اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

سورة القيامة

مكيّة ، وهي تسع وثلاثون آية ، [وهي في المصحف أربعون آية] ومائة وسبع وتسعون كلمة ، وستمائة واثنان وخمسون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ)(٦)

قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ).

العامّة : على «لا» نافية ، واختلفوا حينئذ فيها على أوجه :

أحدها : أنّها نافية لكلام تقدم ، كأنّ الكفّار ذكروا شيئا ، فقيل لهم : «لا» ثم ابتدأ الله قسما.

قال القرطبي (١) رحمه‌الله : «إنّ القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار ، فجاء الإقسام بالردّ عليهم كقوله : «والله لا أفعل» ف «لا» ردّ لكلام قد مضى ، وذلك كقولك : لا والله إن القيامة. لحق ، كأنك أكذبت قوما أنكروه».

والثاني : أنها مزيدة. قال الزمخشري : قالوا : إنها مزيدة ، مثلها في (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] ، وفي قوله ـ عزوجل ـ : (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف: ١٢] ؛ وقوله : [الرجز]

٤٩٧٨ ـ في بئر لا حور سرى وما شعر (٢)

قال ابن الخطيب (٣) : وهذا القول عندي ضعيف من وجوه :

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٦٠.

(٢) الرجز للعجاج في ديوانه ١ / ٢٠ ، والأزهية ص ١٥٤ ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٦٤ وخزانة الأدب ٤ / ٥١ ، ٥٢ ، ٥٣ ، وشرح المفصل ٨ / ١٣٦ ، ولسان العرب (حور) ، وجمهرة اللغة ص ٥٢٥ ، والخصائص ٢ / ٤٧٧ ، وإعراب القرآن للنحاس ٥ / ٧٨.

(٣) ينظر الرازي ٣٠ / ١٨٩.

٥٤١

أحدها : أنّ تجويز هذا يفضي إلى الطعن في القرآن ، لأن على هذا التقدير يجوز جعل النفي إثباتا ، والإثبات نفيا ، وذلك ينفي الاعتماد على الكلام نفيا وإثباتا.

وثانيها : أن الحرف إنما يزاد في وسط الكلام ، فإن امرأ القيس زادها في مستهل قصيدته ؛ وهي قوله : [المتقارب]

٤٩٧٩ ـ فلا ـ وأبيك ـ ابنة العامري

ي لا يدّعي القوم أنّي أفر (١)

وأيضا : هب أنّ هذا الحرف في أول الكلام إلا أنّ القرآن كله كالسّورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض بدليل أنه قد يذكر الشيء في سورة ثم يجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] ثم جاء جوابه في سورة أخرى وهو قوله (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] ، وإذا كان كذلك ، كان أوّل هذه السورة جاريا مجرى وسط الكلام.

والجواب عن الأول : أنّ قوله : لا وأبيك ، قسم عن النفي ، وقوله : (لا أُقْسِمُ) نفي للقسم ، لأنه على وزان قولنا : «لا أقبل ، لا أضرب ، لا أنصر» وذلك يفيد النفي ، بدليل أنه لو حلف لا يقسم كان البرّ بترك القسم ، والحنث بفعل القسم ، فظهر أن البيت المذكور ليس من هذا الباب.

وعن الثاني : أن القرآن الكريم كالسّورة الواحدة في عدم التناقض ، فإما أن يقرن في كل آية ما أقرن في الأخرى ، فذلك غير جائز ؛ لأنه يلزم جوازه أن يقرن بكل إثبات حرف النفي الوارد في سائر الآيات ، وذلك يقتضي انقلاب كل إثبات نفيا وانقلاب كل نفي إثباتا ، وأنه لا يجوز.

وثالثها : أن المراد من قولنا : «لا» صلة أنّه لغو باطل يجب طرحه وإسقاطه حتى ينتظم الكلام ووصف كلام الله (٢) ـ تعالى ـ بذلك لا يجوز.

الوجه الثالث : قال الزمخشري : «إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم ؛ قال امرؤ القيس : [المتقارب]

٤٩٨٠ ـ فلا ـ وأبيك ـ ابنة العامري (٣)

البيت المتقدّم.

وقال غوية بن سلمى : [الوافر]

٤٩٨١ ـ ألا نادت أمامة باحتمال

لتحزنني فلا بك ما أبالي (٤)

__________________

(١) تقدم.

(٢) في أ : الباري.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر جواهر الأدب ص ٢٥٣ ، والخصائص ٢ / ١٩ ، ورصف المباني ص ١٤٦ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٠٤ ، ١٤٤ ، وشرح المفصل ٨ / ٣٤ ، ٩ / ١٠١ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ١٠٧ ، واللسان (أهل) ، واللمع ص ٥٨ ، ٢٥٦.

٥٤٢

وفائدتها : توكيد القسم في الردّ». ثمّ قال بعد أن حكى وجه الزيادة والاعتراض والجواب كما تقدم : والوجه أن يقال : هي للنّفي ، والمعنى في ذلك : أنّه لا يقسم بالشيء إلّا إعظاما له ، يدلّك عليه قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : ٧٥ ـ ٧٦] فكأنه بإدخال حرف النّفي يقول : إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام ، يعني أنه يستأهل فوق ذلك.

وقيل : إنّ «لا» نفي لكلام ورد قبل ذلك انتهى.

قال ابن الخطيب (١) : كأنّهم أنكروا البعث فقيل : «لا» ليس الأمر على ما ذكرتم ، ثم قيل : أقسم بيوم القيامة.

قال : وهذا فيه إشكال ؛ لأن إعادة حرف النفي أحرى في قوله تعالى : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) مع أن المراد ما ذكروه يقدح في فصاحة الكلام.

قال شهاب الدين (٢) رحمه‌الله : «فقول الزمخشري : والوجه أن يقال إلى قوله : يعني أنه يستأهل فوق ذلك ، تقرير لقوله : إدخال «لا» النافية على فعل القسم مستفيض إلى آخره وحاصل الكلام يرجع إلى أنها نافية ، وأنّ النّفي متسلّط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه ، وليس فيه منع لفظا ولا معنى».

ثم قال : فإن قلت : قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [النساء : ٦٥] والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي ، فهلا زعمت أنّ «لا» التي قبل القسم زيدت موطّئة للنّفي بعده ، ومؤكدة له ، وقدّرت المقسم عليه المحذوف ـ هاهنا ـ منفيا كقولك : لا أقسم بيوم القيامة لا تتركون سدى؟.

قلت : لو قصروا الأمر على النّفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ ، ولكنه لم يقصر ، ألا ترى كيف نفى (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ١] بقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) [البلد : ٤] وكذلك قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة : ٧٥] بقوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة : ٧٧] ، وهذا من محاسن كلامه تعالى.

وقرأ قنبل والبزّي ـ بخلاف عنه (٣) ـ : «لأقسم» بلام بعدها همزة دون ألف ، وفيها أوجه :

أحدها : أنها جواب لقسم مقدر ، تقديره : «والله لأقسم» والفعل للحال ، فلذلك لم تأت نون التوكيد ، وهذا مذهب الكوفيين.

وأمّا البصريون : فلا يجيزون أن يقع فعل الحال جوابا للقسم فإن ورد ما ظاهره ذلك جعل الفعل خبرا لمبتدإ مضمر ، فيعود الجواب جملة اسمية قدر أحد جزأيها

__________________

(١) الفخر الرازي ٣٠ / ١٩٠.

(٢) الدر المصون ٦ / ٤٢٥.

(٣) ينظر : السبعة ٦٦١ ، والحجة ٦ / ٣٤٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤١٤ ، وحجة القراءات ٤٣٥.

٥٤٣

وهذا عند بعضهم ، من ذلك التقدير : والله لأنا أقسم.

الثاني : أنه فعل مستقبل ، وإنّما لم يأت بنون التوكيد ؛ لأنّ أفعال الله ـ تعالى ـ حقّ وصدق فهي غنية عن التأكيد بخلاف أفعال غيره ، على أن سيبويه حكى حذف النون ، إلا أنه قليل ، والكوفيون : يجيزون ذلك من غير قلّة ، إذ من مذهبهم جواز تعاقب اللام والنون فمن حذف اللام قوله : [الكامل]

٤٩٨٢ ـ وقتيل مرّة أثأرنّ فإنّه

فرغ وإنّ أخاكم لم يثأر (١)

أي لأثأرن ، ومن حذف النون وهو نظير الآية الكريمة قول الآخر : [الطويل]

٤٩٨٣ ـ لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم

ليعلم ربّي أنّ بيتي واسع (٢)

الثالث : أنّها لام الابتداء ، وليست بلام القسم.

قال أبو البقاء : كقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ) [النحل : ١٦٤]. والمعروف أنّ لام الابتداء لا تدخل على المضارع إلّا في خبر «إنّ» نحو : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ) [النحل : ١٦٤] وهذه الآية نظير الآية التي في سورة يونس : (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) [يونس : ١٦] فإنهما قرآها بغير الألف. والكلام فيها قد تقدم.

ولم يختلف في قوله : (وَلا أُقْسِمُ) أنه بالألف بعد «لا» ؛ لأنه لم يرسم إلّا كذا بخلاف الأول ، فإنه رسم بدون ألف بعد «لا» ، وكذلك في قوله تعالى (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ١] لم يختلف فيه أنه بألف بعد «لا» ، وجواب القسم محذوف ، تقديره : لتبعثنّ ، دل عليه قوله (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) [القيامة : ٣].

وقيل : الجواب : «أيحسب».

وقيل : هو (بَلى قادِرِينَ) [القيامة : ٤] ، ويروى عن الحسن البصري.

وقيل : المعنى على نفي القسم ، والمعنى : إنّي لا أقسم على شيء ، ولكن أسألك أيحسب الإنسان.

وهذه الأقوال شاذّة منكرة ، ولا تصح عن قائلها لخروجها عن لسان العرب ، وإنما ذكرناها تنبيها على ضعفها.

فصل في معنى الآية

قال ابن عباس وابن جبير : معنى الكلام : أقسم بيوم القيامة (٣) ، وهو قول أبي عبيدة ، ومثله قوله : [الطويل]

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٢٥) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٣) عنه وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

٥٤٤

٤٩٨٤ ـ تذكّرت ليلى فاعترتني صبابة

فكاد صميم القلب لا يتقطّع (١)

قوله : (بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ، أي : بيوم يقوم الناس فيه لربّهم ، ولله ـ عزوجل ـ أن يقسم بما شاء ، (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) ، لا خلاف في هذا بين القراء ، وأنه سبحانه ـ جل ذكره ـ إنّما أقسم بيوم القيامة تعظيما لشأنه ، وعلى قراءة ابن كثير أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية.

وقيل : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) ردّ آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة.

قال الثعلبيّ : والصحيح أنه أقسم بهما جميعا ، ومعنى (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) : أي : نفس المؤمن الذي لا تراه يلوم إلا نفسه ، يقول : [ما أردت بكذا؟ ولا تراه إلا وهو يعاتب نفسه قاله ابن عبّاس ومجاهد والحسن وغيرهم.

قال الحسن : هي والله نفس المؤمن ما يرى المؤمن إلّا يلوم نفسه](٢) ، ما أردت بكلامي هذا؟ ما أردت بأكلي ما أردت بحديثي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه (٣).

وقال مجاهد : هي التي تلوم على ما فات وتندم ، فتلوم نفسها على الشّرّ لم فعلته ، وعلى الخير لم لم تستكثر منه (٤).

وقيل : تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها.

وقيل : المراد آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يزل لائما لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنها الملومة ، فتكون صفة ذمّ (٥) ، وهو قول من نفى أن يكون قسما وعلى الأول : صفة مدح فيكون القسم بها سائغا.

وقال مقاتل : هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسّر في الآخرة على ما فرط في جنب الله تعالى (٦).

قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ). هذه «أن» المخففة وتقدم حكمها في «المائدة» و «أن» وما في حيّزها في موضع الجرّ ، والفاصل هنا حرف النّفي ، وهي وما في حيّزها سادّة مسدّ مفعولي «حسب» أو مفعوله على الخلاف.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٩ / ٦٠.

(٢) سقط من أ.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٤) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في «محاسبة النفس».

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٢٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٤) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٦١).

(٦) ينظر المصدر السابق.

٥٤٥

والعامّة : على «نجمع» بنون العظمة ، و «عظامه» نصب مفعولا به.

وقتادة : «تجمع» (١) بتاء من فوق مضمومة على ما لم يسم فاعله ؛ «عظامه» رفع لقيامه مقام الفاعل.

فصل في جواب هذا القسم

قال الزجاج : أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ليجمعنّ العظام للبعث ، فهذا جواب [القسم.

وقال النحاس : جواب](٢) القسم محذوف ، أي : لنبعثن.

والمراد بالإنسان : الكافر المكذب بالبعث.

قيل : نزلت في عدي بن ربيعة قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدّثني عن يوم القيامة متى تكون ، وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك يا محمّد ولم أومن به ، أو يجمع الله العظام؟ ولهذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهمّ اكفني جاري السّوء عديّ بن ربيعة ، والأخنس بن شريق» (٣).

وقيل : نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت ، وذكر العظام ، والمراد نفسه كلها ؛ لأن العظام قالب الخلق.

وقيل : المراد بالإنسان : كل من أنكر البعث مطلقا.

قوله : (بَلى) إيجاب لما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام ، وهو وقف حسن ، ثم يبتدىء «قادرين» ، ف «قادرين» حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرنا من التقدير.

وقيل : المعنى بل نجمعها نقدر قادرين.

قال الفراء : «قادرين» نصب على الخروج من «نجمع» أي نقدر ونقوى «قادرين» على أكثر من ذلك.

وقال أيضا : يصلح نصبه على التكرير ، أي : بلى فليحسبنا قادرين.

وقيل : المضمر «كنا» أي : كنا قادرين في الابتداء ، وقد اعترف به المشركون.

وقرأ ابن أبي عبلة (٤) وابن السميفع : «قادرون» رفعا على خبر ابتداء مضمر ، أي

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٥٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٧٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٦.

(٢) سقط من أ.

(٣) ذكره ابن الجوزي في «تفسيره» المسمى ب «زاد المسير» (٨ / ٤١٧) والقرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٦١).

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٠٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٧٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٦.

٥٤٦

«بلى» نحن «قادرون» (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) والبنان عند العرب : الأصابع ، واحدها بنانة ؛ قال عنترة : [الوافر]

٤٩٨٥ ـ وأنّ الموت طوع يدي إذا ما

وصلت بنانها بالهندواني (١)

فنبه بالبنان على بقية الأعضاء.

وأيضا : فإنها أضعف العظام فخصها الله ـ عزوجل ـ بالذكر لذلك.

قال القتبي والزجاج : وزعموا أن الله تعالى لا يبعث الموتى ، ولا يقدر على جمع العظام ، فقال الله تعالى : بلى قادرين على أن نعيد السّلاميات على صغرها ، ونؤلّف بينها حتى تستوي ، ومن قدر على هذا فهو على جميع الكبار أقدر.

وقال ابن عباس وعامة المفسرين : (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخفّ البعير ، أو كحافر الحمار ، أو كظلف الخنزير ، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا ولكنا فرقنا أصابعه حتى يفعل بها ما يشاء.

وقيل : نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم ، فكيف في صورته التي كان عليها ، وهو كقوله تعالى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦٠ ، ٦١].

والقول الأول أشبه بمساق الآية.

فصل في الكلام على الآية

قال ابن الخطيب (٢) رحمه‌الله : وفي الآية إشكالات :

أحدها : ما المناسبة بين القيامة والنّفس اللوامة حتى جمع الله بينهما في القسم؟.

وثانيها : على وقوع القيامة.

وثالثها : قال جل ذكره : أقسم بيوم القيامة ولم يقل : والقيامة ، كما قال ـ عزوجل ـ في سائر السور : (وَالطُّورِ) [الطور : ١] (وَالذَّارِياتِ) [الذاريات : ١] ، (وَالضُّحى) [الضحى : ١].

والجواب عن الأول من وجوه :

أحدها : أنّ أحوال القيامة عجيبة جدّا ، ثمّ المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النّفوس على ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عرف نفسه عرف ربّه» ومن أحوالها العجيبة قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، وقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى

__________________

(١) ينظر ديوان عنترة ص ١٥٠ ، والقرطبي ١٩ / ٩٢.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٩١.

٥٤٧

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) [الأحزاب : ٧٢].

وقيل : القسم وقع بالنّفس اللوامة على معنى التعظيم من حيث إنها أبدا يستحقر فعلها وجدّها واجتهادها في طاعة الله تعالى.

وقيل : إنه ـ تعالى ـ أقسم بيوم القيامة ، ولم يقسم بالنفس اللوامة تحقيرا لها ؛ لأن النفس اللوامة إمّا أن تكون كافرة بالقيامة مع عظم أمرها ، وإمّا أن تكون فاسقة مقصرة في العمل ، وعلى التقديرين فإنها تكون مستحقرة.

والجواب عن الثاني : أن المحقّقين قالوا : القسم بهذه الأشياء قسم بربّها وخالقها في الحقيقة ، فكأنه قيل : أقسم برب القيامة على وقوع القيامة.

والجواب عن الثالث : أنه حيث أقسم ، قال جل ذكره : (وَالذَّارِياتِ) ، وأما هنا فإنه سبحانه نفى كونه مقسما بهذه الأشياء ، فزال السؤال.

قوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ). فيه وجهان :

أحدهما : أن تكون «بل» لمجرد الإضراب والانتقال من غير عطف ، أضرب عن الكلام الأول وأخذ في آخر.

الثاني : أنها عاطفة. قال الزمخشري : «بل يريد» عطف على «أيحسب» ، فيجوز أن يكون مثله استفهاما ، وأن يكون إيجابا على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر ، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب.

قال أبو حيان بعد ما حكى عن الزمخشري ما تقدّم : «وهذه التقادير الثلاثة متكلّفة لا تظهر».

وقال شهاب الدين (١) : «وليس هنا إلا تقديران ، ومفعول «يريد» محذوف يدل عليه التعليل في قوله تعالى : (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) والتقدير : يريد شهواته ومعاصيه فيمضي فيها دائما أبدا و «أمامه» منصوب على الظّرف ، وأصله مكان فاستعير هنا للزمان».

والضمير في «أمامه» الظاهر عوده على الإنسان.

وقال ابن عباس : يعود على يوم القيامة بمعنى أنه يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث بين يدي يوم القيامة (٢).

فصل في تفسير الآية

قال مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير رضي الله عنهم : يقول : سوف أتوب حتى يأتيه الموت على أسوأ أحواله (٣).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٢٦.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٦٢).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٢٩) عن مجاهد والحسن والسدي وعكرمة.

٥٤٨

وعن ابن عباس : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) ، قال : يعجل المعصية ويسوف بالتوبة (١) وجاء في الحديث : «قال : يقول : سوف أتوب ، ولا يتوب ، فهو قد أخلف فكذب».

وقال عبد الرحمن بن زيد : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) من البعث والحساب ودليله : يسأل أيان يوم القيامة أي يسأل متى يكون؟ على وجه الإنكار والتكذيب (٢).

وقال الضحاك : هو الأمل ، يقول : سوف أعيش وأصيب من الدنيا ، ولا يذكر الموت(٣).

وقيل : يعزم على المعصية أبدا وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة ، فالهاء على هذه الأقوال الثلاثة للإنسان.

وإذا قلنا : بأن الهاء ليوم القيامة ، فالمعنى : بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي القيامة. والفجور : أصله الميل عن الحق.

قوله : (يَسْئَلُ أَيَّانَ) هذه جملة مستأنفة.

وقال أبو البقاء رحمه‌الله : تفسير ل «يفجر» فيحتمل أن يكون مستأنفا مفسّرا ، وأن يكون بدلا من الجملة قبلها ؛ لأن التفسير يكون بالاستئناف وبالبدل إلا أنّ الثاني منه رفع الفعل ، ولو كان بدلا لنصب ، وقد يقال : إنه أبدل الجملة من الجملة لا خصوصيّة الفعل من الفعل وحده ، وفيه بحث قد تقدم نظيره في «الذاريات» وغيره. والمعنى : يسأل متى يوم القيامة.

فصل فيمن أنكروا البعث

قال ابن الخطيب (٤) : اعلم أنّ إنكار البعث يتولد تارة من الشّبهة ، وأخرى من الشّهوة ، فأما تولده من الشبهة فهو ما حكاه الله ـ عزوجل ـ بقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) ، وتقديره : أنّ الإنسان هو هذا البدن ، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه ، واختلطت بأجزاء التراب ، وتفرّقت بالرّياح في مشارق الأرض ومغاربها ، فيكون تمييزها بعد ذلك محالا.

وهذه الشبهة ساقطة من وجهين :

الأول : لا نسلّم أن الإنسان هو هذا البدن ، بل هو شيء مدبر لهذا البدن ، فإذا فسد هذا البدن بقي هو حيّا كما كان ، وحينئذ يعيد الله ـ تبارك وتعالى ـ أي بدن أراد ، فيسقط

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٥) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في «ذم الأمل» والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٠).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٠).

(٤) الفخر الرازي ٣٠ / ١٩٣.

٥٤٩

السؤال وفي الآية إشارة إلى هذا ، لأنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة ، ثم قال تعالى جل ذكره : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) ، وهو تصريح بالفرق بين النفس والبدن.

الثاني : سلّمنا أنّ الإنسان هو هذا البدن ، لكنه سبحانه عالم بالجزئيات ، فيكون عالما بالجزء الذي هو بدن زيد ، وبالجزء الذي هو بدن عمرو ، وهو ـ تعالى ـ قادر على كلّ الممكنات ، فيلزم أن يكون قادرا على تركيبها ثانيا ، فزال الإشكال وأما إنكار البعث بناء على الشّهوة فهو قوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ).

ومعناه أن الإنسان الذي يميل طبعه للشّهوات واللّذات والفكرة في البعث تنغصها عليه فلا جرم ينكره.

قوله تعالى : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ)(١٥)

قوله تعالى : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ). قرأ نافع وأبان (١) عن عاصم : برق بفتح الراء.

والباقون : بالكسر.

فقيل : لغتان في التحيّر والدهشة ، ومعناه لمع بصره من شدّة شخوصه ، فتراه لا يطرف.

وقيل : برق ـ بالكسر ـ تحيّر فزعا.

قال الزمخشري : «وأصله من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره».

قال غيره : كما يقال : أسد وبقر ، إذا رأى أسدا وبقرا كثيرا فتحيّر من ذلك.

قال ذو الرمة : [الطويل]

٤٩٨٦ ـ وكنت أرى في وجه ميّة لمحعة

فأبرق مغشيا عليّ مكانيا (٢)

وأنشد الفراء رحمه‌الله : [المتقارب]

٤٩٨٧ ـ فنفسك فانع ولا تنعني

وداو الكلوم ولا تبرق (٣)

أي : لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك.

و «برق» بالفتح : من البريق ، أي : لمع من شدّة شخوصه.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٦١ ، والحجة ٦ / ٣٤٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤١٤ ، وحجة القراءات ٧٣٦.

(٢) ينظر ديوان ذي الرمة ٢ / ١٣٠٨ ، والبحر ٨ / ٣٧٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٧. وقد نسبه أبو حيان إلى الأعشى وتابعه تلميذه السمين في الدر وهذا خطأ.

(٣) البيت لطرفة بن العبد ينظر ديوان طرفة ص ٧٠ ، ومعاني القرآن للفراء ٣ / ٢٠٩ ، والطبري ٢٩ / ١١٢ ، واللسان (برق) ، والقرطبي (١٩ / ٦٣) ، والدر المصون (٦ / ٤٢٧).

٥٥٠

وقال مجاهد وغيره : وهذا عند الموت (١).

وقال الحسن : يوم القيامة ، قال : وفيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان ، كأنه قال : يوم القيامة إذا برق البصر ، وخسف القمر (٢).

وقيل : عند رؤية جهنم.

قال الفراء والخليل : «برق» ـ بالكسر ـ : فزع وبهت وتحيّر ، والعرب تقول للإنسان المتحيّر المبهوت : قد برق فهو برق.

وقيل : «برق ، يبرق» بالفتح : شق عينيه وفتحهما. قاله أبو عبيدة ، وأنشد قول الكلابيّ : [الرجز]

٤٩٨٨ ـ لمّا أتاني ابن عمير راغبا

أعطيته عيسا صهابا فبرق (٣)

أي : فتح عينيه. قرأ أبو السمال (٤) : «بلق» باللام.

قال أهل اللغة إلا الفرّاء : معناه «فتح» ، يقال : بلقت الباب وأبلقته : أي : فتحته وفرّجته.

وقال الفراء : هو بمعنى أغلقته.

قال ثعلب : أخطأ الفراء في ذلك.

ثم يجوز أن يكون مادة «بلق» غير مادة «برق» ، ويجوز أن تكون مادة واحدة بدّل فيها حرف من آخر ، وقد جاء إبدال «اللام» من الراء في أحرف ، قالوا : «نثر كنانته ونثلها» وقالوا : «وجل ووجر» فيمكن أن يكون هذا منه ، ويؤيده أن «برق» قد أتى بمعنى شق عينيه وفتحهما ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد [الرجز]

٤٩٨٩ ـ لمّا أتاني ابن عمير (٥)

البيت المتقدم.

أي : ففتح عينيه فهذا مناسب ل «بلق».

قوله : (وَخَسَفَ الْقَمَرُ).

العامة : على بنائه للفاعل.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣١) عن مجاهد.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٦٣).

(٣) ينظر : مجاز القرآن ٢ / ٢٧٧ ، وإصلاح المنطق ص ٥٢ ، ٢١٧ ، والطبري ٢٩ / ١١٢ ، ومجمع البيان ١ / ٥٩٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٧.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٦٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٧٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٧.

(٥) تقدم.

٥٥١

وأبو حيوة (١) ، وابن أبي عبلة ، ويزيد بن قطيب قال القرطبي (٢) : وابن أبي إسحاق وعيسى : «خسف» مبنيا للمفعول.

وهذا لأن «خسف» يستعمل لازما ومتعديا ، يقال : خسف القمر ، وخسف الله القمر.

وقد اشتهر أن الخسوف للقمر والكسوف للشمس.

وقال بعضهم : يكونان فيهما ، يقال : خسفت الشمس وكسفت ، وخسف القمر وكسف ، وتأيد بعضهم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد» ، فاستعمل الخسوف فيهما ، وفي هذا نظر لاحتمال التغليب ، وهل هما بمعنى واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد وجماعة : هما بمعنى واحد.

وقال ابن أبي أويس : الخسوف ذهاب كل ضوئهما والكسوف ذهاب بعضه.

قال القرطبي (٣) : الخسوف في الدنيا إلى انجلاء ، بخلاف الآخرة فإنه لا يعود ضوؤه ، ويحتمل أن يكون بمعنى «غاب» ، ومنه قوله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) [القصص: ٨١].

قوله تعالى : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) لم تلحقه علامة تأنيث ؛ لأن التأنيث مجازي.

وقيل : لتغليب التذكير. وفيه نظر ، لو قلت : «قام هند وزيد» لم يجز عند الجمهور من العرب.

وقال الكسائي : «جمع» حمل على معنى جرح النيران.

وقال الفراء والزجاج : جمع بينهما في ذهاب ضوئيهما فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه.

وقال ابن عباس وابن مسعود : جمع بينهما ، أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين مقرّنين كأنهما ثوران عقيران (٤).

وقال عطاء بن يسار : يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى (٥).

وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهما : يجعلان في الحجب وقد يجمعان في نار

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٠٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٧٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٧.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٦٣.

(٣) السابق.

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٥٣) وينظر المصدر السابق.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

٥٥٢

جهنم لأنهما قد عبدا من دون الله ولا تكون النار عذابا لهما لأنهما جماد وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكفار وحسرتهم (١).

وقيل : هذا الجمع إنما يجمعان ويقرّبان من الناس فيلحقهم العرق لشدّة الحر فيكون المعنى : يجمع حرهما عليهم.

وقيل : يجمع الشمس والقمر ، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار.

قال ابن الخطيب (٢) : وقيل : جمع بينهما في حكم ذهاب الضوء كما يقال : يجمع بين كذا وكذا في حكم كذا ، أي : كل منهما يذهب ضوؤه.

فصل في الرد على من طعن في الآية

قال ابن الخطيب (٣) : طعنت الملاحدة في الآية فقالوا : خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر.

والجواب : أن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يخسف القمر سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس ، أو لم تكن ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قادر على كل الممكنات فيقدر على إزالة الضوء عن القمر في جميع الأحوال.

قوله : (يَقُولُ الْإِنْسانُ). جواب «إذا» من قوله : (فَإِذا بَرِقَ) ، و (أَيْنَ الْمَفَرُّ) منصوب المحل بالقول ، و «المفرّ» مصدر بمعنى «الفرار» وهذه هي القراءة المشهورة.

وقرأ الحسنان ابنا (٤) علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة : بفتح الميم وكسر الفاء ، وهو اسم مكان الفرار ، أي أين مكان الفرار.

وجوز الزمخشري أن يكون مصدرا ، قال : «كالمرجع» وقرأ الحسن (٥) عكس هكذا : أي بكسر الميم وفتح الفاء ، وهو الرجل الكثير الفرار ؛ كقول امرىء القيس يصف جواده : [الطويل]

٤٩٩٠ ـ مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السّيل من عل (٦)

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٦٣).

(٢) ينظر الرازي ٣ / ١٩٤.

(٣) ينظر الرازي ٣٠ / ١٩٤.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٠٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٧٧ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٨.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر ديوانه ص ١٩ ، وإصلاح المنطق ص ٢٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٢٦ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٩٧ ، ٣ / ٢٤٢ ، ٢٤٣ ، والدرر ٣ / ١١٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٣٩ ، وشرح التصريح ٢ / ٥٤ ، وأوضح المسالك ٣ / ١٦٥ ، ورصف المباني ص ٣٢٨ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٢٣ ، وشرح شذور الذهب ص ١٤٠ ، ومغني اللبيب ١ / ١٥٤ ، والمقرب ١ / ٢١٥ ، وهمه الهوامع ١ / ٢١٠.

٥٥٣

وأكثر استعمال هذا الوزن في الآلات.

فصل في بيان ما يقوله الإنسان يوم القيامة

يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ، أي : يقول ابن آدم ، وقيل : أبو جهل : أين المفر ، أين المهرب؟.

قال الماوردي : ويحتمل وجهين :

أحدهما : أين المفر من الله استحياء منه.

والثاني : أين المفر من جهنم حذرا منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين :

أحدهما : أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه.

والثاني : أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها.

قوله : (كَلَّا لا وَزَرَ). تقدم الكلام في «كلّا» ، وخبر «لا» محذوف ، أي لا وزر له.

أي لا ملجأ من النار.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لا حصن (١).

وقال ابن عباس : لا ملجأ (٢) وقال الحسن : لا جبل (٣).

وقال ابن جبير : لا محيص (٤).

وهل هذه الجملة محكيّة بقول الإنسان ، فتكون منصوبة المحل ، أو هي مستأنفة من الله ـ تعالى ـ بذلك.

و «الوزر» : الملجأ من حصن أو جبل أو سلاح ؛ قال الشاعر : [المتقارب]

٤٩٩١ ـ لعمرك ما للفتى من وزر

من الموت يدركه والكبر (٥)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٤).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٣) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٥) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في «كتاب الأهوال» وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٣) عن الحسن ومجاهد وقتادة. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٦) ، عن الحسن وعزاه إلى عبد بن حميد. وذكره عن مجاهد أيضا وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٤) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٦) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٥) البيت لربيعة بن الذئبة ينظر مجاز القرآن ٢ / ٢٧٧ ، والقرطبي ١٩ / ٩٨ ، والمؤتلف ص ١٢٠ ، والبحر ٨ / ٣٧٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٨ ، وروح المعاني ٢٩ / ١٧٦.

٥٥٤

قال السديّ : كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصّنوا في الجبال ، فقال الله لهم : لا وزر يعصمكم يومئذ منّي.

قوله تعالى : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ). أي : المنتهى. [قاله قتادة ، نظيره : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى)](١).

وقال ابن مسعود : إلى ربك المصير والمرجع ، أي : المستقر في الآخرة حيث يقره الله.

و «المستقرّ» مبتدأ ، خبره الجار قبله ، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الاستقرار ، وأن يكون مكان الاستقرار ، و «يومئذ» منصوب بفعل مقدر ، ولا ينصب ب «مستقر» لأنه إن كان مصدرا فلتقدمه عليه ، وإن كان مكانا فلا عمل له ألبتة.

قوله : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ). أي : يخبّر ابن آدم برّا كان أو فاجرا يوم القيامة (بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي : بما أسلف من عمل خيرا أو شرّا ، أو أخّر من سيّئة أو صالحة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود (٢).

وقال ابن عباس أيضا : بما قدّم من المعصية ، وأخّر من الطاعة ، وهو قول قتادة (٣).

وقال ابن زيد : (بِما قَدَّمَ) مرة من أمواله لنفسه (وَأَخَّرَ) خلّف للورثة (٤).

وقال الضحاك : (بِما قَدَّمَ) من فرض (وَأَخَّرَ) من فرض (٥).

وقال مجاهد والنخعيّ : ينبّأ بأوّل عمل وآخره (٦).

قال القشيري : وهذا الإيتاء يكون في القيامة عند وزن الأعمال ، ويجوز أن يكون عند الموت.

قوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ). يجوز في «بصيرة» أوجه :

أحدها : أنها خبر عن الإنسان ، و (عَلى نَفْسِهِ) متعلق ب «بصيرة» ، والمعنى : بل الإنسان بصيرة على نفسه.

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٠) عن ابن عباس وابن مسعود وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٦) عن ابن مسعود وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر. وذكره أيضا عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٥) عن ابن عباس.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٦).

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٦٥) عن الضحاك.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٦) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد.

٥٥٥

وعلى هذا فلأيّ شيء أنّث الخبر.

وقد اختلف النحويون في ذلك ، فقال بعضهم : الهاء فيه للمبالغة.

وقال الأخفش : هو كقولك : «فلان عبرة وحجّة».

وقيل : المراد بالإنسان الجوارح ، فكأنه قال : بل جوارحه بصيرة ، أي شاهدة.

والثاني : أنّها مبتدأ ، و (عَلى نَفْسِهِ) خبرها ، والجملة خبر عن الإنسان.

وعلى هذا ففيها تأويلان :

أحدهما : أن تكون «بصيرة» صفة لمحذوف ، أي عين بصيرة. قاله الفراء ؛ وأنشد : [الطويل]

٤٩٩٢ ـ كأنّ على ذي العقل عينا بصيرة

بمقعده أو منظر هو ناظره

يحاذر حتّى يحسب النّاس كلّهم

من الخوف لا تخفى عليهم سرائره (١)

الثاني : أن المعنى جوارح بصيرة.

الثالث : أنّ المعنى ملائكة بصيرة ، وهم الكاتبون ، والتاء على هذا للتّأنيث.

وقال الزمخشري : «بصيرة» : حجّة بينة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) [النمل : ١٣].

قال شهاب الدين (٢) : «هذا إذا لم تجعل الحجّة عبارة عن الإنسان ، أو تجعل دخول التاء للمبالغة أمّا إذا كانت للمبالغة فنسبة الإبصار إليها حقيقة».

الوجه الثالث : يكون الخبر الجار والمجرور و «بصيرة» فاعل به ، وهو أرجح مما قبله ؛ لأن الأصل في الأخبار الإفراد.

فصل في تفسير الآية

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : «بصيرة» : أي : شاهد ، وهو شهود جوارحه عليه : يداه بما يبطش بهما ، ورجلاه بما يمشي عليهما ، وعيناه بما أبصر بهما والبصيرة : الشاهد (٣) ، كما أنشد الفراء ، ويدل عليه قوله تعالى (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤].

قال الواحدي : هذا يكون من صفات الكفار ، فإنهم ينكرون ما عملوا ، فيختم على أفواههم ، وتنطق جوارحهم.

__________________

(١) يروى ذي الظنّ بدل ذي العقل.

ينظر معاني القرآن للفراء ٣ / ٢١١ ، والقرطبي ١٩ / ٦٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٧٧ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٨ ، وروح المعاني ٢٩ / ١٧٧ ، وفتح القدير ٥ / ٣٣٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٢٩.

(٣) في أ : الساعة.

٥٥٦

قوله : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ). هذه الجملة حالية ، وقد تقدم نظيرها مرارا.

والمعاذير : جمع معذرة على غير قياس ك «ملاقيح ومذاكير» جمع لقحة وذكر. وللنحويين في مثل هذا قولان :

أحدهما : أنه جمع لملفوظ به وهو لقحة وذكر.

والثاني : أنه جمع لغير ملفوظ به بل لمقدّر ، أي ملقحة ومذكار.

وقال الزمخشري : «فإن قلت : أليس قياس «المعذرة» أن تجمع على معاذر لا معاذير؟.

قلت : «المعاذير» ليست جمع «معذرة» بل اسم جمع لها ، ونحوه : «المناكير» في المنكر».

قال أبو حيان (١) : «وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع ، وإنما هو من أبنية جموع التكسير» انتهى.

وقيل : «معاذير» جمع معذار ، وهو السّتر ، والمعنى : ولو أرخى ستوره ، والمعاذير : الستور بلغة «اليمن» (٢) ، قاله الضحاك والسديّ ؛ وأنشد : [الطويل]

٤٩٩٣ ـ ولكنّها ضنّت بمنزل ساعة

علينا وأطّت فوقها بالمعاذر (٣)

قال الزجاج : المعاذير : الستور ، والواحد : معذار. أي وإن أرخى ستوره يريد أن يخفي عمله فنفسه شاهدة عليه ، وقد حذف الياء من «المعاذر» ضرورة.

وقال الزمخشري : «فإن صح ـ يعني أن المعاذير : الستور ـ فلأنه يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب». وهذا القول منه يحتمل أن يكون بيانا للمعنى الجامع بين كون المعاذير : الستور والاعتذارات ، وأن يكون بيانا للعلاقة المسوّغة في التجويز.

فصل في معنى الآية

قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسديّ: المعنى : ولو اعتذر وقال : لم أفعل شيئا لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه ، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه فعليه شاهد يكذّب عذره (٤).

__________________

(١) ينظر البحر المحيط ٨ / ٣٨٦.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٧) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٣) ينظر : القرطبي ١٩ / ٦٦ ، والبحر ٨ / ٣٧٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٩.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي (١٦ / ٦٦).

٥٥٧

وقال مقاتل : ولو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك ، نظيره قوله تعالى (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)(١) [المرسلات : ٣٦] فالمعاذير على هذا مأخوذة من العذر.

وحكى الماوردي عن ابن عباس : «ولو ألقى معاذيره» أي ولو تجرّد من ثيابه (٢).

قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)(١٩)

قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ).

قال بعض الرافضة : عدم مناسبتها لما قبلها يدل على تغيير القرآن.

قال ابن الخطيب (٣) : وفي مناسبتها (٤) وجوه :

الأول : لعل استعجال الرسول إنما كان عند نزول هذه الآيات.

الثاني : أنه تقدم أن الإنسان يستعجل بقوله : (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) ثم بين أن العجلة مذمومة في أمر الدين ، فقال تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) ، وقال تعالى بعدها : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) [القيامة : ٢٠].

الثالث : أنه قدم (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يستعجل خشية النسيان ، فقيل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الأمور لا تحصل إلا بتوفيق الله ـ تعالى ـ وإعانته ، فاعتمد على الله ـ تعالى ـ واترك التعجيل.

الرابع : كأنه قيل : غرضك من هذا التعجيل أن تحفظه ، وتبلغه إليهم ليظهر صدقك ، وقبح عنادهم ، لكنهم يعلمون ذلك بقلوبهم ، فلا فائدة في هذا التعجيل.

الخامس : أن الكافر لما قال : «أين المفر»؟ كأنه يطلب الفرار من الله تعالى ، فكن أنت يا محمد على مضادة الكافر ، وفر من غير الله إلى الله.

السادس : قال القفال : الخطاب مع الإنسان المذكور في قوله (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ) فإذا قيل له : اقرأ كتابك تلجلج لسانه ، فيقال له : لا تعجل ، فإنه يجب علينا بحكم الوعد ، أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك ونقرأها عليك ، فإذا قرآناه فاتّبع قرآنه بالإقرار (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) ، وهذا فيه وعيد شديد وتهويل.

روى الترمذي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : كان

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٧) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١٩٦.

(٤) في أ : المناسبة.

٥٥٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك لسانه يريد أن يحفظه ، فأنزل الله تعالى (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ).

قال : وكان يحرك شفتيه ، فقال لي ابن عباس : أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحركهما ، فحرك شفتيه ، فأنزل الله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قال : جمعه في صدرك ثم نقرؤه (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) فاستمع وأنصت ، ثم علينا أن نقرأه ، فيقال : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه جبريل ـ عليه‌السلام ـ استمع ، وإذا نطق جبريل ـ عليه‌السلام ـ قرأه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أقرأه. خرجه البخاري أيضا (١).

ونظير هذه الآية : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [طه : ١١٤] وقد تقدم.

وقال عامر الشعبي : إنما كان يعجّل بذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه الوحي من حبّه له وحلاوته في لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) الآية. ونزل : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] ، ونزل : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ). قاله ابن عباس. و «قرآنه» أي وقراءته عليك ، والقراءة والقرآن في قول الفراء : مصدران.

وقال قتادة : (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) فاتّبع شرائعه وأحكامه (٢).

قوله : (وَقُرْآنَهُ) ، أي : قراءته ، فهو مصدر مضاف للمفعول ، وأما الفاعل فمحذوف ، والأصل : وقراءتك إياه ، والقرآن : مصدر بمعنى القراءة.

قال حسان رضي الله عنه : [البسيط]

٤٩٩٤ ـ ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به

يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا (٣)

وقال ابن عطية (٤) : قرأ أبو العالية : «إنّ علينا جمعه وقرته ، فإذا قرأناه فاتّبع قرته».

بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف. ولم يذكر توجيهها.

فأما توجيه قوله : (جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) وقوله : (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) فواضح ـ كما تقدم ـ في قراءة ابن كثير في «البقرة» ، وأنه هل هو نقل أو من مادة «قرن» ، وتحقيق القولين مذكور ثمّة فليلتفت إليه.

وأما قوله : بفتح القاف والراء والتاء ، فيعني في قوله : «فإذا قرته» يشير إلى أنه قرىء شاذّا هكذا.

__________________

(١) أخرجه البخاري في (٨ / ٥٤٧) كتاب التفسير : باب لا تحرك به لسانك لتعجل به حديث (٤٩٢٧).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٤١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٨) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٠٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٧٩.

٥٥٩

وتوجيهها : أن الأصل : «قرأته» فعلا ماضيا مسندا لضمير المخاطب ، أي : فإذا أردت قراءته ، ثم أبدل الهمزة ألفا لسكونها بعد فتحة ، ثم حذف الألف تخفيفا ، كقولهم : ولو ترى ما لصبيان ، و «ما» مزيدة ، فصار اللفظ «قرته».

فصل في لفظ الآية

قوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) أي بمقتضى الوعد عند أهل السنة ، وبمقتضى الحكمة عند المعتزلة. «جمعه» في صدرك «وقرآنه» أي : يعيده جبريل عليك حتى تحفظه وتقرأه بحيث لا تنساه ، فعلى الأول : القارىء جبريل عليك ، وعلى الثاني محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد بقراءته : جمعه كقوله: [الوافر]

٤٩٩٥ ـ ............

 ... لم تقرأ جنينا(١)

فيحمل الجمع على جمعه في الخارج ، والقرآن على جمعه في ذهنه وحفظه لئلا يلزم التكرار ، وأسند القراءة لله لأنها بأمره.

وقوله : (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) قيل : حلاله وحرامه أو لا تقارئه بل اسكت حتّى يسكت جبريل فاقرأ أنت ، وهو أظهر ؛ لأن الآية تدلّ على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ مع جبريل ، وكان يسأله في أثناء قراءته عن المشكلات فنهي عن الأول بقوله (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) ، وعن الثاني بقوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ).

قوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي : تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام. قاله قتادة. وقيل : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) ما فيه من الوعد والوعيد.

وقيل : إنّ علينا أن نبينه بلسانك. والضمائر تعود على القرآن ، وإن لم يجر له ذكر.

وقوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) يدل على أنّ بيان المجمل واجب على الله ـ تعالى ـ أما عند أهل السّنة فبالوعد والتفضل ، وإما عند المعتزلة فبالحكمة. والله أعلم.

فصل في الرد على من جوّز تأخير البيان عن وقت الخطاب

احتج من جوز تأخير البيان عن وقت الخطاب بهذه الآية.

وأجاب أبو الحسين عنه بوجهين :

__________________

(١) جزء بيت لعمرو بن كلثوم وتمامه :

ذراعي عيطل أدماء بكر

هجان اللّون لم تقرأ جنينا

ينظر اللسان (عطل) ، و (هجن) ، والطبري ٢٩ / ١١٨ ، والصحاح (عطل) و (هجن) ، والبحر ٨ / ٣٧٩.

٥٦٠