اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ، ومنه الرّبا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطي.

والمعنى : أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار ، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار.

وقيل : إن عقوبة آل فرعون في الدنيا متعلقة بعذاب الآخرة ، لقوله : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : ٢٥] وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدّنيا ، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو. ثم ذكر قصة قوم نوح ، وهي قوله :

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) ، أي : ارتفع وعلا.

وقال عليّ رضي الله عنه : طغى على خزّانه من الملائكة غضبا لربّه ، فلم يقدروا على حبسه (١).

قال المفسرون : زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعا.

وقال ابن عبّاس رضي الله عنه : طغى الماء زمن نوح على خزانه ، فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج ، وليس من الماء قطرة تنزل قبله ، ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم (٢) ، وقد تقدم مرفوعا أوّل السورة ، والمقصود من ذكر قصص هذه الأمم ، وذكر ما حل بهم من العذاب ، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول ، ثم منّ عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله : «حملناكم» أي : حملنا آباءكم ، وأنتم في أصلابهم ، (فِي الْجارِيَةِ) أي : في السفن الجارية ، والمحمول في الجارية إنّما هو نوح وأولاده ، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك.

والجارية من أسماء السفينة ، ومنه قوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) [الرحمن : ٢٤] ، وغلب استعمال الجارية في السفينة ؛ كقوله في بعض الألغاز : [البسيط]

٤٨٤٤ ـ رأيت جارية في بطن جارية

في بطنها رجل في بطنه جمل (٣)

قوله : (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) ، أي : سفينة نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ جعلها الله تذكرة وعظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم. في قول قتادة.

قال ابن جريج : كانت ألواحها على الجوديّ ، والمعنى : أبقيت لكم الخشبات حتى تذكروا ما حلّ بقوم نوح ، وأنجى الله أباكم ، وكم من سفينة هلكت وصارت ترابا ، ولم يبق منها شيء ، وهذا قول الفرّاء.

قال ابن الخطيب (٤) : وهذا ضعيف ، بل الصواب ما قاله الزجاج : أن الضمير في قوله :

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٧٠).

(٢) تقدم تخريج هذا الأثر.

(٢) تقدم تخريج هذا الأثر.

(٣) ينظر البحر المحيط ٨ / ٣١٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٣.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٩٤.

٣٢١

«لنجعلها» يعود إلى «الواقعة» التي هي معلومة ، وإن كانت هنا غير مذكورة ، والتقدير : لنجعل نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين عظة ، وعبرة ، ويدل على صحته قوله : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) فالضمير في قوله : «وتعيها» لا يمكن عوده إلى السفينة ، فكذا الضمير الأول.

قوله : (وَتَعِيَها) العامة : على كسر العين وتخفيف التاء ، وهو مضارع «وعى» منصوب عطفا على «لنجعلها».

وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون (١) عنه وقنبل ، قال القرطبي (٢) : وحميد والأعرج بإسكانها تشبيها له ب «رحم ، وشهد» وإن لم يكن منه ، ولكن صار في اللفظ بمنزلة الفعل الحلقي العين.

قال ابن الخطيب (٣) : وروي عن ابن كثير إسكان العين ، جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة واحدة ، فحذف وأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من «فخذ وكبد وكتف» ، وإنما فعل ذلك ؛ لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل ، فأشبه ما هو من نفس الكلمة ، وصار كقول من قال : وهو وهي ، ومثل ذلك (وَيَتَّقْهِ) [النور : ٥٢] في قراءة من سكّن القاف.

وروي عن حمزة : إخفاء (٤) الكسرة.

وروي عن عاصم وحمزة (٥) : بتشديد «الياء».

وهو غلط عليهما ، وإنما سمعهما الراوي يثبتان حركة الياء ، فظنّها شدة.

وقيل : أجريا الوصل مجرى الوقف فضعّف الحرف ، وهذا لا ينبغي أن يلتفت إليه.

وروي عن حمزة أيضا ، وموسى (٦) بن عبد الله العبسي : (وَتَعِيَها) بسكون «الياء».

وفيها وجهان : الاستئناف ، والعطف على المنصوب ، وإنما سكنا «الياء» استثقالا للحركة على حرف العلة ، كقراءة : (تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة : ٨٩].

فصل في «وعى»

قال الزّجّاج : يقال : وعيت كذا ، أي : حفظته في نفسي ، أعيه وعيا ووعيت العلم ، ووعيت ما قلته كله بمعنى ، وأوعيت المتاع في الوعاء.

قال الزجاج : يقال لكل ما حفظته في غير نفسك : أوعيته ـ بالألف ـ ولما حفظته في نفسك : وعيته ، بغير ألف.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٣٧ ، والدر المصون ٦ / ٨٣٦٣.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٧١.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٩٤.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٣٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٣.

(٥) ينظر السابق.

(٦) ينظر السابق.

٣٢٢

قال ابن الخطيب (١) : واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قوم من الغرق في السّفينة ، وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم ، ونفاذ مشيئته ، ونهاية حكمته ، ورحمته ، وشدة قهره.

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عند نزول هذه الآية : «سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ» ، قال علي رضي الله عنه : «فما نسيت شيئا بعد ذلك» (٢).

فإن قيل : لم قال : (أُذُنٌ واعِيَةٌ) على التوحيد والتنكير؟.

فالجواب : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، والدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعيت وعقلت عن الله ، فهي السّواد الأعظم عند الله ، وأن سواها لا يلتفت إليهم ، وإن امتلأ العالم منهم.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧].

قال قتادة : الأذن الواعية أذن عقلت عن الله تعالى ، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عزوجل (٣).

قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ).

لما حكى هذه القصص الثلاثة ونبّه بها على ثبوت القدرة والحكمة للصانع ، فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة ، ويثبت القدرة إمكان وقوع الحشر ، ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة ، فذكر أولا مقدماتها ، فقال : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ).

قوله : «واحدة» تأكيد ، و «نفخة» مصدر قام مقام الفاعل.

وقال ابن عطية : «لما نعت صحّ رفعه» انتهى.

ولو لم ينعت لصحّ رفعه ؛ لأنه مصدر مختص لدلالته على الوحدة ، والممنوع عند البصريين إنما هو إقامة المبهم ، نحو : «ضرب».

والعامة على الرفع فيهما.

وقرأ أبو السّمال : بنصبهما (٤) ، كأنه أقام الجارّ مقام الفاعل ، فترك المصدر على

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣ / ٩٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢١٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٧) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق شهر بن حوشب عن مكحول به.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢١٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٥٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٣١٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٣.

٣٢٣

أصله ، ولم يؤنث الفعل وهو : «نفخ» ؛ لأن التأنيث مجازي وحسّنه الفصل انتهى.

فصل في النفخة الأولى

قال ابن عباس : هي النفخة الأولى لقيام الساعة ، فلا يبقى أحد إلا مات (١).

قال ابن الخطيب (٢) : لأن عندها يحصل خراب العالم.

فإن قيل : لم قال بعد ذلك (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية؟.

قلت : جعل اليوم اسما للحين الواسع الذي تقع فيه النّفختان ، والصّعقة والنشور ، والوقوف ، والحساب ، فكذلك (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) كقوله : «جئته عام كذا» وإنّما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته.

وقيل : إنّ هذه النّفخة هي الأخيرة.

وقال : (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) ، أي : لا تثنّى.

قال الأخفش : ووقع الفعل على النّفخة ، إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع ، فقيل : نفخة.

قوله : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ) ، قرأ العامة : بتخفيف «الميم».

أي : وحملتها الريح ، أو الملائكة ، أو القدرة ، أي : رفعت من أماكنها ، «فدكّتا» أي: فتّتا وكسّرتا ، (دَكَّةً واحِدَةً) أي : الأرض والجبال ؛ لأن المراد الشيئان المتقدمان ، كقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩].

ولا يجوز في «دكّة» إلا النصب ؛ لارتفاع الضمير في «دكّتا» (٣).

وقال الفرّاء : لم يقل : «فدككن» ؛ لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة [والأرض كالجملة الواحدة] ومثله : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) [الأنبياء : ٣٠] ، ولم يقل: «كنّ».

وهذا الدّكّ ، كالزلزلة لقوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١].

وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنّها تحمل الأرض والجبال ، أو بملك من الملائكة ، أو بقدرة الله ، «فدكّتا» ، أي : جملة الأرض ، وجملة الجبال تضرب بعضها في بعض حتى تندق وتصير (كَثِيباً مَهِيلاً) [المزمل : ١٤] ، و (هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٦].

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٧١).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣ / ٩٥.

(٣) القرطبي ١٨ / ١٧٢.

٣٢٤

والدّكّ أبلغ من الدّق وقيل : «دكّتا» أي : بسطتا بسطة واحدة ، ومنه اندكّ سنام البعير ، إذا انفرش في ظهره.

وقرأ ابن عامر (١) في رواية ، والأعمش ، وابن أبي عبلة وابن مقسم : «وحمّلت» ـ بتشديد الميم ـ.

فجاز أن يكون التشديد للتكثير ، فلم يكسب الفعل مفعولا آخر.

وجاز أن يكون للتعدية فيكسبه مفعولا آخر ، فيحتمل أن يكون الثاني محذوفا ، والأول هو القائم مقام الفاعل تقديره : وحمّلت الأرض والجبال ريحا تفتتها ، لقوله : (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه : ١٠٥].

وقيل : التقدير : حملنا ملائكة ، ويحتمل أن يكون الأول هو المحذوف ، والثاني هو القائم مقام الفاعل.

قوله : «فيومئذ» منصوب ب «وقعت» ، و (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) لا بدّ فيه من تأويل ، وهو أن تكون «الواقعة» صارت علما بالغلبة على القيامة ، أو الواقعة العظيمة ، وإلّا فقام القائم لا يجوز ، إذ لا فائدة فيه ، وتقدم هذا في قوله : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ).

والتنوين في «يومئذ» للعوض من الجملة ، تقديره : يومئذ نفخ في الصّور.

فصل في معنى الآية

المعنى قامت القيامة الكبرى (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) أي : انصدعت وتفطرت.

وقيل : انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥] (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) ، أي : ضعيفة مسترخية ساقطة (الْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] بعد ما كانت محكمة.

يقال : وهي البناء يهي وهيا ، فهو واه إذا ضعف جدّا.

ويقال : كلام واه أي : ضعيف.

فقيل : إنّها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهي ، ويكون ذلك لنزول الملائكة.

وقيل : لهول يوم القيامة.

وقال ابن شجرة : «واهية» أي : متخرقة ، مأخوذ من قولهم : وهى السّقاء (٢) ، إذا انخرق.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣١٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٣.

(٢) في أ : الثياب.

٣٢٥

ومن أمثالهم : [الرجز]

٤٨٤٥ ـ خلّ سبيل من وهى سقاؤه

ومن هريق بالفلاة ماؤه (١)

أي : من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه.

(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها). لم يرد به ملكا واحدا ، بل المراد الجنس والجمع. (عَلى أَرْجائِها) «الأرجاء» في اللغة : النواحي والأقطار بلغة «هذيل» ، واحدها : «رجا» مقصور وتثنيته «رجوان» ، مثل «عصا ، وعصوان» ، قال الشاعر : [الوافر]

٤٨٤٦ ـ فلا يرمى بي الرّجوان أنّي

أقلّ القوم من يغني مكاني (٢)

وقال آخر : [الطويل]

٤٨٤٧ ـ كأن لم تري قبلي أسيرا مقيّدا

ولا رجلا يرمى به الرّجوان (٣)

و «رجاء» هذا يكتب بالألف عكس «رجا» ؛ لأنه من ذوات الواو ، ويقال : «رجا» ، ورجوان ، والجمع : «الأرجاء» ويقال ذلك لحرفي البئر وحرف القبر وما أشبهه.

فصل في تفسير الآية

قال ابن عباس : على أطرافها حين تنشق (٤).

قال الماورديّ : ولعله قول مجاهد وقتادة ، وحكاه الثعلبي عن الضحاك ، قال : على أطرافها مما لم تنشقّ منها (٥).

وقال سعيد بن جبير : المعنى والملك على حافات الدنيا (٦) ، أي : ينزلون إلى الأرض ، ويحرسون أطرافها.

وقال : إذا صارت السماء قطعا ، تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها.

فإن قيل : الملائكة يموتون في الصّعقة الأولى ، لقوله تعالى : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨] فكيف يقال : إنهم يقفون على أرجاء السماء؟.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٧٢ ، والبحر ٨ / ١٣٤ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٤ ، وروح المعاني ٢٩ / ٥٥.

(٢) نسب البيت إلى عبد الرحمن بن الحكم. ينظر أدب الكاتب ص ٢٥٧ ، والاقتضاب ص ٣٦٦ ، والمفصل لابن يعيش ١٤٧١٤ ، واللسان (رجا) والقرطبي ١٨ / ١٧٣ ، والبحر ٣١٤١٨ ، والدر ٦ / ٣٦٤.

(٣) ينظر اللسان (رجا) والبحر ٨ / ٣١٤ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٤.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٨) وعزاه إلى عبد بن حميد وعبد الرزاق.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٨) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢١٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٨) وعزاه إلى عبد بن حميد.

٣٢٦

فالجواب من وجهين (١) :

الأول : أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ، ثم يموتون.

والثاني : المراد الذين استثناهم في قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ).

فإن قيل : إنّ الناس إذا رأوا جهنّم هالتهم ، فندّوا كما تندّ الإبل ، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلّا رأوا ملائكة ، فيرجعون من حيث جاءوا.

وقيل : (عَلى أَرْجائِها) ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النّار من السّوق إليها ، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة ، وهذا كلّه راجع إلى قول ابن جبير ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥].

قوله : (عَلى أَرْجائِها) ، خبر المبتدأ ، والضمير للسماء ، وقيل : للأرض ، على ما تقدم.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما الفرق بين قوله : (وَالْمَلَكُ) وبين أن يقال : «والملائكة»؟

قلت : الملك أعمّ من الملائكة ، ألا ترى إلى قولك : «ما من ملك إلّا وهو ساجد» أعم من قولك : «ما من ملائكة» انتهى.

قال أبو حيّان (٢) : ولا يظهر أنّ الملك أعمّ من الملائكة ، لأن المفرد المحلّى بالألف واللام ، قصاراه أن يكون مرادا به الجمع المحلّى ، ولذلك صح الاستثناء منه ، فقصاراه أن يكون كالجمع المحلّى بهما ، وأما دعواه أنه أعم منه ، بقوله : «ألا ترى» إلى آخره ، فليس دليلا على دعواه ؛ لأن (مِنْ مَلَكٍ) نكرة مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها «من» المخلصة للاستغراق ، فشملت كل ملك فاندرج تحتها الجمع لوجود الفرد فيه ، فانتفى كل فرد فرد ، بخلاف «من ملائكة» ، فإن «من» دخلت على جمع منكّر ، فعمّ في كل جمع جمع من الملائكة ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كلّ فرد فرد من الملائكة ، لو قلت : «ما في الدار من رجال» جاز أن يكون فيها واحد ، لأن النفي إنما انسحب على جمع ، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفرد ، والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه «من» وإنّما جيء به مفردا ؛ لأنه أخفّ ، ولأن قوله : (عَلى أَرْجائِها) يدلّ على الجمع ؛ لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون (عَلى أَرْجائِها) في وقت واحد بل أوقات ، والمراد ـ والله أعلم ـ أن الملائكة على أرجائها إلّا أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات.

وقال شهاب الدين : إنّ الزمخشريّ منزعه في هذا ما تقدم عنه في أواخر سورة

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٩٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٢٣.

٣٢٧

«البقرة» عند قوله : (وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] فليرجع ثمّة.

وأما قول أبي حيان : «ما من رجال» أن النفي منسحب على رتب الجمع ، ففيه خلاف ، والتحقيق ما ذكره.

قوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ).

الضمير في «فوقهم» يجوز أن يعود على «الملائكة» بمعنى كما تقدم ، وأن يعود على الحاملين الثمانية.

وقيل : إنّ حملة العرش فوق الملائكة الذين في السماء على أرجائها.

وقيل : يعود على جميع العالم ، أي : أن الملائكة تحمل عرش الله فوق العالم كلّه.

فصل في هؤلاء الثمانية

قال ابن عباس : ثمانية صنوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله (١).

وقال ابن زيد : هم ثمانية أملاك (٢).

وعن الحسن : الله أعلم كم هم ثمانية ، أم ثمانية آلاف ، أو ثمانية صفوف (٣). وعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنّ حملة العرش اليوم أربعة أوعال ، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين ، فكانو ثمانية» خرّجه الماورديّ مرفوعا عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤). ورواه العباس بن عبد المطّلب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هم ثمانية أملاك على صورة الأوعال ، لكلّ ملك منهم أربعة أوجه: وجه رجل ، ووجه أسد ، ووجه ثور ، ووجه نسر ، وكلّ وجه منها يسأل الله الرّزق لذلك الجنس»(٥).

فإن قيل : إذا لم يكن فيهم صورة وعل ، فكيف سمّوا أو عالا؟.

فالجواب : أنّ وجه الثّور إذا كانت له قرون الوعل أشبه الوعل.

وفي الخبر : «أنّ فوق السّماء السّابعة ثمانية أوعال بين أظلافهنّ وركبهنّ مثل ما بين

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢١٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٢٦) عن ابن زيد.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٧٣) عن الحسن.

(٤) تقدم تخريجه.

(٥) أخرجه أبو يعلى (١٢ / ٧٤) رقم (٦٧١٢) والحاكم (٢ / ٥٠٠). وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٨) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وعثمان بن سعيد الدارمي في الردّ على الجهمية وابن المنذر وابن خزيمة وابن مردويه والخطيب في «تالي التلخيص» عن العباس بن عبد المطلب.

٣٢٨

سماء إلى سماء ، وفوق ظهورهنّ العرش» (١). ذكره القشيريّ ، وخرّجه الترمذيّ من حديث العباس بن عبد المطلب.

وفي حديث مرفوع : «أنّ حملة العرش ثمانية أملاك ؛ على صور الأوعال ، ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما للطّائر المسرع».

وروي أنّ أرجلهنّ في السّماء (٢) السّابعة (٣).

فصل في إضافة العرش إلى الله

إضافة العرش إلى الله ـ تعالى ـ كإضافة البيت إليه ، وليس البيت للسكن ، فكذلك العرش ، ومعنى «فوقهم» أي : فوق رءوسهم.

قال ابن الخطيب (٤) : قالت المشبّهة : لو لم يكن الله في العرش لكان حمل العرش عبثا لا فائدة فيه ، لا سيما قد أكّد ذلك بقوله : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) ، والعرش إنّما يكون لو كان الإله حاضرا في العرش.

وأجاب : بأنه لا يمكن أن يكون المراد أنّ الله ـ تعالى ـ جالس في العرش ؛ لأن كل من كان حاملا للعرش ؛ كان حاملا لكل ما كان في العرش فلو كان الإله على العرش لزم أن يكون الملائكة حاملين لله تعالى ، وذلك محال ؛ لأنه يقتضي احتياج الله إليهم ، وأن يكونوا أعظم قدرا من الله ، وكل ذلك كفر ، فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل ، فنقول : السبب في هذا الكلام هو أنه ـ تعالى ـ خاطبهم بما يتعارفونه ، فخلق لنفسه بيتا يزورونه ليس أنه يسكنه ـ تعالى الله عن ذلك ـ وجعل في ركن البيت حجرا ، هو يمينه في الأرض إذ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم ، وجعل على العباد حفظة لا لأن النسيان يجوز عليه سبحانه ، وكذلك أنّ الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس على سريره ، ووقفت الأعوان حوله ، فسمى الله يوم القيامة عرشا ، وحفّت به الملائكة لا لأنه يقعد عليه ، أو يحتاج إليه ، بل كما قلنا في البيت والطّواف.

قوله : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) هو جواب «إذا» من قوله : (فَإِذا نُفِخَ). قاله أبو حيّان (٥).

وفيه نظر ، بل جوابها ما تقدم من قوله : (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) و (تُعْرَضُونَ) على هذا مستأنفة.

قوله : (لا تَخْفى).

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢٧٢٤) والترمذي (٢ / ٣٣٢) وابن خزيمة في «التوحيد» (ص ٦٨) وابن ماجه (١٩٣) وابن أبي عاصم في «السنة» (١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤) من حديث العباس بن عبد المطلب.

(٢) في أ : الأرض.

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٩٦.

(٥) البحر المحيط ٨ / ٣٢٤.

٣٢٩

قرأ الأخوان (١) : بالياء من تحت ؛ لأن التأنيث مجازي ، كقوله : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [هود : ٦٧].

واختاره أبو عبيد ؛ لأنه قد حال بين الفعل والاسم المؤنث الجار والمجرور.

والأخوان : على أصلهما في إمالة الألف.

وقرأ الباقون : (لا تَخْفى) بالتاء من فوق للتأنيث اللفظي والفتح وهو الأصل ، واختاره أبو حاتم.

فصل في العرض على الله

قال القرطبيّ (٢) : هذا هو العرض على الله ، ودليله : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) [الكهف : ٤٨] وليس ذلك عرضا ليعلم ما لم يكن عالما ، بل ذلك العرض عبارة عن المحاسبة والمساءلة وتقدير الأعمال عليهم للمجازاة.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعرض النّاس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ، ومعاذير وأما الثّالثة فعند ذلك تطير الصّحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» (٣).

وقوله : (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ). قال ابن شجرة : أي : هو عالم بكل شيء من أعمالكم ، ف «خافية» على هذا بمعنى «خفيّة» كانوا يخفونها من أعمالهم ، ونظيره قوله تعالى: (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [غافر : ١٦].

قال ابن الخطيب (٤) : فيكون الغرض المبالغة في التهديد ، يعني : «تعرضون على من لا يخفى عليه شيء».

وقيل : لا يخفى عليه إنسان لا يحاسب.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٤٨ ، والحجة ٦ / ١٣٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٨٦ ، وحجة القراءات ٧١٨.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٧٤.

(٣) أخرجه أحمد (٤ / ٤١٤) وابن ماجه (٢ / ١٤٣٠) من طريق الحسن عن أبي موسى.

قال البوصيري في «الزوائد» (٣ / ١٣٥) : هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع الحسن لم يسمع من أبي موسى قاله علي بن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة.

ورواه أبو بكر ين أبي شيبة في «مسنده» بإسناده ومتنه.

وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي (٢٤٢٥) من طريق الحسن عنه.

وقال الترمذي : ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن علي الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال : ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي موسى.

ولتفصيل سماع الحسن من أبي هريرة وأبي موسى ينظر «جامع التحصيل» (ص ١٦٢ ـ ١٦٤) للحافظ العلائي.

(٤) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٩٧.

٣٣٠

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : لا يخفى المؤمن من الكافر ، ولا البرّ من الفاجر.

وقيل : لا يستر منكم عورة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «يحشر النّاس حفاة عراة».

قوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) ، وهذا دليل على النجاة.

قال ابن عباس : أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب ، وله شعاع كشعاع الشمس ، قيل له : فأين أبو بكر ، فقال : هيهات ، زفّته الملائكة إلى الجنّة (١).

قال القرطبي (٢) : وقد ذكرناه مرفوعا من حديث زيد بن ثابت بلفظه ، ومعناه في كتاب «التذكرة».

قوله : «هاؤم» ، أي : خذوا (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) يقول ذلك ثقة بالإسلام وسرورا بنجاته ؛ لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرح.

قال الشاعر : [الوافر]

٤٨٤٨ ـ إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين (٣)

وقال : [الطويل]

٤٨٤٩ ـ أبيني أفي يمنى يديك جعلتني

فأفرح أم صيّدتني بشمالك (٤)

وقال ابن زيد : معنى : «هاؤم» : تعالوا (٥) ، فتتعدى ب «إلى».

وقال مقاتل : «هلمّ (٦).

وقيل : خذوا ، ومنه الحديث في الربا : «إلا هاء وهاء» ، أي : يقول كل واحد لصاحبه: خذ ، وهذا هو المشهور.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٧٤) عن ابن عباس موقوفا وقد ورد هذا مرفوعا من حديث زيد ابن ثابت أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١١ / ٢٠٢) من طريق عمر بن إبراهيم ثنا مرحوم بن أرطبان ثنا عاصم الأحول عن زيد بن ثابت به.

وذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» (١ / ٣٢٠) وتبعه السيوطي في «اللآلىء المصنوعة» (١ / ١٥٦) وابن عراق في «تنزيه الشريعة» (١ / ٣٤٦).

وقال ابن عراق : وفيه عمر بن إبراهيم بن خالد الكردي وهو المتهم به.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٧٤.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٧٨.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٧٤.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٢٧) وذكره القرطبي (١٨ / ١٧٥).

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٧٥).

٣٣١

وقيل : هي كلمة وضعت لإجابة الدّاعي عند الفرح ، والنّشاط.

وفي الحديث : أنّه ناداه أعرابيّ بصوت عال ، فأجابه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هاؤم» يطول صوته.

وقيل : معناها «اقصدوا».

وزعم هؤلاء أنها مركبة من هاء التنبيه ، وأموا ، من الأم ، وهو القصد ، فصيره التخفيف والاستعمال إلى «هاؤم».

وقيل : «الميم» ضمير جماعة الذكور.

وزعم القتيبي : أنّ «الهمزة» بدل من «الكاف».

فإن عنى أنها تحلّ محلّها فصحيح ، وإن عنى البدل الصناعي فليس بصحيح.

فقوله : «هاؤم» يطلب مفعولا يتعدى إليه بنفسه إن كان بمعنى : «خذ» أو «اقصد إليّ» إن كان بمعنى : «تعالوا» ، و «اقرأوا» يطلبه أيضا ، فقد تنازعا في : «كتابيه» وأعمل الثاني للحذف من الأول.

وقد تقدم تحقيق هذا في سورة «الكهف».

وفيها لغات : وذلك أنها تكون فعلا صريحا ، وتكون اسم فعل ، ومعناها في الحالين : «خذ» فإن كانت اسم فعل ، وهي المذكورة في الآية الكريمة ، ففيها لغتان : المدّ والقصر تقول : «ها درهما يا زيد ، وهاء درهما» ، ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث ، ويتصل بهما كاف الخطاب ، اتصالها باسم الإشارة ، فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها وهي ضميره ، نحو : «هاك ، هاك ، هاءك» إلى آخره.

وتخلف كاف الخطاب همزة «هاء» مصرفة تصرف كاف الخطاب ، فتقول : «هاء يا زيد ، هاء يا هند ، هاؤما ، هاؤم ، هاؤن» وهي لغة القرآن.

وإذا كانت فعلا صريحا ؛ لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها كان فيها ثلاثة لغات :

إحداها : أن يكون مثل «عاطى يعاطي» ، فيقال : «هاء يا زيد ، هائي يا هند ، هائيا يا زيدان أو يا هندات ، هاءوا يا زيدون ، هائين يا هندات».

الثانية : أن تكون مثل : «هب» فيقال : «هأ ، هىء ، هاءا ، هئوا ، هئن» ، مثل : «هب ، هبي ، هبا ، هبوا ، هبن».

الثالثة : أن تكون مثل : «خف» أمرا من الخوف ، فيقال : «هأ ، هائي ، هاءا ، هاءوا ، هأن» ، مثل : «خف ، خافي ، خافا ، خافوا ، خفن».

قوله : «كتابيه». منصوب ب «هاؤم» عند الكوفيين ، وعند البصريين ب «اقرأوا» ؛ لأنه أقرب العاملين ، والأصل «كتابي» فأدخل «الهاء» لتبين فتحة «الياء» و «الهاء» في «كتابيه»

٣٣٢

و «حسابيه» و «سلطانيه» و «ماليه» ، للسكت ، وكان حقّها أن تحذف وصلا وتثبت وقفا ، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف ، أو وصل بنية الوقف في «كتابيه» و «حسابيه» اتفاقا ، فأثبت «الهاء».

وكذلك في «ماليه» و «سلطانيه» و (ما هِيَهْ) [القارعة : ١٠] في القارعة ، عند القرّاء كلهم إلا حمزة ، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاث وصلا ، وأثبتها وقفا ؛ لأنها في الوقف يحتاج إليها ؛ لتحصين حركة الموقوف عليه ، وفي الوصل يستغنى عنها.

فإن قيل : فلم لم يفعل ذلك في «كتابيه» و «حسابيه»؟.

فالجواب : أنه جمع بين اللغتين ، هذا في القراءات السبع (١).

وقرأ ابن محيصن (٢) : بحذفها في الكلم كلّها وصلا ووقفا إلا في «القارعة» ، فإنه لم يتحقق عنه فيها نقل.

وقرأ الأعمش ، وابن أبي إسحاق (٣) : بحذفها فيهن وصلا ، وإثباتها وقفا.

وابن محيصن : يسكن الهاء في الكلم المذكورة بغيرها.

والحق أنها قراءة صحيحة ، أعني ثبوت هاء السكت وصلا ؛ لثبوتها في خط المصحف الكريم ، ولا يلتفت إلى قول الزهراوي أن إثباتها في الوصل لحن لا أعلم أحدا يجيزه. وقد تقدم الكلام على هاء السكت في البقرة والأنعام.

قوله : (إِنِّي ظَنَنْتُ).

قال ابن عباس : أي : أيقنت وعلمت (٤).

وقيل : ظننت أن يؤاخذني الله بسيئاتي إن عذبني فقد تفضّل علي بعفوه ، ولم يؤاخذني بها.

قال الضحاك : كل ظن من المؤمن في القرآن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك.

وقال مجاهد : ظنّ الآخرة يقين وظنّ الدنيا شكّ (٥).

وقال الحسن في هذه الآية : إنّ المؤمن من أحسن الظّن بربّه فأحسن العمل ، وإن المنافق أساء الظن بربه ، فأساء العمل (٦).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٦٦.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٠٣ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٦٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٣١٩.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٦٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٣١٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٦.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٢٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١٦ / ١٤٠).

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ١٢٧) عن قتادة بمعناه وذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٨٣) والقرطبي (١٨ / ١٧٥) عن مجاهد.

(٦) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٨٣) والقرطبي (١٨ / ١٧٥).

٣٣٣

وقوله : (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) ، أي : في الآخرة ، ولم أنكر البعث ، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب ؛ لأنه تيقّن أن الله يحاسبه ، فعمل للآخرة.

قوله : (راضِيَةٍ) ، فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه على المجاز جعلت العيشة راضية ؛ لمحلها في مستحقيها ، وأنها لا حال أكمل من حالها ، والمعنى في عيش يرضاه لا مكروه فيه.

الثاني : أنه على النّسب ، أي : ذات رضا ، نحو : «لابن وتامر» لصاحب اللّبن والتّمر والمعنى : ذات رضا يرضى بها صاحبها.

الثالث : قال أبو عبيدة والفراء : إنه مما جاء فيه «فاعل» بمعنى مفعول نحو : (ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] ، أي : مدفوق ، كما جاء مفعول بمعنى فاعل ، كقوله : (حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء : ٤٥] ، أي : ساترا.

فصل في تنعم أهل الجنة

قال عليه الصلاة والسلام : «إنّهم يعيشون فلا يموتون أبدا ، ويصحّون فلا يمرضون أبدا ، وينعمون فلا يرون بأسا أبدا ويشبّون فلا يهرمون أبدا» (١).

قوله : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) ، أي : عظيمة في النفوس ، (قُطُوفُها دانِيَةٌ) ، القطوف جمع : قطف ، وهو فعل بمعنى مفعول ، ك «الدّعي» و «الذّبح» ، وهو ما يجتنيه الجاني من الثّمار ، و «دانية» ، أي : قريبة التناول يتناولها القائم ، والقاعد ، والمضطجع.

والقطف ـ بكسر القاف ـ وهو ما يقطف من الثّمار ، والقطف ـ بالفتح ـ المصدر ، والقطاف ـ بالفتح ـ والكسر ـ وقت القطف.

(كُلُوا) ، أي : يقال لهم : كلوا واشربوا ، وهذا أمر امتنان ، لا أمر تكليف.

وقوله : «هنيئا» قد تقدم في أول النساء وجوّز الزمخشريّ فيه هنا أن ينتصب نعتا لمصدر محذوف ، أي : «أكلا هنيئا وشربا هنيئا» ، وأن ينتصب على المصدر بعامل من لفظه مقدر ، أي : «هنئتم بذلك هنيئا». و «الباء» في (بِما أَسْلَفْتُمْ) سببية ، و «ما» مصدرية أو اسمية ، ومعنى «هنيئا» ، لا تكدير فيه ولا تنغيص ، (بِما أَسْلَفْتُمْ) قدمتم من الأعمال «في الأيام الخالية» ، أي : في الدنيا.

قالت المعتزلة : وهذا يدل على أنّ العمل يوجب الثواب ، وأن الفعل للعبد ، وقال : «كلوا» بعد قوله : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) لقوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) ، و «من» تتضمن معنى الجمع.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢٧٣٧) والترمذي (٣٢٤١).

٣٣٤

فصل فيمن نزلت فيه الآية

ذكر الضحاك : أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي (١).

وقال مقاتل : والآية التي قبلها في أخيه الأسود بن عبد الأسد في قول ابن عبّاس والضحاك(٢).

قال الثعلبي : ويكون هذا الرجل ، وأخوه سبب نزول هذه الآيات ، ويعم المعنى جميع أهل الشقاوة ، والسعادة ، بدليل قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا).

وقيل : إنّ المراد بذلك كل من كان متبوعا في الخير والشر يدعو إليه ، ويأمر به.

قوله : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله يخجل منها ويقول : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) ثم يتمنّى الموت ، ويقول : (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ).

فالضّمير في «ليتها» قيل : يعود إلى الموتة الأولى ، وإن لم تكن مذكورة ، إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة.

و «القاضية» : القاطعة من الحياة ، قال تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) [الجمعة : ١٠] ، ويقال : قضي على فلان ، إذا مات ، والمعنى : يا ليتها الموتة التي كانت القاطعة لأمري ، ولم أبعث بعدها ، ولم ألق ما وصلت إليه.

قال قتادة : يتمنى الموت ، ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت ، وشرّ من الموت ما يطلب منه الموت ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٤٨٥٠ ـ وشرّ من الموت الذي إن لقيته

تمنّيت منه الموت ، والموت أعظم (٣)

وقيل : يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب ، والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليّ.

قوله : (ما أَغْنى عَنِّي) ، يجوز أن يكون نفيا ، وأن يكون استفهام توبيخ لنفسه ، أي : أيّ شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار.

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) قال ابن عباس : هلكت عنّي حجّتي (٤) ، والسلطان : الحجة التي كنت أحتجّ بها ، وهو قول مجاهد وعكرمة والسّدي والضّحاك.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٧٥).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر الرازي ٣٠ / ١٠٠.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢١٩ ـ ٢٢٠) عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤١١) عن مجاهد وعكرمة وعزاه إلى عبد بن حميد.

٣٣٥

وقال مقاتل : ضلت عني حجّتي حين شهدت عليه الجوارح (١).

وقال ابن زيد : يعنى ملكي وتسلّطي على الناس ، وبقيت ذليلا فقيرا (٢) ، وكان مطاعا في أصحابه.

قوله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ)(٣٧)

قوله : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) ، كقوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) في إضمار القول ، يقال ذلك لخزنة جهنّم ، والغلّ : جمع اليدين إلى العنق ، أي : شدوه بالأغلال.

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ، أي : اجعلوه يصلى الجحيم ، وهي النار العظمى ؛ لأنه كان يتعاظم في الدنيا.

وتقديم المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم.

ولذلك قال الزمخشريّ : «ثمّ لا تصلوه إلّا الجحيم» قال أبو حيان (٣) : «وليس ما قاله مذهبا لسيبويه (٤) ولا لحذاق النّحاة» ، وقد تقدمت هذه المسألة متقنة ، وأنّ كلام النحاة لا يأبى ما قاله.

قوله : (ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) ، في محل جر صفة ل «سلسلة» و (فِي سِلْسِلَةٍ) متعلق ب «اسلكوه» ، و «الفاء» لا تمنع من ذلك.

و «الذّراع» مؤنث ، ولذلك يجمع على «أفعل» وسقطت «التاء» من عدده.

قال الشاعر : [الرجز]

٤٨٥١ ـ أرمي عليها وهي فرع أجمع

وهي ثلاث أذرع وإصبع (٥)

وذكر السبعين دون غيرها من العدد ، قيل : المراد به التكثير ، كقوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) [التوبة : ١٠].

وقيل : المراد حقيقة العدد.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٨٨) عن مقاتل.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٧٦).

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٢٥.

(٤) ينظر : الكتاب ١ / ٤١.

(٥) البيت من شواهد سيبويه ٢ / ٣٠٨ ، والتصريح ٢ / ٢٨١ ، والخصائص ٢ / ٣٠٧ ، والمخصص ٦ / ٣٨ ، ١٤ / ٦٥ ، ١٦ / ٨٠ ، وشرح الجواليقي لأدب الكاتب (٣٥٣) ، والعيني ٤ / ٥٠٤ ، والبحر المحيط ٨ / ١٣٤ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٧.

٣٣٦

قال ابن عباس : سبعون ذراعا بذراع الملك (١).

وقال نوف البكالي : سبعون ذراعا ، كل ذراع سبعون باعا ، كل باع كما بينك وبين «مكّة» وكان في رحبة «الكوفة» (٢).

وقال الحسن : الله أعلم أي ذراع (٣).

وزعم بعضهم أنّ في قوله : (فِي سِلْسِلَةٍ) «فاسلكوه» قلبا ، قال : لأنه نقل في التفسير أنّ السلسلة تدخل من فيه ، وتخرج من دبره ، فهي المسلوك فيه لا هو المسلوك فيها ، والظاهر أنّه لا يحتاج إلى ذلك ؛ لأنه روي أنها لطولها ، تجعل في عنقه ، وتلتوي عليه ، حتى تحيط به من جميع جهاته ، فهو المسلوك فيها لإحاطتها به.

وقال الزمخشريّ : والمعنى في تقديم السّلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التّصلية ، أي : لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة ، وثم للدلالة على التفاوت لما بين الغلّ والتصلية بالجحيم وما بينها ، وبين السلك في السلسلة ، لا على تراخي المدة.

ونازعه أبو حيان في إفادة تقديم الاختصاص كعادته ، وجوابه ما تقدم (٤).

ونازعه أيضا في أن «ثمّ» للدلالة على تراخي الرّتبة.

وقال مكيّ : التراخي الزماني بأن يصلى بعد أن يسلك ، ويسلك بعد أن يؤخذ ويغلي بمهله بين هذه الأشياء. انتهى.

وفيه نظر من حيث إن التوعد بتوالي العذاب آكد ، وأقطع من التوعد بتغريقه.

قوله : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ).

«الحضّ» : الحثّ على الفعل والحرص على وقوعه ، ومنه حروف التحضيض المبوب لها

في النحو ؛ لأنّه يطلب بها وقوع الفعل وإيجاده ، فبيّن تعالى أنه عذّب على ترك الإطعام ، وعلى الأمر بالبخل كما عذّب بسبب الكفر.

قال ابن الخطيب (٥) : وفي الآية دليل على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع.

كان أبو الدرداء يحض امرأته على الإطعام ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الثاني بالإطعام.

وقيل : المراد قول الكفار : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : ٤٧].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢٠٠١٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢٢٠١٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٢) وعزاه إلى ابن المبارك وهناد في «الزهد» وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٨٩).

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٦٧.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٠٢.

٣٣٧

وأصل «طعام» أن يكون منصوبا بالمصدر المقدر ، والطعام عبارة عن العين ، وأضيف للمسكين للملابسة التي بينهما ، ومن أعمل الطعام كما يعمل الإطعام ، فموضع «المسكين» نصب ، والتقدير : على إطعام المطعم المسكين ، فحذف الفاعل ، وأضيف المصدر إلى المفعول.

قوله : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) في خبر «ليس» وجهان :

أحدهما : «له».

والثاني : هاهنا ، وأيهما كان خبرا تعلق به الآخر ، أو كان حالا من «حميم» ، ولا يجوز أن يكون «اليوم» خبرا ألبتة ؛ لأنه زمان والمخبر عنه جثة.

ومنع المهدوي أن يكون «هاهنا» خبرا ، ولم يذكر المانع.

وقد ذكره القرطبي (١) فقال : «لأنه يصير المعنى : ليس هاهنا طعام إلا من غسلين ، ولا يصح ذلك ؛ لأن ثمّ طعاما غيره». انتهى وفي هذا نظر ؛ لأنا لا نسلم أولا أن ثمّ طعاما غيره ، فإن أورد قوله : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [الغاشية : ٦] فهذا طعام آخر غير الغسلين.

فالجواب : أن بعضهم ذهب إلى أن الغسلين هو الضريع بعينه ، فسمّاه في آية «غسلينا» وفي أخرى «ضريعا».

ولئن سلمنا أنهما طعامان ، فالحصر باعتبار الآكلين ، يعني : أنّ هذا الآكل انحصر طعامه في الغسلين ، فلا ينافي أن يكون في النار طعام آخر.

وإذا قلنا : إن «له» الخبر ، وأن «اليوم» ، و «هاهنا» متعلقان بما تعلق هو به ، فلا إشكال ، وكذلك إذا جعلنا «هاهنا» هو الخبر ، وعلقنا به الجار والظرف ، ولا يضرّ كون العامل معنويا للاتساع في الظروف وحروف الجر.

وقوله : (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) ، صفة ل «طعام» ، دخل الحصر على الصفة ، كقولك : «ليس عندي إلا رجل من بني تميم».

والمراد ب «الحميم» : الصديق ، فعلى هذا الصفة مختصة بالطّعام ، أي : ليس له صديق ينفعه ، ولا طعام إلا من كذا.

وقيل : التقدير : ليس له حميم إلّا من غسلين ولا طعام. قاله أبو البقاء.

فجعل (مِنْ غِسْلِينٍ) صفة ل «الحميم» ، كأنه أراد الشّيء الذي يحم به البدن من صديد النّار.

__________________

(١) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٧٧.

٣٣٨

وقيل : من الطعام والشّراب ؛ لأن الجميع يطعم ، بدليل قوله : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة : ٢٤٩].

فعلى هذا يكون (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) صفة ل «حميم» ول «طعام» ، والمراد بالحميم : ما يشرب ، أي : ليس له طعام ، ولا شراب إلا غسلينا.

أما إذا أريد بالحميم : الصديد فلا يتأتّى ذلك.

وعلى هذا الذي ذكرنا ، فيه سؤال ، وهو أن يقال : بأي شيء تعلّق الجارّ والظرفان؟ والجواب : إنّها تتعلق بما تعلق به الخبر ، أو يجعل «له» أو «هاهنا» حالا من «حميم» ويتعلق «اليوم» بما تعلق به الحال ، ولا يجوز أن يكون «اليوم» حالا من «حميم» ، و «له» و «هاهنا» متعلقان بما تعلق به الحال ؛ لأنه ظرف زمان ، وصاحب الحال جثة ، وهذا موضع حسن مفيد.

و «الغسلين» : «فعلين» من الغسالة ، فنونه وياؤه زائدتان.

قال أهل اللغة : هو ما يجري من الجراح إذا غسلت.

قال المفسرون : هو صديد أهل النّار.

وقيل : شجر يأكلونه.

وعن ابن عباس : لا أدري ما الغسلين (١).

وسمي طعاما ؛ لقيامه مقامه فسمي طعاما ؛ كقوله : [الوافر]

٤٨٥٢ ـ ............

تحيّة بينهم ضرب وجيع (٢)

قوله : (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ). صفه ل «غسلين».

والعامة : يهمزون «الخاطئون» ، وهم اسم فاعل من «خطأ يخطأ» إذا فعل غير الصواب متعمدا ، والمخطىء من يفعله غير متعمد.

وقرأ الحسن (٣) والزهريّ والعتكي وطلحة : «الخاطيون» بياء مضمومة بدل الهمزة.

وقرأ نافع (٤) في رواية وشيبة : بطاء مضمومة دون همزة.

وفيها وجهان :

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤٢٦) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي القاسم الزجاجي النحوي في «أماليه».

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٦٢ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٢١ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٨.

(٤) ينظر السابق.

٣٣٩

أحدهما : أنه كقراءة الجماعة إلا أنه خفف بالحذف.

والثاني : أنه اسم فاعل من «خطا يخطو» إذا اتبع خطوات غيره ، فيكون من قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) [البقرة : ١٦٨] ، قاله الزمخشريّ.

وقد تقدم أول الكتاب أن نافعا يقرأ : «الصّابيون» بدون همز ، وكلام الناس فيها.

وعن ابن عباس : ما الخاطون ، كلنا نخطو.

وروى عنه أبو الأسود الدؤليّ : ما الخاطون إنما هو الخاطئون ، وما الصّابون إنما هو الصّابئون (١) ، ويجوز أن يراد الذين يتخطون الحقّ إلى الباطل ويتحدون حدود الله.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٤٣)

قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ).

قد تقدم مثله في آخر الواقعة ، إلا أنه قيل هاهنا : إن «لا» نافية لفعل القسم ، وكأنه قيل : لا احتياج أن أقسم على هذا ؛ لأنه حقّ ظاهر مستغن عن القسم ، ولو قيل به في الواقعة لكان حسنا.

واعلم أنه ـ تعالى ـ لما أقام الدلالة على إمكان القيامة ، ثم على وقوعها ، ثم ذكر أحوال السّعداء ، وأحوال الأشقياء ، ختم الكلام بتعظيم القرآن ، فقال : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ).

وقيل : المراد : أقسم ، و «لا» صلة ، والمعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون ، فعمّ جميع الأشياء على الشمول ؛ لأنها لا تخرج عن قسمين : مبصر وغير مبصر ، فقيل : الخالق والخلق ، والدنيا والآخرة ، والأجسام والأرواح ، والإنس والجنّ ، والنعم الظاهرة ، والباطنة.

وإن لم تكن «لا» زائدة ، فالتقدير : لا أقسم على أنّ هذا القرآن قول رسول كريم ـ يعني «جبريل» ، قاله الحسن والكلبي ومقاتل ـ لأنه يستغنى عن القسم لوضوحه.

وقال مقاتل : سبب نزول هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إنّ محمدا ساحر.

وقال أبو جهل : شاعر وليس القرآن من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال عقبة : كاهن ، فقال الله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ) أي : أقسم (٢).

__________________

(١) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٢ / ٥٠١) من طريق أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٧٧ ـ ١٧٨).

٣٤٠