي لعدم التخفيف في «كذّبوا» ، وهذا كما تقدم في قوله : (فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ) [الإسراء: ٩١] ، حيث لم يختلف فيه للتصريح معه بفعله بخلاف الأول».

وقال مكيّ : من شدد جعله مصدر «كذّب» ، زيدت فيه الألف ، كما زيدت في «إكراما» وقولهم : تكذيبا ، جعلوا التاء عوضا من تشديد العين ، والياء بدلا من الألف غيّروا أوّله كما غيّروا آخره ، وأصل مصدر الرباعي أن يأتي على عدد حروف الماضي بزيادة ألف مع تغيير الحركات ، وقالوا : «تكلّما» ، فأتي المصدر على عدد حروف الماضي بغير زيادة ألف ، وذلك لكثرة حروفه ، وضمت «اللام» ولم تكسر ؛ لأنّه ليس في الكلام اسم على «تفعّل» ولم تفتح لئلا تشتبه بالماضي ، وقراءة الكسائي : «كذابا» ـ بالتخفيف ـ جعله مصدر كذب كذابا.

__________________

(١) ينظر : الصحاح ٤ / ١٤٧٨.

(٢) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٢٠).

(٣) تقدم.

(٤) الدر المصون ٦ / ٤٦٧.

١١٤

وقيل : هو مصدر «كذب» كقولك : كتبت كتابا.

قوله : (جَزاءً). مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) ، كأنّه قيل: جازى المتقين بمفاز.

قوله : (عَطاءً) بدل من «جزاء» وهو اسم مصدر ؛ قال : [الوافر]

٥٠٨٥ ـ ..........

وبعد عطائك المائة الرّتاعا (١)

قال : وجعله الزمخشري (٢) : منصوبا ب «جزاء» نصب المفعول به.

ورده أبو حيان (٣) بأنه جعل «جزاء» مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة ، التي هي «إنّ للمتّقين» ، قال : «والمصدر المؤكد لا يعمل ؛ لأنه لا ينحلّ لحرف مصدري والفعل ، ولا نعلم في ذلك خلافا».

قوله : «حسابا». صفة ل «عطاء» ، والمعنى : كافيا ، فهو مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه ، أو على حذف مضاف ، من قولهم : أحسبني الشيء أي : كفاني.

وقال قتادة : (عَطاءً حِساباً) أي : كثيرا ، يقال : أحسبت فلانا ، أي : أكثرت له العطايا حتى قال : حسبي (٤).

وقال الكلبي : حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشر أمثالها ، وقد وعد قوما جزاء لا نهاية له ، ولا مقدار ، كما قال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٥) [الزمر : ١٠] وقرأ أبو البرهسم (٦) ، وشريح بن يزيد الحمصي : بتشديد السين مع بقاء الحاء على كسرها.

وتخريجها : أنّه مصدر ، مثل : «كذّاب» أقيم مقام الوصف ، أي : عطاء محسبا ، أي : كافيا.

وابن قطيب : كذلك ، إلّا أنّه فتح الحاء.

قال أبو الفتح : بناء «فعّال» من «أفعل» ك «درّاك» من «أدرك» بمعنى أنه صفة مبالغة من «حسب» بمعنى : كافي كذا.

وابن عباس (٧) : «حسنا» بالنون من الحسن.

وسريج : «حسبا» (٨) بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة ، أي : عطاء كافيا ، من قولك : حسبك كذا ، أي : «كافيك».

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٩٠.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٠٧.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤١٤).

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٢٠).

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٩٠ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٢٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٧ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٨.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٢٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٧ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٨.

(٨) ينظر السابق.

١١٥

قوله تعالى : (رَبِّ السَّماواتِ).

قرأ نافع ، وابن كثير (١) ، وأبو عمرو : برفع «رب» و «الرحمن».

وابن عامر ، وعاصم : بخفضهما.

والأخوان : بخفض الأول ، ورفع الثاني.

فأما رفعهما ، فيجوز من أوجه :

أحدها : أن يكون «ربّ» خبر مبتدأ محذوف مضمر ، أي : «هو رب» ، و «الرحمن» كذلك ، أو مبتدأ ، خبره «لا يملكون».

الثاني : أن يجعل «ربّ» مبتدأ ، و «الرحمن» خبره ، و «لا يملكون» خبر ثان ، أو مستأنف.

الثالث : أن يكون «ربّ» مبتدأ ، و «الرحمن» نعته ، و «لا يملكون» خبر «ربّ».

الرابع : أن يكون «ربّ» مبتدأ ، و «الرحمن» مبتدأ ثان ، و «لا يملكون» خبره ، والجملة خبر الأول ، وحصل الرّبط بتكرير المبتدأ بمعناه ، وهو رأي الأخفش ، ويجوز أن يكون «لا يملكون» حالا وتكون لازمة.

وأما جرهما : فعلى البدل ، أو البيان ، أو النعت ، كلاهما للأول ، إلّا أنّ تكرير البدل فيه نظر وتقدم التنبيه عليه في آخر الفاتحة (٢).

وتجعل (رَبِّ السَّماواتِ) تابعا للأول ، و «الرّحمن» تابعا للثاني على ما تقدم.

وأمّا الأول ، فعلى التبعية للأول.

وأما رفع الثاني ، فعلى الابتداء ، والخبر : الجملة الفعلية ، أو على أنّه خبر مبتدأ مضمر ، و «لا يملكون» على ما تقدم من الاستئناف ، أو الخبر الثاني ، أو الحال اللازمة.

قوله : (لا يَمْلِكُونَ).

نقل عطاء عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أن الضمير في «لا يملكون» راجع إلى المشركين ، أي : لا يخاطبهم الله.

وأما المؤمنون فيشفعون ، ويقبل الله ـ تعالى ـ منهم بعد إذنه لهم (٣).

وقال القاضي : إنّه راجع للمؤمنين ، والمعنى : أنّ المؤمنين لا يملكون أن يخاطبوا الله ـ تعالى ـ في أمر من الأمور.

__________________

(١) ينظر السبعة ٦٦٩ ، والحجة ٦ / ٣٧٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٣٣ ، وحجة القراءات ٧٤٧.

(٢) آية ٧.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣١ / ٢١) ، عن ابن عباس.

١١٦

فصل في أنّ الله عدل في عقابه

لما ثبت أنه ـ تعالى ـ عدل لا يجور ، وثبت أن العقاب الذي أوصله إلى الكفّار عدل ، وثبت أنّ الثّواب الذي أوصله إلى المؤمنين عدل ، وأنّه ما بخسهم حقّهم ، فبأيّ سبب يخاطبونه.

وقيل : الضمير يعود لأهل السماوات والأرض ، وإنّ أحدا من المخلوقين لا يملك مخاطبة الله ـ تعالى ـ ومكالمته.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا هو الصواب.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤٠)

قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ). منصوب على الظرف ، إمّا ب «لا يتكلّمون» بعده ، وإمّا ب «لا يملكون» و «صفّا» حال ، أي : مصطفّين ، و «لا يتكلّمون» إمّا حال أو مستأنف.

فصل في المراد بالروح

اختلفوا في الروح.

فقال ابن عباس : هو ملك ما خلق الله بعد العرش أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفّا ، وقام الملائكة كلهم صفّا (٢) ، ونحوه عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : الرّوح ملك أعظم من السموات السبع والأرضين السبع والجبال (٣).

وقيل : جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير (٤).

وروى عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : الرّوح في هذه الآية جند من جنود الله ليسوا ملائكة لهم رءوس وأيد وأرجل يأكلون الطّعام ، ثمّ قرأ : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا)(٥) ، وهذا قول أبي صالح ، ومجاهد ، وعلي ـ رضي الله عنهم ـ وعلى هذا هو خلق

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٢١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤١٥) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٦) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤١٥).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤١٥) ، عن الضحاك والشعبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٦) ، عن الضحاك وعزاه إلى عبد بن حميد وأبي الشيخ.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٥) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ في «العظمة» وابن مردويه.

١١٧

على صورة بني آدم كالناس ، وليسوا بناس ، وما ينزل من السماء ملك إلّا ومعه واحد منهم ، نقله البغوي (١).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ «هم أرواح النّاس» (٢).

وقال مقاتل بن حيان : هم أشراف الملائكة (٣).

وقال ابن أبي نجيح : هم حفظة على الملائكة (٤).

وقال الحسن وقتادة : هم بنو آدم (٥) ، والمعنى : ذو الروح.

وقال العوفي ، والقرظي : هذا ممّا كان يكتمه ابن عباس.

وقيل : أرواح بني آدم تقوم صفّا ، فتقوم الملائكة صفّا ، وذلك بين النّفختين قبل أن تردّ إلى الأجساد. قاله عطية.

وقال زيد بن أسلم : هو القرآن.

وقرأ : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] ، و (صَفًّا) مصدر ؛ أي : يقومون صفوفا ، والمصدر يغني عن الواحد والجمع كالعدل ، والصوم ، ويقال ليوم العيد : يوم الصف.

وقال في موضع آخر سبحانه : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] ، وهذا يدل على الصفوف ، وهذا حين العرض والحساب ، قيل : هما صفان.

وقيل : يقوم الكل صفّا واحدا «لا يتكلّمون» أي : لا يشفعون.

قوله : (إِلَّا مَنْ أَذِنَ) يجوز أن يكون بدلا من «واو» يتكلّمون ، وهو الأرجح ، لكونه غير موجب ، وأن يكون منصوبا على أصل الاستثناء.

والمعنى : لا يشفعون إلّا من أذن له الرحمن في الشفاعة.

وقيل : لا يتكلمون إلا في حقّ من أذن له الرحمن ، وقال صوابا.

والمعنى : لا يشفعون إلّا في حق شخص أذن الرحمن في شفاعته ، وذاك الشخص كان ممن قال صوابا ، والمعنى قال صوابا ، يعنى : «حقّا». قاله الضحاك ومجاهد.

وروى الضحاك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : لا يشفعون إلّا لمن قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وأصل الصّواب : السداد من القول والفعل ، وهو من أصاب يصيب إصابة ، كالجواب من أجاب يجيب.

__________________

(١) ينظر معالم التنزيل ٤ / ٤٤٠

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤١٦).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٦) ، وعزاه إلى ابن المنذر وأبي الشيخ.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٢٢).

(٥) ينظر المصدر السابق.

١١٨

وقيل : «لا يتكلّمون» يعني : الملائكة ، والروح الذين كانوا صفّا لا يتكلمون هيبة وإجلالا إلا من أذن له الرب تعالى في الشفاعة ، وهم الذين قالوا صوابا ، وأنهم يوحدون الله ـ تعالى ـ ويسبّحونه.

قوله تعالى : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ). «ذلك» إشارة إلى ما تقدّم ذكره (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) ، أي : موجبا بالعمل الصالح.

وقال قتادة : «مآبا» سبيلا (١).

ثم إنه ـ تعالى ـ زاد في تخويف الكفّار فقال تعالى :

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) يعني العذاب في الآخرة ، وسماه قريبا ؛ لأن كل ما هو آت قريب. كقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات : ٤٦].

وقال قتادة : عقوبة الدنيا ؛ لأنه أقرب العذابين (٢).

وقال مقاتل : هي قتل قريش ب «بدر» ، وهذا خطاب لكفّار قريش ، ولمشركي العرب ؛ لأنهم قالوا : لا نبعث ، وإنّما سمّاه إنذارا ؛ لأنّه ـ تعالى ـ قد خوّف بهذا الوصف نهاية التخويف ، وهو معنى الإنذار (٣).

قوله : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ). يجوز أن يكون بدلا من «يوم» قبله ، وأن يكون منصوبا ب «عذابا» أي : العذاب واقع في ذلك اليوم.

وجوّز أبو البقاء أن يكون نعتا ل «قريبا» ولو جعله نعتا ل «عذابا» كان أولى.

والعامّة : بفتح ميم «المرء» وهي الغالبة ، وابن أبي إسحاق (٤) : بضمها ، وهي لغة يتبعون اللام الفاء.

وخطّأ أبو حاتم هذه القراءة ، وليس بصواب لثبوتها لغة.

فصل في المراد ب «المرء»

أراد بالمرء : المؤمن في قول الحسن ، أي : ليجد لنفسه عملا ، فأمّا الكافر فلا يجد لنفسه عملا ، فيتمنى أن يكون ترابا ، قال : (وَيَقُولُ الْكافِرُ) فعلم أنه أراد بالمرء المؤمن ، وقيل : المراد هنا أبيّ بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، ويقول الكافر : أبو جهل.

وقيل : هو عام في كل أحد يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسبت.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤١٨) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٧) ، وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٢٣).

(٣) ينظر المصدر السابق

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٢٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٩.

١١٩

قوله : (ما قَدَّمَتْ يَداهُ). يجوز في «ما» أن تكون استفهامية معلقة ل «ينظر» على أنّه من النظر ، فتكون الجملة في موضع نصب على إسقاط الخافض ، وأن تكون موصولة مفعولة بها ، والنّظر بمعنى الانتظار ، أي : ينتظر الذي قدمت يداه.

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

العامة : لا يدغمون تاء «كنت ترابا» قالوا : لأنّ الفاعل لا يحذف ، والإدغام يشبه الحذف ، وفي قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْكافِرُ) وضع الظاهر موضع المضمر شهادة عليه بذلك.

فصل في نزول هذه الآية

قال مقاتل : نزل قوله تعالى : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ. ويقول الكافر : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) في أخيه الأسود بن عبد الأسد (١).

وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الكافر هنا إبليس ـ لعنة الله عليه ـ وذلك بأنه عاب آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأنه خلق من تراب ، وافتخر بأنه خلق من نار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة ، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب ، تمنى أنه كان بمكان آدم ، فيقول : يا ليتني كنت ترابا ، قال : ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر.

روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : «يحشر الخلق كلّهم من دابّة ، وطائر ، وإنسان ، ثمّ يقال للبهائم والطّير : كونوا ترابا ، عند ذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا» (٢).

وقيل : معنى (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي : لم أبعث.

وقال أبو الزناد : إذا قضي بين الناس ، وأمر بأهل الجنّة إلى الجنّة ، وأهل النّار إلى النار ، قيل لسائر الأمم ولو من الجن : عودوا ترابا ، فيعودون ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم : يا ليتني كنت ترابا.

وقال ليث بن أبي سليم : مؤمنو الجنّ يعودون ترابا.

وقال عمر بن عبد العزيز والزّهريّ والكلبيّ ومجاهد : مؤمنو الجنّ حول الجنّة في ربض ورحاب وليسوا فيها ، وهذا أصح ، فإنهم مكلّفون : يثابون ويعاقبون كبني آدم.

روى الثعلبي عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) سقاه الله تعالى برد الشّراب يوم القيامة» (٣).

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٢٣).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤١٩) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٧) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «البعث».

(٣) تقدم تخريجه.

١٢٠