اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وإن قيل : «لا» نافية للقسم ، فجوابه كجواب القسم.

«إنه» يعني القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني جبريل. قاله الحسن والكلبي ومقاتل (١) ، لقوله : (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ) [التكوير : ١٩ ، ٢٠].

وقال الكلبي أيضا والقتبي : الرسول هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) ، وليس القرآن من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هو من قول الله ـ عزوجل ـ ونسب القول إلى الرسول ، لأنه تاليه ومبلغه والعامل به ، كقولنا : هذا قول مالك (٢).

فإن قيل : كيف يكون كلاما لله تعالى ، ولجبريل ، ولمحمد عليهما الصلاة والسلام؟ فالجواب : أن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة ، فالله سبحانه أظهره في اللوح المحفوظ ، وجبريل بلغه لمحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه للأمة.

قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ) هو جواب القسم ، وقوله : (وَما هُوَ بِقَوْلِ) معطوف على الجواب ، فهو جواب. أقسم على شيئين : أحدهما : مثبت ، والآخر : منفي ، وهو من البلاغة الرائعة.

قوله : (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) ، (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

انتصب «قليلا» في الموضعين نعتا لمصدر ، أو زمان محذوف ، أي : إيمانا أو زمانا قليلا ، والنّاصب : «يؤمنون» و «تذكرون» و «ما» مزيدة للتوكيد.

وقال ابن عطية : ونصب «قليلا» بفعل مضمر يدل عليه : «تؤمنون» ، و «ما» يحتمل أن تكون نافية ، فينتفي إيمانهم ألبتة ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، وتتصف بالقلة ، فهو الإيمان اللغوي ؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا ، إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة والعفاف الذي يأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو حقّ وصواب.

قال أبو حيّان (٣) : أما قوله : «قليلا نصب بفعل» إلى آخره ، فلا يصح ؛ لأن ذلك الفعل الدال عليه «تؤمنون» إما أن تكون «ما» نافية ـ كما ذهب إليه ـ أو مصدرية ، فإن كانت نافية فذلك الفعل المضمر الدال عليه «تؤمنون» المنفي ب «ما» يكون منفيا ، فيكون التقدير : ما تؤمنون قليلا ما تؤمنون ، والفعل المنفي ب «ما» لا يجوز حذفه ، ولا حذف ما ، لا يجوز «زيدا ما أضربه» على تقدير : «ما أضرب زيدا ما أضربه» ، وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفع ب «قليلا» على الفاعلية ، أي : قليلا إيمانكم ، ويبقى «قليلا» لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له ، وإما في موضع رفع على الابتداء ؛ فيكون مبتدأ لا خبر له ، لأن ما قبله منصوب.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٢٨.

٣٤١

قال شهاب الدين (١) : لا يريد ابن عطية بدلالة «تؤمنون» على الفعل المحذوف الدلالة في باب الاشتغال ، حتى يكون العامل الظاهر مفسرا للعامل المضمر ، بل يريد مجرّد الدلالة اللفظية ، فليس ما أورده أبو حيان عليه من تمثيله بقوله : «زيدا ما أضربه» أي : «ما أضرب زيدا ما أضربه» وأما الردّ الثاني فظاهر ، وقد تقدم لابن عطية هذا القول في أول سورة «الأعراف» فليلتفت إليه.

وقال الزمخشريّ : «والقّلة في معنى العدم ، أي : لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتّة».

قال أبو حيّان (٢) : ولا يراد ب «قليلا» هنا النفي المحض كما زعم ، وذلك لا يكون إلّا في «أقلّ رجل يقول ذلك إلا زيد» ، وفي «قل» نحو «قلّ رجل يقول ذلك إلا زيد» وقد يستعمل في «قليلة» ، و «قليلة» إذا كانا مرفوعين ، نحو ما جوزوا في قول الشاعر : [الطويل]

٤٨٥٣ ـ ............

قليل بها الأصوات إلّا بغامها (٣)

أما إذا كان منصوبا نحو : «قليلا ضربت ، أو قليلا ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدرية ، فإن ذلك لا يجوز ؛ لأنه في «قليلا ضربت» منصوب ب «ضربت» ، ولم تستعمل العرب «قليلا» ، إذا انتصب بالفعل نفيا ، بل مقابلا لكثير ، وأما في «قليلا ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدرية ، فتحتاج إلى رفع «قليل» ؛ لأن «ما» المصدرية في موضع رفع على الابتداء. انتهى ما رد به عليه.

قال شهاب الدين (٤) : «وهذا مجرد دعوى».

وقرأ ابن كثير (٥) وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان : «يؤمنون ، يذكرون» بالغيبة حملا على «الخاطئون» والباقون : بالخطاب ، حملا على (بِما تُبْصِرُونَ).

وأبيّ (٦) : وتتذكرون «بتاءين».

فصل في القرآن الكريم

قوله : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) ؛ لأنه مباين لصنوف الشعر كلّها ، (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) ؛ لأنه ورد بسبّ الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئا على من سبّهم.

وقوله : (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) ، المراد بالقليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا : الله.

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٣٦٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٢٨.

(٣) تقدم.

(٤) الدر المصون ٦ / ٣٦٩.

(٥) ينظر : السبعة ٦٤٨ ، ٦٤٩ ، والحجة ٦ / ٣١٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٨٦.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٣٦٢٥. والبحر المحيط ٣٢٢٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٠.

٣٤٢

وقيل : إنهم قد يؤمنون في قلوبهم إلا أنهم يرجعون عنه سريعا ، ولا يتممون الاستدلال ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) [المدثر : ١٨] إلا أنه في آخر الأمر قال : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر : ٢٤].

وقال مقاتل : يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله تعالى (١) ، والمعنى لا يؤمنون أصلا ، والعرب يقولون : قلّ ما تأتينا ، يريدون لا تأتينا.

قوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، هذه قراءة العامة ، أعني الرّفع على إضمار مبتدأ ، أي : هو تنزيل وتقدم مثله.

وأبو السّمال (٢) : «تنزيلا» بالنصب على إضمار فعل ، أي : نزل تنزيلا.

قال القرطبي (٣) : وهو عطف على قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي : إنه لقول رسول كريم ، وهو تنزيل من رب العالمين.

قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٥٢)

قوله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ) ، هذه قراءة العامّة ، «تفعّل» من القول مبنيّا للفاعل.

قال الزمخشريّ : «التقوّل ، افتعال القول ؛ لأن فيه تكلّفا من المفتعل».

وقرأ بعضهم (٤) : «تقوّل» مبنيا للمفعول.

فإن كان هذا القارىء رفع ب (بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) فذاك ، وإلا فالقائم مقام الفاعل الجار ، وهذا عند من يرى قيام غير المفعول به مع وجوده.

وقرأ ذكوان وابنه (٥) محمد : «يقول» مضارع «قال».

و «الأقاويل» جمع : «أقوال» ، و «أقوال» جمع : «قول» ، فهو نظير : «أباييت» جمع : «أبيات» جمع «بيت».

وقال الزمخشريّ : وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا ، كقولك : «الأعاجيب» و «الأضاحيك» ، كأنها جمع «أفعولة» من القول.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي (١٨ / ١٧٧ ـ ١٧٨).

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٠٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٢٢ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٠.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٧٨.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٢٢ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٠.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٦٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٢٢ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٠.

٣٤٣

والمعنى : لو نسب إلينا قولا لم نقله «لأخذنا منه باليمين» أي : لأخذناه بالقوة ، و «الباء» يجوز أن تكون على أصلها غير مزيدة ، والمعنى لأخذناه بقوة منا ف «الباء» حالية ، والحال من الفاعل ، وتكون «من» في حكم الزائدة ، واليمين هنا مجاز عن القوة والغلبة ؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه.

قال القتبي : وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد.

ومنه قول الشماخ : [الوافر]

٤٨٥٤ ـ إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين (١)

قال أبو جعفر الطبري (٢) : هذا الكلام مخرج مخرج الإذلال ، على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب.

ويجوز أن تكون الباء مزيدة ، والمعنى : لأخذنا يمينه ، والمراد باليمين الجارحة كما يفعل بالمقتول صبرا يؤخذ بيمينه ، ويضرب بالسّيف ، في جيده موجهة ، وهو أشد عليه.

قال الحسن : لقطعنا يده اليمنى (٣).

وقال نفطويه : المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف.

وقال السدّي ومقاتل : والمعنى : انتقمنا منه بالحقّ ؛ واليمين على هذا بمعنى الحق ، كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) [الصافات : ٢٨] أي : من قبل الحق (٤).

قوله : (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ). وهو العرق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قطع مات صاحبه.

قال أبو زيد : وجمعه الوتن ، وثلاثة أوتنة ، والموتون الذي قطع وتينه.

وقال الكلبي : هو عرق بين العلباء والحلقوم ، وهما علباوان ، وإن بينهما العرق (٥).

والعلباء : عصب العنق.

وقيل : عرق غليظ تصادفه شفرة النّاحر.

قال الشماخ : [الوافر]

٤٨٥٥ ـ إذا بلّغتني وحملت رحلي

عرابة فاشرقي بدم الوتين (٦)

وقال مجاهد : هو حبل القلب الذي في الظهر ، وهو النخاع ، فإذا انقطع بطلت القوى ، ومات صاحبه.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير الطبري ١٢ / ٢٢٣.

(٣) ذكره الماوردي (٦ / ٨٦) والقرطبي (١٨ / ١٧٩).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر ديوانه (٩٢) ، وشرح المفصل ٢ / ١٣ ، والقرطبي ١٨ / ١٧٩ ، والبحر ٨ / ١٣٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٠.

٣٤٤

وقال محمد بن كعب : إنه القلب ومراقه ، وما يليه (١).

وقال عكرمة : إنّ الوتين إذا قطع لا إن جاع عرف ولا إن شبع عرف (٢).

قال ابن قتيبة : ولم يرد أنا نقطعه بعينه ، بل المراد أنه لو كذب لأمتناه فكان كمن قطع وتينه.

ونظيره قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما زالت أكلة خيبر تعاودني ، فهذا أوان انقطاع أبهري» «والأبهر» : عرق متصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه ، فكأنه قال : هذا أوان يقتلني السّم ، وحينئذ صرت كمن انقطع أبهره.

قوله : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ).

في «حاجزين» وجهان :

أحدهما : أنه نعت ل «أحد» على اللفظ ، وإنما جمع المعنى ، لأن «أحدا» يعمّ في سياق النفي كسائر النكرات الواقعة في سياق النّفي ، قاله الزمخشري والحوفيّ.

وعلى هذا فيكون «منكم» خبرا للمبتدأ ، والمبتدأ في «أحد» زيدت فيه «من» لوجود شرطها.

وضعفه أبو حيّان (٣) : بأن النفي يتسلّط على كينونته «منكم» ، والمعنى إنما هو على نفي الحجز عما يراد به.

والثاني : أن يكون خبرا ل «ما» الحجازية ، و (مِنْ أَحَدٍ) اسمها ، وإنما جمع الخبر لما تقدم و «منكم» على هذا حال ، لأنه في الأصل صفة ل «أحد» أو يتعلق ب «حاجزين» ولا يضر ذلك لكون معمول الخبر جارا ، ولو كان مفعولا صريحا لامتنع ، لا يجوز : «ما طعامك زيدا آكلا» ، أو متعلق بمحذوف على سبيل البيان ، و «عنه» يتعلق ب «حاجزين» على القولين ، والضمير للمقتول ، أو للقتل المدلول عليه بقوله : «لأخذنا ، لقطعنا».

قال القرطبيّ (٤) : المعنى فما منكم قوم يحجزون عنه لقوله تعالى (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] هذا جمع لأن «بين» لا تقع إلا على اثنين فما زاد ، قال عليه الصلاة والسلام : «لم تحلّ الغنائم لأحد سود الرّءوس قبلكم».

لفظه واحد ، ومعناه الجمع ، و «من» زائدة.

والحجز : المنع ، و «حاجزين» يجوز أن يكون صفة ل «أحد» ، على المعنى كما

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤١٤) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٠٦.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٨٠.

٣٤٥

تقدم ، فيكون في موضع جر ، والخبر «منكم» ، ويجوز أن يكون منصوبا ، على أنه خبر ، و «منكم» ملغى ، ويكون متعلقا ب «حاجزين» ، ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا ، كما لم يمتنع الفصل به في «إنّ فيك زيدا راغب».

قوله : (وَإِنَّهُ). يعني : القرآن (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) ، أي : الخائفين الذين يخشون الله ، ونظيره (فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

وقيل : المراد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : هو تذكرة ورحمة ونجاة.

(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ).

قال الربيع : بالقرآن ، (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ) يعني : القرآن (عَلَى الْكافِرِينَ) إمّا يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به ، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين به ، أو حين لم يقدروا على معارضته حين تحدّاهم أن يأتوا بسورة مثله.

والحسرة : الندامة.

وقيل : (إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ) يعني : التكذيب به ، لدلالة مكذبين على المصدر دلالة «السّفيه» فيه في قوله : [الوافر]

٤٨٥٦ ـ إذا نهي السّفيه جرى إليه

وخالف ، والسّفيه إلى خلاف (١)

أي : إلى السّفه.

فصل فيمن استدل بالآية على أن الكفر ليس من الله

قال ابن الخطيب (٢) : وللمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية ، على أنّ الكفر ليس من الله ؛ لأنه وصف القرآن بأنه تذكرة للمتقين ، ولم يقل : إنه ضلال للمكذبين ؛ بل نسب الضّلال إليهم بقوله : (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ).

والجواب : ما تقدم.

قوله : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) يعني : القرآن العظيم ، تنزيل من الله ـ عزوجل ـ فهو كحق اليقين.

وقيل : حقّا يقينا لا بطلان فيه ، ويقينا لا ريب فيه ، ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخر للتأكيد. قاله ابن الخطيب.

وقال القرطبيّ (٣) : قال ابن عبّاس : إنما هو كقولك : عين اليقين ومحض اليقين ، ولو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه ، كما لا تقول : هذا رجل الظريف.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٠٦.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٨٠.

٣٤٦

وقيل : أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين.

وقوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ).

قال ابن عبّاس : أي : فصلّ لربّك وقيل : نزّه الله عن السوء والنقائص ، إما شكرا على ما جعلك أهلا لإيحائه إليك ، وإمّا تنزيها له عن الرضا بأن ينسب إليه الكذب من الوحي.

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الحاقّة حاسبه الله ـ عزوجل ـ حسابا يسيرا» (١).

وعن فضالة بن شريك ، عن أبي الزاهرية قال : سمعته يقول : «من قرأ إحدى عشرة آية من سورة الحاقّة ، أجير من فتنة الدّجّال ؛ ومن قرأها ، كان له نورا من فوق رأسه إلى قدميه»(٢).

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٦٧) من طريق أبي الزاهرية عن أبي هريرة مرفوعا.

٣٤٧

سورة المعارج

مكية ، وهي أربعة وأربعون آية ، ومائتان وستة عشر كلمة ، وألف وإحدى وستون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(٤)

قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ).

قرأ نافع وابن (١) عامر : «سال سائل» بغير همز.

والباقون : بالهمز ، فمن همز ، فهو من السؤال ، وهي اللغة الفاشية.

ثم لك في «سأل» وجهان :

أحدهما : أن يكون قد ضمن معنى «دعا» فلذلك تعدّى بالباء ، كما تقول : دعوت بكذا ، والمعنى : دعا داع بعذاب.

والثاني : أن يكون على أصله ، والباء بمعنى «عن» ، كقوله : [الطويل]

٤٨٥٦ م ـ فإن تسألوني بالنّساء ...

 ..........

(فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩] وقد تقدم تحقيقه.

والأول أولى لأن التجوز في الفعل أولى منه في الحرف لقوته.

وأما القراءة بالألف ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها بمعنى قراءة الهمزة ، وإنما خففت بقلبها ألفا ، وليس بقياس تخفيف مثلها ، بل قياس تخفيفها ، جعلها بين بين ، والباء على هذا الوجه كما في الوجه الذي تقدم.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٥٠ ، والحجة ٦ / ٧٣١٧ ، وإعراب القراءات ٣٨٩ ، وحجة القراءات ٧٢٠.

٣٤٨

الثاني : أنّها من «سال يسأل» مثل : خاف يخاف ، وعين الكلمة واو.

قال الزمخشريّ : «وهي لغة قريش ، يقولون : سلت تسال ، وهما يتسايلان».

قال أبو حيّان (١) : وينبغي أن يتثبت في قوله : «إنها لغة قريش» ؛ لأن ما جاء في القرآن من باب السؤال هو مهموز ، أو أصله الهمز ، كقراءة من قرأ (وَسْئَلُوا) [النساء : ٣٢] ، إذ لا يجوز أن يكون من «سال» التي يكون عينها واوا ، إذ كان يكون «وسالوا الله» مثل «خافوا» فيبعد أن يجيء ذلك كلّه على لغة غير قريش ، وهم الذين نزل القرآن بلغتهم إلا يسيرا فيه لغة غيرهم ، ثم جاء في كلام الزمخشري : وهما «يتسايلان» بالياء ، وهو وهم من النّساخ ، إنما الصواب : يتساولان ـ بالواو ـ لأنه صرح أولا أنه من السؤال ، يعني بالواو الصريحة.

وقد حكى أبو زيد عن العرب : إنهما يتساولان.

الثالث : أنها من السّيلان ، والمعنى : «سال» واد في جهنم ، يقال له : سايل ، وهو قول زيد بن ثابت.

فالعين ياء ، ويؤيده قراءة ابن عباس : «سال سيل».

قال الزمخشريّ : «والسّيل مصدر في معنى السّائل ، كالغور بمعنى الغائر ، والمعنى : اندفع عليهم وادي عذاب» ، انتهى.

والظاهر الوجه الأول لثبوت ذلك لغة مشهورة ، قال : [البسيط]

٤٨٥٧ ـ سالت هذيل رسول الله فاحشة

ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب (٢)

وقرأ أبيّ بن كعب وعبد الله (٣) : «سال سال» مثل «مال».

وتخريجها : أن الأصل : «سائل» فحذفت عين الكلمة ، وهي الهمزة ، واللام محل الإعراب ، وهذا كما قيل : هذا شاك في شائك السّلاح. وقد تقدم الكلام على مادة السؤال أول سورة «البقرة» فليلتفت إليه.

و «الباء» تتعلق ب «سال» من السيلان تعلقها ب «سأل» لما يزيد.

وجعل بعضهم الباء متعلقة بمصدر دلّ عليه فعل السؤال ، كأنه قيل : ما سؤالهم؟.

فقيل : سؤالهم بعذاب ، كذا حكاه أبو حيّان عن ابن الخطيب (٤).

ولم يعترضه ، وهذا عجيب ، فإنّ قوله أولا : إنه متعلق بمصدر دل عليه فعل السؤال

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٣٢٢.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣٦٥٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٢٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٣.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٠٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٣٢.

٣٤٩

ينافي تقديره بقوله : «سؤالهم بعذاب» ؛ لأن الباء في هذا التركيب المقدّر تتعلق بمحذوف ؛ لأنها خبر المبتدأ بالسؤال.

وقال الزمخشريّ : «وعن قتادة سأل سائل عن عذاب الله بمن ينزل وعلى من يقع فنزلت(١) ، و «سأل» على هذا الوجه مضمن معنى عني واهتم ، كأنه قيل : اهتم مهتم بعذاب واقع».

فصل في تفسير السؤال

قال القرطبيّ (٢) : الباء يجوز أن تكون بمعنى «عن» والسؤال بمعنى الدعاء ، أي دعا داع بالعذاب ، عن ابن عباس وغيره ، يقال : دعا على فلان بالويل ودعا عليه بالعذاب.

ويقال : دعوت زيدا ، أي التمست إحضاره ، والمعنى التمس ملتمس عذابا للكافرين ، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة ، وعلى هذا فالباء زائدة كقوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] ، وقوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٣] ، فهي تأكيد ، أي : سأل سائل عذابا واقعا.

«للكافرين» أي : على الكافرين.

قيل : هو النضر بن الحارث حيث قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ، فنزل سؤاله ، وقتل يوم «بدر» صبرا هو وعقبة بن أبي معيط ، لم يقتل صبرا غيرهما ، قاله ابن عباس ومجاهد.

وقيل : إنّ السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري ، وذلك أنه لما بلغه قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في علي رضي الله عنه : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ، ثم قال : يا محمد ، أمرتنا عن الله ، أن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّك رسول الله ، فقبلناه منك ، وأن نصلي خمسا ، ونزكي أموالنا ، فقبلناه منك ، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام ، فقبلناه منك ، وأن نحج ، فقبلناه منك ، ثمّ لم ترض بهذا ، حتى فضّلت ابن عمك علينا ، أفهذا شيء منك أم من الله؟.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله الّذي لا إله إلّا هو ، ما هو إلّا من الله» فولى الحارث وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقّا ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، فو الله ما وصل إلى ناقته ، حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه ، فخرج من دبره فقتله ، فنزلت (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ)(٣).

__________________

(١) ذكره الزمخشري في «تفسيره» (٤ / ٦٠٨).

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن (١٨ / ١٨١).

(٣) أخرجه الحاكم (٢ / ٥٠٢) والنسائي (٦ / ٤٩٨) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس. ـ

٣٥٠

وقال الربيع : السائل هنا أبو جهل وهو القائل ذلك.

وقيل : إنه قول جماعة من كفار قريش ، وقيل : هو نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ سأل العذاب على الكافرين.

وقيل : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم بالعقاب ، وطلب أن يوقعه بالكفار ، وهو واقع بهم لا محالة ، وامتد الكلام إلى قوله تعالى (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) [المعارج : ٥] ، أي : لا تستعجل فإنه قريب ، وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره الله بالصبر الجميل.

وقال قتادة : الباء بمعنى «عن» ، فكأن سائلا سأل عن العذاب بمن وقع ، أو متى يقع ، قال الله تعالى : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) ، أي : فاسأل عنه ، وقال علقمة : [الطويل]

٤٨٥٨ ـ فإن تسألوني بالنّساء ...

 ........... (١)

أي : عن النّساء ، فالمعنى : سلوني (٢) بمن وقع العذاب ، ولمن يكون ، فقال الله تعالى : (لِلْكافِرينَ) وقال أبو عليّ وغيره : وإذا كان من السؤال ، فأصله أن يتعدّى إلى مفعولين ، ويجوز الاقتصار على أحدهما وإذا اقتصر على أحدهما ، جاز أن يتعدى إليه بحرف الجر ، فيكون التقدير : سأل سائل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب.

قوله : (لِلْكافِرينَ). فيه أوجه :

أحدها : أن يتعلق ب «سأل» مضمنا معنى «دعا» كما تقدم ، أي : دعا لهم بعذاب واقع.

الثاني : أن يتعلق ب «واقع» واللام للعلة ، أي نازل لأجلهم.

الثالث : أن يتعلق بمحذوف ، صفة ثانية ل «عذاب» أي كائن للكافرين.

الرابع : أن يكون جوابا للسائل ، فيكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو للكافرين.

الخامس : أن تكون «اللام» بمعنى «على» ، أي : واقع على الكافرين.

ويؤيده قراءة أبيّ (٣) : «على الكافرين» ، وعلى هذا فهي متعلقة ب «واقع» لا على الوجه الذي تقدم قبله.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : بم يتصل قوله : «للكافرين»؟.

قلت : هو على القول الأول متصل ب «عذاب» صفة له أي بعذاب واقع كائن

__________________

ـ وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي بأنه على شرط البخاري فقط.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٥) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(١) تقدم.

(٢) في ب : سألوا.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٦٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٢٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٣.

٣٥١

للكافرين ، أو بالفعل أي دعا للكافرين بعذاب واقع أو بواقع ، أي : بعذاب نازل لأجلهم.

وعلى الثاني : هو كلام مبتدأ جواب للسائل ، أي : هو للكافرين انتهى.

قال أبو حيّان (١) : وقال الزمخشري : أو بالفعل ، أي : دعا للكافرين ، ثم قال : وعلى الثاني ، وهو ثاني ما ذكر في توجيهه للكافرين ، قال : هو كلام مبتدأ ، وقع جوابا للسائل ، أي : هو للكافرين ، وكان قد قرر أن «سأل» في معنى «دعا» فعدي تعديته ، كأنه قال : دعا داع بعذاب ، من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، ومنه قوله تعالى : (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) [الدخان : ٥٥] انتهى ، فعلى ما قرره ، أنه متعلق ب «دعا» يعني «بسأل» ، فكيف يكون كلاما مبتدأ جوابا للسائل ، أي : هو للكافرين ، هذا لا يصح.

قال شهاب الدين (٢) : وقد غلط أبو حيان في فهمه عن أبي القاسم قوله : وعلى الثاني إلى آخره ، فمن ثم جاء التخليط الذي ذكره الزمخشريّ ، إنما عنى بالثاني قوله عن قتادة : سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع ، فنزلت ، و «سأل» على هذا الوجه مضمن معنى «عني واهتم» ، فهذا هو الوجه الثاني المقابل للوجه الأول ، وهو أن «سأل» يتضمن معنى «دعا» ، ولا أدري كيف تخبط حتى وقع ، ونسب الزمخشري إلى الغلط ، وأنه أخذ قول قتادة والحسن وأفسده ، والترتيب الذي رتّبه الزمخشري ، في تعلق «اللام» من أحسن ما يكون صناعة ومعنى.

قال القرطبي (٣) : وقال الحسن : أنزل الله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) ، وقال : لمن هو؟ فقال : «للكافرين» (٤) ، فاللام في «للكافرين» متعلقة ب «واقع».

وقال الفرّاء : التقدير : بعذاب للكافرين واقع ، فالواقع من نعت العذاب ، فاللام دخلت للعذاب لا للواقع.

أي : هذا العذاب للكافرين في الآخرة ، لا يدفعه عنهم أحد.

وقيل : إن اللام بمعنى «على» أي : واقع على الكافرين كما في قراءة أبيّ المتقدمة.

وقيل : بمعنى «عن» أي : ليس له دافع عن الكافرين.

قوله : (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ).

يجوز أن يكون نعتا آخر ل «عذاب» ، وأن يكون مستأنفا ، والأول أظهر.

وأن يكون حالا من «عذاب» لتخصصه ، إما بالعمل وإما بالصفة ، وأن يكون حالا من الضمير في «للكافرين» إن جعلناه نعتا ل «عذاب».

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٣٢.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٧٣.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٨ / ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٥) وعزاه إلى ابن المنذر.

٣٥٢

قوله : (مِنَ اللهِ) يجوز أن يتعلق ب «دافع» بمعنى ليس له دافع من جهته ، إذا جاء وقته. وأن يتعلق ب «واقع» ، وبه بدأ الزمخشري ، أي : واقع من عنده.

وقال أبو البقاء : ولم يمنع النفي من ذلك ؛ لأن «ليس» فعل.

كأنه استشعر أن ما قبل النفي لا يعمل فيما بعده.

وأجاب : بأنّ النفي لما كان فعلا ساغ ذلك.

قال أبو حيّان (١) : والأجود أن يكون (مِنَ اللهِ) متعلقا ب «واقع» ، و (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) جملة اعتراض بين العامل ومعموله». انتهى.

وهذا إنما يأتي على البدل ، بأنّ الجملة مستأنفة ، لا صفة ل «عذاب» ، وهو غير الظاهر كما تقدم لأخذ الكلام بعضه بحجزة بعض.

قوله : «ذي» صفة لله ، ومعنى : (ذِي الْمَعارِجِ) ، أي : ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم ؛ لأنها تصل إلى الناس على مراتب مختلفة ، قاله ابن عباس وقتادة (٢).

«فالمعارج» ، مراتب إنعامه على الخلق.

وقيل : ذي العظمة والعلو.

وقال مجاهد : هي معارج السماء (٣).

وقيل : هي السموات.

قال ابن عباس : أي : ذي السموات ، سمّاها معارج الملائكة ، لأن الملائكة تعرج إلى السماء ، فوصف نفسه بذلك (٤).

وقيل : «المعارج» الغرف ، أي : أنه ذو الغرف ، أي : جعل لأوليائه في الجنة غرفا.

وقرأ عبد الله (٥) : «ذي المعاريج» بالياء.

يقال : معرج ، ومعراج ، ومعارج ، ومعاريج مثل مفتاح ومفاتيح.

والمعارج : الدرجات ومنه : (وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [الزخرف : ٣٣] وتقدم الكلام على المعارج في «الزخرف».

قوله : (تَعْرُجُ). العامة : بالتاء من فوق.

وقرأ ابن مسعود (٦) ، وأصحابه ، والسلمي ، والكسائي : بالياء من تحت.

__________________

(١) ينظر البحر المحيط ٨ / ٣٣٣.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٦) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٦) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ في «العظمة».

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٨٣).

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٨٣.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٦٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٢٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٤.

٣٥٣

وهما كقراءتي : «فناداه الملائكة ونادته» [آل عمران : ٣٩] ، و «توفاه وتوفته» [الأنعام : ٦١].

وأدغم أبو (١) عمرو : الجيم في التاء.

واستضعفها بعضهم من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء.

وأجيب عن ذلك بأنها قريبة من الشين ؛ لأن النقص الذي في الشين يقرّبها من مخرج التاء ، والجيم تدغم في الشين لما بينهما من التقارب ، في المخرج والصفة ، كما تقدم في (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) [الفتح : ٢٩] فحمل الإدغام في التاء ، على الإدغام في الشين ، لما بين الشين والتاء من التقارب.

وأجيب أيضا : بأنّ الإدغام يكون لمجرد الصفات ، وإن لم يتقاربا في المخرج ، والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشّدة.

والجملة من «تعرج» مستأنفة.

قوله : «والرّوح» من باب عطف الخاص على العام ، إن أريد بالروح جبريل ، أو ملك آخر من جنسهم ، وأخر هنا وقدم في قوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) [النبأ : ٣٨] ؛ لأن المقام هنا يقتضي تقدم الجمع على الواحد ، من حيث إنه مقام تخويف ، وتهويل.

فصل في تحرير معنى الآية

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) ، أي : تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم.

قال ابن عبّاس : الروح : جبريل ـ عليه‌السلام ـ لقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(٢).

وقيل : هو ملك آخر ، عظيم الخلقة.

وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق الله ، كهيئة الناس وليس بالناس.

وقال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين تقبض.

قوله : «إليه» ، أي : إلى المكان الذي هو محلهم ، وهو في السماء ؛ لأنه محلّ برّه وكرامته وقيل : هو كقول إبراهيم (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩] ، أي : إلى الموضع الذي أمرني به.

وقيل : «إليه» إلى عرشه.

قال شهاب الدين (٣) : الضمير في «إليه» ، الظاهر عوده على الله تعالى.

وقيل : يعود على المكان لدلالة الحال والسياق عليه.

__________________

(١) ينظر : الإدغام الكبير ص ١٢١.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٩٠) والبغوي (٤ / ٣٩٢).

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٧٤.

٣٥٤

قوله : (فِي يَوْمٍ) ، فيه وجهان :

أظهرهما : تعلقه ب «تعرج».

والثاني : أنه يتعلق ب «دافع».

وعلى هذا فالجملة من قوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ) معترضة ، و (كانَ مِقْدارُهُ) صفة ل «يوم».

قال ابن الخطيب (١) : الأكثرون على أنّ قوله : (فِي يَوْمٍ) صلة قوله : «تعرج» ، أي: يحصل العروج في مثل هذا اليوم.

وقال مقاتل : بل هذا من صلة قوله : (بِعَذابٍ واقِعٍ) [وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : سأل سائل بعذاب واقع](٢) ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.

وعلى التقدير الأول ، فذلك اليوم ، إما أن يكون في الآخرة ، أو في الدنيا. وعلى تقدير أن يكون في الآخرة ، فذلك الطول إما أن يكون واقعا ، وإما أن يكون مقدرا ، فإن كان معنى الآية : إن ذلك العروج يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنة ، وهو يوم القيامة ، وهذا قول الحسن ، قال : وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط ؛ إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية ، ولنفيت الجنة والنار عند انتهاء تلك الغاية ، وهذا غير جائز ، بل المراد : أن موقفهم للحساب حين يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدّنيا بعد ذلك يستقر أهل النار في النار ، نعوذ بالله منها.

فصل في الاحتجاج لهذا القول

قال القرطبي (٣) : واستدل النحاس على صحة هذا القول بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من رجل لم يؤدّ زكاة ماله إلّا جعل له شجاعا من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتّى يقضي الله بين النّاس» (٤) وهذا يدل على أنه يوم القيامة.

وقال إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا ما قدر ما بين ظهر يومنا وعصره.

وروي هذا المعنى مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين» (٥) ولذلك سمى نفسه (سَرِيعُ الْحِسابِ) [المائدة : ٤٠] ، و (أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ)

__________________

(١) الفخر الرازي ٣٠ / ١٠٩.

(٢) سقط من أ.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٨٤.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٨٢).

(٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٩١).

٣٥٥

[الأنعام : ٦٢] ، وإنما خاطبهم على قدر فهم الخلائق ، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن ، وكما يرزقهم في ساعة يحاسبهم في لحظة ، قال تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [نعمان : ٢٨].

والمعنى : لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله ، لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة.

قال البغوي : هذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل.

قال عطاء : ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا (١).

واعلم أنّ هذا الطول ، إنّما يكون في حق الكافر ، وأما في حق المؤمن فلا ، لما روى أبو سعيد الخدري أنه قال : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أطول هذا اليوم؟ فقال : «والذي نفسي بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى إنّه يكون أخفّ من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدّنيا» (٢).

وقال بعضهم : إنّ ذلك ، وإن طال ، فيكون سببا لمزيد السرور والراحة لأهل الجنة ، ويكون سببا لمزيد الحزن والغمّ لأهل النار.

وأجيب : بأنّ الآخرة دار جزاء ، فلا بد وأن يحصل للمثابين ثوابهم ، ودار الثواب هي الجنة لا الموقف ، فإذا لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار.

وقيل : هذه المدة على سبيل التقدير لا على التحقيق ، أي : تعرج الملائكة في ساعة قليلة ، لو أراد أهل الدنيا العروج إليها كان مقدار مدّتهم خمسين ألف سنة.

وعن مجاهد والحسن وعكرمة : هي مدة إقامة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنة (٣) ، وهو قول أبي مسلم.

فإن قيل : كيف الجمع بين هذه ، وبين قوله في سورة «السّجدة» : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) [السجدة : ٥] وقد قال ابن عباس : هي أيام سمّاها الله تعالى هو أعلم بها ، وأنا أكره أن أقول فيها ما لا أعلم (٤)؟.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٩٣)

(٢) أخرجه أحمد (٣ / ٧٥) وأبو يعلى (٢ / ٥٢٧) رقم (١٣٩٠) وابن حبان (٢٥٧٧ ـ موارد) والطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٢٨) من حديث أبي سعيد الخدري.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٣٤٠) وقال : رواه أحمد وأبو يعلى وإسناده حسن على ضعف في راويه.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤١٧) وزاد نسبته إلى البيهقي في «البعث».

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤١٧) عن مجاهد وعكرمة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٨٤) عن ابن عباس.

٣٥٦

فالجواب (١) : يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنة ، ومن أعلى سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة ؛ لأن عرض كل سماء خمسمائة ، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة ، فقوله : (فِي يَوْمٍ) يريد : في يوم من أيام الدنيا ، وهو مقدار ألف سنة لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا ، ومقدار خمسين ألف سنة لو صعدوا إلى أعلى العرش.

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ)(١٤)

قوله : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) قال ابن الخطيب (٢) : هذا متعلق ب (سَأَلَ سائِلٌ) ؛ لأن استعجالهم بالعذاب كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتعنّت فأمر بالصبر.

ومن قرأ : «سال سائل» ، وسيل فالمعنى جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر على أذى قومك ، والصّبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ، ولا شكوى لغير الله.

وقيل : أن يكون صاحب مصيبة في القوم لا يدرى من هو.

قال ابن زيد والكلبيّ : هذه الآية منسوخة بالأمر بالقتال (٣).

قوله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً).

الضمير في «إنّهم» لأهل «مكة» ، وفي «يرونهم ، ونراه» لليوم إن أريد به يوم القيامة.

قال القرطبيّ (٤) : أي : نعلمه ؛ لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود ، كقولك : الشافعي يرى في هذه المسألة كذا.

وقال الأعمش : يرون البعث بعيدا ؛ لأنهم لا يؤمنون به ، كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة كمن يقول لمن يناظره : هذا بعيد لا يكون.

وقيل : الضمير يعود إلى العذاب بالنار ، أي : غير كائن ، (وَنَراهُ قَرِيباً) لأن ما هو آت ، فهو قريب.

قوله : (يَوْمَ تَكُونُ) ، فيه أوجه :

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١١٠.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١١٠.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٨٤) عن ابن عباس.

(٤) الجامع لأحكام القرآن (١٨ / ١٨٤).

٣٥٧

أحدها : أنه متعلق ب «قريبا» وهذا إذا كان الضمير في «نراه» للعذاب ظاهرا.

الثاني : أنه يتعلق بمحذوف يدل عليه «واقع» ، أي : يقع يوم يكون.

الثالث : أنه يتعلق بمحذوف مقدر بعده ، أي : يوم يكون كان وكيت وكيت.

الرابع : أنه بدل من الضمير في «نراه» إذا كان عائدا على يوم القيامة.

الخامس : أنّه بدل عن (فِي يَوْمٍ) ، فيمن علقه ب «واقع». قاله الزمخشري.

وإنّما قال : فيمن علقه «بواقع» لأنه إذا علق ب «تعرج» في أحد الوجهين استحال أن يبدل عنه هذا لأن عروج الملائكة ليس هو في هذا اليوم الذي تكون السماء كالمهل ، والجبال كالعهن ، ويشغل كل حميم عن حميمه.

قال أبو حيان (١) : «ولا يجوز هذا» يعني : إبداله من (فِي يَوْمٍ) قال : لأن (فِي يَوْمٍ) وإن كان في موضع نصب لا يبدل منه منصوب ؛ لأن مثل هذا ليس بزائد ، ولا محكوم له بحكم الزائد ، ك «ربّ» وإنما يجوز مراعاة الموضع في حرف الجر الزائد ؛ كقوله : [الكامل]

٤٨٥٩ ـ أبني لبينى لستما بيد

إلّا يدا ليست لها عضد (٢)

ولذلك لا يجوز «مررت بزيد الخياط» على موضع «بزيد» ولا «مررت بزيد وعمرا» ، ولا «غضب على زيد وجعفرا» ولا «مررت بزيد وأخاك» على مراعاة الموضع.

قال شهاب الدين (٣) : قد تقدم أن قراءة (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة : ٦] من هذا الباب فمن نصب الأرجل فليكن هذا مثله.

ثم قال أبو حيّان (٤) : فإن قلت : الحركة في «يوم» تكون حركة بناء لا حركة إعراب ، فهو مجرور مثل (فِي يَوْمٍ).

قلت : لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين ؛ لأنه أضيف إلى معرب ، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين فيتمشى كلام الزمخشريّ على مذهبهم إن كان استحضره وقصده انتهى.

قال شهاب (٥) الدين : إن كان استحضره فيه تحامل على الرجل ، وأي كبير أمر في هذا حتى لا ييستحضر مثل هذا. وتقدم الكلام على المهل في «الدخان».

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤٤.

(٢) نسب البيت إلى أوس بن حجر ، وإلى طرفة بن العبد.

ينظر ديوان أوس ص (٢١) ، وديوان طرفة ص (٤٥) ، والكتاب ٢ / ١٣٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٦٨ ، وشرح المفصل ٢ / ٩٠ ، والمقتضب ٤ / ٤٢١ ، وأمالي ابن الحاجب ص ٤٤١ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٢٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٥.

(٣) الدر المصون ٦ / ٣٧٥.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٣٣٤.

(٥) الدر المصون ٦ / ٣٧٥.

٣٥٨

قوله : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ).

قيل : «العهن» هو الصّوف مطلقا ، وقيل : يقدر كونه أحمر وهو أضعف الصوف ؛ ومنه قول زهير : [الطويل]

٤٨٦٠ ـ كأنّ فتات العهن في كلّ منزل

يزال به حبّ الفنا لم يحطّم (١)

الفتات : القطع ، والعهن : الصّوف الأحمر ، واحده عهنة.

وقيل : يقيد كونه مصبوغا ألوانا ، وهذا أليق بالتشبيه ؛ لأن الجبال متلونة ، كما قال تعالى: (جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ) [فاطر : ٢٧].

والمعنى : أنها تلين بعد شدة ، وتتفرق بعد الاجتماع.

وقيل : أول ما تتفرق الجبال تصير رمالا ثم عهنا منفوشا ، ثم هباء منثورا.

قوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً).

قرأ العامة : «يسأل» مبنيا للفاعل ، والمفعول الثاني محذوف ، فقيل : تقديره : لا يسأله نصره ، ولا شفاعته لعلمه أنّ ذلك مفقود.

وقيل : لا يسأله شيئا من حمل أو زاد.

وقيل : «حميما» منصوب على إسقاط الخافض ، أي : عن حميم ، لشغله عنه. قاله قتادة. لقوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٧].

وقرأ أبو (٢) جعفر ، وأبو حيوة ، وشيبة ، وابن كثير في رواية قال القرطبيّ (٣) : والبزي عن عاصم : «يسأل» مبنيا للمفعول.

فقيل : «حميما» مفعول ثان لا على إسقاط حرف ، والمعنى : لا يسأل إحضاره.

وقيل : بل هو على إسقاط «عن» ، أي : عن حميم ، ولا ذو قرابة عن قرابته ، بل كل إنسان يسأل عن عمله ، نظيره : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر : ٣٨].

قوله : (يُبَصَّرُونَهُمْ) عدي بالتضعيف إلى ثان ، وقام الأول مقام الفاعل ، وفي محل هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها في موضع الصفة ل «حميم».

والثاني : أنها مستأنفة.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٨٥.

(٢) ينظر : السبعة ٦٥٠ ، والحجة ٦ / ٣٢٠ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٢٦ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٦٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٦.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٦٥.

٣٥٩

قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما موقع «يبصّرونهم»؟

قلت : هو كلام مستأنف ، كأنه لمّا قال : «لا يسأل حميم حميما» قيل : لعله لا يبصره ، فقال : «يبصّرونهم» ، ثم قال : ويجوز أن يكون «يبصرونهم» صفة ، أي : حميما مبصرين معرفين إياهم انتهى.

وإنما اجتمع الضميران في «يبصرونهم» وهما للحميمين حملا على معنى العموم ؛ لأنهما نكرتان في سياق النفي (١).

وقرأ قتادة : «يبصرونهم» مبنيا للفاعل ، من «أبصر» ، أي : يبصر المؤمن الكافر في النار.

فصل في قوله تعالى يبصرونهم

«يبصّرونهم» ، أي : يرونهم ، يقال : بصرت به أبصر ، قال تعالى : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) [طه : ٩٦] ، ويقال : «بصّرني زيد بكذا» فإذا حذفت الجار قلت : بصّرني زيد ، فإذا بنيت الفعل للمفعول ، وقد حذفت الجارّ ، قلت : بصرت زيدا ، فهذا معنى : «يبصّرونهم» أي : يعرف الحميم الحميم حين يعرفه ، وهو مع ذلك ، لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه ، فيبصر الرجل أباه ، وأخاه ، وقرابته ، وعشيرته ، فلا يسأله ، ولا يكلمه ؛ لاشتغالهم بأنفسهم.

وقال ابن عبّاس : يتعارفون ساعة ، ثم لا يتعارفون بعد ذلك (٢).

وقال ابن عباس أيضا : يبصر بعضهم بعضا (٣) ، فيتعارفون ثم يفرّ بعضهم من بعض ، فالضمير في «يبصّرونهم» على هذا للكافر ، والهاء والميم للأقرباء.

وقال مجاهد : المعنى : يبصّر الله المؤمنين الكفّار في يوم القيامة ، فالضمير في «يبصّرونهم» للمؤمنين ، والهاء والميم للكفار (٤).

وقال ابن زيد : المعنى : يبصّر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدّنيا ، فالضمير في «يبصّرونهم» للتابعين ، والهاء والميم للمتبوعين (٥).

وقيل : إنه يبصر المظلوم ظالمه ، والمقتول قاتله.

وقيل : إن الضمير في «يبصّرونهم» يرجع إلى الملائكة ، أي : يعرفون أحوال

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٦٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٦.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٢٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٨).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٨٤).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٣٠) وذكره الماوردي (٦ / ٩٢).

(٥) ينظر المصدر السابق.

٣٦٠