اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وقال الفراء (١) : هو مجزوم على جواب الاستفهام ، وهو قوله : (هَلْ أَدُلُّكُمْ).

واختلف الناس في تصحيح هذا القول (٢) :

فبعضهم غلطه. قال الزجاج (٣) : ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم ، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا.

يعني : أنه ليس مرتبا على مجرد الاستفهام ولا على مجرد الدلالة.

قال القرطبي (٤) : و «تؤمنون» عند المبرد والزجاج في معنى «آمنوا» ولذلك جاء (يَغْفِرْ لَكُمْ) مجزوما على أنه جواب الأمر.

قال ابن الخطيب (٥) : (هَلْ أَدُلُّكُمْ) في معنى الأمر عند الفرّاء ، يقال : هل أنت ساكت أي : اسكت ، وبيانه أن «هل» بمعنى الاستفهام ثم يندرج إلى أن يصير عرضا وحثّا ، والحث كالإغراء ، والإغراء أمر.

وقال المهدوي : إنما يصح حمله على المعنى ، وهو أن يكون «تؤمنون ، وتجاهدون» : عطف بيان على قوله : (هَلْ أَدُلُّكُمْ).

كأن التجارة لم يدر ما هي فبينت بالإيمان والجهاد ، فهي هما في المعنى ، فكأنه قيل : هل تؤمنون وتجاهدون؟.

قال (٦) : فإن لم يقدر هذا التقدير لم يصح ، لأنه يصير إن دللتم يغفر لكم والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة.

وقال الزمخشري قريبا منه أيضا.

وقال أيضا (٧) : إن «تؤمنون» استئناف كأنهم قالوا : كيف نعمل؟ فقال : تؤمنون.

وقال ابن عطيّة (٨) : «تؤمنون» : فعل مرفوع ، تقديره : ذلك أنه تؤمنون.

فجعله خبرا ، وهي وما في حيّزها خبر لمبتدأ محذوف ، وهذا محمول على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب فإنه لا حاجة إليه (٩).

فصل

قال ابن الخطيب (١٠) : فإن قيل : كيف أمرهم بالإيمان بعد قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؟.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن له ٣ / ١٥٤.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٢.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٥ / ١٦٦.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٥٧.

(٥) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٧٤.

(٦) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٧.

(٧) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٢٦.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٠٤.

(٩) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٣.

(١٠) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٧٥.

٦١

فالجواب : يمكن أن يكون المراد من هذه الآية المنافقين وهم الذين آمنوا في الظاهر ، ويمكن أن يكون أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة.

فكأنه قال : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة آمنوا بالله وبمحمد ، ويمكن أن يكون أهل الإيمان كقوله تعالى : (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [التوبة : ١٢٤] ، أو يكون المراد الأمر بالثبات على الإيمان ، كقوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) [إبراهيم : ٢٧].

فإن قيل : كيف ترجى النجاة إذا آمن بالله ورسوله ولم يجاهد في سبيل الله وقد علق بالمجموع؟.

فالجواب : أن هذا المجموع هو الإيمان بالله ورسوله والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله خير في نفس الأمر.

قوله : (بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ).

قال القرطبي (١) : ذكر الأموال أولا ، لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق ، «ذلكم» أي : هذا الفعل (خَيْرٌ لَكُمْ) من أموالكم وأنفسكم ، (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه خير لكم.

قوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ) فيه أوجه (٢) :

أحدها : أنه مجزوم على جواب الخبر بمعنى الأمر ، كما تقدم.

والثاني : أنه مجزوم على جواب الاستفهام ، كما قاله الفراء (٣).

الثالث : أنه مجزوم بشرط مقدر ، أي : إن تؤمنوا يغفر لكم.

قال القرطبي (٤) : «وأدغم بعضهم ، فقرأ (٥) : (يَغْفِرْ لَكُمْ) ، والأحسن ترك الإدغام لأن الراء حرف متكرر قويّ فلا يحسن الإدغام في اللام ؛ لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف».

قوله : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً).

روى الحسن قال : سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن قوله تعالى : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) ، فقالا : على الخبير [سقطت](٦) ، سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها فقال : «قصر من لؤلؤة في الجنّة ، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتا

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٥٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٣.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٣ / ١٥٤.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٥٨.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٠٤ ، قال ابن عطية : «وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ : «يغفلكم» بإدغام الراء في اللام ، ولا يجيز ذلك سيبويه».

(٦) سقط من أ.

٦٢

من زبرجدة خضراء ، في كلّ بيت سبعون سريرا ، على كلّ سرير سبعون فراشا من كلّ لون على كلّ فراش سبعون امرأة ، من الحور العين ، في كلّ بيت سبعون مائدة ، على كلّ مائدة سبعون لونا من الطّعام ، في كلّ بيت سبعون وصيفا ووصيفة ، فيعطي الله تعالى المؤمن القوّة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كلّه» (١).

قوله : (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ).

أي دار إقامة. (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي : السعادة الدائمة الكبيرة ، وأصل الفوز الظفر بالمطلوب (٢).

قوله : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها). فيها أوجه (٣) :

أحدها : أنها في موضع رفع على الابتداء وخبرها مقدر ، أي : ولكم أو وثمّ أو عنده خصلة أخرى أو مثوبة أخرى ، و «تحبّونها» : نعت له.

الثاني : أن الخبر جملة حذف مبتدؤها ، تقديره : هي نصر ، والجملة خبر «أخرى».

قاله أبو البقاء (٤).

الثالث : أنها منصوبة بفعل محذوف للدلالة عليه بالسّياق ، أي : ويعطكم ، أو يمنحكم مثوبة أخرى ، و «تحبّونها» نعت لها أيضا.

الرابع : أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره «تحبّونها» فيكون من الاشتغال ، وحينئذ لا يكون «تحبونها» نعتا لأنه مفسر للعامل فيه.

الخامس : أنها مجرورة عطفا على «تجارة».

وضعف هذا بأنها ليست مما دلّ عليه إنما هي ثواب من عند الله.

قال القرطبي (٥) : «هذا الوجه منقول عن الأخفش والفراء».

قوله : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ).

خبر مبتدأ مضمر ، أي : تلك النعمة ، أو الخلة الأخرى نصر ، (مِنَ اللهِ) نعت له أو متعلق به ، أي : ابتداؤه منه.

ورفع «نصر ، وفتح» قراءة العامة.

ونصب ابن أبي عبلة الثلاثة. وفيه أوجه ذكرها الزمخشري (٦).

__________________

(١) أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٣ / ٢٥٢).

(٢) ينظر القرطبي ١٨ / ٥٨.

(٣) ينظر الدر المصون ٦ / ٣١٣.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٢١.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٥٨.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٣ ، والكشاف ٤ / ٥٢٨ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٠٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦١.

٦٣

أحدها : أنها منصوبة على الاختصاص.

الثاني : أن ينتصبن على المصدرية ، أي : ينصرون نصرا ، ويفتح لهم فتحا قريبا.

الثالث : أن ينتصبن على البدل من «أخرى» ، و «أخرى» منصوبة بمقدر كما تقدم ، أي يغفر لكم ويدخلكم جنات ويؤتكم أخرى ، ثم أبدل منها نصرا وفتحا قريبا.

فصل في معنى الآية (١)

ومعنى الآية أي : ولكم نصر من الله (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) ، أي : غنيمة في عاجل الدنيا قبل فتح مكة. وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يريد فتح فارس والروم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) برضا الله عنهم (٢).

وقال البغوي : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.

ثم حضهم على نصر المؤمنين وجهاد المخالفين ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)(١٤)

أي : كونوا حواريّي نبيكم ليظهركم الله على من خالفكم كما أظهر حواريّي عيسى على من خالفهم (٣).

قوله : (أَنْصارَ اللهِ).

قرأ نافع (٤) وابن كثير وأبو عمرو : «أنصارا» ، منونا «لله» جارا ومجرورا.

والباقون : «أنصار» غير منوّن ، بل مضافا للجلالة الكريمة.

والرسم يحتمل القراءتين معا ، واللام يحتمل أن تكون مزيدة في المفعول للتقوية لكون العامل فرعا ، إذ الأصل (أَنْصارَ اللهِ) وأن تكون غير مزيدة ، ويكون الجار والمجرور نعتا ل «أنصار». والأول أظهر.

وأما القراءة على الإضافة ففرع الأصل المذكور ، ويؤيد قراءة الإضافة الإجماع عليها في قوله تعالى : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) ولم يتصور جريان الخلاف هنا ، لأنه مرسوم بالألف (٥).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٨.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي (١٨ / ٥٨).

(٣) ينظر : القرطبي (١٨ / ٥٨).

(٤) ينظر : السبعة ٦٣٥ ، والحجة ٦ / ٢٩٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٦٥ ، وحجة القراءات ٧٠٨ ، ٧٠٩ ، والعنوان ١٩٠ ، وشرح الطيبة ٦ / ٥٣ ، وشرح شعلة ٦٠٢ ، وإتحاف ٢ / ٥٣٧.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٤.

٦٤

قال القرطبي (١) : قيل : في الكلام إضمار ، أي : قل لهم يا محمد : كونوا أنصار الله.

وقيل : هو ابتداء خطاب من الله ، أي : كونوا أنصار الله كما فعل أنصار عيسى ، فكانوا بحمد الله أنصارا وكانوا حواريين.

فصل في الحواريين

قال القرطبيّ (٢) : «الحواريون : خواص الرسل.

قال معمر : كان ذلك بحمد الله تعالى ، أي نصروه سبعون رجلا ، وهم الذين بايعوه ليلة العقبة ، وقيل هم من قريش ، وسماهم قتادة : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة واسمه عامر ، وعثمان بن مظعون ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، ولم يذكر سعيدا فيهم ، وذكر جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين».

قوله : (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ).

وهم أصفياؤه اثنا عشر رجلا ، وقد مضت أسماؤهم في «آل عمران».

وهم أول من آمن به من بني إسرائيل. قاله ابن عباس (٣).

وقال مقاتل : قال الله لعيسى : إذا دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القصارون فاسألهم النصرة ؛ فأتاهم عيسى وقال لهم : من أنصاري إلى الله؟ فقالوا : نحن ننصرك ، فصدقوه ونصروه(٤).

قوله : «كما». فيه أوجه (٥) :

أحدها : أن الكاف في موضع نصب على إضمار القول ، أي : قلنا لهم ذلك كما قال عيسى.

الثاني : أنه (٦) نعت لمصدر محذوف تقدير : كونوا كونا. قاله مكي. وفيه نظر ؛ إذ لا يؤمروا بأن يكونوا كونا.

الثالث : أنه كلام محمول على معناه دون لفظه.

وإليه نحا الزمخشري (٧) ، قال : «فإن قلت : ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنصاري؟

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٨ ، ٥٩.

(٢) ينظر السابق.

(٣) ينظر : القرطبي (١٨ / ٥٨).

(٤) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ٥٨).

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٤.

(٦) في ب : إنها.

(٧) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٢٨.

٦٥

قلت : التشبيه محمول على المعنى ، وعليه يصح ، والمراد : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ)؟.

وتقدم في «آل عمران» تعدي أنصار ب «إلى» واختلاف الناس في ذلك.

وقال الزمخشري هنا : «فإن قيل : ما معنى قوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ)؟ فالجواب : يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب الحواريين (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) والذي يطابقه أن يكون المعنى من جندي متوجها إلى نصرة الله ، وإضافة أنصاري خلاف إضافة (أَنْصارَ اللهِ) فإن معنى (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) نحن الذين ينصرون الله ، ومعنى (مَنْ أَنْصارِي) من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله ، ولا يصح أن يكون معناه : من ينصرني مع الله لأنه لا يطابق الجواب ، والدليل عليه قراءة من قرأ : من أنصار الله». انتهى.

يعني : أن بعضهم يدعي أن «إلى» بمعنى «مع» أي من أنصاري مع الله؟!.

وقوله : قراءة من قرأ (أَنْصارَ اللهِ) ، أي : لو كانت بمعنى «مع» لما صح سقوطها في هذه القراءة.

قال شهاب الدين (١) : «وهذا غير لازم ، لأن كل قراءة لها معنى يخصها إلا أن الأولى توافق القراءتين».

قوله : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يعني في زمن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ (٢) وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق : فرقة قالوا كان الله فارتفع ، وفرقة قالوا : كان ابن الله فرفعه الله إليه ، وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه ، وهم المؤمنون ، واتبع كل فرقة طائفة من الناس فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث الله محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم فظهرت فرقة المؤمنين على الكافرين ، فذلك قوله تعالى : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) ، غالبين.

وقال مجاهد : أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى ؛ والأول أظهر ؛ لأن عيسى لم يقاتل أحدا ، ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال.

وقال زيد بن علي ، وقتادة : (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) غالبين بالحجّة ، والبرهان ، لأنهم قالوا فيما روي : ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام ، والله لا ينام ، وأن عيسى كان يأكل ، والله تعالى لا يأكل (٣).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٤.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٣٨).

(٣) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ٥٩).

٦٦

وقيل (١) : نزلت هذه الآية ، في رسل عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال ابن إسحاق : وكان الذي بعثهم عيسى من الحواريين والأتباع بطريس وبولس إلى «رومية» ، واندراييس ومتى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس ، وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق ، وفيلبس إلى «قرطاجنة» ، وهي «إفريقية» ، ويحنّس إلى دقسوس قرية أهل «الكهف» ، ويعقوبس إلى أورشليم ، وهي «بيت المقدس» ، وابن تلما إلى العرابية ، وهي أرض الحجاز ، وسيمن إلى أرض البربر ، ويهودا وبروس إلى «الإسكندرية» وما حولها فأيّدهم الله تعالى بالحجة فأصبحوا «ظاهرين» أي : عالين ، من قولك : ظهرت على الحائط أي علوت عليه.

قوله : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ).

من إيقاع الظاهر موقع المضمر مبهما تنبيها على عداوة الكافر للمؤمن ، إذ الأصل فأيدناهم عليهم ، أي : أيدنا المؤمنين على الكافرين من الطائفتين المذكورتين (٢).

روى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الصّف كان عيسى مستغفرا له ما دام في الدّنيا ، ويوم القيامة هو رفيقه» (٣).

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٤.

(٣) تقدم تخريجه مرارا وهو حديث أبي بن كعب الموضوع في فضائل القرآن سورة سورة وقد نص غير واحد من الحفاظ ببطلانه.

٦٧

سورة الجمعة

[مدنية](١) وهي إحدى عشرة آية ، ومائة وثمانون كلمة ، وسبعمائة وعشرون حرفا.

روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير يوم طلعت فيه الشّمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنّة وفيه أخرج منها ، ولا تقوم السّاعة إلّا في يوم الجمعة» (٢).

وعنه قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة ونحن أوّل من يدخل الجنّة بيد أنّهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه ، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له ، قال : يوم الجمعة ، فاليوم لنا ، وغدا لليهود وبعد غد للنّصارى» (٣).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٤)

قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقدم الكلام فيه.

وقوله : (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

وجه تعلق هذه السورة بما قبلها ، هو أنه تعالى قال في أول تلك السورة : (سَبَّحَ لِلَّهِ) بلفظ الماضي وذلك لا يدل على التسبيح في المستقبل ، فقال في أول هذه السورة بلفظ [المستقبل](٤) ليدل على التسبيح في الزمن الحاضر والمستقبل.

__________________

(١) في أمكية.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) أخرجه مسلم (٢ / ٥٨٥) كتاب الجمعة ، باب : هداية هذه الأمة ليوم الجمعة حديث (٢٠ / ٨٨٥) من حديث أبي هريرة.

(٤) في أ : المضارعة.

٦٨

وأما تعلق الأول بالآخر ، فلأنه تعالى ذكر في آخر تلك السورة أنه كان يؤيد أهل الإيمان حتى صاروا غالبين على الكفّار وذلك على وفق الحكمة لا للحاجة إليه إذ هو غني على الإطلاق ومنزه عما يخطر ببال الجهلة ، وفي أول هذه السورة ذكر على ما يدل على كونه مقدسا ، ومنزّها عما لا يليق بحضرته العليّة ثم إذا كان خلق السماوات والأرض بأجمعهم في تسبيح حضرة الله تعالى فله الملك ، ولا ملك أعظم من هذا على الإطلاق ، ولما كان الملك كله له تعالى فهو الملك على الإطلاق ، ولما كان الكل خلقه فهو المالك على الإطلاق (١).

قوله : (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ).

قرأ العامة : بجر «الملك» وما بعده نعتا لله ، والبدل ضعيف لاشتقاقهما.

وقرأ أبو وائل وسلمة بن محارب ورؤبة (٢) بالرفع على إضمار مبتدأ مقتض للمدح.

وقال الزمخشري (٣) : «ولو قرىء بالنصب على حدّ قولهم : الحمد لله أهل الحمد ، لكان وجها».

وقرأ زيد (٤) بن علي : «القدّوس» بفتح القاف ، وقد تقدم ذلك. و «يسبّح» من جملة ما يجري فيه اللفظان ، ك «شكره وشكر له ونصحه ونصح له وسبحه وسبح له».

فإن قيل : «الحكيم» يطلق أيضا على الغير كما يقال في لقمان : إنه حكيم.

فالجواب (٥) : أن الحكيم عند أهل التحقيق هو الذي يضع الأشياء مواضعها ، والله تعالى حكيم بهذا المعنى.

قوله : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ).

تقدم الكلام في «الأمّي والأميين» جمعه.

و «يتلو» وما بعده صفة ل «رسول» صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦).

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «الأميّون» العرب كلهم من كتب منهم ومن لم يكتب ؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب (٧).

وقيل : الأميّون الذين لا يكتبون ، وكذلك كانت قريش (٨).

وروى منصور عن إبراهيم قال : «الأمّي» الذي لا يقرأ ولا يكتب.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٠٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦٣ ، والدر المصون ٦ / ٣١٥.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٢٩.

(٤) ينظر قراءات سورة الحشر آية ٢٣.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٤.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٥.

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٦٠) ، عن ابن عباس وكذا الرازي (٣٠ / ٤).

(٨) ينظر القرطبي (١٨ / ٦٠).

٦٩

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الأميون الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم (١) ، وقيل : الأميون الذين هم على ما خلقوا عليه.

وقرىء (٢) : «الأمين» بحذف ياء النّسب.

قوله : (رَسُولاً مِنْهُمْ).

يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما من حيّ من العرب إلا ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم قرابة وقد ولدوه (٣).

وقال ابن إسحاق : إلا بني تغلب ، فإن الله طهّر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم لنصرانيتهم ، فلم يجعل لهم عليه ولادة ، وكان أميّا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلّم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الماورديّ (٤) : فإن قيل : فما وجه الامتنان بأن بعث الله نبيّا أميّا؟.

فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : لموافقته ما تقدم من بشارة الأنبياء.

الثاني : لمشاكلة حاله لأحوالهم فيكون أقرب لموافقتهم.

الثالث : لينفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعى إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها.

قال القرطبي (٥) : «وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته».

قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) يعني القرآن (وَيُزَكِّيهِمْ) أي : يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان. قاله ابن عباس (٦).

وقيل : يطهرهم من دنس الكفر والذنوب. قاله ابن جريج ومقاتل (٧).

وقال السديّ : يأخذ زكاة أموالهم ، (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) يعني : القرآن (٨) ، (وَالْحِكْمَةَ) يعني السّنة. قاله الحسن (٩).

وقال ابن عباس : «الكتاب» الخط بالقلم ، لأن الخط إنما نشأ في العرب بالشّرع لما أمروا بتقييده بالخط (١٠).

وقال مالك بن أنس : «الحكمة» الفقه في الدين.

وقد تقدم في البقرة.

__________________

(١) ينظر : القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٦٠) عن ابن عباس وكذا الرازي (٣٠ / ٤).

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٢٩ ، والرازي ٣٠ / ٤.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦٠.

(٤) ينظر : النكت والعيون ٦ / ٦.

(٥) القرطبي ١٨ / ٦١.

(٦) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٦) والقرطبي (١٨ / ٦١) عن ابن عباس.

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ينظر المصدر السابق.

(٩) ينظر المصدر السابق.

(١٠) ينظر المصدر السابق.

٧٠

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي : من قبله وقبل أن يرسل إليهم (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : في ذهاب عن الحق (١).

فصل في الرد على بعض الشبه

قال ابن الخطيب (٢) : احتج أهل الكتاب بهذه الآية ، فقالوا : قوله تعالى : (بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) يدل على أنه ـ عليه الصلاة والسلام كان رسولا إلى الأميين وهم العرب خاصّة ، قال : وهذا ضعيف ، فإنه [لا](٣) يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه ، ألا ترى قوله تعالى : (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨] أنه لا يفهم منه أنه لا يخطه بشماله ، ولأنه لو كان رسولا إلى العرب خاصة ، كان قوله تعالى (كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨] لا يناسب ذلك ، وقد اتفقوا على صدق الرسالة المخصوصة فيكون قوله : (كَافَّةً لِلنَّاسِ) دليلا على أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان رسولا إلى الكل.

قوله : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) فيه وجهان (٤) :

أحدهما : أنه مجرور عطفا على «الأميين» ، أي : وبعث في آخرين من الأميين و (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) صفة ل «آخرين».

والثاني : أنه منصوب عطفا على الضّمير المنصوب في «يعلّمهم».

أي : ويعلم آخرين لم يلحقوا بهم وسيلحقون ، فكلّ من تعلم شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى آخر الزّمان فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معلمه بالقوة ؛ لأنه أصل ذلك الخير العظيم والفضل الجسيم.

قوله : (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ).

أي : لم يكونوا في زمانهم وسيجيئون بعدهم (٥).

قال ابن عمر وسعيد بن جبير : هم العجم (٦).

وفي «صحيح البخاري» ومسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة ، فلما قرأ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثا قال : وفينا سلمان الفارسي قال : فوضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على سلمان ثم قال : «لو كان

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦١.

(٢) ينظر : التفسير الكبير ٣٠ / ٤.

(٣) سقط من أ.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٥.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦١.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٩٠) عن ابن عمر ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٢١) عن مجاهد وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٧١

الإيمان عند الثّريّا لناله رجال من هؤلاء» ، وفي رواية : «لو كان الدّين عند الثّريّا لذهب به رجل من فارس ، أو قال : من أبناء فارس حتّى يتناوله». لفظ مسلم (١).

وقال عكرمة : هم التابعون (٢).

وقال مجاهد : هم الناس كلهم ، يعني من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

وقاله ابن زيد ومقاتل بن حيان ، قالا : هم من دخل الإسلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة (٤).

قال سهل بن سعد الساعدي : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ في أصلاب أمّتي رجالا ونساء يدخلون الجنّة بغير حساب» ثم تلا : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) والقول الأول أثبت(٥).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأيتني أسقي غنما سودا ثمّ أتبعتها غنما عفرا أوّلها يا أبا بكر» ، قال : يا نبيّ الله ، أما السّود فالعرب ، وأمّا العفر فالعجم تتبعك بعد العرب ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذلك أوّلها الملك يا أبا بكر» يعني : جبريل عليه‌السلام ، رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ (٦).

قوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ).

قال ابن عباس : حيث ألحق العجم بقريش (٧).

وقيل : يعني : الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء. قاله الكلبي.

وقال مقاتل : يعني الوحي والنبوة (٨).

وقيل : إنه المال ينفق في الطاعة ، لما روى أبو صالح عن أبي هريرة : أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : ذهب أهل الدّثور بالدّرجات العلى والنعيم

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٥١٠) كتاب التفسير ، باب قوله : «وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ...» رقم (٤٨٩٧ ، ٤٨٩٨) ومسلم (٤ / ١٩٧٢ ـ ١٩٧٣) كتاب فضائل الصحابة ، باب : فضل فارس ، رقم (٢٣١ / ٢٥٤٦) والترمذي (٥ / ٣٨٥) رقم (٣٣١٠) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٤٩٠) والطبري في «تفسيره» (١٢ / ٩٠) من حديث أبي هريرة.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٢١) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٢١) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٩١) عن ابن زيد.

(٥) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٤١١) وقال : رواه الطبراني وإسناده جيد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٢١) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(٦) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٦١).

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٧).

٧٢

المقيم ، فقال : «وما ذاك» ، فقالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلا أعلّمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلّا من صنع مثل ما صنعتم» قالوا بلى يا رسول الله ، قال : «تسبّحون وتكبّرون وتحمدون دبر كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين مرّة» ، قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : سمع إخواننا من أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (١).

وقيل : إنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخولهم في دينه ونصرته (٢).

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥)

قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ).

هذه قراءة العامّة.

وقرأ زيد بن علي ويحيى (٣) بن يعمر : «حملوا» مخففا مبنيا للفاعل.

قوله : (كَمَثَلِ الْحِمارِ).

هذه قراءة العامة.

وقرأ عبد (٤) الله : «حمار» منكرا ، وهو في قوة قراءة الباقين ، لأن المراد بالحمار : الجنس ولهذا وصف بالجملة بعده ، كما سيأتي (٥).

وقرأ المأمون (٦) بن هارون الرشيد : «يحمّل» مشددا مبنيّا للمفعول.

والجملة من «يحمل أو يحمّل» فيها وجهان (٧) :

أشهرهما : أنه في موضع الحال من «الحمار».

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٢ / ٢٦٥) رقم (٤١٠) والنسائي (٣ / ٧٨) من حديث ابن عباس.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وقد تقدم تخريجه عن أبي هريرة.

(٢) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦٢.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٠٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦٣ ، والدر المصون ٦ / ٣١٥.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٠٧ ، البحر المحيط ٨ / ٢٦٣ ، والدر المصون ٦ / ٣١٥.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٦ ، والكشاف ٤ / ٥٣٠.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٠٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦٣ ، والدر المصون ٦ / ٣١٥.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٦.

٧٣

والثاني : أنها في موضع الصفة للحمار ، لجريانه مجرى النكرة ، إذ المراد به الجنس.

قال الزمخشري (١) : أو الجر على الوصف لأن الحمار كاللئيم ، في قوله : [الكامل]

٤٧٦٧ ـ ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

 ........... (٢)

وتقدم تحرير ذلك وأن منه عند بعضهم : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ) [يس : ٣٧] ، وأن «نسلخ» نعت لليل ، والجمهور يجعلونه حالا للتعريف اللفظي.

وأما على قراءة عبد الله : فالجملة وصف فقط ، ولا يمتنع أن تكون حالا عند سيبويه (٣). والأسفار : جمع سفر ، وهو الكتاب المجتمع الأوراق.

فصل في تفسير هذا المثل (٤)

هذا مثل ضرب لليهود لما تركوا العمل بالتوراة ، ولم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي : كلفوا العمل بها. قاله ابن عباس (٥).

وقال الجرجاني : هو من الحمالة بمعنى الكفالة ، أي : ضمنوا أحكام التوراة.

وقوله : (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها).

لم يعملوا بما فيها ولم يؤدّوا حقها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) أي : كتبا من العلم ، واحدها سفر.

قال الفرّاء (٦) : هي الكتب العظام ، لأنها تسفر عما فيها من المعاني إذا قرئت ، ونظيره : شبر وأشبار.

يعني كما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود يقرأون التوراة ولا ينتفعون بها ، لأنهم خالفوا ما فيها.

قال ميمون بن مهران : الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل ، كذلك اليهود ، وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه ويعمل به لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء (٧).

قال الشاعر : [الطويل]

٤٧٦٨ ـ لعمرك ما يدري البعير إذا غدا

بأوساقه أو راح ما في الغرائر (٨)

__________________

(١) الكشاف ٤ / ٥٣٠.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الكتاب ١ / ١٩٩.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦٢.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٦٢) عن ابن عباس.

(٦) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ١٥٥.

(٧) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦٢.

(٨) البيت لمروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة.

ينظر : القرطبي ١٨ / ٩٥ ، والبحر ٨ / ٢٦٣.

٧٤

قوله : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) فيه أوجه (١) :

أحدها : وهو المشهور أن (مَثَلُ الْقَوْمِ) فاعل «بئس» والمخصوص [بالذم الموصول بعده ، وهذا مشكل ؛ لأنه لا بد من تصادق فاعل «نعم وبئس» والمخصوص هنا : «المثل» ليس بالقوم المكذبين](٢).

والجواب : أنه على حذف مضاف ، أي : بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا.

الثاني : أن «الّذين» صفة للقوم فيكون مجرور المحلّ ، والمخصوص بالذّم محذوف لفهم المعنى ، تقديره : بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء ، وهو قريب من الأول.

الثالث : أن الفاعل محذوف ، وأن (مَثَلُ الْقَوْمِ) هو المخصوص بالذّم ، وتقديره : بئس المثل مثل القوم ، ويكون الموصول نعتا للقوم أيضا ، وإليه ينحو كلام ابن عطية فإنه قال : والتقدي ر «بئس المثل مثل القوم».

وهذا فاسد : لأنه لا يحذف الفاعل عند البصريين إلّا في مواضع ثلاثة ليس هذا منها ، اللهم إلا أن يقول بقول الكوفيين.

الرابع : أن يكون التمييز محذوفا ، والفاعل المفسر به مستتر ، تقديره : «بئس مثلا مثل القوم» وإليه ينحو كلام الزمخشري فإنه قال (٣) : «بئس مثلا مثل القوم».

فيكون الفاعل مستترا مفسرا ب «مثلا» ، و (مَثَلُ الْقَوْمِ) هو المخصوص بالذم ، والموصول صفة له ، وحذف التمييز ، وهذا لا يجيزه سيبويه وأصحابه ألبتة (٤).

نصوا على امتناع حذف التمييز ، وكيف يحذف وهو مبين (٥).

فصل

قال ابن الخطيب (٦) : فإن قيل : ما الحكمة في تعيين الحمار من دون سائر الحيوانات؟.

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنه تعالى خلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة ، كما قال تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨٧] ، والزينة في الخيل أظهر وأكثر بالنسبة إلى الركوب والحمل عليه ، وفي البغال دون الخيل ، وفي الحمير دون البغال ، فالحمار كالمتوسط في المعاني الثلاثة ، وحينئذ يكون الحمار في معنى الحمل أظهر

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٦.

(٢) في أهنا : بئس القوم الذين كذبوا.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٣٠.

(٤) ينظر : الكتاب ١ / ٣٠٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٦.

(٦) ينظر : التفسير الكبير ٣٠ / ٦.

٧٥

وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال وغيرهما من الحيوانات.

وثانيها : أن هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة لأولئك القوم ، والحمار يمثل به في الجهل والبلادة.

وثالثها : أن في الحمار من الحقارة ما ليس في غيره من الحيوانات. والغرض من الكلام هاهنا تحقير القوم وتعييرهم ، فيكون تعيين الحمار أليق.

ورابعها : أن حمل الأسفار على الحمار أسهل وأعمّ وأسهل لسرعة انقياده ، فإنه ينقاد للصبي الصغير من غير كلفة ، وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره.

وخامسها : أن رعاية الألفاظ والمناسبة من لوازم الكلام [وبين](١) لفظ الأسفار والحمار مناسبة لفظية [لا توجد](٢) في غيره من الحيوانات فيكون ذكره أولى.

فصل

قال القرطبي (٣) : «معنى الكلام : بئس مثل القوم المثل الذي ضربناه لهم فحذف المضاف (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء يعني من سبق في علمه أنه يكون كافرا».

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٧)

قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ). أي : من دون محمّد وأصحابه. لما ادعت اليهود الفضيلة ، وقالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة: ١٨] ، قال الله تعالى : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) فللأولياء عند الله الكرامة (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) لتصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله (٤).

قوله : (أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ).

سادّ مسد المفعولين أو المفعول على الخلاف ، و «لله» متعلق ب «أولياء» أو بمحذوف نعتا ل «أولياء» ، و (مِنْ دُونِ النَّاسِ) كذلك.

قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ). جواب الشّرط (٥).

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) في أ : لأنه.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٦٣.

(٤) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٦٣.

(٥) زاد في أ : الأول.

٧٦

والعامة : بضم الواو وهو في الأصل واو الضمير.

وابن السميفع وابن يعمر وابن إسحاق (١) : بكسرها ، وهو أصل التقاء السّاكنين.

وابن السميفع أيضا (٢) : بفتحها وهذا طلب للتخفيف.

وتقدم نحوه في : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) [البقرة : ١٦].

وحكى الكسائي إبدال الواو همزة.

قوله : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) ، وقال في البقرة : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) [البقرة : ٩٥].

قال الزمخشري (٣) : لا فرق بين «لا» و «لن» في أنّ كل واحد منهما نفي للمستقبل إلا أن في «لن» تأكيدا وتشديدا ليس في «لا» فأتي مرة بلفظ التأكيد (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) ومرة بغير لفظه (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ).

قال أبو حيان (٤) : «وهذا رجوع عن مذهبه وهو أن «لن» تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة وهو أنها لا تقتضيه».

قال شهاب الدين (٥) : وليس فيه رجوع ، غاية ما فيه أنه سكت عنه ، وتشريكه بين «لا» و «لن» في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص «لن» بمعنى آخر.

وتقدم الكلام على هذا مشبعا في «البقرة».

فصل

المعنى : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : أسلفوه من تكذيب محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو تمنوه لماتوا ، فكان ذلك بطلان قولهم وما ادعوه من الولاية (٦).

قال عليه الصلاة والسلام لما نزلت هذه الآية : «والذي نفسي بيده لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات» (٧).

وفي هذا إخبار عن الغيب ومعجزة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد مضى الكلام على هذه الآية في «البقرة» عند قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) [البقرة : ٩٤].

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٨)

قوله : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ).

__________________

(١) ينظر المحر الوجيز ٥ / ٣٠٨ والبحر المحيط ٨ / ٢٦٤ ، والدر المصون ٦ / ٣١٦.

(٢) ينظر السابق.

(٣) الكشاف ٤ / ٥٣١.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٢٦٤.

(٥) الدر المصون ٦ / ٣١٧.

(٦) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦٣.

(٧) تقدم.

٧٧

في هذه الفاء وجهان (١) :

أحدهما : أنها داخلة لما تضمنه الاسم من معنى الشرط ، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك.

قال الزجاج (٢) : ولا يقال : إنّ زيدا فمنطلق ، وهاهنا قال : (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) لما في معنى «الذي» من الشرط والجزاء ، أي : فررتم منه فإنه ملاقيكم ، وتكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه.

الثاني : أنها مزيدة محضة لا للتضمين المذكور.

وأفسد هؤلاء القول الأول بوجهين :

أحدهما : أن ذلك إنما يجوز إذا كان المبتدأ أو اسم إن موصولا ، واسم «إن» هنا ليس بموصول ، بل موصوفا بالموصول.

والثاني : أن الفرار من الموت لا ينجي منه فلم يشبه الشرط يعني أنه متحقق فلم يشبه الشرط الذي هو من شأنه الاحتمال.

وأجيب عن الأول : بأن الموصوف مع صفته كالشيء الواحد ؛ ولأن «الذي» لا يكون إلا صفة ، فإذا لم يذكر الموصوف دخلت الفاء ، والموصوف مراد ، فكذلك إذا صرح بها.

وعن الثاني : بأن خلقا كثيرا يظنون أن الفرار من أسباب الموت ينجيهم إلى وقت آخر.

وجوز مكي (٣) : أن يكون الخبر قوله : (الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) وتكون الفاء جواب الجملة قال : كما تقول : «زيد منطلق فقم إليه».

وفيه نظر ؛ لأنه لا ترتب بين قوله : (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) وبين قوله : (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) فليس نظيرا لما مثله (٤).

قال القرطبي (٥) : ويجوز أن يتم الكلام عند قوله : (الَّذِي تَفِرُّونَ) ثم يبدأ بقوله : (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ).

وقرأ زيد بن (٦) علي : «إنّه» بغير فاء.

وفيها أوجه (٧) :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٧.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٥ / ١٧١.

(٣) ينظر المشكل ٢ / ٧٣٤.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٧.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٦٣.

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٣١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦٤ ، والدر المصون ٦ / ٣١٧.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٧.

٧٨

أحدها : أنه مستأنف ، وحينئذ يكون الخبر نفس الموصول ، كأنه قيل : فإن الموت هو الشيء الذي تفرّون منه. قاله الزمخشري (١).

الثاني : أن الخبر الجملة من قوله : (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) وحينئذ يكون الموصول نعتا للموت.

الثالث : أن يكون «إنه» تأكيد ، لأن الموت لما طال الكلام أكد الحرف تأكيد لفظيا ، وقد عرف أنه لا يؤكد كذلك إلا بإعادة ما دخل عليه أو بإعادة ضميره ، فأكد بإعادة ضمير ما دخلت عليه «إن».

وحينئذ يكون الموصول نعتا للموت ، و «ملاقيكم» خبره ، كأنه قيل : إن الموت إنه ملاقيكم.

وقرأ ابن مسعود (٢) : «ملاقيكم» من غير «فإنه».

فإن قيل : الموت ملاقيهم على كل حال فروا أو لم يفروا ، فما معنى الشرط والجزاء؟.

فالجواب (٣) : أنّ هذا على جهة الرّد عليهم إذ ظنوا أن الفرار ينجيهم ، (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وهذا وعيد بليغ وتهديد شديد (٤).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(١١)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) الآية.

قرأ العامة : «الجمعة» بضمتين.

وقرأ عبد الله (٥) بن الزبير وزيد بن علي والأعمش وأبو حيوة وأبو عمرو في رواية بسكون الميم.

فقيل : هي لغة في الأولى وسكنت تخفيفا وهي لغة تميم.

وقيل : هو مصدر بمعنى الاجتماع.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٣١.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٣١ ، والرازي ٣٠ / ٧.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٨.

(٤) ينظر السابق ٣٠ / ٧.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٠٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦٤ ، والدر المصون ٦ / ٣١٨ ، والتخريجات النحوية ٣٠٥.

٧٩

وقيل : لما كان فيه معنى الفعل صار «كرجل هزأة» أي : يهزأ به ، فلما كان في «الجمعة» معنى التجمع أسكن ؛ لأنه مفعول به في المعنى أو يشبهه ، فصار ك «هزأة» الذي يهزأ به. قاله مكي (١).

وكذا قال أبو البقاء (٢) : هو بمعنى المجتمع فيه ، مثل : رجل ضحكة ، أي يضحك منه.

وقال مكي : يجوز إسكان الميم استخفافا ، وقيل : هي لغة.

وقد تقدم أنها قراءة وأنها لغة تميم.

وقال أبو حيان (٣) : «ولغة بفتحها لم يقرأ بها».

قال شهاب الدين (٤) : «قد نقلها أبو البقاء قراءة ، فقال : ويقرأ ـ بفتح الميم ـ بمعنى الفاعل ، أي : يوم المكان الجامع ، مثل : رجل ضحكة ، أي : كثير الضحك».

وقال مكي (٥) : «وفيه لغة ثالثة ـ بفتح الميم ـ على نسبة الفعل إليها كأنها تجمع الناس ، كما يقال : «رجل لحنة» إذا كان يلحن الناس ، وقرأة إذا كان يقرىء الناس» ، ونقلها قراءة أيضا الزمخشري ، إلا أن الزمخشري (٦) جعل «الجمعة» ـ بالسكون ـ هو الأصل ، وبالمضموم مخففا منه يقال : يوم الجمعة ، يوم الفوج المجموع ، كقولهم : «ضحكة» للمضحوك منه ، ويوم الجمعة ـ بفتح الميم ـ يوم الوقت الجامع ، كقولهم : ضحكة ولعبة ، ويوم الجمعة ، كما قيل : عسرة في عسرة ، وقرىء بهن جميعا.

وتقديره : يوم الوقت الجامع أحسن [من تقدير أبي البقاء يوم](٧) المكان الجامع ؛ لأن نسبة الجمع إلى الطرفين مجاز ، فالأولى إبقاؤه زمانا على حاله (٨).

قال القرطبي (٩) : «وجمعها جمع وجمعان».

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم ، فاقرأوها «جمعة» يعني بضم الميم (١٠).

__________________

(١) ينظر : المشكل ٢ / ٧٣٤.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٢٣.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٦٤.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٨.

(٥) ينظر : المشكل ٢ / ٧٣٤.

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٣٢.

(٧) سقط من أ.

(٨) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٨ ، وقال الزجاج : «وقرئت الجمعة ـ بإسكان الميم ـ ويجوز في اللغة الجمعة ـ بفتح الميم ـ ولا ينبغي أن يقرأ بها إلا أن تثبت بها رواية عن إمام من القراء. فمن قرأ الجمعة فهو تخفيف الجمعة ، لثقل الضمتين ، ومن قال في غير القراءة الجمعة ، فمعناه التي تجمع الناس ، كما تقول : رجل لعنة ، أي يكثر لعن الناس ، ورجل ضحكة ، يكثر الضحك». ينظر معاني القرآن ٥ / ١٧١.

(٩) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٦٤.

(١٠) ينظر : القرطبي (١٨ / ٦٢.

٨٠