اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وقال الحسن بن الفضل : ثقيل لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد (١).

وقال ابن زيد : هو ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة (٢).

وقيل : ثقيل : أي ثابت كثبوت الثقيل في محله ، ومعناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبدا.

[وقيل : ثقيل : بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ، ومعانيه بالكلية ، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته ، والفقهاء بحثوا في أحكامه ، وكذا أهل اللغة ، والنحو ، وأرباب المعاني ، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدمون فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاشتغال بحمله ، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله](٣).

وقيل : هو الوحي ، كما جاء في الخبر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته ، وضعت جرانها ـ يعني صدرها ـ على الأرض فما تستطيع أن تتحرك ، حتى يسرّى عنه».

وقال القشيري : القول الثقيل هنا : هو قول : «لا إله إلّا الله» ، لأنه ورد في الخبر : «لا إله إلّا الله خفيفة على اللّسان ثقيلة في الميزان».

قوله : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ). في الناشئة أوجه :

أحدها : أنها صفة لمحذوف ، أي : النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها للعبادة ، أي تنهض وترفع من «نشأت السحابة» إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض ، قال : [الطويل]

٤٩٢١ ـ نشأنا إلى خوص برى نيّها السّرى

وألصق منها مشرفات القماحد (٤)

الثاني : أنها مصدر بمعنى قيام الليل ، على أنها مصدر من «نشأ» إذا قام ونهض ، فيكون كالعافية والعاقبة. قالهما الزمخشري.

الثالث : أنها بلغة الحبشة نشأ الرجل ، أي : قام من الليل.

قال أبو حيان (٥) : فعلى هذا هي جمع ناشىء ، أي قائم ، يعني : أنها صفة لشيء يفهم الجمع ، أي : طائفة ، أو فرقة ناشئة ، وإلا ف «فاعل» لا يجمع على «فاعلة».

قال القرطبي (٦) : «قال ابن مسعود : «الحبشة» [يقولون : نشأ ، أي قام. فلعله أراد

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) سقط من أ.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٣٨ ، والبحر ٨ / ٣٥٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٤ ، وروح المعاني ٢٩ / ١٣١.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٦٢.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٢٧.

٤٦١

أن الكلمة عربية ، ولكنها شائعة في كلام الحبشة] غالبة عليهم ، وإلّا فليس في القرآن ما ليس من لغة العرب».

الرابع : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) : ساعاته ، وأوقاته ؛ لأنها تنشأ شيئا بعد شيء.

قال القرطبيّ (١) : «لأنها تنشأ أولا فأولا ، يقال : نشأ الشيء ينشأ إذا ابتدأ ، وأقبل شيئا بعد شيء فهو ناشىء ، وأنشأه الله فنشىء ، فالمعنى : ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم فالتأنيث للفظ الساعة ، لأن كل ساعة تحدث».

وقيدها الحسن وابن عبّاس : بما كان بعد العشاء ، وإن كان قبلها فليس بناشئة (٢) ، وخصصتها عائشة رضي الله عنها بأن تكون بعد (٣) النوم ، فلو لم يتقدّمها نوم لم تكن ناشئة (٤).

قوله : (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً).

قرأ أبو عمرو وابن عامر (٥) : بكسر الواو ، وفتح الطاء بعدها ألف ، والباقون : بفتح الواو وسكون الطاء.

وقرأ قتادة وشبل (٦) عن أهل مكة : «وطأ» ، بكسر الواو وسكون الطاء.

وظاهر كلام أبي البقاء يؤذن أنه قرىء بفتح الواو مع المد ، فإنه قال : «وطأ» بكسر الواو بمعنى مواطأة ، وبفتحها اسم للمصدر ، ووطأ على «فعل» وهو مصدر وطىء ، والوطاء : مصدره «وطاء» ك «قتال» مصدر «قاتل» ، والمعنى : أنها أشد مواطأة ، أي : يواطىء قلبها لسانها إن أردت النفس ، ويواطىء قلب النائم فيها لسانه إن أردت القيام ، أو العبادة ، أو الساعات ، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص.

والوطء ـ بالفتح والكسر ـ : على معنى أشد ثبات قدم ، وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ من صلاة النهار على المصلي من قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر». وعلى كل تقدير : فانتصابه على التمييز.

قوله : (وَأَقْوَمُ قِيلاً).

__________________

(١) السابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨٣) عن ابن مجلز وقتادة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٤) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد.

وذكره عن أبي مجلز وعزاه إلى عبد بن حميد وابن نصر.

(٣) في أ : قبل.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي (١٩ / ٢٨).

(٥) ينظر : السبعة ٦٥٨ ، والحجة ٦ / ٣٣٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٠٥ ، وحجة القراءات ٧٣٠.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٥٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٤.

٤٦٢

حكى الزمخشريّ : أن أنسا قرأ (١) : «وأصوب قيلا» ، فقيل له : يا أبا حمزة إنما هي (وَأَقْوَمُ) ، فقال : إن أقوم ، وأصوب وأهيأ ، واحد. وأنّ أبا السرار الغنوي كان يقرأ : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) [الإسراء : ٢٥] ـ بالحاء المهملة ـ فقيل له : هي بالجيم فقال : جاسوا وحاسوا واحد.

قال شهاب الدين (٢) : «وغرضه من هاتين الحكايتين ، جواز قراءة القرآن بالمعنى ، وليس في هذا دليل ؛ لأنه تفسير معنى ، وأيضا ، فالذي بين أيدينا قرآن متواتر ، وهذه الحكاية آحاد ، وقد تقدم أن أبا الدرداء كان يقرىء رجلا : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٣] ، فجعل الرجل يقول : طعام اليتيم ، فلما تبرم منه قال : طعام الفاجر يا هذا ، فاستدل به على ذلك من يرى جوازه ، وليس فيه دليل ، لأن مقصود أبي الدرداء بيان المعنى فجاء بلفظ مبين».

قال الأنباري : وذهب بعض الزائغين إلى أن من قال : إن من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن ، فهو مصيب إذا لم يخالف ولم يأت بغير ما أراد الله ، واحتجوا بقول أنس هذا ، وهذا قول لا يعرج عليه ، ولا يلتفت إلى قائله ، لأنه لو قرىء بألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها ، واشتملت على غايتها لجاز أن يقرأ في موضع («الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : الشكر للباري ملك المخلوقين ، ويتسع الأمر في هذا ، حتى يبطل لفظ جميع القرآن ، ويكون التالي له مفتريا على الله ـ تعالى ـ كاذبا على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا حجة لهم في قول ابن مسعود : «نزل القرآن على سبعة أحرف ، إنما هو كقول أحدكم : تعلم ، وتعال ، وأقبل» ؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اختلفت ألفاظها ، واتفقت معانيها ، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في «هلمّ ، وتعال ، وأقبل» ، فأما ما لم يقرأ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وتابعوهم ، فإن من أورد حرفا منه في القرآن بهت ، ومال ، وخرج عن مذهب الصواب ، وحديثهم الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة لا يصححه أهل العلم. انتهى.

فصل في فضل صلاة الليل

بيّن تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النّهار ، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر ، وأجلب للثواب ، كان علي بن الحسين يصلي بين المغرب ، والعشاء ، ويقول : هذه ناشئة الليل.

وقال عطاء وعكرمة : هو بدوام الليل (٣). قال في الصحاح (٤) : (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) أول ساعاته.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٣٩ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٨٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٤.

(٢) الدر المصون ٦ / ٤٠٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨٢) عن عكرمة.

(٤) ينظر : الصحاح ١ / ٧٨.

٤٦٣

وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هي الليل كله ، لأنه ينشأ بعد النهار (١) ، وهو اختيار مالك.

قال ابن العربي : «وهو الذي يعطيه اللفظ ويقتضيه اللغة».

وقالت عائشة رضي الله عنها وابن عباس ـ أيضا ـ ومجاهد : إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم ، ومن قال قبل النوم فما قام ناشئة (٢).

وقال يمان وابن كيسان : هو القيام من آخر الليل.

وأما قوله : (أَشَدُّ وَطْئاً) ، أي : أثقل على المصلي من ساعات النهار ، لأن الليل وقت منام وراحة فإذا قام إلى صلاة الليل ، فقد تحمل المشقة العظيمة ، هذا على قراءة كسر الواو ، وفتح الطاء ، وأما على قراءة المد : فهو مصدر «واطأت وطاء ومواطأة» ، أي : وافقت على الأمر من الوفاق ، تقول : فلان مواطىء اسمه اسمي ، أي : موافقه ، فالمعنى أشد موافقة بين القلب ، والبصر ، والسمع واللسان لانقطاع الأصوات ، والحركات ، قاله مجاهد وابن مليكة وغيرهما ، قال تعالى : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) [التوبة : ٣٧] ، أي : ليوافقوا ، وقيل : أشدّ مهادا للتصرف في التفكر والتدبر.

وقيل : أشد ثباتا من النهار ، فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله فيكون ذلك أثبت للعمل ، والوطء : الثبات ، تقول : وطئت الأرض بقدمي.

وقوله : (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي : القراءة بالليل أقوم منها بالنهار ، أي : أشد استقامة واستمرارا على الصواب ، لأن الأصوات هادئة ، والدنيا ساكنة ، فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه.

وقال قتادة ومجاهد : أصوب للقراءة وأثبت للقول ؛ لأنه زمان التفهم (٣).

وقيل : أشد استقامة لفراغ البال بالليل.

وقيل : أعجل إجابة للدعاء ، حكاه ابن شجرة.

وقال عكرمة : عبادة الليل أتم نشاطا وأتم إخلاصا ، وأكثر بركة (٤).

قوله : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٨٢) عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٤) عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد وابن نصر.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨٣) عن قتادة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٥) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن نصر.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٢٨) عن عكرمة.

٤٦٤

قرأ العامة : بالحاء المهملة ، وهو مصدر «سبح» ، وهو استعارة للتصرف في الحوائج من السباحة في الماء ، وهي البعد فيه.

وقال القرطبيّ (١) : «السّبح» الجري ، والدوران ، ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه ، وفرس سابح «شديد الجري».

قال امرؤ القيس : [الطويل]

٤٩٢٢ ـ مسحّ إذا ما السّابحات على الونى

أثرن غبارا بالكديد المركّل (٢)

وقيل : السبح : الفراغ ، أي : إن لك فراغا للحاجات بالنهار.

وعن ابن عباس وعطاء : (سَبْحاً طَوِيلاً) يعني فراغا طويلا يعني لنومك ، وراحتك فاجعل ناشئة الليل لعبادتك (٣).

وقرأ يحيى بن يعمر (٤) ، وعكرمة وابن أبي عبلة : «سبخا» بالخاء المعجمة.

واختلفوا في تفسيرها : فقال الزمخشريّ : «استعارة من سبخ الصوف ، وهو نفشه ، ونشر أجزائه لانتشار الهمّ ، وتفريق القلب بالشواغل».

وقيل : التسبيخ ، التخفيف ، حكى الأصمعيّ : «سبخ الله عنك الحمى ، أي : خففها عنك».

قال الشاعر : [الطويل]

٤٩٢٣ ـ فسبّخ عليك الهمّ واعلم بأنّه

إذا قدّر الرّحمن شيئا فكائن (٥)

أي : خفف ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة ، وقد دعت على سارق ردائها : «لا تسبّخي بدعائك عليه» ، أي : لا تخففي إثمه (٦).

وقيل : التسبيخ : المد ، يقال : سبخي قطنك ، أي : مديه ، والسبيخة : قطعة من القطن ، والجمع : سبائخ ؛ قال الأخطل يصف صائدا وكلابا : [البسيط]

٤٩٢٤ ـ فأرسلوهنّ يذرين التّراب كما

يذري سبائخ قطن ندف أوتار (٧)

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٢٩.

(٢) ينظر : ديوانه (٢٠) والقرطبي ١٩ / ٢٩.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨٥) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٥) عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد وابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في «الكنى».

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٨٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٥٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٥.

(٥) ينظر : اللسان (سبخ) ، والقرطبي ١٩ / ٢٩ ، والبحر ٨ / ٣٥٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٥ ، وروح المعاني ٢٩ / ١٣٢.

(٦) أخرجه أبو داود (١ / ٤٧٠) كتاب الصلاة : باب الدعاء رقم (١٤٩٧) وفي كتاب الأدب : باب فيمن دعا على من ظلم رقم (٤٩٠٩) والبغوي في شرح السنة (٣ / ١٣٩) من حديث عائشة.

(٧) ينظر : ديوانه (١٤٠) واللسان (سبخ) ، والبحر ٨ / ٣٥٥ ، والقرطبي ١٩ / ٢٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٥ ، وروح المعاني ٢٩ / ١٣٢.

٤٦٥

وقال أبو الفضل الرازي : «قرأ ابن يعمر وعكرمة : «سبخا» ـ بالخاء المعجمة ـ وقالا : معناه نوما ، أي : ينام بالنهار ؛ ليستعين به على قيام الليل ، وقد تحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى ، لكنهما فسراها : فلا تجاوز عنه».

قال شهاب الدين (١) : «في هذا نظر ، لأنهما غاية ما في الباب أنهما نقلا هذه القراءة ، وظهر لهما تفسيرها بما ذكر ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يجوز غير ما ذكر من تفسير اللفظة».

وقال ثعلب : «السّبخ ـ بالخاء المعجمة ـ التردد والاضطراب ، والسبح : السكون».

ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمّى من فيح جهنّم فسبّحوها بالماء» ، أي فسكّنوها بالماء(٢).

وقال أبو عمرو : السّبخ : النوم والفراغ ، فعلى هذا يكون من الأضداد ، ويكون بمعنى السبح بالحاء المهملة.

قوله : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ، أي : ادعه بأسمائه الحسنى ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة.

وقيل : اقصد بعملك وجه ربّك.

وقال سهل : اقرأ (باسم الله الرحمن الرحيم) في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه.

وقيل : اذكر اسم ربّك في وعده ، ووعيده ؛ لتتوفّر على طاعته وتعدل عن معصيته.

وقال الكلبي : صلّ لربّك ، أي : بالنهار.

قال القرطبيّ (٣) : وهذا حسن ، لأنه لما ذكر الليل ذكر النهار ، إذ هو قسيمه ، وقد قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) [الفرقان : ٦٢].

قوله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) ، هذا مصدر على غير المصدر ، وهو واقع موقع التبتل ، لأن مصدر «تفعّل» «تفعّل» نحو «تصرّف تصرّفا ، وتكرّم تكرّما» ، وأما «التفعيل» فمصدر «فعّل» نحو «صرّف تصريفا» ؛ كقول الآخر : [الرجز]

٤٩٢٥ ـ وقد تطوّيت انطواء الحضب (٤)

فأوقع «الانفعال» موقع «التفعل».

قال الزمخشريّ : لأنّ معنى «تبتّل» بتل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٠٥.

(٢) تقدم.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٣٠.

(٤) تقدم.

٤٦٦

والبتل : الانقطاع ، ومنه امرأة بتول ، أي : انقطعت من النكاح ، وبتلت الحبل : قطعته.

قال الليث : التبتل : تمييز الشيء من الشيء ، وقالوا : طلقة بتلة ، يعنون انقطاعها عن صاحبها ، فالتبتّل : ترك النكاح والزهد فيه ، ومنه سمي الراهب متبتلا لانقطاعه عن النكاح ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٤٩٢٦ ـ تضيء الظّلام بالعشاء كأنّها

منارة ممسى راهب متبتّل (١)

ومنه الحديث : أنه نهى عن التبتل ، وقال : «يا معشر الشّباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج» (٢) والمراد به في الآية الكريمة : الانقطاع إلى عبادة الله تعالى دون ترك النكاح.

والتبتل في الأصل : الانقطاع عن الناس ، والجماعات ، وقيل : إن أصله عند العرب التفرد. قاله ابن عرفة.

قال ابن العربي : «هذا فيما مضي ، وأما اليوم ، وقد مرجت عهود الناس ، وخفت أماناتهم ، واستولى الحرام على الحطام ، فالعزلة خير من الخلطة ، والعزبة أفضل من التأهل ، ولكن معنى الآية : وانقطع عن الأوثان ، والأصنام ، وعن عبادة غير الله.

وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة ، ولم يرد التبتل ، فصار التبتّل مأمورا به في القرآن ، منهيّا عنه في السنّة ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان ، وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم ، والتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص كما قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ، والتبتل المنهي عنه : سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح ، والترهب في الصوامع ، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن».

قوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ).

قرأ الأخوان وأبو بكر (٣) وابن عامر : بجر «ربّ» على النعت ل «ربّك» ، أو البدل منه ، أو البيان له.

وقال الزمخشري : وعن ابن عباس : على القسم بإضمار حرف القسم ، كقولك : «والله لأفعلنّ» وجوابه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، كما تقول : «والله لا أحد في الدار سوى زيد».

__________________

(١) ينظر : ديوانه (١٧٤) وشرح المعلقات للزوزني (٢٤) ، والقرطبي ١٩ / ٣٠ ، والبحر ٨ / ٣٥٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٦.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : السبعة ٦٥٨ ، والحجة ٦ / ٣٣٦ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٠٧ ، وحجة القراءات ٧٣١.

٤٦٧

قال أبو حيّان (١) : لعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس ، لأن فيه إضمار الجار ، ولا يجيزه البصريون إلّا مع لفظ الجلالة المعظمة خاصة ، ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فإنما تنفى ب «ما» ، وحدها ، فلا تنفى ب «لا» إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيرا ، أو بماض في معناه قليلا.

نحو قول الشاعر : [البسيط]

٤٩٢٧ ـ ردوا فو الله لا زرناكم أبدا

ما دام في مائنا ورد لورّاد (٢)

والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويز ، والتسليم ، والذي ذكره النحويون هو نفيها ب «ما» ؛ كقوله : [الطويل]

٤٩٢٨ ـ لعمرك ما سعد بخلّة آثم

ولا نأنإ يوم الحفاظ ولا حصر (٣)

قال شهاب الدين (٤) : «قد أطلق ابن مالك أن الجملة المنفية سواء كانت اسمية ، أم فعلية تنفى ب «ما» ، أو «لا» ، أو «إن» بمعنى : «ما» ، وهذا هو الظاهر».

وباقي السبعة : ترفعه ، على الابتداء وخبره الجملة من قوله (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، أو على خبر ابتداء مضمر ، أي : «هو ربّ» ، وهذا أحسن لارتباط الكلام بعضه ببعض.

وقرأ زيد (٥) بن علي : «ربّ» بالنصب على المدح.

وقرأ العامة : «المشرق والمغرب» موحدين.

وعبد الله وابن عباس : (الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ)(٦).

ويجوز أن ينصب «ربّ» في قراءة زيد من وجهين :

أحدهما : أنه بدل من (اسْمَ رَبِّكَ) ، أو بيان له ، أو نعت له ، قاله أبو البقاء ، وهذا يجيء على أن الاسم هو المسمى.

والثاني : أنه منصوب على الاشتغال بفعل مقدر ، أي : فاتخذ ربّ المشرق فاتخذه ، وما بينهما اعتراض.

والمعنى : أن من علم أنه رب المشارق ، والمغارب انقطع بعمله إليه «واتخذه (وَكِيلاً) ، أي : قائما وقيل : كفيلا بما وعدك.

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٣٦٤.

(٢) ينظر : الهمع ٢ / ٤١ ، والبحر ٨ / ٣٥٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٦.

(٣) البيت لامرىء القيس. ينظر : ديوانه (٧٤) ، والبحر ٨ / ٣٥٧ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٦.

(٤) الدر المصون ٦ / ٤٠٦.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٥٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٦.

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٤٠ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٥٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٥٥.

٤٦٨

قوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً)(١٤)

قوله : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) ، أي : من الأذى ، والسب ، والاستهزاء ، ولا تجزع من قولهم ، ولا تمتنع من دعائهم ، وفوض الأمر إليّ ، فإني إذا كنت وكيلا لك ، أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بأمور نفسك (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) ، الهجر : ترك المخالطة ، أي : لا تتعرض لهم ، ولا تشتغل بمكافأتهم فإن ذلك ترك للدعاء إلى الله تعالى ، وكان هذا قبل الأمر بالقتال ، ثم أمر بعد ذلك بقتالهم.

قال قتادة وغيره : نسختها آية القتال (١).

وقال أبو الدرداء : إنا لنكشر في وجوه [أقوام] ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتلعنهم (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : وقيل وهو الأصح إنّها محكمة.

قوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ). يجوز نصب «المكذّبين» على المعية ، وهو الظاهر ، ويجوز على النسق وهو أوفق للصناعة.

والمعنى : ارض بي لعقابهم ، نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.

وقال مقاتل : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وهم عشرة (٤) تقدم ذكرهم في الأنفال.

وقال يحيى بن سلام : إنهم بنو المغيرة.

وقال سعيد بن جبير : أخبرت أنهم اثنا عشرة رجلا (٥)(أُولِي النَّعْمَةِ) أي : أولي الغنى ، والترفه واللذة في الدنيا (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) يعني إلى مدة آجالهم ، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر (٦).

وقيل : (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) مدة الدنيا.

قوله : (أُولِي النَّعْمَةِ) ، نعت للمكذبين. و «النعمة» ـ بالفتح ـ : التنعم ، وبالكسر : الإنعام ، وبالضم : المسرّة ، يقال : نعمة ونعمة عين.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨٧) عن قتادة.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٣١).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٥٩.

(٤) ينظر : القرطبي (١٩ / ٣١).

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨٨) وأبو يعلى (٨ / ٥٦) رقم (٤٥٧٨).

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٣٠) وقال : رواه أبو يعلى وفيه جعفر بن مهران وعبد الله بن محمد بن عقيل وفيهما ضعف وقد وثقا.

٤٦٩

وقوله : «قليلا» ، نعت لمصدر ، أي : تمهيلا ، أو لظرف زمان محذوف ، أي : زمانا قليلا.

قوله : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) ، جمع نكل ، وفيه قولان :

أشهرهما : أنه القيد.

وقيل : الغل ؛ وقالت الخنساء : [المتقارب]

٤٩٢٩ ـ دعاك فقطّعت أنكاله

وقد كنّ من قبل لا تقطع (١)

قال الحسن ومجاهد وغيرهما : الأنكال : القيود (٢) ، واحدها : نكل ، وهو ما منع الإنسان من الحركة ، وقيل : سمي نكلا ، لأنه ينكل به.

قال الشعبي : أترون أن الله جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا ـ لا والله ـ ولكنهم إذا أراد أن يرتفعوا اشتعلت بهم (٣).

وقال الكلبيّ : الأنكال : الأغلال.

وقال مقاتل : الأنكال : أنواع العذاب الشديد (٤).

وقال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله يحبّ النّكل على النّكل» (٥) ـ قال الجوهريّ : بالتحريك ـ قيل : وما النكل؟ قال : «الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب». ذكره الماورديّ ، قال : ومن ذلك سمي القيد نكلا لقوته وكذلك الغلّ وكل عذاب قوي.

قال ابن الأثير : «النّكل ـ بالتحريك ـ من التنكيل ، وهو المنع ، والتنحية عما يريد يقال: رجل نكل ونكل ، كشبه وشبه ، أي : ينكل به أعداؤه ، وقد نكل الأمر ينكل ، ونكل ينكل : إذا امتنع ، ومنه النكول في اليمين وهو الامتناع منها وترك الإقدام عليها».

والجحيم : النار المؤجّجة.

(وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ). «الغصّة» : الشجى ، وهو ما ينشب في الحلق فلا ينساغ ، ويقال : «غصصت» ـ بالكسر ـ فأنت غاصّ وغصّان ، قال : [الرمل]

__________________

(١) رواية الديوان :

دعاك فهتكت أغلاله

وقد ظن قبلك لا تقطع

ينظر : ديوانها (٦٧) ، والقرطبي ١٩ / ٣١ ، والبحر ٨ / ٣٥٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٧.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٦) وزاد نسبته إلى أحمد في «الزهد» وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٣١).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٣٠) وتبعه القرطبي (١٩ / ٣١).

٤٧٠

٤٩٣٠ ـ لو بغير الماء حلقي شرق

كنت كالغصّان بالماء اعتصاري (١)

والمعنى : طعاما غير سائغ يأخذ بالحلق ، لا هو نازل ، ولا هو خارج وهو كالغسلين ، والزّقّوم والضريع. قاله ابن عباس. وعنه أيضا : أنه شوك يدخل الحلق فلا ينزل ولا يخرج (٢).

وقال الزجاج : أي : طعامهم الضريع ، وهو شوك كالعوسج.

وقال مجاهد : هو كالزقوم (٣).

والغصة : الشجى ، وهو ما ينشب في الحلق من عظم ، أو غيره ، وجمعها : غصص ، والغصص ـ بالفتح ـ مصدر قولك : «غصصت يا رجل تغصّ ، فأنت غاصّ بالطعام وغصّان وأغصصته أنا ، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلىء بهم».

ومعنى الآية : أن لدينا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا ، وهذه هي الأمور الأربعة : الأنكال ، والجحيم ، والطعام الذي يغص به ، والعذاب الأليم ، والمراد به : سائر أنواع العذاب.

قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ). أي : تتحرك ، وفي نصب «يوم» أوجه :

أحدها : أنه منصوب ب «ذرني» ، وفيه بعد.

والثاني : أنه منصوب بنزع الخافض أي : هذه العقوبة في يوم ترجف.

الثالث : أنه منصوب بالاستقرار المتعلق به «لدينا».

والرابع : أنه صفة ل «عذابا» فيتعلق بمحذوف ، أي عذابا واقعا يوم ترجف.

الخامس : أنه منصوب ب «أليم».

والعامة : «ترجف» ـ بفتح التاء ، وضم الجيم ـ مبنيا للفاعل.

وزيد بن علي (٤) : مبنيا للمفعول ، من أرجفها : والرجفة : الزلزلة والزعزعة الشديدة.

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨٩) والحاكم (٢ / ٥٠٥ ـ ٥٠٦) من طريق شبيب عن عكرمة عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورده الذهبي بقوله : قلت : شبيب ضعفوه.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٦) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في «صفة النار» وعبد الله في «زوائد الزهد» وابن المنذر والبيهقي في «البعث».

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٦) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٤) ينظر البحر المحيط ٨ / ٣٥٦ ، والدر المنثور ٦ / ٤٠٧.

٤٧١

قوله : (وَكانَتِ الْجِبالُ) ، أي : وتكون الجبال (كَثِيباً مَهِيلاً) ، الكثيب : الرمل المجتمع.

قال حسان : [الوافر]

٤٩٣١ ـ عرفت ديار زينب بالكثيب

كخطّ الوحي في الورق القشيب (١)

والجمع في القلة : «أكثبة» ، وفي الكثرة : «كثبان» و «كثب» ك «رغيف وأرغفة ، ورغفان ورغف».

قال ذو الرمة : [الطويل]

٤٩٣٢ ـ فقلت لها : لا إنّ أهلي لجيرة

لأكثبة الدّهنا جميعا وماليا (٢)

قال الزمخشري : من كثبت الشيء إذا جمعته ، ومنه الكثبة من اللبن ؛ قالت الضائنة : أجزّ جفالا ، وأحلب كثبا عجالا.

[والمهيل : أصله «مهيول» ك «مضروب» استثقلت الضمة على الياء](٣) فنقلت إلى الساكن قبلها ، وهو الهاء فالتقى ساكنان ، فاختلف النحاة في العمل في ذلك : فسيبويه ، وأتباعه حذفوا الواو ، وكانت أولى بالحذف ، لأنها زائدة ، وإن كانت القاعدة إنما تحذف لالتقاء الساكنين الأول ، ثم كسروا الهاء لتصح الياء ، ووزنه حينئذ «مفعل».

والكسائي والفراء والأخفش : حذفوا الياء ، لأن القاعدة في التقاء الساكنين : إذا احتيج إلى حذف أحدهما حذف الأول ، وكان ينبغي على قولهم أن يقال فيه : «مهول» إلا أنهم كسروا الهاء لأجل الياء التي كانت فقلبت الواو ياء ، ووزنه حينئذ «مفعول» على الأصل ، و «مفي» بعد القلب.

قال مكي : «وقد أجازوا كلهم أن يأتي على أصله في الكلام ، فتقول : مهيول ومبيوع» ، وما أشبه ذلك من ذوات الياء ، فإن كان من ذوات الواو لم يجز أن يأتي على أصله عند البصريين ، وأجازه الكوفيون ، نحو : مقوول ، ومصووغ.

وأجازوا كلهم : مهول ومبوع ، على لغة من قال : بوع المتاع ، وقول القول ، ويكون الاختلاف في المحذوف منه على ما تقدم.

قال شهاب الدين (٤) : «التمام في «مبيوع ، ومهيول» وبابه ، لغة تميم ، والحذف لغة سائر العرب».

__________________

(١) ينظر : ديوانه ص ١٣٤ ، وفيه «الرق القشيب» بدل «الورق القشيب» شرح الشواهد الكبرى ٤ / ٧٧ ، القرطبي ١٩ / ٣٢.

(٢) ينظر : ديوانه ص ٧٣٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٣٩ ، واللسان (دهن) ورصف المباني ص ٩٤ ، ومغني اللبيب ١ / ٤٨ ، والبحر ٨ / ٣٥٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٨.

(٣) سقط من أ.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٠٧.

٤٧٢

ويقال : هلت التراب أهيله هيلا ، فهو مهيل فيه.

وفيه لغة : أهلته ـ رباعيّا ـ إهالة فهو مهال ، نحو أبعته إباعة فهو مباع. والمهيل من هال تحته القدم أي انصب أي هلت التراب أي طرحته.

وقال القرطبيّ (١) : والمهيل : الذي يمر تحت الأرجل ، قال الضحاك والكلبي : المهيل : الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها ، فإذا أخذت أسفله انهال.

وقال ابن عباس : «مهيلا» أي : رملا سائلا متناثرا (٢).

قال القرطبيّ (٣) : وأصله مهيول ، وهو «مفعول» من قولك : هلت التراب عليه أهيلة إهالة وهيلا ، إذا صببته.

يقال : مهيل ومهيول ، ومكيل ومكيول ، ومدين ومديون ومعين ومعيون.

قال الشاعر : [الكامل]

٤٩٣٣ ـ قد كان قومك يحسبونك سيّدا

وإخال أنّك سيّد معيون (٤)

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين شكوا إليه الجدوبة : «أتكيلون أم تهيلون»؟ قالوا : نهيل. قال : «كيلوا طعامكم يبارك لكم الله فيه» (٥).

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)(١٩)

واعلم أنه تعالى لما خوف المكذبين أولي النّعمة بأهوال يوم القيامة خوفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا ، فقال :

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسله إلى قريش (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) وهو موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهذا تهديد لأهل مكة بالأخذ الوبيل.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٣٢.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٩٠) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٦) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٣٢.

(٤) تقدم.

(٥) أخرجه البخاري (٤ / ٢٤٥) كتاب البيوع : باب ما يستحب من الكيل حديث (٢١٢٨) وابن ماجه (٢٢٣١ ، ٢٢٣٢) وأحمد (٤ / ١٣١) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ١٠٣) من حديث المقدام بن معديكرب.

٤٧٣

قال مقاتل : وإنما ذكر موسى وفرعون دون سائر الرسل لأن أهل «مكة» ازدروا محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم واستخفوا به ؛ لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى ؛ لأنه ربّاه ، ونشأ فيما بينهم كما قال تعالى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا)(١) [الشعراء : ١٨].

وذكر ابن الخطيب هذا السؤال والجواب (٢) وليس بالقوي لأن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولد ، ونشأ فيما بين قوم نمرود ، وكان «آزر» وزير نمرود على ما ذكره المفسرون ، وكذلك القول في نوح وهود وصالح ولوط ، لقوله تعالى في قصة كل واحد منهم لفظة «أخاهم» لأنه من القبيلة التي بعث إليها.

قوله : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ، إنما عرفه لتقدم ذكره ، وهذه «أل» العهدية ، والعرب إذا قدمت اسما ثم حكت عنه ثانيا ، أتوا به معرفا ب «أل» ، أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو «رأيت رجلا فأكرمت الرجل ، أو فأكرمته» ، ولو قلت : «فأكرمت رجلا» لتوهم أنه غير الأول وسيأتي تحقيق هذا عند قوله تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٦] وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لن يغلب عسر يسرين» (٣).

قال المهدوي هنا : ودخلت الألف واللام في «الرسول» لتقدم ذكره ، ولذلك اختير في أول الكتب «سلام عليكم» ، وفي آخرها «السّلام عليكم».

قوله : (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) ، أي : شديدا ، وضرب وبيل ، وعذاب وبيل ، أي : شديد.

قاله ابن عباس ومجاهد ، ومنه : «مطر وابل» ، أي : شديد (٤) ، قاله الأخفش.

وقال الزّجاج : أي : ثقيلا غليظا ، ومنه قيل للمطر وابل. وقيل : مهلكا ، قال : [الكامل]

٤٩٣٤ ـ أكلت بنيك أكل الضّبّ حتّى

وجدت مرارة الكلأ الوبيل (٥)

واستوبل فلان كذا : أي : لم يحمد عاقبته ، وماء وبيل : أي : وخيم غير مريء وكلأ مستوبل ، وطعام وبيل ومستوبل إذا لم يمرأ ولم يستمرأ ؛ قال زهير : [الطويل]

٤٩٣٥ ـ فقضّوا منايا بينهم ثمّ أصدروا

إلى كلأ مستوبل متوخم (٦)

وقالت الخنساء : [الوافر]

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٣٣).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٦١.

(٣) سيأتي تخريجه في «سورة الشرح».

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٩٠) عن ابن عباس ومجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٦) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) قائله هو العملس بن عقيل. ينظر الحيوان ٤٩١٦ ، والمعاني الكبير ص ٦٤٢ ، والأغاني ١٢ / ٢٧١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٨٣ ، ومغني اللبيب ٢ / ٣٦٦ ، والقرطبي ١٩ / ٣٣.

(٦) ينظر : شرح ديوان زهير ص (٢٤) ، واللسان (وخم) والقرطبي ١٩ / ٣٣.

٤٧٤

٤٩٣٦ ـ لقد أكلت بجيلة يوم لاقت

فوارس مالك أكلا وبيلا (١)

والوبيل أيضا : العصا الضخمة ؛ قال : [الطويل]

٤٩٣٧ ـ لو أصبح في يمنى يديّ رقامها

وفي كفّي الأخرى وبيلا نحاذره (٢)

وكذلك : «الوبل» بكسر الباء ، و «الوبل» أيضا : الحزمة من الحطب وكذلك «الوبيل».

قال طرفة : [الطويل]

٤٩٣٨ ـ ............

عقيلة شيخ كالوبيل يلندد (٣)

فصل في الاستدلال بالآية على «القياس»

قال ابن الخطيب (٤) : هذه الآية يمكن الاستدلال بها على إثبات القياس ، لأن الكلام إنما ينتظم لو قسنا إحدى الصورتين على الأخرى.

فإن قيل هنا : هب أن القياس في هذه الصورة حجة ، فلم قلتم : إنه في سائر الصور حجة ، حينئذ يحتاج إلى سائر القياسات على هذا القياس ، فيكون ذلك إثباتا للقياس بالقياس؟.

قلنا : لا نثبت سائر القياسات بالقياس على هذه الصورة ، وإلا لزم المحذور الذي ذكرتم بل وجه التمسك أن نقول : لو لا أنه تمهد عندهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنّا يجب اشتراكهما في الحكم ، وإلا لما أورد هذا الكلام في هذه الصورة وذلك لأن احتمال الفرق المرجوح قائم هنا ، فإنّ لقائل أن يقول : لعلهم إنما استوجبوا الأخذ الوبيل بخصوصية حال العصيان في تلك الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة ـ هاهنا ـ ، ثم إنه تعالى مع قيام هذا الاحتمال جزم بالتسوية في الحكم [فهذا الجزم لا بد وأن يقال إنه كان مسبوقا بتقدير أنه متى وقع اشتراك في المناط الظاهر وجزم الاشتراك في الحكم] ، وإن الفرق المرجوح من أن ذلك المرجوح لخصوص تلك الواقعة لا عبرة به لم يكن لهذا الكلام كثير فائدة ، ولا معنى لقولنا القياس حجة إلا لهذا.

فصل في معنى شهادة الرسول عليهم

قال ابن الخطيب (٥) : ومعنى كون الرسول شاهدا عليهم من وجهين :

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٩ / ٣٣.

(٢) ينظر : اللسان (وبل) والقرطبي ١٩ / ٣٣.

(٣) يروى يلندد مكان المبدد.

ينظر : ديوان طرفة ص ٣٨ ، واللسان (وبل) والقرطبي ١٩ / ٣٣.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٦١.

(٥) السابق.

٤٧٥

الأول : أنه شاهد عليهم يوم القيامة بكفرهم ، وتكذيبهم.

الثاني : أن المراد بكونه شاهدا كونه مبينا للحق في الدنيا ومبينا لبطلان ما هم عليه من الكفر ، لأن الشاهد بشهادته يبين الحق ، ولذلك وصفت بأنها بينة ، ولا يمتنع أن يوصفصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك من حيث إنه يبين الحق.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا بعيد ، لأن الله تعالى قال : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] أي : عدولا خيارا ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ، فبين أنه شاهد عليهم في المستقبل لأن حمله الشهادة في الآخرة حقيقة ، وحمله على البيان مجاز ، والحقيقة أولى من المجاز.

قوله : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً).

«يوما» إما منصوب ب «تتّقون» على سبيل المفعول به تجوزا.

وقال الزمخشري : «يوما مفعول به ، أي : فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهوله إن بقيتم على الكفر».

وناقشه أبو حيان فقال (٢) : «وتتقون مضارع «اتقى» و «اتقى» ليس بمعنى «وقى» حتى يفسره به و «اتقى» يتعدى إلى واحد و «وقى» يتعدى إلى اثنين ، قال تعالى : (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [الطور : ١٨] ولذلك قدره الزمخشريّ : تقون أنفسكم لكنه ليس «تتقون» بمعنى «تقون» ، فلا يعدى تعديته» انتهى.

ويجوز أن ينتصب على الظرف ، أي : فكيف لكم بالتقوى يوم القيامة ، إن كفرتم في الدنيا. قاله الزمخشري.

ويجوز أن ينتصب مفعولا ب «كفرتم» إن جعل «كفرتم» بمعنى «جحدتم» أي : فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة.

ولا يجوز أن ينتصب ظرفا لأنهم لا يكفرون ذلك اليوم بل يؤمنون لا محالة.

ويجوز أن ينتصب على إسقاط الجار ، أي : كفرتم بيوم القيامة.

فصل في المراد بالآية :

قال القرطبيّ (٣) : وهذا تقريع وتوبيخ ، أي : كيف تتقون العذاب إن كفرتم ، وفيه تقديم وتأخير ، أي : كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم ، وكذا قراءة (٤) عبد الله وعطية.

__________________

(١) السابق ٣٠ / ١٦٢.

(٢) البحر المحيط ٨ / ٣٦٥.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٣٣.

(٤) ينظر : السابق.

٤٧٦

قال الحسن : بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ (١) وفيه إضمار ، أي: كيف تتقون عذاب يوم القيامة.

وقال قتادة : والله ما يتقى من كفر ذلك اليوم بشيء (٢) ، و «يوما» مفعول ب «تتقون» على هذه القراءة وليس بظرف ، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول «كفرتم» ، وقال بعض المفسرين : وقف التمام على قوله «كفرتم» والابتداء «يوما» يذهب إلى أن «اليوم» مفعول «يجعل» والفعل لله ـ عزوجل ـ كأنه قال : يجعل الله الولدان شيبا في يوم.

قال ابن الأنباري : وهذا لا يصح ؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله.

وقال المهدوي : والضمير في «يجعل» يجوز أن يكون لله ـ عزوجل ـ ويجوز أن يكون لليوم ، وإذا كان لليوم ، صلح أن تكون صفة له ، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله ـ عزوجل ـ إلا مع تقدير حذف ، كأنه قيل : يوما يجعل الله الولدان فيه شيبا.

وقال ابن الأنباري : ومنهم من نصب «اليوم» ب «كفرتم» ، وهذا قبيح ؛ لأن اليوم إذا علق ب «كفرتم» احتاج إلى صفة ، أي : كفرتم بيوم ، فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف ، وينصب ما بعدها ، احتججنا عليه بقراءة عبد الله (٣) : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ يَوْماً).

قال القرطبيّ (٤) : «هذه القراءة ليست بمتواترة ، وإنما جاءت على وجه التفسير ، وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف «يوم» مفعول صريح من غير صفة ، ولا حذفها ، أي : فكيف تتقون الله ، وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة ، والجزاء».

والعامة : على تنوين «يوما» ، وجعل الجملة بعده نعتا له ، والعائد محذوف ، أي : جعل الولدان فيه. قاله أبو البقاء ، ولم يتعرض للفاعل في «يجعل» ، وهو على هذا ضمير الباري تعالى ، أي : يوما يجعل الله فيه ، وأحسن من هذا أن يجعل العائد مضمرا في «يجعل» هو فاعله ، وتكون نسبة الجعل إلى اليوم من باب المبالغة ، أي : نفس اليوم يجعل الولدان شيبا.

وقرأ زيد (٥) بن علي : «يوم يجعل» بإضافة الظرف للجملة ، والفاعل على هذا هو ضمير الباري ـ تعالى ـ والجعل ـ هنا ـ بمعنى التصيير ، ف «شيبا» مفعول ثان.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٧) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٩١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٣٤.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٣٤.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٠٨.

٤٧٧

وقرأ أبو السمال (١) : «فكيف تتقون» بكسر النون على الإضافة.

والولدان : الصبيان.

وقال السديّ : هم أولاد الزنا (٢).

وقيل : أولاد المشركين ، والعموم أصح أي يوم يشيب فيه الصغير من غير كبر ، وذلك حين يقال لآدم : يا آدم قم فابعث بعثا للنار. قال القشيريّ : هم أهل الجنة ، يغيّر الله أحوالهم ، وأوصافهم على ما يريد.

وقيل : هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم ، وهو مجاز لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ، لكن معناه : أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة ، ويقال : هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق. والله أعلم.

و «شيبا» : جمع «أشيب» ، وأصل الشين الضم فكسرت لتصح الياء ، نحو : أحمر وحمر ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٤٩٣٩ ـ منّا الذي هو ما إن طرّ شاربه

والعانسون ، ومنّا المرد والشّيب (٣)

وقال آخر : [الطويل]

٤٩٤٠ ـ ............ .

لعبن بنا شيبا ، وشيّبننا مردا (٤)

قال الزمخشريّ : وفي بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب ، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة ، فقال : رأيت القيامة والجنة والنار في المنام ، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار ، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون.

ويجوز أن يوصف اليوم بالطول فإن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب.

قال ابن الخطيب (٥) : إن الله تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين :

الأول : جعل الولدان شيبا وفيه وجهان :

الأول : أنه مثل في الشدة ، يقال في اليوم الشديد : يوم يشيّب نواصي الأطفال ، والأصل فيه أن الهموم ، والأحزان إذا تفاقمت (٦) على الإنسان ، أسرع فيه الشيب لأن

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٩ / ٣٤.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٣٤) عن السدي.

(٣) نسب البيت لأبي قيس بن رفاعة ، كما نسب إلى أبي قيس بن الأسلت.

ينظر إصلاح المنطق ص ٣٤١ ، والدرر ١ / ١٣١ ، وشرح شواهد المغني ص ٧١٦ ، والمقاصد النحوية ١ / ١٦٧ ، وأمالي القالي ٢ / ٦٧ ، وسر صناعة الإعراب ص ٦٨٣ ، وشرح الأشموني ١ / ٣٥ ، والأزهية ٩٧ ، ومغني اللبيب ص ٣٠٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٤٥ ، وابن الشجري ٢٣٨١.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٦٢.

(٦) في أ : تعاظمت.

٤٧٨

كثرة الهموم ؛ توجب انكسار الروح إلى داخل القلب ، وذلك الانكسار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية ، وضعفها يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج ، وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط ، وذلك يوجب ابيضاض الشعر ، فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوا الشيب كناية عن الشدة والهموم ، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيبا حقيقة لأن إيصال الألم أو الخوف إلى الأطفال غير جائز يوم القيامة.

الثاني : ما تقدم من طول اليوم وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة ، والشيب.

قوله : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ). صفة أخرى ، أي : متشققة بسبب هوله وشدته ، فتكون الباء سببية ، وجوز الزمخشريّ أن تكون للاستعانة ، فإنه قال : والباء في «به» مثلها في قولك : «فطرت العود بالقدوم فانفطر به».

وقال القرطبيّ (١) : ومعنى «به» ، أي : فيه ، أي : في ذلك اليوم لهوله ، هذا أحسن ما قيل فيه ، ويقال : مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها ، وخشيته من وقوعها ، كقوله تعالى (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ١٨٧] ، وقيل : «به» ؛ أي : له ، أي : لذلك اليوم ، يقال : فعلت كذا بحرمتك ، أو لحرمتك ، والباء واللام وفي متقاربة في مثل هذا الموضع ، قال الله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] ، أي : في يوم القيامة ، وقيل : «به» أي بالأمر ، أي : السماء منفطر بما يجعل الولدان شيبا.

وقيل : السّماء منفطر بالله ، أي : بأمره. وإنما لم تؤنث الصفة لوجوه منها :

قال أبو عمرو بن العلاء : لأنها بمعنى السقف تقول : هذا سماء البيت ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢].

ومنها : أنها على النسب ، أي : ذات انفطار ، نحو : امرأة مرضع وحائض ، أي : ذات إرضاع ، وذات حيض.

ومنها أنها تذكر ، وتؤنث ؛ أنشد الفراء : [الوافر]

٤٩٤١ ـ فلو رفع السّماء إليه قوما

لخضنا بالسّماء وبالسّحاب (٢)

ومنها : اسم الجنس ، يفرق بينه وبين واحده بالتاء ، فيقال : سماة ، وقد تقدم أن اسم الجنس يذكر ويؤنث.

ولهذا قال أبو علي الفارسي : هو كقوله : (جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر : ٧] ، و (الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) [يس : ٨٠] و (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] يعني : فجاء على أحد الجائزين.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٣٤.

(٢) تقدم.

٤٧٩

وقيل : لأن تأنيثها ليس بحقيقي ، وما كان كذلك جاز تذكيره وتأنيثه ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٤٩٤٢ ـ ............

والعين بالإثمد الحاريّ مكحول (١)

قوله : (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) ، يجوز أن يكون الضمير لله تعالى ، وإن لم يجر له ذكر للعلم به ، فيكون المصدر مضافا لفاعله ، ويجوز أن يكون لليوم ، فيكون مضافا لمفعوله والفاعل وهو «الله» مقدر.

فصل في المراد بالوعد

قال المفسرون : كان وعده بالقيامة والحساب والجزاء مفعولا كائنا لا محالة ولا شك فيه ولا خلاف ، وقال مقاتل : كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله (٢).

قوله : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) ، أي : هذه السورة والآيات عظة ، وقيل : آيات القرآن إذ هو كالسورة الواحدة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ؛ لأن هذه الآيات مشتملة على أنواع الهداية ، والإرشاد ، فمن شاء أن يؤمن ، ويتخذ بذلك إلى ربّه سبيلا ، أي : طريقا إلى رضاه ، ورحمته فليرغب ، فقد أمكن له ؛ لأنه أظهر له الحجج ، والدلائل.

قيل : نسخت بآية السيف ، وكذلك قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ).

قال الكلبيّ : والأشبه أنه غير منسوخ.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٠)

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ).

العامة : على ضم «اللام» من «ثلثي» وهو الأصل ، كالربع والسدس.

__________________

(١) عجز بيت للطفيل الغنوي وصدره :

إذ هي أحوى من الرّبعيّ حاجبه

ينظر ديوانه ص ٥٥ ، والإنصاف ٧٧٥١٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٨٧ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٤٢ ، والكتاب ٤٦١٢ ، واللسان (صرخد) ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٩٦٦ ، وشرح المفصل ١ / ١٨.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٣١) وينظر المصدر السابق.

٤٨٠