اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

فقوله : (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) صفة ل «قوما» ، وكذلك : (قَدْ يَئِسُوا) وقوله : (مِنَ الْآخِرَةِ).

«من» لابتداء الغاية ، أيضا كالأولى أي : أنهم لا يوقنون [بالآخرة ألبتة](١).

و (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ). فيه وجهان (٢) :

[أحدهما : أنها لابتداء الغاية أيضا كالأولى ، والمعنى : أنهم لا يوقنون ببعث الموتى ألبتة ، فيأسهم من الآخرة من موتاهم](٣) لاعتقادهم عدم بعثهم.

والثاني : أنها لبيان الجنس ، يعني : أن الكفار هم أصحاب القبور.

والمعنى : أنّ هؤلاء يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار الذين هم أصحاب القبور من خير الآخرة ، فيكون متعلق «يئس» الثاني محذوفا (٤).

وقرأ (٥) ابن أبي الزّناد : «الكافر» ب «الإفراد».

فصل في نزول الآية (٦)

قال ابن زيد : إنّ ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين ، ويواصلونهم ، فيصيبون بذلك من ثمارهم ، فنهوا عن ذلك ، (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) يعني : اليهود قد يئسوا من الآخرة بأن يكون لهم فيها ثواب وخير ، (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي : يئس الكفار الذين ماتوا وصاروا إلى القبور من أن يكون لهم ثواب وحظ في الآخرة (٧).

وقال مجاهد : الكفار حين دخلوا قبورهم يئسوا من رحمة الله (٨).

وقيل : هم المنافقون.

وقال الحسن وقتادة : هم اليهود والنصارى (٩).

وقال ابن مسعود : معناه : أنهم تركوا العمل للآخرة ، وآثروا الدنيا (١٠).

وقال الحسن وقتادة : معناه : أن الكفّار الذين هم أحياء ، يئسوا من الكفار ومن أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم (١١).

وقيل : إن الله ـ تعالى ـ ختم السورة بما بدأها من ترك موالاة الكفار ، وهي خطاب لحاطب بن أبي بلتعة وغيره.

__________________

(١) في أ : ببعث الموتى.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٨.

(٣) سقط من أ.

(٤) ينظر السابق.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٥٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٨.

(٦) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٠.

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٥٠).

(٨) ينظر تفسير البغوي (٤ / ٣٣٦).

(٩) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٥٠) عن الحسن.

(١٠) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٥٠).

(١١) تقدم.

٤١

قال ابن عباس : قوله : (لا تَتَوَلَّوْا) أي : لا توالوهم ، ولا تناصحوهم ، رجع تعالى بطوله وفضله على حاطب بن أبي بلتعة ، يريد أن كفار قريش يئسوا من خير الدنيا ، كما يئس الكفار المقبورون من حظ يكون لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى (١).

روى الثّعلبيّ في تفسيره عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الممتحنة كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة» (٢). والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٥٠).

(٢) ذكره الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» (٤ / ٥٢١) وقال : أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبي بن كعب.

٤٢

سورة الصف

[مدنية](١) في قول الأكثرين. وذكر النحاس [عن ابن عباس](٢) : أنها مكية ، وهي أربع عشرة آية ومئتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١)

قال ابن الخطيب (٣) : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها ، هو أن في السورة التي قبلها ، بين الخروج إلى الجهاد في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) [الممتحنة : ١] ، وفي هذه السورة بين ما يحمل المؤمن ، ويحثّه على الجهاد ، فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف : ٣].

فإن قيل : ما الحكمة في أنه ـ تعالى ـ قال في بعض السور : (سَبَّحَ لِلَّهِ) بلفظ الماضي ، وفي بعضها : «يسبّح» بلفظ المضارع ، وفي بعضها بلفظ الأمر؟.

فالجواب : أن الحكم في ذلك تعليم العبد ، أن تسبيح الله تعالى دائم لا ينقطع ، كما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان ، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان والأمر يدل عليه في الحال (٤).

و «العزيز» : هو الغالب على غيره أي شيء كان ذلك الغير ، ولا يمكن أن [يحكم](٥) عليه غيره ، و «الحكيم» : هو الذي يحكم على غيره ، أي شيء كان ذلك الغير.

فإن قيل : هلّا قيل : سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وما فيهما وهو أكثر مبالغة؟ فالجواب (٦) : إنما يكون كذلك ، إذا كان المراد التّسبيح بلسان الحال ، أما إذا كان المراد من التسبيح المخصوص باللسان فالبعض بوصف معين ، فلا يكون كذلك.

__________________

(١) في أ : مكية.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٦٩.

(٤) في أ : المكان.

(٥) في أ : يغلب.

(٦) ينظر : السابق ٢٩ / ٢٧٠.

٤٣

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)(٣)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

روى الدّارميّ في مسنده قال : أنبأنا محمّد بن كثير عن الأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام ، قال : قعدنا مع نفر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا؟ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) حتى ختمها (١) ، قال عبد الله : قرأها علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ختمها ، قال أبو سلمة : فقرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها ، قال يحيى : فقرأها علينا أبو سلمة ، فقرأها علينا يحيى ، فقرأها علينا الأوزاعي ، فقرأها علينا محمد ، فقرأها علينا الدارمي.

وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : قال عبد الله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه (٢) ، [فلما نزل الجهاد كرهوه](٣).

[وقال الكلبي : قال المؤمنون : يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها](٤) ، فنزلت : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الصف : ١٠] ، فمكثوا زمانا يقولون : لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين؟ فدلّهم الله عليها بقوله : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [الصف : ١١] الآية ، فابتلوا يوم أحد ، ففروا ، فنزلت هذه الآية تعييرا لهم بترك الوفاء (٥).

وقال محمّد بن كعب : لما أخبر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثواب شهداء «بدر» ، قالت الصحابة رضي الله عنهم اللهم اشهد لئن لقينا قتالا لنفرغنّ فيه وسعنا ففروا يوم أحد ، فعيرهم الله بذلك (٦).

وقال قتادة والضحاك : نزلت في قوم كانوا يقولون : نحن جاهدنا وابتلينا ، ولم يفعلوا (٧).

وقال صهيب : كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر ، وأنكاهم ، فقتله ، فقال رجل : يا

__________________

(١) أخرجه الدارمي في «مسنده» (٢ / ٢٠٠).

(٢) في أ : لسارعنا إليها.

(٣) سقط من أ.

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر القرطبي (١٨ / ٥١).

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٣٧) والقرطبي (١٨ / ٥٢).

(٧) ينظر المصدر السابق.

٤٤

نبي الله ، إني قتلت فلانا ففرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فقال عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف: يا صهيب ، أما أخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنك قتلت فلانا ، فإن فلانا انتحل قتله ، فأخبره ، فقال: أكذلك يا أبا يحيى؟ قال : نعم ، والله يا رسول الله ، فنزلت الآية في المنتحل (١).

وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين ، كانوا يقولون «للنبي» صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه : إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم ، وقاتلنا ، فلما خرجوا نكثوا عنهم وتخلفوا (٢).

فصل

قال القرطبي (٣) : «هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها».

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى : أنه بعث قراء إلى أهل «البصرة» ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل ، قد قرأوا القرآن ، فقال أنتم خيار أهل «البصرة» وقراؤهم ، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد ، فتقسو قلوبكم ، كما قست قلوب من قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة تشبهها في الطول والشدة ب «براءة» ، فأنسيتها غير أني قد حفظت منها «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التّراب» ، وكنّا نقرأ سورة تشبهها بإحدى المسبّحات ، فأنسيتها غير أنّي قد حفظت منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) ، فتكتب شهادة في أعناقكم ، فتسئلون عنها يوم القيامة» (٤).

قال ابن العربي (٥) : وهذا كله ثابت في الدين ، أما قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) فثابت في الدين لفظا ومعنى في هذه السورة ، وأما قوله : شهادة في أعناقكم عنها يوم القيامة ، فمعنى ثابت في الدين ، فإن من التزم شيئا لزمه شرعا ، والملتزم على قسمين :

[أحدهما : النذر ، وهو](٦) على قسمين :

نذر تقرب مبتدأ ، كقوله : لله عليّ صلاة أو صوم أو صدقة ، ونحوه من القرب ، فهذا يلزم الوفاء به إجماعا.

ونذر مباح ، وهو ما علق به شرط رغبة ، كقوله : إن قدم غائبي فعلي صدقة ، أو علق بشرط رهبة ، كقوله : إن كفاني الله شر كذا فعليّ صدقة ، ففيه خلاف : فقال مالك وأبو حنيفة: يلزم الوفاء به.

__________________

(١) ذكره القرطبي (١٨ / ٥٢).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٣٧) والقرطبي (١٨ / ٥٢).

(٣) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٥٢.

(٤) أخرجه مسلم في «صحيحه» (٢ / ٧٢٥) من حديث أبي موسى الأشعري.

(٥) انظر أحكام القرآن ٤ / ١٧٩٩.

(٦) سقط من أ.

٤٥

وقال الشافعي في قول : لا يلزم الوفاء به.

وعموم الآية حجة لنا ؛ لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق ، أو مقيد بشرط.

وقد قال أصحابه : إن النذر إنّما يكون بما يقصد منه القربة مما هو من جنس القربة ، وهذا وإن كان من جنس القربة ، لكنه لم يقصد منه القربة ، وإنما قصد منه منع نفسه عن فعل ، أو من الإقدام على فعل.

قلنا : القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات ، وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة كجلب نفع أو دفع ضرر ، فلم يخرج عن سنن التكليف ، ولا زال عن قصد التقرب.

قال ابن العربي (١) : «فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله : إن تزوجت أعنتك بدينار ، أو ابتعت جارية كذا أعطيتك ، فهذا لازم إجماعا من الفقهاء ، وإن كان وعدا مجردا.

فقيل : يلزم بتعلقه ، واستدلوا بسبب الآية ، فإن روي أنهم كانوا يقولون : لو نعلم أي الأعمال أفضل وأحب إلى الله لعملناه ، فأنزل الله هذه الآية ، وهو حديث لا بأس به.

وروي عن مجاهد أن عبد الله [بن رواحة](٢) لما سمعها قال : «لا أزال حبيسا في الله حتى أقتل» (٣).

والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال».

قال القرطبي (٤) : «قال مالك : فأما العدد مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له هبة ، فيقول : نعم ، ثم يبدو له ألّا يفعل ، فلا أرى ذلك يلزمه».

فصل

قال القرطبي (٥) : ثلاث آيات منعتني أن أقضي على الناس : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٤٤] (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) [هود : ٨٨] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٣].

وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالك ،

__________________

(١) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٨٠.

(٢) سقط من أ.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣١٦) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر.

(٤) الجامع لأحكام القرآن (١٨ / ٥٣).

(٥) ينظر السابق ، والثابت في المطبوع أنه من كلام النخعي.

٤٦

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، كلّما قرضت عادت ، قلت : من هؤلاء يا جبريل؟.

قال : هؤلاء خطباء أمّتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به»(١).

فصل

قوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله ، أما في الماضي ، فيكون كذبا ، وفي المستقبل ، يكون خلفا ، وكلاهما مفهوم (٢).

قال الزمخشري (٣) : هي لام الإضافة ، دخلت على «ما» الاستفهامية ، كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : «بم ، وفيم ، وعمّ» ، وإنما حذفت الألف ؛ لأن «ما» والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالها في كلام المستفهم» ، ولو كان كذلك لكان معنى الاستفهام واقعا في قوله تعالى : (لِمَ تَقُولُونَ) ، والاستفهام من الله تعالى محال ؛ لأنه عالم بجميع الأشياء ، والجواب (٤) هذا إذا كان المراد حقيقة الاستفهام ، وأما إذا كان أراد إلزام من أعرض عن الوفاء مما وعد أو أنكر الحق وأصرّ على الباطل فلا.

وتأول سفيان بن عيينة قوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) أي : لم تقولون [ما ليس الأمر فيه](٥) إليكم ، فلا تدرون هل تفعلون ، أو لا تفعلون ، فعلى هذا يكون الكلام محمولا على ظاهره في إنكار القول.

قوله : (كَبُرَ مَقْتاً). فيه أوجه (٦) :

أحدها : أن يكون من باب : «نعم وبئس» ، فيكون في «كبر» ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده ، و «أن تقولوا» هو المخصوص بالذم ، فيجيء فيه الخلاف المشهور : هل رفعه بالابتداء وخبره الجملة مقدمة عليه؟ أو خبره محذوف ، أو هو خبر مبتدأ محذوف ، كما تقدم تحريره؟.

وهذه قاعدة مطردة : كل فعل يجوز التعجّب منه ، يجوز أن يبنى على «فعل» ـ بضم العين ـ ويجري مجرى «نعم وبئس» في جميع الأحكام.

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (٨ / ٤٤) من حديث أنس من طريق إبراهيم بن أدهم عن مالك بن دينار عن أنس مرفوعا وقال أبو نعيم مشهور من حديث مالك بن أنس غريب من حديث إبراهيم عنه ، وذكره السيوطي في الدر المنثور» (٤ / ٢٧٨) وعزاه إلى ابن مردويه.

(٢) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٣.

(٣) الكشاف ٤ / ٥٢٢.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٧٠.

(٥) سقط من أ.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٠٩.

٤٧

والثاني : أنه من أمثلة التعجّب.

وقد عده ابن عصفور في «التعجب» المبوّب له في النحو ، فقال : «صيغة : ما أفعله ، وأفعل به ، ولفعل ، نحو : لرمو الرجل».

وإليه نحا الزمخشري (١) فقال : هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه ، قصد في «كبر» : التعجب من غير لفظه ؛ كقوله : [الطويل]

٤٧٦٢ ـ ..........

غلت ناب كليب بواؤها (٢)

ثم قال : وأسند إلى : «أن تقولوا» ، ونصب : «مقتا» ، على تفسيره ، دلالة على أن قوله : (ما لا تَفْعَلُونَ) : مقت خالص لا شوب فيه.

الثالث : أنّ «كبر» ليس للتعجب ولا للذم ، بل هو مسند إلى «أن تقولوا» و «مقتا»: تمييز محول من الفاعلية والأصل : كبر مقتا أن تقولوا أي : مقت قولكم.

ويجوز أن يكون الفاعل مضمرا عائدا على المصدر المفهوم من قوله : (لِمَ تَقُولُونَ) أي : «كبر أي القول مقتا» ، و «أن تقولوا» على هذا إما بدل من ذلك الضمير ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أن تقولوا (٣).

قال القرطبي : و «مقتا» نصب بالتمييز ، المعنى : كبر قولهم ما لا تفعلون مقتا.

وقيل : هو حال ، والمقت والمقاتة : مصدران ، يقال : رجل مقيت وممقوت إذا لم يحبّه الناس (٤).

فصل

قال القرطبيّ : قد يحتجّ بهذه الآية في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولي الشافعي (٥).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)(٤)

قرأ (٦) زيد بن علي : «يقاتلون» ـ بفتح التاء ـ على ما لم يسم فاعله.

وقرىء (٧) : «يقتّلون» بالتشديد.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٢٣.

(٢) ينظر الكشاف ٣ / ٨٨ ، ٩٧ ، وشرح شواهد ص ٥٦١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٨.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٠.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٥٣.

(٥) السابق.

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٢٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٩ ، والدر المصون ٦ / ٣١٠.

(٧) ينظر : السابق.

٤٨

و «صفّا» : نصب على الحال ، أي : صافين أو مصفوفين (١).

قل القرطبي (٢) : «والمفعول مضمر ، أي : يصفون أنفسهم صفّا».

وقوله : «كأنّهم» يجوز أن يكون حالا ثانية من فاعل : «يقاتلون» ، وأن يكون حالا من الضّمير في «صفّا» ، فتكون حالا متداخلة قاله الزمخشري (٣).

وأن يكون نعتا ل : «صفّا» ، قاله الحوفي.

وعاد الضمير على «صفّا» ، فيكون جمعا في المعنى (٤) ، كقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩].

فصل

فإن قيل : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها ، أن قوله تعالى : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) في ذم المخالفين في القتال ، وهم الذين وعدوا بالقتال ولم يقاتلوا ، وهذه الآية مدح [للموافقين](٥) في القتال. واعلم أن المحبة على وجهين (٦).

أحدهما : الرضا عن الخلق.

وثانيهما : الثّناء عليهم.

والمرصوص ، قيل : المتلائم الأجزاء المستويها.

وقيل : المعقود بالرصاص. قاله الفراء.

وقيل : هو من التضام من تراصّ الأسنان.

وقال الراعي : [الرجز]

٤٧٦٣ ـ ما لقي البيض من الحرقوص

يفتح باب المغلق المرصوص (٧)

الحرقوص : دويبة تولع بالنساء الأبكار (٨).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٠.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٥٤.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٢٣.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٠.

(٥) في أ : المقاتلين.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٧١.

(٧) ونسب البيتان لأعرابية كما في اللسان ، قال : قالت أعرابية :

ما لقي البيض من الحزقوص

من مارد لصّ من اللّصوص

يدخل تحت الغلق المرصوص

بمهر لا غال ولا رخيص

ينظر اللسان (حرقص) ، والبحر ٨ / ٢٥٧ ، والدر المصون ٦ / ٣١٠.

(٨) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٠.

٤٩

وقال القرطبي (١) : والتّراصّ : التلاصق ، ومنه قوله : وتراصوا في الصف ، ومعنى الآية : إن الله ـ تعالى ـ يحب من يثبت في الجهاد ، وفي سبيله ، ويلزم مكانه ، كثبوت البناء.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يوضع الحجر على الحجر ، ثم يرص بأحجار صغار ، ثم يوضع اللبن عليه ، فيسمونه أهل مكة المرصوص (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : ويجوز أن يكون المعنى على أن يكون ثباتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة ، وموالاة بعضهم بعضا ، كالبنيان [المرصوص](٤).

وقال سعيد بن جبير : هذا تعليم من الله للمؤمنين ، كيف يكونون عند قتال عدوهم.

فصل في أن قتال الراجل أفضل من الفارس

قال القرطبي (٥) : استدل بهذه الآية بعضهم على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس ؛ لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة.

قال المهدويّ : وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة ، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية ؛ لأن معناه الثبات.

فصل في الخروج من الصف

لا يجوز الخروج من الصفّ إلا لحاجة تعرض للإنسان ، أو في رسالة يرسلها الإمام ، أو منفعة تظهر في المقام ك «فرصة» تنتهز ولا خلاف فيها.

وفي الخروج عن الصف للمبارزة [خلاف](٦).

فقيل : إنه لا بأس بذلك إرهابا للعدو ، وطلبا للشهادة ، وتحريضا على القتال.

وقيل : لا يبرز أحد طلبا لذلك ؛ لأن فيه رياء وخروجا إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدو ، وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر ، كما كانت في حروب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم «بدر» ، وفي غزوة «خيبر» ، وعليه درج السلف.

وقد تقدم الكلام في ذلك في سورة «البقرة» عند قوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [الآية : ١٩٥].

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٥٤.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٩ / ٢٧٠) عن ابن عباس.

(٣) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٧١.

(٤) سقط من أ.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٥٤.

(٦) سقط من أ.

٥٠

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(٨)

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) الآية.

لما ذكر الجهاد ، بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد ، وجاهدا في سبيل الله ، وحل العقاب بمن خالفهما ، أي : واذكر لقومك يا محمد هذه القصة (١).

قوله : (لِمَ تُؤْذُونَنِي).

وذلك حين رموه بالأدرة ، كما تقدم في سورة الأحزاب.

ومن الأذى : ما ذكر في قصة قارون أنه دس إلى امرأة تدّعي على موسى الفجور ، ومن الأذى قولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] ، وقولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ١٢٤] ، وقولهم : أنت قتلت هارون.

قوله : (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ). جملة حالية (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : و «قد» معناه : التوكيد ، كأنه قال : وتعلمون علما يقينا ، لا شبهة [لكم](٤) فيه.

وقوله : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ).

والمعنى : أنّ الرسول يحترم يقينا.

قوله : (فَلَمَّا زاغُوا) ، أي : مالوا عن الحق ، (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي : أمالهم عن الهدى.

وقيل : (فَلَمَّا زاغُوا) عن الطاعة ، (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الهداية.

وقيل : (فَلَمَّا زاغُوا) عن الإيمان ، (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الثواب.

وقيل : لمّا تركوا ما أمروا به من احترام الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وطاعة الرب ، «خلق» الله في قلوبهم الضلالة عقوبة لهم على فعلهم.

__________________

(١) ينظر الجامع لأحكام القرآن (١٨ / ٥٤).

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٠.

(٣) التفسير الكبير (٢٩ / ٢٧١).

(٤) سقط من أ.

٥١

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

قال الزجاج (١) : «يعني من سبق في علمه أنه فاسق».

قال ابن الخطيب (٢) : «وهذه الآية تدلّ على عظم إيذاء الرسول ، حتى إنه يؤدّي إلى الكفر ، وزيغ القلوب عن الهدى».

قوله : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ).

أي اذكر لهم هذه القصة أيضا ، وقال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ولم يقل : «يا قوم» كما قال موسى ؛ لأنه لأنه لا نسب له فيهم ، فيكونون قومه (٣) ، وقوله : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) أي : بالإنجيل.

قوله : «مصدّقا» حال ، وكذلك : «مبشّرا» والعامل فيه : «رسول» ؛ لأنه بمعنى المرسل (٤).

قال الزمخشري (٥) : فإن قلت : بم انتصب : «مصدقا ، ومبشرا» أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟ قلت : بمعنى : الإرسال ؛ لأن «إليكم» صلة للرسول ، فلا يجوز أن تعمل شيئا لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها ، ولكن بما فيها من معنى الفعل ، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل؟ انتهى.

يعني بقوله : صلات ، أنها متعلقة ب «رسول» صلة له ، أي : متصل معناها به لا الصلة الصناعية.

قوله : (يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) ، وقوله : (اسْمُهُ أَحْمَدُ) ، جملتان في موضع جر نعتا لرسول.

أو (اسْمُهُ أَحْمَدُ) في موضع نصب على الحال من فاعل «يأتي» (٦).

أو تكون الأولى نعتا ، والثانية حالا ، وكونهما حالين ضعيف ، لإتيانهما من النكرة وإن كان سيبويه يجوزه (٧).

وقرأ نافع وابن كثير (٨) وأبو عمرو : «من بعدي» ـ بفتح الياء ـ وهي قراءة السلمي ، وزرّ بن حبيش ، وأبو بكر عن عاصم ، واختاره أبو حاتم ؛ لأنه اسم ، مثل الكاف من «بعدك» ، والتاء من «قمت» (٩).

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٥ / ١٦٤.

(٢) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ٢٧١.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٠.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٢٥.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٠.

(٧) ينظر : الكتاب ١ / ١٩٩.

(٨) ينظر : السبعة ٦٣٥ ، والحجة ٦ / ٢٨٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٦٣ ، والعنوان ١٩٠ ، وشرح الطيبة ٦ / ٥٣ ، وشرح شعلة ٦٠٣ ، وإتحاف ٢ / ٥٣٦.

(٩) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٥.

٥٢

والباقون : قرءوا بالإسكان.

وقرىء (١) : «من بعد اسمه أحمد» ، فحذف الياء من اللفظ.

و «أحمد» اسم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو اسم علم.

يحتمل أن يكون من صفة ، وهي : «أفعل» التفضيل ، وهو الظّاهر ، فمعنى «أحمد» أي : أحمد الحامدين لربّه.

والأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ كلهم حمادون لله ، ونبينا «أحمد» أكثرهم حمدا(٢).

قال البغويّ (٣) : والألف في «أحمد» ، للمبالغة في الحمد ، وله وجهان :

أحدهما : أنه مبالغة من الفاعل ، أي : الأنبياء كلهم حمادون الله ـ عزوجل ـ ، وهو أكثر حمدا لله من غيره.

والثاني : أنه مبالغة في المفعول ، أي : الأنبياء كلهم محمودون ، لما فيهم من الخصال الحميدة ، وهو أكثر مبالغة ، وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها. انتهى.

وعلى كلا الوجهين ، فمنعه من الصرف للعلمية والوزن الغالب ، إلّا أنّه على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة. وعلى الثاني يمتنع تعريفا وتنكيرا ؛ لأنه يخلف العلمية للصفة.

وإذا أنكر بعد كونه علما جرى فيه خلاف سيبويه (٤) والأخفش ، وهي مسألة مشهورة بين النحاة.

وأنشد حسان ـ رضي الله عنه ـ يمدحه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويصرفه : [الكامل]

٤٧٦٤ ـ صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه

والطّيّبون على المبارك أحمد (٥)

«أحمد» : بدل أو بيان «للمبارك».

وأما «محمّد» فمنقول من صفة أيضا ، وهو في معنى «محمود» ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار ، ف «محمّد» هو الذي حمد مرة بعد أخرى (٦).

قال القرطبي (٧) : «كما أن المكرّم من الكرم مرة بعد أخرى ، وكذلك المدح ونحو ذلك ، فاسم «محمد» مطابق لمعناه ، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ سماه قبل أن يسمي به نفسه ،

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) القرطبي ١٨ / ٥٥.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٣٣٧.

(٤) ينظر : الكتاب ٢ / ٥.

(٥) البيت لحسان بن ثابت ينظر ديوانه ١٥٣ ، والبحر ٨ / ٢٥٩ ، والدر المصون ٦ / ٣١٠.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٠.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٥٥.

٥٣

فهذا علم من أعلام نبوته ، إذ كان اسمه صادقا عليه ، فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه ، ونفع به من العلم والحكمة ، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة ، فقد تكرر معنى الحمد ، كما يقتضي اللفظ ، ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان : «أحمد» حمد ربه فنبأه وشرفه ، فلذلك تقدم اسم : «أحمد» على الاسم الذي هو محمد ، فذكره عيسى فقال : (اسْمُهُ أَحْمَدُ) ، وذكره موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين قال له ربه : تلك أمة أحمد ، فقال : اللهم اجعلني من أمّة محمد ، فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد ؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له ، فلما وجد وبعث ، كان محمدا بالفعل ، وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه ، فيكون أحمد الناس لربه ، ثم يشفع فيحمد على شفاعته».

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اسمي في التّوراة أحيد ؛ لأنّي أحيد أمّتي عن النّار ، واسمي في الزّبور : الماحي ، محا الله بي عبدة الأوثان ، واسمي في الإنجيل : أحمد ، وفي القرآن : محمّد ؛ لأنّي محمود في أهل السّماء والأرض» (١).

وفي الصحيح : «لي خمسة أسماء : أنا محمّد وأحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر النّاس على قدمي ، وأنا العاقب» (٢). وقد تقدم.

قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ).

قيل : عيسى.

وقيل : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ).

قرأ حمزة (٣) والكسائي : «ساحر» نعتا للرجل.

وروي أنها قراءة ابن مسعود.

والباقون : «سحر» نعتا لما جاء به الرسول.

قال أبو حيان هنا (٤) : وقرأ الجمهور : «سحر» ، وعبد الله ، وطلحة والأعمش ، وابن وثاب : «ساحر» ، وترك ذكر الأخوين (٥).

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٥٢٩) والقرطبي (١٨ / ٥٥).

(٢) أخرجه البخاري ٨ / ٥٠٩ ، كتاب التفسير ، باب : «يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (٤٨٩٦) ، ومسلم ٤ / ١٨٢٨ ، كتاب الفضائل ، باب : في أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٢٤ ـ ٢٣٥).

(٣) ينظر : حجة القراءات ٧٠٧ ، والعنوان ١٩٠ ، وإتحاف ٢ / ٥٣٦ ، وينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٠٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٩ ، والدر المصون ٦ / ٣١١.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٥٩.

(٥) الدر المصون ٦ / ٣١١.

٥٤

قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي : لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب.

قوله : (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ).

جملة حالية من فاعل : «افترى» ، وهذه قراءة العامة (١).

وقرأ طلحة (٢) : «يدّعي» ـ بفتح الياء والدال مشددة ـ مبنيا للفاعل.

وفيها تأويلان (٣) :

أحدهما : قاله الزمخشري ، وهو أن يكون «يفتعل» بمعنى : «يفعل» نحو : «لمسه والتمسه» (٤).

والضميران ، أعني : «هو» ، والمستتر في : «يدعى» لله تعالى ، وحينئذ تكون القراءتان بمعنى واحد ، كأنه قيل : والله يدعو إلى الإسلام.

وفي القراءة الأولى يكون الضّميران عائدين على «من».

والثاني : أنه من ادّعى كذا دعوى ، ولكنه لما ضمن يدّعي معنى ينتمي وينتسب عدّي باللام ، وإلا فهو متعدّ بنفسه.

وعلى هذا الوجه فالضميران ل «من» أيضا ، كما هما في القراءة المشهورة.

وعن طلحة : «يدّعى» (٥) ـ مشدد الدال ـ مبنيا للمفعول.

وخرجها الزمخشري على ما تقدم من : ادّعاه ودعاه بمعنى : لمسه والتمسه.

والضميران عائدان على «من» عكس ما تقدم عنده في تخريج القراءة الأولى ، فإن الضميران لله ، كما تقدم تحريره.

وهذا تعجب ممن كفر بعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد المعجزات التي ظهرت لهما (٦) ، ثم قال : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : من كان في حكمه أن يختم له بالضلالة والغي (٧).

قوله : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ).

الإطفاء هو الإخماد ، يستعملان في النار ، وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور ، ويفترق الإخماد والإطفاء من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل ، فيقال : أطفأت السراج ، ولا يقال : أخمدت السراج (٨).

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٠٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٩ ، والدر المصون ٦ / ٣١١.

(٣) الدر المصون ٦ / ٣١١.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٢٥.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٢٥ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٠٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٩ ، والدر المصون ٦ / ٣١١.

(٦) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٦.

(٧) السابق.

(٨) السابق نفسه.

٥٥

وفي هذه اللام أوجه (١) :

أحدهما : أنّها مزيدة في مفعول الإرادة.

قال الزمخشري (٢) : أصله (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا) ، كما في سورة التوبة [٣٢] ، وكأنّ هذه اللام ، زيدت مع فعل الإرادة توكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئت لإكرامك وفي قولك : «جئت لأكرمك» ، كما زيدت اللام في : «لا أبا لك» توكيدا لمعنى الإضافة في: «لا أباك».

وقال ابن عطية (٣) : «واللام في : «ليطفئوا» لام العلة مؤكدة ، ودخلت على المفعول ؛ لأن التقدير : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) ، وأكثر ما تلزم هذه اللام إذا تقدم المفعول ، تقول: لزيد ضربت ، ولرؤيتك قصدت انتهى.

وهذا ليس مذهب سيبويه (٤) ، وجمهور النّاس ، ثم قول أبي محمد : «وأكثر ما يلزم» ليس بظاهر ؛ لأنه لا قول بلزومها ألبتة ، بل هي جائزة للزيادة ، وليس الأكثر أيضا زيادتها جوازا ، بل الأكثر عدمها.

الثاني : أنّها لام العلة والمفعول محذوف ، أي : يريدون إبطال القرآن ، أو دفع الإسلام ، أو هلاك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليطفئوا.

الثالث : أنّها بمعنى : «أنّ» الناصبة ، وأنها ناصبة للفعل بنفسها.

قال الفرّاء : العرب تجعل «لام كي» في موضع : «أن» ، في «أراد وأمر» ، وإليه ذهب الكسائي أيضا.

وقد تقدم نحو من هذا في قوله : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) في سورة النساء [الآية : ٢٦].

فصل

قال ابن عباس وابن زيد رضي الله عنهما : المراد بنور الله ـ هاهنا ـ القرآن ، يريدون إبطاله ، وتكذيبه بالقول (٥).

وقال السديّ : الإسلام ، أي : يريدون (٦) دفعه بالكلام (٧).

وقال الضحاك : إنّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدون إهلاكه بالأراجيف (٨).

وقال ابن جريج : حجج الله ودلائله ، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم ، وقيل :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١١.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٢٥.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٠٣.

(٤) ينظر : الكتاب ١ / ٤١.

(٥) أخرجه الطبري في تفسيره (١٢ / ٨٣) عن ابن زيد.

(٦) في أ : يريدون إهلاكه.

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٥٦).

(٨) ذكره الماوردي (٥ / ٥٣٠) والقرطبي (١٨ / ٥٦) عن الضحاك.

٥٦

إنه مثل مضروب ، أي : من أراد إطفاء نور الشمس بفيه ، وجده مستحيلا ممتنعا ، كذلك من أراد إبطال الحق ، حكاه ابن عيسى.

فصل في سبب نزول هذه الآية

قال الماورديّ (١) : سبب نزول هذه الآية ، ما حكاه عطاء عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما ، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر اليهود ، أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد ، فما كان ينزل عليه ، وما كان ليتم أمره ، فحزن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله هذه الآية واتصل الوحي بعدها (٢).

قوله : (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ).

قرأ الأخوان (٣) وحفص وابن كثير : بإضافة : «متم» ، ل : «نوره».

والباقون : بتنوينه ونصب : «نوره».

فالإضافة تخفيف ، والتنوين هو الأصل.

وأبو حيّان ينازع في كونه الأصل (٤).

وقوله : (وَاللهُ مُتِمُّ) ، جملة حالية من فاعل : «يريدون» ، أو «ليطفئوا».

والمعنى : والله متم نوره ، أي : بإظهاره في الآفاق (٥).

فإن قيل : الإتمام لا يكون إلّا عند النّقصان ، فما معنى نقصان هذا النور؟.

فالجواب (٦) : إتمامه بحسب نقصان الأثر وهو الظّهور في سائر البلاد من المشارق إلى المغارب ، إذ الظهور لا يظهر إلا بالإظهار ، وهو الإتمام ، يؤيده قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣].

وعن أبي هريرة : إن ذلك عند نزول عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ قاله مجاهد.

قوله : (وَلَوْ كَرِهَ).

حال من هذه الحال فهما متداخلان ، وجواب : «لو» محذوف ، أي : أتمه وأظهره (٧) ، وكذا (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ، والمعنى : ولو كره الكافرون من سائر

__________________

(١) ينظر : النكت والعيون ٥ / ٥٣٠ والقرطبي (١٨ / ٥٦).

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ٥٣٠) ، والقرطبي (١٨ / ٥٦) عن الضحاك.

(٣) ينظر : السبعة ٦٣٥ ، والحجة ٦ / ٢٨٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٦٤ ، وحجة القراءات ٧٠٧ ، ٧٠٨ ، والعنوان ١٩٠ ، وشرح الطيبة ٦ / ٥٢ ، وإتحاف ٢ / ٥٣٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٦٠.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٦.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٧٣.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٢.

٥٧

الأصناف (١) ، فإن قيل : قال أولا : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ، وقال ثانيا : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) فما الفائدة؟.

فالجواب (٢) : إذا أنكروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أوحي إليه من الكتاب ، وذلك من نعمة الله تعالى ، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء فلهذا قال : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ، ولأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك ، فالمراد من الكافرين هنا : اليهود والنصارى والمشركون ، فلفظ الكافر أليق به ، وأما قوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ، فذلك عند إنكارهم [التوحيد](٣) وإصرارهم عليه ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاهم في ابتداء الدعوة إلى التوحيد ب «لا إله إلا الله» ، فلم يقولوا : «لا إله إلا الله» ، فلهذا قال : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٩)

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) يعني : محمدا «بالهدى» أي : بالحقّ والرشاد ، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) بالحجج ، ومن الظهور الغلبة باليد في القتال ، وليس المراد بالظهور : أن لا يبقى دين [آخر](٤) من الأديان ، بل المراد : أن يكون أهل الإسلام عالين غالبين ، ومن الإظهار ألا يبقى دين آخر سوى الإسلام في آخر الزمان (٥).

قال مجاهد : ذلك إذا أنزل الله عيسى ، لم يكن في الأرض دين إلّا دين الإسلام (٦).

قال أبو هريرة : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) بخروج عيسى ، وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم (٧).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لينزلنّ ابن مريم حكما عادلا ، فليكسرنّ الصّليب وليقتلنّ الخنزير ، وليضعنّ الجزية ، ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها ، ولتذهبنّ الشّحناء والتّباغض والتّحاسد ، وليدعونّ إلى المال فلا يقبله أحد» (٨).

وقيل : ليظهره ، أي : ليطلع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر الأديان حتى يكون عالما بها عارفا بوجوه بطلانها ، وبما حرفوا وغيّروا منها (عَلَى الدِّينِ) أي : على الأديان ؛ لأن الدين مصدر يعبر به عن الجميع (٩).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٦.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٧٤.

(٣) في أ : النور.

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٦.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٥٦).

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٨٥) عن أبي هريرة.

(٨) تقدم.

(٩) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٧.

٥٨

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٣)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) الآية.

قال مقاتل : نزلت في عثمان بن مظعون ، قال : يا رسول الله ، لو أذنت لي فطلقت خولة ، وترهبت واختصيت ، وحرمت اللحم ، ولا أنام بليل أبدا ، ولا أفطر بنهار أبدا ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من سنّتي النّكاح فلا رهبانية في الإسلام وإنّما رهبانية أمّتي الجهاد في سبيل الله ، وخصاء أمّتي الصّوم ، فلا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم ، ومن سنّتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» ، فقال عثمان : لوددت يا نبي الله ، أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها ، فنزلت (١).

وقيل : «أدلّكم» أي : سأدلكم ، والتجارة : الجهاد ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] : الآية ، وهذا خطاب لجميع المؤمنين.

وقيل : لأهل الكتاب.

وقيل : نزل هذا حين قالوا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا.

قال البغويّ (٢) : وجعل ذلك بمنزلة التجارة ؛ لأنهم يرجون بها رضا الله عزوجل ، ونيل جنته والنجاة من النار.

والتجارة عبارة عن معاوضة الشيء بالشيء ، كما أن التجارة تنجي التاجر من الفقر فكذا هذه التجارة ، وكما أن في التجارة الربح والخسران ، فكذلك هذه التجارة ، فمن آمن وعمل صالحا ، فله الأجر الوافر ، ومن أعرض عن الإيمان والعمل الصالح ، فله الخسران المبين (٣).

قوله : (تُنْجِيكُمْ). هذه الجملة صفة ل «تجارة» (٤).

وقرأ ابن عامر (٥) : تنجيكم من عذاب أليم بالتشديد.

والباقون : بالتخفيف ، من «أنجى» ، وهما بمعنى واحد ؛ لأن التضعيف والهمزة متعديان.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٥٧).

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٣٣٨.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٧٤.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٢.

(٥) ينظر : السبعة ٦٣٥ ، والحجة ٦ / ٢٨٩ ، ٢٩٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٦٤ ، وحجة القراءات ٧٠٨ ، والعنوان ١٩٠ ، وشرح شعلة ٦٠٢ ، وإتحاف ٢ / ٥٣٧.

٥٩

والمعنى : يخلصكم من عذاب أليم ، أي مؤلم (١).

قوله : (تُؤْمِنُونَ).

لا محلّ له لأنه تفسير ل «تجارة».

ويجوز أن يكون محلها الرفع خبرا لمبتدأ مضمر ، أي تلك التجارة تؤمنون ، والخبر نفس المبتدأ ، فلا حاجة إلى رابط.

وأن تكون منصوبة المحل بإضمار فعل ، أي «أعني تؤمنون» ، وجاز ذلك على تقدير «أن» وفيه تعسف (٢).

والعامة على : «تؤمنون» خبرا لفظيا ثابت النون.

وعبد الله (٣) : «آمنوا ، وجاهدوا» أمرين.

وزيد بن علي (٤) : «تؤمنوا ، وتجاهدوا» بحذف نون الرفع.

فأما قراءة العامة ، فالخبر بمعنى الأمر ، يدل عليه القراءتان الشاذتان فإن قراءة زيد : على حذف لام الأمر ، أي : «لتؤمنوا ، ولتجاهدوا».

كقوله : [الوافر]

٤٧٦٥ ـ محمّد تفد نفسك كلّ نفس

 ........... (٥)

وقوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١] في وجه ، أي : لتفد ولتقيموا ، ولذلك جزم الفعل في محل جوابه في قوله : «يتقي».

وكذلك قولهم : «اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه» ، تقديره : ليتق الله.

وقال الأخفش : أن «تؤمنون» : عطف بيان ل «تجارة».

وهذا لا يتخيل إلا بتأويل أن يكون الأصل : أن تؤمنوا ، فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله : [الطويل]

٤٧٦٦ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى (٦)

الأصل : أن أحضر الوغى.

وكأنه قيل : هل أدلّكم على تجارة منجية : إيمان وجهاد ، وهو معنى حسن ، لو لا ما فيه من التأويل ، وعلى هذا يجوز أن يكون بدلا من «تجارة».

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٢.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٢٦ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٠٤ ، والدر المصون ٦ / ٣١٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦٠.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٦٠ ، والدر المصون ٦ / ٣١٢.

(٥) تقدم.

(٦) تقدم.

٦٠