اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

الأول : أن ظاهر الآية يقتضي وجوب تأخير البيان عن وقت الخطاب ، وأنتم لا تقولون به.

الثاني : أن عندنا الواجب أن يقرن باللفظ إشعارا بأنه ليس المراد في اللفظ ما يقتضيه ظاهره. فأما البيان التفصيلي فيجوز تأخيره فتحمل الآية على تأخير البيان التفصيلي.

وذكر القفال وجها ثالثا : وهو قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) ثم إنا نخبرك بأن علينا بيانه فيحمل على الترتيب ، ونظيره قوله تعالى (فَكُّ رَقَبَةٍ) إلى قوله (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٣ ـ ١٧].

قال ابن الخطيب (١) : والجواب عن الأول : أن اللفظ لا يقتضي وجوب تأخير البيان ، بل يقتضي تأخير وجوب البيان ، فيكون الجواب بالمنع لأن وجوب البيان لا يتحقق إلا عند الحاجة ، وعن الثاني : أنّ كلمة «ثمّ» دخلت على مطلق البيان المجمل والمفصل ، فالتخصيص بأحدهما تحكم بغير دليل.

وجواب القفال : بأنه ترك للظاهر بغير دليل.

فصل فيمن جوز الذنوب على الأنبياء

أورد من جوّز الذنوب على الأنبياء ، بأن هذا الاستعجال إن كان بإذن ، فكيف نهي عنه وإن كان بغير إذن فهو ذنب.

قال ابن الخطيب (٢) : والجواب : لعله كان مأذونا فيه إلى وقت النهي.

قوله تعالى : (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(٢٥)

قوله : (كَلَّا). قال الزمخشري : «كلّا» ردع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عادة العجلة وحثّ على الأناة.

وقال جماعة من المفسرين : «كلّا» معناه «حقّا» أي : حقّا تحبّون العاجلة ، وهو اختيار أبي حاتم ؛ لأن الإنسان بمعنى الناس.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : «كلّا» أي : أنّ أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه (٣).

وقيل : «كلّا» لا يصلّون ولا يزكّون ، يريد كفار «مكّة».

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٩٩.

(٢) السابق ٣٠ / ١٩٧.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٧٠).

٥٦١

(بَلْ تُحِبُّونَ). قرأ (١) ابن كثير وأبو عمرو : «يحبّون ، ويذرون» بياء الغيبة حملا على لفظة الإنسان المذكور أولا لأن المراد به الجنس ، وهو اختيار أبي حاتم ؛ لأن «الإنسان» بمعنى الناس والباقون : بالخطاب فيهما ، إما خطابا لكفار قريش أي : بل تحبون يا كفار قريش العاجلة ، أي : الدار الدنيا والحياة فيها (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) أي تدعون الآخرة والعمل لها ، وإما التفاتا عن الإخبار عن الجنس المتقدم ، والإقبال عليه بالخطاب.

واختار الخطاب أبو عبيد ، قال : ولو لا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء ، لذكر الإنسان قبل ذلك.

قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) فيه أوجه :

أحدها : أن يكون «وجوه» مبتدأ ، و «ناضرة» نعت له ، و «يومئذ» منصوب ب «ناضرة» و «ناظرة» خبره ، و (إِلى رَبِّها) متعلق بالخبر. والمعنى : أن الوجوه الحسنة يوم القيامة ناظرة إلى الله تعالى ، وهذا معنى صحيح ، والنّاضرة : من النّضرة وهي التنعم ، ومنه غصن ناضر.

الثاني : أن تكون «وجوه» مبتدأ أيضا ، و «ناضرة» خبره ، و «يومئذ» منصوب الخبر ـ كما تقدم ـ وسوّغ الابتداء هنا بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل ، كقوله : [المتقارب]

٤٩٩٦ ـ ............

فثوب لبست وثوب أجر (٢)

وتكون «ناضرة» نعتا ل «وجوه» أو خبرا ثانيا أو خبرا لمبتدأ محذوف ، و (إِلى رَبِّها) متعلق ب «ناظرة» كما تقدم.

وقال ابن عطية : وابتدأ بالنكرة ؛ لأنها تخصصت بقوله : «يومئذ».

وقال أبو البقاء : وجاز الابتداء هنا بالنّكرة لحصول الفائدة.

وفي كلا قوليهما نظر أما قول ابن عطية : فلأن قوله «تخصصت» بقوله : «يومئذ» هو التخصيص إما لكونها عاملة فيه ، وهو محال ؛ لأنها جامدة ، وإما لأنها موصوفة به ، وهو محال أيضا ؛ لأن الجثة لا توصف بالزمان كما لا يخبر به عنها.

وأما قول أبي البقاء : فإن أراد بحصول الفائدة ما تقدم من التفصيل فصحيح ، وإن عنى ما عناه ابن عطية فليس بصحيح لما تقدم.

الثالث : أن يكون «وجوه» مبتدأ ، و «يومئذ» خبره. قاله أبو البقاء.

وهذا غلط من حيث المعنى ومن حيث الصناعة.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٦١ ، والحجة ٦ / ٣٤٥ ، ٣٤٦ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤١٦ ، وحجة القراءات ٧٣٦.

(٢) تقدم.

٥٦٢

أما المعنى : فلا فائدة في الإخبار عنها بذلك ، وأما الصناعة : فلأنه لا يخبر بالزمان عن الجثة ، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤول نحو «الليلة الهلال».

الرابع : أن يكون «وجوه» مبتدأ و «ناضرة» خبره ، و (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) جملة مستأنفة في موضع خبر ثان ، قاله ابن عطية.

وفيه نظر ؛ لأنه لا ينعقد منهما كلام ؛ إذ الظاهر تعلّق «إلى» ب «ناظرة» اللهمّ إلا أن يعني أن «ناظرة» خبر لمبتدأ مضمر ، أي : هي ناظرة إلى ربها ، وهذه الجملة خبر ثان وفيه تعسف.

الخامس : أن يكون الخبر ل «وجوه» مقدّرا ، أي : وجوه يومئذ ثمّ ، و «ناضرة» صفة وكذلك «ناظرة».

قاله أبو البقاء. وهو بعيد لعدم الحاجة إلى ذلك.

والوجه : الأول لخلوصه من هذه التعسّفات. وكون «إلى» حرف جر ، و «ربها» مجرورا بها هو المتبادر إلى الذهن ، وقد خرجه بعض المعتزلة على أن يكون «إلى» اسما مفردا بمعنى النعمة مضافا إلى «الرب» ويجمع على «آلاء» نحو (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما) [الرحمن : ١٣] ـ وقد تقدم أن فيها لغات أربعا ـ و «ربّها» خفض بالإضافة والمفعول مقدم ناصبه «ناظرة» بمعنى منتظرة والتقدير : وجوه منتظرة نعمة ربها.

وهذا فرار من إثبات النظر لله ـ تعالى ـ على معتقدهم.

وتمحّل الزمخشري لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهة الصناعة ، فقال ـ بعد أن جعل التقديم في (إِلى رَبِّها) مؤذنا بالاختصاص ـ : والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، يريد معنى التوقّع والرجاء ؛ ومنه قول القائل : [الكامل]

٤٩٩٧ ـ وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعما (١)

وسمعت سرّيّة مستجدية ب «مكة» وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ، ويأوون إلى مقايلهم تقول : «عيينتي نويظرة» إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم.

قال شهاب الدين (٢) : وهذا كالحوم على من يقول إن «ناظرة» بمعنى منتظرة ، إلا أن مكيّا قد رد هذا القول ، فقال : ودخول «إلى» مع النظر يدل على أنه نظر العين ، وليس من الانتظار ولو كان من الانتظار لم تدخل معه «إلى» ؛ ألا ترى أنك لا تقول : انتظرت

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٦٢٢ ، والبحر ٨ / ٣٨٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٣٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٣١.

٥٦٣

إلى زيد ، وتقول : نظرت إلى زيد تعني نظر العين ، ف «إلى» تصحب نظر العين ، ولا تصحب نظر الانتظار ، فمن قال : إن «ناظرة» بمعنى «منتظرة» فقد أخطأ في المعنى وفي الإعراب ووضع الكلام في غير موضعه.

وقال القرطبي (١) : «إن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا : نظرته ، كما قال تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) [الزخرف : ٦٦] ، (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣] ، (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) [يس : ٤٩] ، وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا : نظرت فيه ، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر «إلى» وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان».

وقال الأزهري : «إن قول مجاهد : تنتظر ثواب ربها خطأ ؛ لأنه لا يقال : نظر إلى كذا بمعنى الانتظار ، وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين ، كذا تقوله العرب ؛ لأنهم يقولون : نظرت إليه إذا أرادوا نظر العين ، فإذا أرادوا الانتظار قالوا : نظرته» ؛ قال : [الطويل]

٤٩٩٨ ـ فإنّكما إن تنظرا لي ساعة

من الدّهر تنفعني لدى أمّ جندب (٢)

لما أرادوا الانتظار قال : تنظراني ، وإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه.

قال الشاعر : [الطويل]

٤٩٩٩ ـ نظرت إليها والنّجوم كأنّها

مصابيح رهبان تشبّ لقفّال (٣)

وقال آخر : [الطويل]

٥٠٠٠ ـ نظرت إليها بالمحصّب من منى

 ...........(٤)

والنّضرة : طراوة البشرة وجمالها ، وذلك من أثر النعمة ، يقال : نضر وجهه فهو ناضر.

وقال بعضهم : نسلم أنه من نظر العين إلا أن ذلك على حذف مضاف ، أي ثواب ربها ونحوه.

__________________

(١) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٧١.

(٢) تقدم.

(٣) قائله هو امرؤ القيس ينظر ديوانه ص ٣١ ، والهمع ١ / ٢٤٦ ، والدرر اللوامع ١ / ١٧٠ ، والقرطبي ١٩ / ٧١.

(٤) صدر بيت لعمر بن أبي ربيعة وعجزه :

لحيني شمس ستّرت بيمان

ويروى أيضا :

ولي نظر لو لا التّخرّج عارم

ينظر ديوان عمر بن أبي ربيعة ص ٢٦٥ ، والقرطبي ١٩ / ٧١.

٥٦٤

قال مكي : «لو جاز هذا لجاز : نظرت إلى زيد ، بمعنى : نظرت إلى عطاء زيد ، وفي هذا نقض لكلام العرب وتخليط في المعاني».

ونضره الله ونضّره ، مخففا ومثقلا ، أي : حسنه ونعمه.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ، فأدّاها كما سمعها» (١) يروى بالوجهين.

ويقال للذهب : نضار من ذلك ، ويقال له : النضر أيضا.

ويقال : أخضر ناضر كأسود حالك ، وقدح نضار : يروى بالإتباع والإضافة.

والعامة : «ناضرة» بألف ، وقرأ زيد (٢) بن علي : «نضرة» بدونها ، ك «فرح» فهو فرح.

فصل في الرؤية

روى مسلم في قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) [يونس : ٢٦] كان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ، ثم تلى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) لا (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)(٣).

وقال عكرمة : تنظر إلى ربها نظرا (٤) ، وحكى الماوردي عن ابن عمر وعكرمة ومجاهد : تنظر أمر ربها ، وليس معروفا إلا عن مجاهد وحده (٥).

وجمهور أهل السّنّة تمسك بهذه الآية لإثبات أن المؤمنين يرون الله ـ سبحانه وتعالى ـ يوم القيامة وأما المعتزلة فاحتجوا بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] ، ويقولون : النظر المقرون ب «إلى» ليس اسما للرؤية ، بل لمقدمة الرؤية ، وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماسا لرؤيته ، ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة ، وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف : ١٩٨] فأثبت النظر حال عدم الرؤية ، ويقال : نظر إليه شزرا ، ونظر إليه غضبان ونظر راضيا ، ولا يقال ذلك في الرؤية ،

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٨٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٣١.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٧٠) عن ابن عمر.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٤٣) عن مجاهد وأبي صالح وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٧٦) عن أبي صالح وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٤٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٩) وعزاه إلى ابن المنذر والآجري واللالكائي والبيهقي.

٥٦٥

ويقال : وجوه متناظرة ، أي : متقابلة ويقال : انظر إليه حتى تراه ، فتكون الرؤية غاية للنظر ، وأن النظر يحصل والرؤية غير حاصلة وقال : [الوافر]

٥٠٠١ ـ وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرّحمن تنتظر الخلاصا (١)

ولا رؤية مع النظر المقرون ب «إلى» ، وقال تعالى : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ٧٧] ومن قال : لا يراهم ، كفر ، قالوا : ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى : (ناظِرَةٌ) أي : منتظرة كقولك : أنا أنظر إليك في حاجتي ، أو يكون «إلى» مفرد «آلاء» وهي النعم ـ كما تقدم ـ والمراد : إلى ثواب ربها ؛ لأن الأدلة العقلية والسمعية لما منعت الرؤية وجب التأويل ، أو يكون المعنى أنها لا تسأل ، ولا ترغب إلا إلى الله عزوجل ، كقوله : «اعبد الله كأنّك تراه».

قال ابن الخطيب (٢) : والجواب : لنا مقامان :

أحدهما : أن نقول : النظر هو الرؤية كقول موسى عليه الصلاة والسلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ، فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان ، ولأنه أخر النظر عن الإرادة فلا يكون تقليب.

المقام الثاني : سلمنا ما ذكرتموه من أن النظر تقليب الحدقة للرؤية ، لكن يقدر حمله على الحقيقة ، فيجب الحمل على الرؤية إطلاقا لاسم السبب على المسبب ، وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة ؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ، ولا تعلق بينه وبين الانتظار.

وأما قولهم : نحمله على الانتظار قلنا : الذي هو بمعنى الانتظار ، وفي القرآن غير مقرون ، كقوله تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ) [الحديد : ١٣] ، (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣] ، والذي ندّعيه أن النظر المقرون ب «إلى» ليس بمعنى الرؤية ؛ لأن وروده بمعنى الرؤية ، أو بالمعنى الذي يستعقب الرؤية ظاهر ، فلا يكون بمعنى الانتظار دفعا للاشتراك وقوله : «وجوه ناظرات يوم بدر». شعر موضوع ، والرواية الصحيحة : [الوافر]

٥٠٠٢ ـ وجوه ناظرات يوم بكر

إلى الرّحمن تنتظر الخلاصا (٣)

والمراد من هذا الرحمن : مسيلمة الكذاب ؛ لأنهم كانوا يسمّونه رحمن اليمامة ، وأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه الخلاص من الأعداء.

وقولهم : هو مفرد «آلاء» أي : نعمة ربها.

__________________

(١) يروى : فلاحا ـ خلاصا.

ينظر مجمع البيان ١٠ / ٦٠٠ ، والرازي ٣٠ / ٢٠٠.

(٢) الفخر الرازي ٣٠ / ٢٠١.

(٣) تقدم قريبا.

٥٦٦

قلنا : فيصدق على أيّ نعمة كانت.

وإن قلنا : لأنه إنما كان للماهية التي يصدق عليها أنها نعمة ، فعلى هذا يكفي في تحقيق مسمّى هذه اللفظة أي جزء فرض من أجزاء النعمة ، وإن كانت غاية في القلة والحقارة ، وكيف يمكن أن تكون من حاله الثواب يومئذ في النعم العظيمة ، فكيف ينتظرون نعمة قليلة ، وكيف يمكن أن يكون من حاله كذلك أن يبشر بأنه يتوقع الشيء الذي يطلق عليه اسم النعمة ، ومثال هذا : أن يبشر سلطان الأرض بأنه سيصير حاله في العظمة والقوة بعد سنة بحيث يكون متوقعا لحصول نعمة واحدة فكما أن ذلك فاسد ، فكذا هاهنا سلمنا أن النظر المتعدي ب «إلى» المقرون بالوجوه جاء في اللغة بمعنى الانتظار ، ولكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه ؛ لأن لذة الانتظار مع تعين الوقوع كانت حاصلة في الدنيا ، فلا بد وأن تحصل في الآخرة زيادة حتى يحصل الترغيب في الآخرة ، ولا يجوز أن يكون ذلك هو قرب الحصول.

قال القشيري : وهذا باطل ؛ لأن واحد «الآلاء» يكتب بالألف لا بالياء.

وقرب الحصول معلوم بالعقل فبطل التأويل.

وأما قولهم : المراد ثواب ربها ، فهو خلاف الظاهر ، هذا ما ذكره ابن الخطيب.

وروى القرطبي في «تفسيره» قال (١) : خرج «مسلم» عن جرير بن عبد الله قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّكم سترون ربّكم عيانا كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم ألّا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشّمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا» ثمّ قرأ : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) متفق عليه(٢).

وفي كتاب «النسائي» عن صهيب ـ رضي الله عنه ـ قال : «فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فو الله ما أعطاهم شيئا أحبّ إليهم من النّظر ، ولا أقرّ لأعينهم» (٣).

وروى أبو إسحاق الثعلبيّ عن الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يتجلّى ربّنا ـ سبحانه وتعالى ـ حتّى ينظر إلى وجهه فيخرّون له سجّدا ، فيقول الله تعالى : ارفعوا رءوسكم فليس هذا بيوم عبادة» (٤).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٧٠.

(٢) أخرجه البخاري ٨ / ٤٦٢ ـ ٤٦٣ ، كتاب التفسير : باب «وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب» (٤٨٥١) ، ومسلم ١ / ٤٣٩ ؛ ٤٤٠ ، كتاب المساجد : باب فضل صلاة الصبح والعصر والمحافظة عليها ٢١١ / ٦٣٣ ، (٢١٢).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٧١).

(٤) ينظر المصدر السابق.

٥٦٧

وقال القرطبي (١) : وقيل : أضاف النظر إلى العين ؛ لأن العين في الوجه فهو كقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥] والماء يجري في النهر لا النهر ثم قد يكون الوجه بمعنى العين ، قال تعالى : (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) [يوسف : ٩٣] ، أي على عينيه ، ثم لا يبعد قلب العادة غدا حتى يخلق النظر في الوجه وهو كقوله تعالى (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) [الملك : ٢٢].

فقيل : يا رسول الله ، كيف يمشون في النّار على وجوههم؟ قال : «الّذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» (٢).

قوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) ، أي : وجوه الكفار يوم القيامة شديدة كالحة.

والباسر : الشديد العبوس ، والباسل : أشد منه ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحة.

وفي «الصّحاح» (٣) : وبسر الفحل الناقة وابتسرها : إذا ضربها ، وبسر الرجل وجهه بسورا أي : كلح ، يقال : «عبس وبسر».

وقال السديّ : «باسرة» متغيّرة ، والمعنى : أنها عابسة كالحة قد أظلمت ألوانها (٤).

قوله تعالى : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ). أي : توقن وتعلم.

قال ابن الخطيب (٥) : هكذا قاله المفسرون ، وعندي أن الظن هنا إنما ذكر على سبيل التهكم ، كأنه قيل لما شاهدوا تلك الأحوال حصل فيهم ظن أن القيامة حق.

والفاقرة هي الداهية العظيمة ، قاله أبو عبيدة.

سميت بذلك لأنها تكسر فقار الظهر.

قال النابغة : [الطويل]

٥٠٠٣ ـ أبى لي قبر لا يزال مقابلي

وضربة فأس فوق رأسي فاقره (٦)

أي : داهية مؤثّرة ، يقال : فقرته الفاقرة ، أي : كسرت فقار ظهره. قال معناه مجاهد وغيره ، ومنه سمي الفقير لانكسار فقاره من القلّ وقد تقدم في البقرة (٧).

__________________

(١) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٧٠.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر الصحاح ٢ / ٥٨٩.

(٤) ذكره القرطبي في تفسيره (١٩ / ٧٠).

(٥) ينظر الرازي ٣٠ / ٢٠٣.

(٦) يروى إن لي قبرا ، مكان أبى لي قبر.

ينظر ديوانه (١٢١) ، والقرطبي ١٩ / ٧٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٧٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٣١ ، وفتح القدير ٥ / ٣٣٩.

(٧) آية ٢٦٨.

٥٦٨

وقال قتادة : «الفاقرة» : الشر (١) ، وقال السديّ : الهلاك (٢).

وقال ابن عباس وزيد : دخول النار (٣) ، وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم. قاله الأصمعي.

يقال : فقرت أنف البعير : إذا حززته بحديدة ، ثم جعلت على موضع الحزّ الجرير وعليه وتر ملويّ لتذلله وتروضه.

قوله تعالى : (كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)(٣٥)

قوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) «كلّا» ردع وزجر ، أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ، ثم استأنف فقال : (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) أي : بلغت النفس والروح التراقي فأخبر بما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب به كقوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] وقوله : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) [الواقعة : ٨٣].

وقيل : «كلّا» معناه «حقّا» إن المساق إلى الله تعالى إذا بلغت التراقي ، أي إذا ارتفعت النفس إلى التراقي.

وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إذا بلغت نفس الكافر التراقي (٤). و «التراقي» : مفعول «بلغت» والفاعل مضمر ، أي : النفس وإن لم يجر لها ذكر ، كقول حاتم : [الطويل]

٥٠٠٤ ـ أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر (٥)

أي : حشرجت النفس.

وقيل في البيت : إن الدال على النفس ذكر جملة ما اشتمل عليها وهو الفتى فكذلك هنا ذكر الإنسان دال على النفس ، والعامل في (إِذا بَلَغَتِ) معنى قوله تعالى : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) [القيامة : ٣٠] ، أي : إذ بلغت الحلقوم رفعت إلى الله تعالى ، ويكون قوله : (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) [القيامة : ٢٧] معطوف على «بلغت».

و «التراقي» : جمع «ترقوة» ، أصلها : «تراقو» قلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٤٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٧٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٧٢).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) تقدم.

٥٦٩

والترقوة : أحد عظام الصدر. قاله أبو حيان (١) ، والمعروف غير ذلك.

قال الزمخشري : ولكل إنسان ترقوتان ، فعلى هذا يكون من باب : غليظ الحواجب وعريض المناكب.

وقال القرطبي (٢) : «هي العظام المكتنفة لنقرة النحر ، وهو مقدم الدّلق من أعلى الصدر ، وهو موضع الحشرجة».

قال دريد بن الصمّة : [الوافر]

٥٠٠٥ ـ وربّ عظيمة دافعت عنها

وقد بلغت نفوسهم التّراقي (٣)

وقال الراغب : «التّرقوة» : عظم وصل ما بين نقرة النحر والعاتق انتهى.

وقال الزمخشري : العظام المكتنفة لنقرة النحر عن يمين وشمال. ووزنها : «فعلوة» فالتاء أصل والواو زائدة ، يدل عليه إدخال أهل اللغة إياها في مادة «ترق».

وقال أبو البقاء والفراء : جمع ترقوة ، وهي «فعلوة» ، وليست ب «تفعلة» ، إذ ليس في الكلام «رقو».

وقرىء (٤) : «التراقي» بسكون ، وهي كقراءة زيد : (تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة : ٨٩] وقد تقدم توجيهها.

وقد يكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت.

فصل في الرد على من طعن في الآية

قال ابن الخطيب (٥) : قال بعض الطّاعنين : إن النفس إنما تصل إلى التراقي بعد مفارقتها للقلب ومتى فارقت النفس القلب حصل الموت لا محالة ، والآية تدل على أن عند بلوغها التراقي تبقى الحياة حتى يقال فيه : من راق وحتى تلتف الساق بالساق ، والجواب : أن المراد من قوله : «حتّى (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ») ، أي : إذا حصل بالقرب من تلك الحالة.

قوله : (مَنْ راقٍ) مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل ، وأصول البصريين تقتضي ألا يكون ؛ لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة ، بل القائم مقامه ضمير المصدر وقد تقدم تحقيق هذا في البقرة.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٨٢.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٧٢.

(٣) قيل البيت لدريد بن الصّمة ، وقيل لابنته عمرة ترثي أباها ، وقيل لذي الرمة.

ينظر مجمع البيان ١٠ / ٦٠٥ ، والقرطبي ١٩ / ٧٢ ، والبحر ٨ / ٣٧٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٣٢.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٣٢.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٢٠٤.

٥٧٠

وهذا الاستفهام يجوز أن يكون على بابه ، وأن يكون استبعادا وإنكارا.

فالأول مروي عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما ، قالوا : هو من الرقية.

وروى سماك عن عكرمة قال : (مَنْ راقٍ) يرقي ويشفي (١).

والثاني رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس أيضا : هل من طبيب يشفيه ، وهو قول أبي قلابة وقتادة. وقال الشاعر : [البسيط]

٥٠٠٦ ـ هل للفتى من بنات الدّهر من واق؟

أم هل له من حمام الموت من راق؟ (٢)

وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس ، أي من يقدر أن يرقي من الموت.

وعن ابن عباس أيضا وأبي الجوزاء : أنه من رقي يرقى : إذا صعد (٣).

والمعنى : من يرقى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟.

وقيل : إن ملك الموت يقول : (مَنْ راقٍ) أي : من يرقى بهذه النفس.

قال شهاب الدين (٤) : و «راق» اسم فاعل إما من «رقى يرقي» من الرقية ، وهو كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما أدراك أنّها رقية» (٥) يعني الفاتحة ، وهو اسم من أسمائها ، وإما من «رقي يرقى» من الرّقي وهو الصعود أي أن الملائكة لكراهتها في روحه تقول : من يصعد بهذه الروح يقال : «رقى ـ بالفتح ـ من الرّقية ، وبالكسر من الرّقي» ، ووقف حفص على نون «من» سكتة لطيفة ، وقد تقدم تحقيق هذا في أول الكهف.

وذكر سيبويه أن النون تدغم في الراء وجوبا بغنة وبغيرها نحو «من راشد».

قال الواحدي : إن إظهار النون عند حروف الفم لحن فلا يجوز إظهار نون «من» في قوله : (مَنْ راقٍ).

وروى حفص عن عاصم (٦) : إظهار النون واللام في قوله : («مَنْ راقٍ) و «بل ران».

قال أبو علي الفارسي : «ولا أعرف وجه ذلك».

قال الواحدي : والوجه أن يقال : قصدوا الوقف على «من» و «بل» ، فأظهروهما ثم ابتدأوا بما بعدهما ، وهذا غير مرضي من القراءة.

قوله : (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) ، أي : أيقن الإنسان أنه الفراق ، أي : فراق الدنيا ، والأهل

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٤٥) عن عكرمة.

(٢) ينظر : القرطبي ١٩ / ٧٣.

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٥٨) والقرطبي (١٩ / ٧٣).

(٤) الدر المصون ٦ / ٤٣٢.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : السبعة ٦٦١ ، والحجة ٦ / ٣٤٦ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤١٧ ، وحجة القراءات ٧٣٧.

٥٧١

والمال والولد ، وذلك حين يعاين الملائكة ، وسمي اليقين هنا بالظن ؛ لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ، ولا ينقطع رجاؤه عنها ، فلا يحصل له يقين الموت ، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة ، أو لعله سماه بالظن الغالب تهكما.

قال ابن الخطيب (١) : وهذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن ؛ لأن الله ـ تعالى ـ سمى الموت فراقا ، والفراق إنما يكون إذا كانت الروح باقية ، فإن الفراق والوصال صفة ، والصفة تستدعي وجود الموصوف.

قوله تعالى : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ). الالتفاف هو الاجتماع ، قال تعالى : (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) [الإسراء : ١٠٤] ومعنى الكلام : اتصلت الشدة بالشدة ، شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة. قاله ابن عباس والحسن وغيرهما (٢).

وقال الشعبي وغيره : التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكرب (٣).

قال قتادة : أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى (٤).

وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضا : هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن (٥).

وقال زيد بن أسلم : التفت ساق الكفن بساق الميت (٦).

قال النحاس : القول الأول أحسنها ، لقول ابن عباس : هو آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله (٧) ، والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد والمحن العظام ، ومنه قولهم : قامت الحرب على ساق.

قال أهل المعاني : إن الإنسان إذا دهمته شدة شمّر لها عن ساقيه ، فقيل للأمر الشديد : ساق ، قال الجعديّ : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٢٠٥.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٤٧) عن ابن عباس والحسن ومجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٧٨) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم ، وعن مجاهد وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وذكره عن الحسن وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٤٨) عن الشعبي.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٤٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٧٨) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٤٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٧٨) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٧٣).

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٤٧) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٧٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

٥٧٢

٥٠٠٧ ـ أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها

وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا (١)

قوله تعالى : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ). أي : إلى خالقك يومئذ ، أي : يوم الساق ، أي : المرجع ، و «المساق» «مفعل» من السوق وهو اسم مصدر.

قال القرطبي (٢) : «المساق» : مصدر ساق يسوق ، كالمقال من قال يقول.

قوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) «لا» هنا دخلت على الماضي ، وهو مستفيض في كلامهم بمعنى : لم يصدق ولم يصل.

قال : [الرجز]

٥٠٠٨ ـ إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا

وأيّ عبد لك لا ألمّا (٣)

وقال آخر : [الطويل]

٥٠٠٩ ـ وأيّ خميس ، لا أتانا نهابه

وأسيافنا من كبشه تقطر الدّما (٤)

وقال مكيّ : «لا» الثانية نفي ، وليست بعاطفة ، ومعناه : فلم يصدق ولم يصل.

قال شهاب الدين (٥) : «وكيف يتوهم العطف حتى ينفيه».

وجعل الزمخشري «فلا صدق وصلى» عطفا على الجملة من قوله : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) قال : وهو معطوف على قوله : (يَسْئَلُ أَيَّانَ) أي لا يؤمن بالبعث فلا صدق بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن الكريم.

واستبعده أبو حيان.

وقال الكسائي : «لا» بمعنى «لم» ولكنه يقرن بغيره ، تقول العرب : لا عبد الله خارج ولا فلان ، ولا تقول : مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل ، وقوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد : ١١] ليس من هذا القبيل ؛ لأن معناه : فهلا اقتحم ، بحذف حرف الاستفهام.

__________________

(١) تقدم.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٧٣.

(٣) البيت لأمية بن أبي الصلت ، وقيل لأبي خراش الهذلي.

ينظر ابن الشجري ١ / ١٤٤ ، ٢ / ٩٤ ، ٢٢٨ ، والإنصاف ١ / ٧٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٢٥ ، واللسان (لمم) ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٩٥.

(٤) يروى الشطر الثاني :

وأسيافنا يقطرن من كبشه دما

ينظر ابن الشجري ٢ / ٢٢٨ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٧٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٨١ ، والدر المصون ٦ / ٤٣٣.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٣٣.

٥٧٣

وقال الأخفش : (فَلا صَدَّقَ) أي : لم يصدق ، كقوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ) أي : لم يقتحم ، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر ، والعرب تقول : لا ذهب ، أي : لم يذهب ، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل ، ومنه قول زهير : [الطويل]

٥٠١٠ ـ ............

فلا هو أبداها ولم يتقدّم (١)

فصل في معنى الآية

قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه لم يصدق بالرسالة (٢) ، (وَلا صَلَّى) أي : دعا لربه ـ عزوجل ـ وصلى على رسوله عليه الصلاة والسلام.

وقال قتادة : (فَلا صَدَّقَ) بكتاب الله (وَلا صَلَّى) لله تعالى (٣).

[وقيل : لا صدق بمال ذخرا له عند الله تعالى (وَلا صَلَّى) الصلوات التي أمر الله بها.

وقيل : فلا آمن بقلبه](٤) ولا عمل ببدنه.

قيل : المراد أبو جهل.

وقيل : الإنسان المذكور في قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) [القيامة : ٣].

قوله : (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) الاستدراك هنا واضح ؛ لأنه لا يلزم من نفي التصدق والصلاة ، التكذيب والتولي لأن كثيرا من المسلمين كذلك فاستدرك ذلك بأن سببه التكذيب والتولي ، ولهذا يضعف أن يحمل نفي التصديق على نفي تصديق الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لئلا يلزم التكرار فتقع «لكن» بين متوافقين ، وهو لا يجوز.

قال القرطبي (٥) : ومعناه كذب بالقرآن ، وتولى عن الإيمان.

قوله تعالى : (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى). أي : يتبختر افتخارا بذلك. قاله مجاهد وغيره.

«يتمطّى» جملة حالية من فاعل «ذهب» ، ويجوز أن يكون بمعنى شرع في التمطّي ؛ كقوله : [الطويل]

٥٠١١ ـ فقام يذود النّاس عنها بسيفه (٦)

__________________

(١) عجز بيت وصدره :

وكان طوى كشحا على مستكنه

ينظر ديوان زهير ص ٢٢ ، واللسان طوى ، والقرطبي ١٩ / ٨٤.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٧٤).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٥٠).

(٤) سقط من : أ.

(٥) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٧٤.

(٦) تقدم.

٥٧٤

وتمطى ـ هنا ـ فيه قولان :

أحدهما : أنه من «المطا» وهو الظهر ، ومعناه : يتبختر أي يمد مطاه ويلويه تبخترا في مشيته.

الثاني : أن أصله «يتمطّط» أي يتمدّد ، ومعناه : أنه يتمدد في مشيته تبخترا ، ومن لازم التبختر ذلك فهو يقرب من معنى الأول ، ويفارقه في مادته ، إذ مادة «المطا» : «م ط و» ، ومادة الثاني : «م ط ط» ، وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهية اجتماع الأمثال نحو : تطيبت ، وقصيت أظفاري ، وقوله : [الرجز]

٥٠١٢ ـ تقضّي البازي إذا البازي كسر (١)

والمطيطاء : التبختر ومد اليدين في المشي ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المطيطاء وخدمتهم من فارس والرّوم كان بأسهم بينهم» (٢).

و «المطيط» : الماء الخاثر أسفل الحوض ؛ لأنه يتمطّط ، أي : يمتدّ فيه.

وقال القرطبي (٣) : التمطط : هو التمدد من التكسّل والتثاقل فهو متثاقل عن الداعي إلى الحق ، والتمطي يدل على قلة الاكتراث.

قوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) تقدم الكلام عليه في أول سورة القتال ، وإنما كررها هنا مبالغة في التهديد والوعيد ، فهو تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد ؛ قالت الخنساء : [المتقارب]

٥٠١٣ ـ هممت بنفسي كلّ الهموم

فأولى لنفسي أولى لها (٤)

وقال أبو البقاء هنا : «وزن» أولى فيه قولان :

أحدهما : «فعلى» والألف فيه للإلحاق لا للتأنيث.

والثاني : هو «أفعل» ، وهو على القولين هنا «علم» ، ولذلك لم ينون ، ويدل عليه ما حكى أبو زيد في «النوادر» : هي أولاة ـ بالتاء ـ غير مصروف ، لأنه صار علما للوعيد ، فصار كرجل اسمه أحمد ، فعلى هذا يكون أولى مبتدأ ، و «لك» الخبر.

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» رقم (١٨٧) والترمذي (٢ / ٤٢ ـ ٤٣) وابن عدي في «الكامل» (١ / ٣٢٣) من حديث ابن عمر.

وله شاهد من حديث أبي هريرة. ذكره الهيثمي في «المجمع» (١٠ / ٢٤٠) وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» وإسناده حسن.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٧٤.

(٤) ينظر ديوانها ص ٨٣ ، وابن الشجري ١ / ٢٤٣ ، ٢ / ٣٢٥ ، والخصائص ٣ / ٤٤ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦٠٥ ، ٨٤١.

٥٧٥

والثاني : أن يكون اسما للفعل مبنيا ، ومعناه : وليك شر بعد شر ، و «لك» تبيين.

فصل في نزول الآية

قال قتادة ومقاتل والكلبي : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسجد ذات ليلة فاستقبله أبو جهل على باب المسجد ممّا يلي باب بني مخزوم ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، فهزه مرة أو مرتين ثم قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أولى لك فأولى ، ثمّ أولى لك فأولى» فقال أبو جهل : أتهدّدني؟ فو الله إنّي لأعزّ أهل هذا الوادي وأكرمه ، ولا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا ثمّ انسلّ ذاهبا ، فأنزل الله ـ تعالى ـ كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام (١).

ومعنى أولى لك يعني ويل لك ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٥٠١٤ ـ فأولى ثمّ أولى ثمّ أولى

وهل للدّرّ يحلب من مردّ؟ (٢)

وقيل : هو من المقلوب ، كأنه قيل : «ويل» ثم أخر الحرف المعتل ، والمعنى : الويل لك يوم تدخل النار ؛ وهذا التكرير كقوله : [الطويل]

٥٠١٥ ـ ............

لك الويلات إنّك مرجلي (٣)

أي لك الويل ثم الويل.

وقيل : معناه الذم لك أولى من تركه.

وقيل : المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب.

وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : قال الأصمعي «أولى» في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك كما تقول : قد وليت الهلاك ، أي دانيت الهلاك ، وأصله من «الولي» وهو القرب ، قال تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) [التوبة : ١٢٣] أي : يقربون منكم.

قال القرطبي : «وقيل : التكرير فيه على معنى من ألزم لك على عملك السيّىء الأول ثم الثاني والثالث والرابع».

قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠)

قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) ، أي : أيظن ابن آدم (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي : أن يخلى مهملا ، فلا يؤمر ولا ينهى. قاله ابن زيد ومجاهد (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٥١) عن قتادة. وذكره القرطبي «تفسيره» (١٩ / ٧٤).

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٥٩) والقرطبي (١٩ / ٧٦).

٥٧٦

وقيل : أن يترك في قبره أبدا كذلك لا يبعث. و «سدى» حال من فاعل «يترك» ومعناه : مهملا ، يقال : إبل سدى ، أي : مهملة.

وقال الشاعر : [المتقارب]

٥٠١٦ ـ وأقسم بالله جهد اليمي

ن ما خلق الله شيئا سدى (١)

أي : مهملا ، وأسديت حاجتي ، أي ضيعتها ، ومعنى أسدى إليه معروفا ، أي : جعله بمنزلة الضائع عند المسدى إليه لا يذكره ولا يمن به عليه.

قوله : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً). العامة : على الياء من تحت في «يك» رجوعا إلى الإنسان.

والحسن (٢) : بتاء الخطاب ، على الالتفات إليه توبيخا له.

وقوله : (مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى). قرأ حفص : «يمنى» بالياء من تحت.

وفيه وجهان :

أحدهما : أن الضمير عائد على المني ـ أي يصب ـ فتكون الجملة في محل جر.

والثاني : أنه يعود للنطفة ، لأن تأنيثها مجازيّ ؛ ولأنها في معنى الماء. قاله أبو البقاء.

وهذا إنما يتمشى على قول ابن كيسان.

وأما النحاة فيجعلونه ضرورة ؛ كقوله : [المتقارب]

٥٠١٧ ـ ............

ولا أرض أبقل إبقالها (٣)

وقرأ الباقون (٤) : «تمنى» بالتاء من فوق على أن الضمير للنطفة ، فعلى هذه القراءة وعلى الوجه المذكور قبلها تكون الجملة في محل نصب ؛ لأنها صفة المنصوب.

فصل في معنى الآية

والمعنى من قطرة ما تمنى في الرحم ، أي تراق فيه ، ولذلك سميت «منى» لإراقة الدماء ، والنّطفة : الماء القليل ، ويقال : نطف الماء ، أي : قطر ، أي ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة ، فنبه تعالى بهذا على خسة قدره. ثم قال تعالى : (فَخَلَقَ فَسَوَّى) أي : فسواه تسوية ، وعدله تعديلا بجعل الروح فيه.

وقيل : فخلق فقدر فسوى فعدل.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٩ / ٧٦ ، والبحر ٨ / ٣٧٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٣٤.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٠٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٨٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٣٤.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر السبعة ٦٦٢ ، والحجة ، ٦ / ٣٤٦ ، ٣٤٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤١٧.

٥٧٧

وقيل : «فخلق» أي : نفخ فيه «فسوى» فكمل أعضاءه. قاله ابن عباس ومقاتل.

(فَجَعَلَ مِنْهُ) أي : من الإنسان.

وقيل : من المني «الزوجين ، الذكر والأنثى» أي : الرجل والمرأة.

فقوله تعالى (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) يجوز أن يكونا بدلين من الزوجين على لغة من يرى إجراء المثنى إجراء المقصور ، وقد تقدم تحقيقه في «طه» ومن ينسب إليه هذه اللغة والاستشهاد على ذلك [طه : ٦٣].

فصل فيمن احتج بالآية على إسقاط الخنثى

قال القرطبي (١) : وقد احتج بهذه الآية من رأى إسقاط الخنثى وقد مضى في سورة «الشورى» أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجت مخرج الغالب.

فإن قيل : ما فائدة قوله : «يمنى» في قوله تعالى : («مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى»؟) فالجواب فيه إشارة إلى حقارة حاله ، كأنه قيل : إنه مخلوق من المني الذي يجري مجرى النّجاسة ، فلا يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله ـ تعالى ـ إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز ، كما في قوله تعالى في «عيسى ومريم» ـ عليهما الصلاة والسلام ـ (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة: ٧٥] والمراد منه قضاء الحاجة.

قوله تعالى : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ) أي : أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة ماء.

وقوله : «بقادر» اسم فاعل مجرور ب «باء» زائدة في خبر «ليس» وهذه قراءة العامة.

وقرأ زيد بن علي (٢) : «يقدر» فعلا مضارعا.

والعامة : على نصب «يحيى» ب «أن» لأن الفتحة خفيفة على حرف العلة.

وقرأ طلحة (٣) بن سليمان والفياض بن غزوان : بسكونها ، فإما أن يكون خفف حرف العلة بحذف حرف الإعراب. وإما أن يكون أجرى الوصل مجرى الوقف ، وجمهور النّاس على وجوب فك الإدغام.

قال أبو البقاء : لئلا يجمع بين ساكنين لفظا وتقديرا.

يعني أن الحاء ساكنة ، فلو أدغمنا لسكنا الياء الأولى أيضا للإدغام ، فيلتقي ساكنان لفظا ، وهو متعذر النطق ، فهذان ساكنان لفظا.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٧٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٨٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٣٤.

(٣) ينظر : السابق ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٠٧.

٥٧٨

وأما قوله : تقديرا ؛ فإن بعض الناس جوز الإدغام في ذلك ، وقراءته (١) أن يحيّ ، وذلك أنه لما أراد الإدغام نقل حركة الياء الأولى إلى الحاء فأدغمها فالتقى ساكنان ، الحاء لأنها ساكنة في الأصل قبل النقل إليها والياء ؛ لأن حركتها نقلت من عليها إلى الحاء ؛ واستشهد الفراء لهذه القراءة بقول الشاعر : [الكامل]

٥٠١٨ ـ تمشي بسدّة بيتها فتعيّ (٢)

وأما أهل «البصرة» فلا يدغمونه ألبتة قالوا : لأن حركة الياء عارضة إذ هي للإعراب.

وقال مكي : وقد أجمعوا على عدم الإدغام في حال الرفع ، وأما في حال النصب فقد أجازه الفرّاء لأجل تحرك الياء الثانية ، وهو لا يجوز عند البصريين ، لأن الحركة عارضة.

قال شهاب الدين (٣) : ادعاؤه الإجماع مردود بالبيت الذي تقدم إنشاده عن الفراء ، وهو قوله : «فتعيّ» فهذا مرفوع وقد أدغم ، ولا يبعد ذلك لأنه لما أدغم ظهرت تلك الحركة لسكون ما قبل الياء بالإدغام».

فصل في معنى الآية

المعنى الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة ماء قادر على أن يحيي الموتى أي : أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه كان إذا قرأها ، قال : «سبحانك اللهمّ وبلى» (٤).

وقال ابن عباس : من قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) إماما كان أو غيره فليقل : «سبحان ربّي الأعلى» ومن قرأ : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) إلى آخرها فليقل : سبحانك اللهم بلى ، إماما كان أو غير (٥).

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبريل له يوم القيامة أنه كان مؤمنا بيوم القيامة وجاء ووجهه يسفر عن وجوه الخلائق يوم القيامة» (٦). والله أعلم وأحكم.

تمّ الجزء التّاسع عشر ، ويليه الجزء العشرون

وأوّله : تفسير سورة الإنسان

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٨٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٣٥.

(٢) تقدم.

(٣) الدر المصون ٦ / ٤٣٥.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٧٩) وعزاه إلى ابن مردويه.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٧٩) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر.

(٦) تقدم تخريجه.

٥٧٩
٥٨٠