اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : لما نزل قوله ـ عزوجل ـ : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم : (تِسْعَةَ عَشَرَ) وأنتم الدهماء ـ أي العدد العظيم ـ والشجعان ، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم (١).

قال السدي : فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي : لا يهولنكم التسعة عشر ، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة وبمنكبي الأيسر التسعة ، ثم تمرون إلى الجنة ، يقولها مستهزءا (٢).

وفي رواية : أن الحارث بن كلدة قال : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين (٣) ، فلما قال أبو الأسود ذلك ، قال المسلمون : ويحكم ، لا يقاس الملائكة بالحدادين ، فجرى هذا مثلا في كل شيئين لا تساوي بينهما ، ومعناه : لا يقاس الملائكة بالسجّانين ، والحداد : السجان.

فصل في تقدير عدد الملائكة

ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوها :

منها ما قاله أرباب الحكمة : أنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية ، هو القوى الحيوانية والطبيعية ، فالقوى الحيوانية : فهي الخمسة الظاهرة ، والخمسة الباطنة ، والشّهوة ، والغضب فهذه اثنا عشر ، وأما القوى الطبيعية : فهي الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة والعادية ، والنافية ، والمولدة ، فالمجموع تسعة عشر ، فلما كانت هذه منشآت الآفات لا جرم كان عدد الزبانية هكذا.

ومنها : أن أبواب جهنم سبعة ، فستة منها للكفار وواحد للفسّاق ، ثم إنّ الكفّار يدخلون النار لأمور ثلاثة : ترك الاعتقاد ، وترك الإقرار ، وترك العمل ، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة ، فالمجموع : ثمانية عشر.

وأما باب الفساق : فليس هناك إلا ترك العمل ، فالمجموع : تسعة عشر مشغولة بغير العبادة ، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر.

قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣١٢) عن ابن عباس وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٦) عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٥٣).

(٣) ينظر المصدر السابق.

٥٢١

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ)(٣١)

قوله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً).

روي أن أبا جهل لما نزل قول الله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) قال : أيعجز كل مائة أن يبطشوا بواحد منهم ثم يخرجون من النار ؛ فنزل قوله عزوجل : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي : لم نجعلهم رجالا فتغالبوهم.

وقيل : جعلهم ملائكة لأنهم خلاف المعذبين من الجن والإنس ، فلا تأخذهم مآخذ المجانس من الرقة والرأفة ، ولا يستريحون إليهم ، ولأنهم أشد الخلق بأسا ، وأقواهم بطشا ، ولذلك جعل ـ تعالى ـ الرسول إلى البشر من جنسهم ليكون رأفة ورحمة بنا.

وقيل : لأنّ قوتهم أعظم من قوة الإنس والجن.

فإن قيل : ثبت في الأخبار أنّ الملائكة مخلوقون من النور ، والمخلوق من النور كيف يطيق المكث في النار؟.

فالجواب : أن الله ـ تعالى ـ قادر على كل الممكنات ، فكما أنه لا استبعاد في [إبقاء الحي في مثل ذلك العذاب أبد الآباد ولا يموت ، فكذا لا استبعاد](١) في بقاء الملائكة هناك من غير ألم.

قوله (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا). أي : بليّة.

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : المعنى : ضلالة للذين كفروا (٢).

وقوله تعالى (فِتْنَةً) مفعول ثان على حذف مضاف ، أي إلا سبب فتنة ، و «الذين» صفة ل «فتنة» ، وليست «فتنة» مفعولا له.

فصل في علة ذكر العدد

قال ابن الخطيب (٣) : هذا العدد إنّما صار سببا لفتنة الكفار من وجهين :

الأول : أن الكفار يستهزئون ويقولون : لم لم يكونوا عشرين ، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد؟.

والثاني : أن الكفار يقولون : هذا العدد القليل ، كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر خلق العالم من الجن والإنس من أول ما خلقهم الله إلى قيام القيامة؟.

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ٥٣).

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١٨٠.

٥٢٢

والجواب عن الأول : أن هذا السؤال لازم على كل عدد يفرض.

وعن الثاني : أنه لا يبعد أن الله يرزق ذلك العدد القليل قوة تفي بذلك ، فقد اقتلع جبريل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مدائن قوم لوط على أحد جناحيه ، ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم ، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها.

وأيضا : فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا ، ولا للعقل فيها مجال.

فصل في أن الله تعالى يريد الفتنة

دلت هذه الآية على أن الله ـ تعالى ـ يريد الفتنة.

وأجاب الجبائي : بأن المراد من الفتنة تشديد التعبد ليستدلوا على أنه ـ تعالى ـ قادر على تقوية هؤلاء التسعة عشر على ما لا يقوى عليه مائة ألف ملك أقوياء.

وأجاب الكعبي : بأن المراد من الفتنة الامتحان حتّى يفوض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الله تعالى ، وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به ، أو يكون المراد من الفتنة ما وقعوا فيه من الكفر بسبب تكذيبهم بعدد الخزنة ، وحاصله ترك الألطاف.

والجواب : أن نقول : هل لا يزال لهذه المتشابهات أثر في تقوية داعية الكفر أم لا؟ فإن لم يكن له أثر في تقوية داعية الكفر لم يكن إنزال هذه المتشابهات فتنة للذين كفروا ألبتة وإن كان له أثر في تقوية داعية الكفر ، فقد حصل المقصود ؛ لأنه إذا ترجّحت داعية الفعل صارت داعية الترك مرجوحة ، والمرجوح يمتنع تأثيره ، فيكون الترك ممتنع الوقوع ، فيصير الفعل واجب الوقوع. والله أعلم.

قوله تعالى : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ). متعلق ب «جعلنا» لا ب «فتنة».

وقيل : بفعل مضمر ، أي : فعلنا ذلك ليستيقن.

فصل في المراد بالآية

معنى الكلام : ليوقن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدّة خزنة جهنّم موافقة لما عندهم. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم (١). ثم يحتمل أن يريد الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام ، ويحتمل أن يريد الكلّ ، (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) لتصديقهم بعدد خزنة النار.

قال ابن الخطيب (٢) : فإن قيل : حقيقة الإيمان عندكم لا تقبل الزيادة والنقصان ، فما قولكم في هذه الآية؟.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣١٣) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٧) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٢) ينظر الرازي ٣٠ / ١٨٢.

٥٢٣

فالجواب : نحمله على ثمرات الإيمان ، وعلى آثاره ولوازمه.

قوله تعالى : (وَلا يَرْتابَ) ، أي : ولا يشك (الَّذِينَ أُوتُوا) أي : أعطوا (الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي : المصدّقون من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أنّ خزنة جهنّم تسعة عشر.

فإن قيل : لما أثبت الاستيقان لأهل الكتاب ، وأثبت زيادة الإيمان للمؤمنين ، فما الفائدة في قوله تعالى بعد ذلك : (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ)؟.

فالجواب : أن الإنسان إذا اجتهد في أمر غامض دقيق الحجّة كثير الشّبه ، فحصل له اليقين ، فربّما غفل عن مقدمة من مقدّمات ذلك الدليل الدقيق ، فيعود الشرك ، فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك ، ففائدة هذه الإعادة نفي ذلك الشكّ ، وأنه حصل له يقين جازم ، لا يحصل عقيبه شكّ ألبتة.

قوله تعالى : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، أي : في صدورهم شكّ ونفاق من منافقي أهل «المدينة» الذين يجيئون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ، وهذا إخبار عما سيكون ، ففيه معجزة (وَالْكافِرُونَ) أي : اليهود والنصارى (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) يعني : بعدد خزنة جهنّم ، وهذا قول أكثر المفسرين.

وقال الحسن بن الفضل : السورة مكيّة ، ولم يكن ب «مكة» نفاق ، فالمرض في هذه الآية الخلاف ، والمراد بالكافرين : مشركو العرب ، ويجوز أن يراد بالمرض الشكّ والارتياب لأن أهل «مكة» كان أكثرهم مشركين ، وبعضهم قاطعين بالكذب ، وقوله تعالى إخبارا عنهم : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)؟ أي : هذا العدد الذي ذكره حديثا ، أي ما هذا من الحديث.

قال الليث رحمه‌الله : المثل الحديث ، ومنه : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [محمد : ١٥] ، أي : حديثها والخبر عنها.

وقال ابن الخطيب (١) : إنما سمّوه مثلا ؛ لأنه لمّا كان هذا العدد عددا عجيبا ظن القوم أنه ربّما لم يكن مرادا لله منه ما أشعر به ظاهره بل جعله مثلا لشيء آخر تنبيها على مقصود آخر ـ لا جرم سمّوه مثلا ـ لأنهم لمّا استغربوه ظنّوا أنه ضرب مثلا لغيره ، و «مثلا» تمييز أو حال ، وتسمية هذا مثلا على سبيل الاستعارة لغرابته.

فصل في لام : (وَلِيَقُولَ)

«اللام» في قوله تعالى : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) جار على أصول أهل السّنة ؛ لأن ذلك مراد ، وعند المعتزلة : هي لام العاقبة ، ونسبوه إلى الله ـ عزوجل ـ مع أنهم ينكرون ذلك ، إما على سبيل التّهكّم ، وإما على ما يقولونه.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

٥٢٤

قوله : (كَذلِكَ) : نعت لمصدر ، أو حال منه على ما عرف ، وذلك إشارة إلى ما تقدم من الإضلال والهدى أي : مثل ذلك الإضلال والهدى (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم «يضلّ» أي : يعمي ويخزي من يشاء ، ويهدي من يشاء أي ويرشد من يشاء كإرشاد أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه الآية تدل على مذهب أهل السنة ؛ لأنه ـ تعالى ـ قال في أول هذه الآية : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وقال ـ جل ذكره ـ في آخر الآية : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) ، ثم قال سبحانه : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ).

وأما المعتزلة فذكروا تأويلاتهم المشهورة ، وتقدم أجوبتها.

قوله : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) ، (جُنُودَ رَبِّكَ) : مفعول واجب التقديم لحصر فاعله ولعود الضمير على ما اتصل بالمفعول.

فصل في تفسير الآية

أي : وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار (إِلَّا هُوَ) أي : الله عزوجل ، وهذا جواب لأبي جهل حين قال : ما لإله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجنود إلّا تسعة عشر إلّا أنّ لكلّ واحد منهم من الأعوان والجنود ما لا يعلم عددهم إلا هو ، ويحتمل أن يكون المعنى (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) لفرط كثرتها (إِلَّا هُوَ) فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ، ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق ، وهو جل جلاله يعلمها.

ويكون المعنى : أنه لا حاجة بالله ـ سبحانه ـ في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة ، بل هو الذي يعذّبهم في الحقيقة ، وهو الذي يخلق الألم فيهم ، ولو أنه ـ تعالى ـ قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة ، فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلّة العذاب فجنود الله تعالى غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطّت السّماء وحقّ لها أن تئطّ ، ما فيها موضع أربع أصابع إلّا وفيها ملك ساجد» (١).

قوله جل ذكره : (وَما هِيَ) ، يجوز أن يعود الضمير على «سقر» أي : وما سقر إلّا تذكرة أي عظة للبشر ، وأن يعود على الآيات المذكورة فيها ، أو النار لتقدمها ، أو الجنود لأنه أقرب مذكور ، أو نار الدنيا ، وإن لم يجر لها ذكر تذكرة لنا بالآخرة. قاله الزجاج أو ما هذه العدة (إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى ، وأنه سبحانه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار.

__________________

(١) حديث الأطيط تقدم تخريجه.

٥٢٥

والبشر : مفعول ب «ذكرى» و «اللام» فيه مزيدة.

قوله تعالى : (كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)(٣٧)

قوله : (كَلَّا وَالْقَمَرِ).

قال الفراء : «كلّا» أصله للقسم ، التقدير : أي : والقمر.

وقيل : المعنى حقّا والقمر ، فلا يوقف على هذين التقديرين على «كلا».

وأجاز الطبري الوقف عليها ، وجعلها ردّا على الذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم أي : ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار ، ثم أقسم على ذلك بالقمر ، وبما بعده.

وقيل : هذا إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى ؛ لأنهم لا يتذكرون.

وقيل : هو ردع لمن ينكر أن يكون الكبر نذيرا.

وقيل : ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة.

قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ).

قرأ نافع (١) وحمزة وحفص : «إذ» ظرفا لما مضى من الزمان «أدبر» بزنة «أكرم».

والباقون : «إذا» ظرفا لما يستقبل «دبر» بزنة «ضرب».

والرّسم محتمل لكلتيهما ، فالصورة الخطية لا تختلف.

واختار أو عبيد قراءة «إذا» ، قال : لأن بعده (إِذا أَسْفَرَ) ، قال : «وكذلك هي في حرف عبد الله» ، يعني : أنه مكتوب بألفين بعد الذال ؛ أحدهما : ألف «إذا» والأخرى همزة «أدبر».

قال : وليس في القرآن قسم يعقبه «إذ» ، وإنما يعقبه «إذا».

واختار ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «إذا».

ويحكى عنه : أنه لما سمع «دبر» قال : «إنّما يدبر ظهر البعير».

واختلفوا : هل «دبر ، وأدبر» بمعنى أم لا؟.

فقيل : هما بمعنى واحد ، يقال : دبر الليل والنهار وأدبر ، وقبل وأقبل ؛ ومنه قولهم : «أمس الدابر» فهذا من «دبر» و «أمس المدبر» ؛ قال صخر بن عمرو بن الشّريد السّلميّ : [الكامل]

٤٩٧٠ ـ ولقد قتلتكم ثناء وموحدا

وتركت مرّة مثل أمس الدّابر (٢)

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٥٩ ، والحجة ٦ / ٣٣٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤١٠ ، وحجة القراءات ٧٣٣.

(٢) قال البطليوسي في كتابه الاقتضاب في شرح أدب الكتاب ص ٢٧٠ كذا وقع في النسخ أي مثل أمس الدابر والصواب المدبر ، لأن بعده : ـ

٥٢٦

ويروى : «المدبر». وهذا قول الفرّاء والأخفش والزجاج.

وأما : «أدبر الراكب» وأقبل فرباعي لا غير.

وقال يونس : «دبر» انقضى ، و «أدبر» تولى ، ففرق بينهما.

وقال الزمخشري : «ودبر : بمعنى أدبر» ك «قبل بمعنى أقبل».

وقيل منه : صاروا كأمس الدابر.

وقيل : هو من دبر الليل بالنهار ، إذا خلفه.

وذكر القرطبي (١) عن بعض أهل اللغة : «دبر الليل : إذا مضى ، وأدبر : أخذ في الإدبار».

وقرأ محمد (٢) بن السميفع : «والليل إذا أدبر» بألفين ، وكذلك هي في مصحف عبد الله وأبيّ.

وقال قطرب : من قرأ «دبر» فيعني أقبل ، من قول العرب : دبر فلان ، إذا جاء من خلفي.

قال أبو عمرو : وهي لغة قريش.

قوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ). أي أضاء ، وفي الحديث : «أسفروا بالفجر».

ومنه قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) [عبس : ٣٨].

وقرأ العامة : «أسفر» بالألف ، وعيسى بن الفضل وابن (٣) السميفع : «سفر» ثلاثيا.

والمعنى : طرح الظّلمة عن وجهه على وجه الاستعارة ، وهما لغتان.

ويقال : سفر وجه فلان إذا أضاء ، وأسفر وجهه حسنا : أي أشرق ، وسفرت المرأة ، أي كشفت عن وجهها ، فهي سافرة.

قال القرطبي (٤) : ويجوز أن يكون سفر الظلام ، أي كنسه ، كما يسفر البيت أي : يكنس ، ومنه السفير : لما يسقط من ورق الشجر ويتحاتّ ، يقال : إنما سمي سفيرا لأن الريح تسفره ، أي : تكنسه ، والمسفرة : المكنسة».

قوله : (إِنَّها). أي : إن النار.

وقيل : إن قيام الساعة كذا حكاه أبو حيان (٥). وفيه شيئان : عوده على غير مذكور ، وكون المضاف اكتسب تأنيثا.

__________________

 ـ ولقد دمغت إلى دريد طعنة

نجلاء تزغل مثل عطّ المنجر

ينظر العقد الفريد لابن عبد ربه ٥ / ١٦٦ ، والاقتضاب ص ٢٧٠ ، ٤٦٦ ، ومجاز القرآن ١ / ١١٥ ، ٢ / ١٥٢ ، واللسان (دبر).

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٥٥.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٦٩ ، والدر المصون ٦ / ٤١٩.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٩٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٧٠ ، والدر المصون ٦ / ٤١٩.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٥٥.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٧٨.

٥٢٧

وقيل : إنه النذارة ، وقيل : هي ضمير القصّة ، وهذا جواب القسم وتعليل ل «كلّا» ، والقسم معترض للتوكيد. قاله الزمخشري.

قال شهاب الدين (١) : «وحينئذ يحتاج إلى تقدير جوازه ، وفيه تكلف وخروج عن الظاهر».

قوله : (لَإِحْدَى الْكُبَرِ). قرأ العامّة : «لإحدى الكبر» بهمزة ، وأصلها واو من الوحدة.

وقرأ نصر (٢) بن عاصم ، وابن محيصن ، ويروى عن ابن كثير : «لحدى» بحذف الهمزة.

وهذا من الشّذوذ بحيث لا يقاس عليه.

وتوجيهه : أن يكون أبدلها ألفا ثمّ حذف الألف لالتقاء الساكنين ، وقياس تخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين بين.

قال الواحدي : ألف إحدى مقطوع لا تذهب في الوصل و «الكبر» : جمع «كبرى» ك «الفضل» جمع «فضلى».

قال الزمخشري : «الكبر : جمع الكبرى». جعلت ألف التأنيث كتاء التأنيث ، فكما جمعت «فعلة» على «فعل» جمعت «فعلى» عليها ، ونظير ذلك : «السّوافي» في جمع «السّافياء» وهو التراب التي تسفّه الريح ، و «القواصع» في جمع «القاصعاء» كأنها جمع «فاعلة» قاله ابن الخطيب (٣).

فصل في معنى الآية

معن ى «إحدى الكبر» أي إحدى الدواهي ؛ قال : [الرجز]

٤٩٧١ ـ يا ابن المعلّى نزلت إحدى الكبر

داهية الدّهر وصمّاء الغير (٤)

ومثله : هو أحد الرجال ، وهي إحدى النساء ، لمن يستعظمونه. والمراد من «الكبر» دركات جهنم ، وهي سبعة : جهنّم ، ولظى ، والحطمة ، والسّعير ، والجحيم ، والهاوية ، وسقر. أعاذنا الله منها.

وفي تفسير مقاتل : «الكبر» اسم من أسماء النار.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤١٩.

(٢) ينظر : السبعة ٦٥٩ ، ٦٦٠ ، والحجة ٦ / ٣٣٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤١١.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٨٤.

(٤) الرجز للعجاج ، ينظر ديوانه (١٦) ، والقرطبي ١٩ / ٥٥ ، والبحر ٨ / ٣٧٠ ، والدر المصون ٦ / ٤١٩.

٥٢٨

وعن ابن عباس رضي الله عنهما «إنها» أي إن تكذيبهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَإِحْدَى الْكُبَرِ) أي : الكبيرة من الكبائر (١).

قوله : (نَذِيراً). فيه أوجه :

أحدها : أنه تمييز من «إحدى» لما ضمنت معنى التعظيم ، كأنه قيل : أعظم الكبر إنذارا ، ف «نذير» بمعنى «الإنذار» كالنكير بمعنى الإنكار ، كأنه قيل : إنها لإحدى الدواهي إنذارا ، ومثله : هي إحدى النساء عفافا.

الثاني : أنه مصدر بمعنى الإنذار أيضا ولكنه نصب بفعل مقدّر ، قاله الفراء.

الثالث : أنه «فعيل» بمعنى «مفعل» وهو حال من الضمير في «إنها». قاله الزجاج ، وذكّر لأن معناه معنى العذاب أو أراد أنّها «ذات إنذار» على معنى النسب ، كقولهم : امرأة طالق وطاهر.

قال الحسن رضي الله عنه : والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها.

الرابع : أنه حال من الضمير في «إحدى» لتأويلها بمعنى العظم.

الخامس : أنه حال من فاعل «قم» أول السورة ، والمراد بالنذير : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : قم نذيرا للبشر ، أي : مخوفا لهم. قاله أبو علي الفارسي.

وروي عن ابن عباس ، وأنكره الفراء.

قال ابن الأنباري : قال بعض المفسرين : معناه يا أيّها المدثّر ، قم نذيرا للبشر ، وهذا قبيح لطول ما بينهما.

السادس : أنه مصدر منصوب ب «أنذر» أول السورة ، كأنه قال : إنذارا للبشر.

قال الفراء : يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار ، أي : أنذر إنذارا ، فهو كقوله تعالى : (كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٧]. أي : إنذاري ، فعلى هذا يكون راجعا إلى أول السورة.

السابع : هو حال من «الكبر».

الثامن : حال من ضمير «الكبر».

التاسع : أنه منصوب بإضمار «أعني».

العاشر : أنه حال من «لإحدى». قاله ابن عطية.

الحادي عشر : أنّه منصوب ب «ادع» مقدّرا ، إذ المراد به الله تبارك وتعالى.

روى أبو معاوية الضرير : حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين : «نذيرا للبشر» ، قال : يقول الله عزوجل : أنا لكم منها نذير فاتقوها.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٥٥).

٥٢٩

و «نذيرا» على هذا نصب على الحال ، أي ب (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) منذرا بذلك البشر.

الثاني عشر : أنّه منصوب ب «نادى ، أو ببلّغ» إذ المراد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثالث عشر : أنّه منصوب بما دلّت عليه الجملة ، تقديره : عظمت نذيرا.

الرابع عشر : هو حال من الضمير في «الكبر».

الخامس عشر : أنّها حال من «هو» في قوله (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).

السادس عشر : أنّها مفعول من أجله ، النّاصب لها ما في «الكبر» من معنى الفعل.

قال أبو البقاء : «إنّها لإحدى الكبر لإنذار البشر». فظاهر هذا أنه مفعول من أجله.

واعلم أنّ النصب : قراءة العامّة.

وقرأ أبي بن كعب (١) ، وابن أبي عبلة : بالرفع.

فإن كان المراد النار جاز فيه وجهان :

أن يكون خبرا بعد خبر ، وأن يكون خبر مبتدإ مضمر ، أي : هي نذير ، والتذكر ـ لما تقدم ـ من معنى النّسب. وإن كان الباري تعالى أو رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على خبر مبتدإ مضمر ، أي: هو نذير.

و «للبشر» : إما صفة ، وإما مفعول ل «نذير» واللام مزيدة لتقوية العامل.

قوله : (لِمَنْ شاءَ) ، فيه وجهان :

أحدهما : أنه بدل من البشر بإعادة العامل كقوله : (لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ) [الزخرف : ٣٣] ، و (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ) [الأعراف : ٧٥] ، وأن يتقدم مفعول «شاء» أي : نذيرا لمن شاء التقدم أو التأخر ، وفيه ذكر مفعول «شاء» وقد تقدم أنه لا يذكر إلا إذا كان فيه غرابة.

الثاني : وبه بدأ الزمخشري : أن يكون «لمن شاء» خبرا مقدما ، و «أن يتقدم» مبتدأ مؤخر.

قال : كقولك : لمن توضّأ أن يصلي ، ومعناه : مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم ، أو يتأخر انتهى.

فقوله : «التقدم أو التأخر» وهو مفعول «شاء» المقدر.

قال أبو حيّان رحمه‌الله : قوله : (أَنْ يَتَقَدَّمَ) هو المبتدأ معنى لا يتبادر إلى الذهن ، وفيه حذف.

قال القرطبي (٢) : اللام في (لِمَنْ شاءَ) متعلقة ب «النذير» ، أي : نذيرا لمن شاء منكم

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٩٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٧٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٠.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٥٦.

٥٣٠

أن يتقدم إلى الخير والطاعة أو يتأخر إلى الشر والمعصية ، نظيره : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) ، أي : في الخير (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) [الحجر : ٢٤] عنه ، قال الحسن : هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر ، كقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)(١) [الكهف : ٢٧].

وقيل : المعنى لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر ، فالمشيئة متصلة بالله ـ عزوجل ـ والتقديم بالإيمان والتأخير بالكفر.

وكان ابن عباس يقول : هذا تهديد وإعلام أنّ من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما كثيرا جوزي بثواب لا ينقطع ، ومن تأخر عن الطاعة ، وكذب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عوقب عقابا لا ينقطع (٢).

وقال السديّ : «لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها ، أو يتأخر عنها إلى الجنة» (٣).

فصل فيمن استدل بالآية على كون العبد متمكنا من الفعل

احتج المعتزلة بهذه الآية على كون العبد متمكنا من الفعل غير مجبور عليه.

وجوابه : أنّ هذه الآية دلّت على أن فعل العبد معلق على مشيئته ، لكن مشيئة العبد معلقة على مشيئة الله ـ تعالى جل ذكره ـ كقوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠].

وحينئذ تصير الآية حجة عليهم.

قال ابن الخطيب (٤) : وذكر الأصحاب جوابين آخرين :

الأول : معنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين ، التهديد ، كقوله عزوجل : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ).

الثاني : أنّ هذه المشيئة لله ـ تبارك وتعالى ـ على معنى : لمن شاء الله منكم أن يتقدم ، أو يتأخر.

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ)(٤٨)

قوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). فيه أوجه :

__________________

(١) ينظر المصدر السابق ١٩ / ٥٥.

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١٨٥.

٥٣١

أحدها : أنّ «رهينة» بمعنى «رهن» ك «الشّتيمة» بمعنى «الشّتم».

قال الزمخشري : ليست كتأنيث «رهين» في قوله : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور : ٢١] لتأنيث النفس ، لأنه لو قصدت الصفة لقيل : رهين ؛ لأن «فعيلا» بمعنى «مفعول» يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنّما هي اسم بمعنى «الرهن» كالشتيمة بمعنى «الشّتم» كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهن ، ومنه بيت الحماسة : [الطويل]

٤٩٧٢ ـ أبعد الذي بالنّعف نعف كويكب

رهينة رمس ذي تراب وجندل (١)

كأنّه قال : «رهن رمس».

الثاني : أن الهاء للمبالغة.

الثالث : أنّ التأنيث لأجل اللفظ.

واختار أبو حيان (٢) : أنها بمعنى «مفعول» وأنها كالنّطيحة ، وقال : ويدل على ذلك أنّه لما كان خبرا عن المذكر كان بغير هاء ، وقال تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)(٣) فأنّث حيث كان خبرا عن المذكر أتى بغير تاء ، وحيث كان خبرا عن مؤنث أتى بالتاء كما في هذه الآية فأمّا التي في البيت فأنّث على معنى النّفس.

فصل في معنى رهينة

ومعنى «رهينة» أي : مرتهنة بكسبها ، مأخوذة بعملها ، إمّا خلّصها وإمّا أوبقها.

قوله : (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ). فيه وجهان :

أحدهما : أنّه استثناء متصل إذ المراد بهم المسلمون الخالصون الصالحون ، فإنّهم فكّوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يخلّص الراهن رهنه بإيفاء الحق.

والثاني : أنّه منقطع ، إذا المراد بهم الأطفال والملائكة.

قال ابن عباس : المراد بهم الملائكة (٤).

وقال عليّ بن أبي طالب وابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ هم أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيرتهنوا (٥).

__________________

(١) البيت لمسور بن زيادة الحارثي وقيل لعبد الرحمن بن زيد.

ينظر ديوان الحماسة ١ / ٩٠ ، والكشاف ٤ / ٦٥٤ ، والقرطبي ١٩ / ٥٦ ، والبحر ٨ / ٣٧١ ، والدر المصون ٦ / ٤٢١.

(٢) ينظر البحر المحيط ٨ / ٣٧٩.

(٣) سورة الطور ، آية ٢١.

(٤) ينظر : القرطبي ١٩ / ٥٥.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣١٨) والحاكم (٢ / ٥٠٧) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجه ووافقه الذهبي. ـ

٥٣٢

وقال الضحاك : هم الذين سبقت لهم منا الحسنى (١) ، ونحوه عن ابن جريج قال : كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين ، وهم أهل الجنة فإنّهم لا يحاسبون.

وكذا قال مقاتل والكلبي أيضا : هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ يوم الميثاق حين قال الله تعالى لهم : «هؤلاء في الجنة ولا أبالي».

قال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين ، لأنهم أدّوا ما كان عليهم(٢).

وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : هم المسلمون (٣).

وقيل : إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان.

وقيل : هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم.

وقال أبو جعفر الباقر : نحن وشيعتنا أصحاب اليمين ، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون.

قوله تعالى : (فِي جَنَّاتٍ). يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم في جنات ، وأن يكون حالا من (أَصْحابَ الْيَمِينِ) ، وأن يكون حالا من فاعل «يتساءلون». ذكرهما أبو البقاء. ويجوز أن يكون ظرفا ل «يتساءلون» ، وهو أظهر من الحالية من فاعله.

و «يتساءلون» يجوز أن يكون على بابه ، أي : يسأل بعضهم بعضا ، ويجوز أن يكون بمعنى «يسألون» أي يسألون غيرهم ، نحو «دعوته وتداعيته».

قوله : (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) فيه وجهان :

الأول : أن تكون كلمة «عن» صلة زائدة ، والتقدير : يتساءلون المجرمين ، فيقولون لهم : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ، فإنه يقال : سألته كذا ، وسألته عن كذا.

الثاني : أن يكون المعنى : أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين.

فإن قيل : فعلى هذا يجب أن يقولوا : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)؟.

فأجاب الزمخشري عنه فقال : «المراد من هذا أن المشركين يلقون ما جرى بينهم وبين المؤمنين ، فيقولون : قلنا لهم : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ).

__________________

ـ وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٩) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره أيضا عن ابن عمر ونسبه إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر.

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٥٧).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٩) وعزاه إلى ابن المنذر.

٥٣٣

وفيه وجه آخر وهو : أنّ المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم؟ فلما رأوهم ، قالوا لهم : ما سلككم في سقر؟ والإضمارات كثيرة في القرآن.

قوله : (ما سَلَكَكُمْ) : يجوز أن يكون على إضمار القول ، وذلك في موضع الحال ، أي : يتساءلون عنهم قائلين لهم : ما سلككم؟ قال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق بعد قوله: (ما سَلَكَكُمْ) وهو سؤال المجرمين ، قوله : (يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) ، وهو سؤال عنهم ، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل : يتساءلون المجرمين : ما سلككم؟.

قلت : قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ) ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسئولين عنهم ؛ لأن المشركين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين ، فيقولون : قلنا لهم : ما سلككم في سقر؟ أي : أدخلكم في سقر ، كما تقول : سلكت الخيط في كذا إذا أدخلته فيه ، والمقصود من هذا : زيادة التوبيخ والتخجيل ، والمعنى : ما أدخلكم في هذه الدركة من النار؟ فأجابوا : أن العذاب لأمور أربعة ، ثم ذكروها وهي قولهم : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ).

قال الكلبيّ رحمه‌الله : يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه فيقول له : يا فلان.

وفي قراءة عبد الله بن الزبير : يا فلان ، ما سلككم في سقر؟ وهي قراءة على التفسير ؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن. قاله ابن الأنباري.

وقيل : إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم ، فتسأل الملائكة المشركين ، فيقولون لهم : ما سلككم في سقر؟.

قال الفراء : في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين هم الولدان ؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب.

قوله : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) ، هذا هو الدالّ على فاعل «سلكنا كذا» الواقع جوابا لقول المؤمنين لهم : «ما سلككم» [والتقدير (١) : سلكنا عدم صلاتنا كذا وكذا.

قال أبو البقاء : هذه الجملة سدّت مسدّ الفاعل ، وهو جواب : ما سلككم ، وهو نظير «مناسككم» ، وقد تقدم في «البقرة»].

فصل في تفسير الآية

قال القرطبي (٢) : معنى قولهم : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي : المؤمنين الذين يصلون (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي : لم نكن نتصدق.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٥٧).

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٥٧.

٥٣٤

قال ابن الخطيب (١) : «وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة ، والزكاة ؛ لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذّبوا على تركه».

(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) ، أي : في الأباطيل.

وقال ابن زيد : (نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قولهم ـ لعنهم الله ـ : إنه ساحر ، كاهن ، مجنون ، شاعر كذبوا ـ والله ـ لم يكن فيه شيء من ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقال قتادة : كلما غوى غاو غوينا معه (٣).

وقيل : معناه : وكنا أتباعا ولم نكن متبوعين ، وقولهم : (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي: نكذّب بيوم القيامة ، يوم الجزاء والحكم.

(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي : جائنا الموت ، قال الله تعالى : (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩].

وهذه الآية تدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.

فإن قيل : لم أخر التكذيب وهو أفحش تلك الخصال الأربع؟.

فالجواب : أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذّبين بيوم الدين ، والغرض تعظيم هذا الذنب كقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧].

قوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) ؛ كقوله : [الطويل]

٤٩٧٣ ـ على لاحب لا يهتدى بمناره

 ........... (٤)

في أحد وجهيه ، أي : لا شفاعة لهم فلا انتفاع بها ، وليس المراد أن ثمّ شفاعة غير نافعة كقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] الآية.

وهذه الآية تدلّ على صحة الشفاعة للمذنبين من هذه الأمة بمفهومها ؛ لأن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدلّ على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : يشفع نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم رابع أربعة : جبريل ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، أو عيسى ، ثم نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم الملائكة ، ثم النبيون ، ثم الصديقون ، ثم الشهداء ، ويبقى قوم في جهنم ، فيقال لهم : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)؟ قالوا : لم نك من المصلين ، إلى قوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ).

قال عبد الله بن مسعود : فهؤلاء الذين في جهنم (٥).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٨٦.

(٢) ينظر تفسير القرطبي ١٩ / ٥٧.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣١٩).

(٤) تقدم.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣١٩) عن ابن مسعود.

٥٣٥

قوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)(٥٦)

قوله : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) عن القرآن ، أي : فما لأهل «مكة» قد أعرضوا وولّوا.

قال مقاتل : معرضين عن القرآن من وجهين :

أحدهما : الجحود والإنكار.

والثاني : ترك العمل بما فيه (١).

وقيل : المراد بالتذكرة : العظة بالقرآن ، وغيره من المواعظ.

و «معرضين» حال من الضمير في الجار الواقع خبرا عن «ما» الاستفهامية ، وقد تقدم أن مثل هذه الحال تسمى حالا لازمة وقد تقدم بحث حسن.

و (عَنِ التَّذْكِرَةِ) متعلق به.

قال القرطبي (٢) : «وفي اللام» معنى الفعل ، فانتصاب الحال على معنى الفعل».

قال ابن الخطيب (٣) : «هو كقولك : ما لك قائما».

قوله : (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ) ، هذه الجملة يجوز أن تكون حالا من الضمير في الجار ، وتكون بدلا من «معرضين». قاله أبو البقاء. يعني : أنها كالمشتملة عليها ، وأن تكون حالا من الضمير في «معرضين» فيكون حالا متداخلة.

وقرأ العامة : حمر ـ بضم الميم ـ ، والأعمش (٤) : بإسكانها.

وقرأ نافع وابن عامر (٥) : «مستنفرة» ـ بفتح الفاء ـ على أنه اسم مفعول ، أي : نفّرها القنّاص.

والباقون : بالكسر ، بمعنى نافرة.

يقال : استنفر ونفر بمعنى نحو عجب واستعجب ، وسخر واستسخر ؛ قال الشاعر : [الكامل]

٤٩٧٤ ـ إمسك حمارك إنّه مستنفر

في إثر أحمرة عمدن لغرّب (٦)

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ٥٨).

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٥٨.

(٣) الفخر الرازي ٣٠ / ١٨٦.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٩٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٧٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٢.

(٥) ينظر : السبعة ٦٦٠ ، والحجة ٦ / ٣٤١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤١١ ، وحجة القراءات ٧٣٤.

(٦) ينظر الطبري ١٩ / ١٠٦ ، ومجمع البيان ١ / ٥٨٩ ، ومعاني القرآن للفراء ٣ / ٣٠٦ ، واللسان (لغز) ، والقرطبي ١٩ / ٥٨ ، والبحر ٨ / ٣٧٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٢.

٥٣٦

وقال الزمخشري : «وكأنها تطلب النّفار في نفوسها ، في جمعها له وحملها عليه».

فأبقى السّين على بابها من الطلب ، وهو معنى حسن.

قال أبو علي الفارسي : «الكسر في «مستنفرة» أولى لقوله : «فرّت» للتناسب ، لأنه يدل على أنها استنفرت ، ويدل على صحة ذلك ما روى محمد بن سلام قال : سألت أبا سوار الغنوي ـ وكان عربيا فصيحا ـ فقلت : كأنهم حمر ماذا؟ فقال : مستنفرة طردها قسورة ، فقلت : إنما هي فرّت من قسورة ، فقال : أفرت؟ قلت : نعم ، قال : فمستنفرة إذا» انتهى.

يعني : أنها مع قوله طرد ، تناسب الفتح ، لأنها اسم مفعول ، فلما أخبر بأن التلاوة (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) رجع إلى الكسر للتناسب إلا أنّ بمثل هذه الحكاية لا تردّ القراءة المتواترة.

والقسورة : قيل : الصّائد ، أي : نفرت وهربت من قسورة ، أي : من الصائد.

وقيل : الرّماة يرمونها.

وقيل : هو اسم جمع لا واحد له.

وقال بعض أهل اللغة : إن «القسورة» : الرامي ، وجمعه : القساورة.

ولذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان : «القسورة» وهم الرماة والصيّادون (١) ، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو ظبيان عن أبي موسى الأشعري ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة : [الطويل]

٤٩٧٥ ـ إذا ما هتفنا هتفة في نديّنا

أتانا الرّجال العائدون القساور (٢)

وقيل : «القسورة» : الأسد. قاله أبو هريرة ، وابن عباس أيضا رضي الله عنه.

قال ابن عرفة : من القسر بمعنى القهر ، أي : أنه يقهر السّباع والحمر الوحشيّة تهرب من السباع ؛ ومنه قول الشاعر : [الرجز]

٤٩٧٦ ـ مضمر يحذره الأبطال

كأنّه القسورة الرّئبال (٣)

أي : الأسد ، إلا أن ابن عباس أنكره ، وقال لا أعرف القسورة أسد في لغة أحد من العرب ، وإنما القسورة : عصب الرجال ؛ وأنشد : [الرجز]

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٢٠ ـ ٣٢١) عن ابن عباس وأبي موسى وعكرمة وقتادة.

وأخرجه الحاكم (٢ / ٥٠٨) عن أبي موسى. وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٠) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر ذيل لبيد بن ربيعة ص ٢٢٦ ، والقرطبي ١٩ / ٥٨ ، والبحر ٨ / ٣٦٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٣.

(٣) ينظر البحر ٨ / ٣٦٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٣.

٥٣٧

٤٩٧٧ ـ يا بنت كوني خيرة لخيّره

أخوالها الجنّ وأهل القسوره (١)

وقيل : القسورة : ظلمة الليل ، قال ابن الأعرابي : وهو قول عكرمة.

وعن ابن عباس : ركز الناس ؛ أي حسّهم وأصواتهم (٢).

وعنه أيضا : «فرّت من قسورة» أي : من حبال الصيادين (٣) ، وعنه أيضا : القسورة بلسان «الحبشة» الأسد (٤) ، وخالفه عكرمة فقال : الأسد بلسان «الحبشة» : عنبسة ، وبلسان «الحبشة» : الرّماة ، وبلسان «فارس» : شير ، وبلسان «النّبط» : أريا (٥).

وقيل : هو أوّل سواد الليل ، ولا يقال لآخر سواد الليل : قسورة.

فصل في المراد بالحمر المستنفرة

قال ابن عباس : كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمر مستنفرة ، قال ابن عباس: أراد الحمر الوحشية (٦).

قال الزمخشري : وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله ، ولا يرى مثل نفار حمر الوحش ، واطرادها في العدو إذا خافت من شيء.

قوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) ، أي : يعطى كتبا مفتوحة ، وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد ، لا نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه : «مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» ، إلى فلان ابن فلان ، ونؤمر فيه باتباعك ، ونظيره : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣].

وقال ابن عباس : كانوا يقولون : إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءة من النار (٧).

وقال مطر الوراق : أرادوا أن يعطوا بغير عمل (٨).

__________________

(١) يروي الشطر الثاني كما في الطبري :

أحوالها في الحيّ مثل القسوره

ينظر الطبري ١٩ / ١٠٧ ، والقرطبي ١٩ / ٥٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٣ ، وفتح القدير ٥ / ٣٣٣.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣٢) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦١) وعزاه إلى سفيان بن عيينة في «تفسيره» وعبد الرزاق وابن المنذر.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦١) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦١) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٢١) عن عكرمة.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٥٨) عن ابن عباس.

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ينظر المصدر السابق.

٥٣٨

وقال الكلبي : قال المشركون : بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك (١).

قال ابن الخطيب (٢) : وهذا من الصّحف المنشّرة بمعزل.

وقيل المعنى : أن يذكر بذكر جميل ، فجعلت الصّحف موضع الذّكر مجازا ، فقالوا : إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه فما بالنا لا نرى ذلك؟!.

قوله : «منشّرة».

العامة : على التشديد ، من «نشّره» بالتضعيف.

وابن جبير (٣) : «منشرة» بالتخفيف ، و «نشّر ، وأنشر» بمنزلة «نزّل وأنزل» : والعامة أيضا على ضمّ الحاء من «صحف».

وابن جبير (٤) : على تسكينها.

قال أبو حيان (٥) : «والمحفوظ في الصحيفة والثوب : «نشر» مخففا ثلاثيا ، وهذا مردود بالقرآن المتواتر».

وقال أبو البقاء في قراءة ابن جبير : «من أنشرت ، إما بمعنى أمر بنشرها مثل ألحمت عرض فلان ، أو بمعنى منشورة ، مثل : أحمدت الرجل ، أو بمعنى : أنشر الله الميّت أي : أحياه ، فكأنه أحياها فيها بذكره».

قوله : (كَلَّا) ، أي : ليس يكون ذلك.

وقيل : حقّا ، والأول أجود ، لأنه ردّ لقولهم. ثم قال : (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي : لا أعطيهم ما يتمنّون لأنهم لا يخافون الآخرة فلذلك أعرضوا عن التأمّل اغترارا بالدنيا ؛ فإنه لمّا حصلت المعجزات الكثيرة في الدلالة على صحّة النبوة فطلب الزيادة يكون عبثا.

قوله : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ). أي : حقّا أنّ القرآن عظة.

وقيل : هذا ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) بليغة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي : اتعظ به ، وجعله نصب عينه.

والضمير في «إنه ، وذكره» للتذكرة في قوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) وإنما ذكّرا ؛ لأنهما في معنى الذّكر والقرآن.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر الرازي ٣٠ / ١٨٧.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٥٦ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٠٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٧٢.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٠٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٢٣.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٨١.

٥٣٩

وقيل : الضمير في «إنه» للقرآن أو الوعيد.

قوله : (وَما يَذْكُرُونَ).

قرأ نافع (١) : بالخطاب ، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون : بالغيبة حملا على ما تقدم من قوله : (كُلُّ امْرِئٍ) ولم يؤثروا الالتفات.

وقراءة الخطاب ، وهي اختيار أبي حاتم لأنه أعم.

وأما قراءة الغيبة فهي اختيار أبي عبيد لقوله تعالى : (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ) واتفقوا على تخفيفها.

قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، بمعنى إلّا وقت مشيئته ، لا أن ينوب عن الزمان ، بل على حذف مضاف.

قالت المعتزلة : بل معناه : إلا أن يقدرهم الله ـ تعالى ـ على الذّكر ويهمّهم إليه.

وأجيبوا : بأنه تعالى أبقى الذكر مطلقا ، واستثنى منه حال المشيئة المطلقة ، فيلزم أنه متى حصلت المشيئة أن يحصل الذّكر مطلقا ، فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصل المشيئة وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهريّة ترك للظاهر.

قوله تعالى : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) ، أي : حقيق بأن يتّقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا ويطيعوا ، وحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.

روى الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في قوله تعالى : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) قال : قال الله تعالى : «أنّا أهل أن أتّقى فمن اتّقى فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له» (٢).

وقال بعض المفسرين : أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبائر ، وأهل المغفرة أيضا للذنوب الصغائر.

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذّبه ب «مكة»» (٣). والله أعلم.

__________________

(١) ينظر : إعراب القراءات ٢ / ٤١٣ ، وحجة القراءات ٧٣٥.

(٢) أخرجه أحمد (٣ / ١٤٢ ، ٢٤٣) وابن ماجه (٤٢٩٩) والترمذي (٣٣٢٥) والدارمي (٢ / ٣٠٢ ، ٣٠٣) والحاكم (٢ / ٥٠٨) ، وأبو يعلى (٦ / ٦٦) رقم (٣٣١٧) من طرق عن سهيل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب وسهيل ليس بالقوي في الحديث وقد تفرد سهيل بهذا الحديث عن ثابت.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٣) تقدم تخريجه.

٥٤٠