اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وروى أبو بردة عن أبي موسى قال : حدثني أبي قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا كان يوم القيامة مثّل لكلّ قوم ما كانوا يعبدون في الدّنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التّوحيد ، فيقال لهم : ما تنتظرون ، وقد ذهب النّاس ، فيقولون : لنا ربّ كنّا نعبده في الدّنيا ، ولم نره ، قال : وتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون : نعم ، فيقال لهم : فكيف تعرفونه ، ولم تروه؟ قالوا : إنه لا شبيه له ، فيكشف لهم الحجاب ، فينظرون إلى الله تعالى ، فيخرّون له سجّدا ، ويبقى أقوام ظهورهم كصياصي البقر ، فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السّجود ، فلا يستطيعون ، فذلك قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) فيقول الله تعالى : عبادي ارفعوا رءوسكم ، فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلا من اليهود والنصارى في النار» (١) ، قال أبو بردة : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال : الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث؟ فحلف له ثلاثة أيمان ، فقال عمر : ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إليّ من هذا.

قوله (خاشِعَةً). حال من مرفوع «يدعون» و «أبصارهم» فاعل به ، ونسب الخشوع للأبصار وإن كانت الأعضاء كلها كذلك لظهور أثره فيها.

وقوله : (وَهُمْ سالِمُونَ). حال من مرفوع «يدعون» الثانية.

ومعنى (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) ، أي : متواضعة (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم ، ووجوههم أشد بياضا من الثلج ، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين حتى ترجع أشد سوادا من القار.

فصل في تقرير كلام أهل اللغة في الساق

قال ابن الخطيب (٢) بعد أن حكى أقوال أهل اللغة في الكشف عن الساق : «واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعماله في الشدة مجاز ، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة ، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى يستحيل أن يكون جسما ، فيجب حينئذ صرف هذا اللفظ إلى المجاز. واعلم أن صاحب الكشّاف أورد هذا التأويل في معرض آخر ، فقال : الكشف عن السّاق مثل في شدّة الأمر ، فمعنى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) يوم يشتد ، ويتعاظم ، ولا كشف ثمّ ولا ساق ، كما تقول : الشحيح يده مغلولة ، ولا يد ثمّ ، ولا غل ، وإنما هو مثل في البخل ، ثم أخذ يعظم علم البيان ويقول : لولاه ما وقفنا على هذه الأسرار ، وأقول : إما أن يدعي أنه يجوز صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل ، أو تقول : لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة ، والأول باطل بالإجماع ، ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٨٣.

٣٠١

أبواب تأويلات الفلاسفة في أمر المعاد ، فإنهم يقولون في قوله : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الحج : ٢٣] ليس هناك أنهار ولا أشجار ، وإنما هو مثل للّذة والسعادة ويقولون في قوله تعالى : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) [الحج : ٧٧] وليس هناك ركوع ولا سجود وإنما هو مثل للتعظيم ، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع ، وفساد الدين ، وأما من قال : إنه لا يصار إلى التأويل ، إلا عند قيام الدليل على أنه لا يجوز حمله على ظاهره ، فهذا قول كلّ أحد من المتكلمين ، فأين الدقائق التي استند هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطة علم البيان ، ثم إن قال بعد أن حكى القول بأن المراد بالساق جهنم ، أو ساق العرش ، أو ساق ملك عظيم إن اللفظ لا يدل إلا على ساق ، وأما أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه ، ثم ذكر حديث ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه تعالى يتمثّل للخلق يوم القيامة حين يمرّ المسلمون فيقول : من تعبدون؟ فيقولون : نعبد الله فيشهدهم مرّتين ، أو ثلاثا ، ثمّ يقول : هل تعرفون ربّكم؟ فيقولون : لو عرّفنا نفسه عرفناه ، فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلّا خرّ لله ساجدا ، ويبقى المنافقون ظهورهم كالطّبق الواحد ، كأنّما فيها السّفافيد» (١).

قال : واعلم أن هذا القول باطل لوجوه :

أحدها : أن الدلائل دلت على أن كل جسم متناهي وكل متناه محدث ؛ وأنّ كلّ جسم ممكن وكل ممكن محدث.

وثانيها : أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف أنها ساق مخصوصة معهودة عنده ، وهي ساق الرحمن ، أما إذا أجملت ففائدة التنكير : الدلالة على التعظيم ، كأنه قال : يوم يكشف عن شدة ، وأي شدة لا يمكن وصفها.

وثالثها : أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق ، وإنما يحصل بكشف الوجه ، ثم حكى قول أبي مسلم : بأنه لا يمكن حمله على يوم القيامة ؛ لأنه تعالى قال في وصفه : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) ويوم القيامة ليس فيها تعبد ، ولا تكليف ، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) [الفرقان : ٢٢] ، وقوله : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) [الأنعام : ١٥٨] الآية لأنه الوقت الذي لا تنفع نفسا إيمانها ، وإما حال المرض والهرم والعجز ، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٤ / ٥٩٨ ـ ٦٠٠) والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٣٣١ ـ ٣٣٣ : من طريق أبي الزعراء عن ابن مسعود.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ورده الذهبي بقوله : قلت ما احتجّا بأبي الزعراء.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠١) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في «البعث والنشور».

٣٠٢

الصلاة إذا حضرت أوقاتها ، وهو لا يستطيع الصلاة (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) مما بهم الآن من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، أو من العجز والهرم، ونظير هذه الآية (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) [الواقعة : ٨٣]. ثم قال : واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قال أبو مسلم ، ثم قال : فأما قوله : «إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل في الدنيا والتكاليف زائلة يوم القيامة».

فجوابه : أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتخجيل فلم قلت: إن ذلك غير جائز.

قوله (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) في الدنيا (وَهُمْ سالِمُونَ) معافون أصحاء.

قال إبراهيم التيمي : أي : يدعون بالأذان ، والإقامة ، فيأبون.

وقال سعيد بن جبير : كانوا يسمعون حيّ على الفلاح ، فلا يجيبون ، وهم سالمون أصحاء(١).

وقال كعب الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات.

وقيل : أي : بالتكليف الموجه عليهم في الشرع.

قوله : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) ، أي : فدعني والمكذبين بالقرآن وخلّ بيني وبينهم.

وقال الزجاج : لا تشغل بالك به كله إليّ ، فإني أكفيك أمره.

و «من» منصوب إما نسقا على ضمير المتكلم ، أو مفعول معه ، وهو مرجوح ؛ لإمكان النسق من غير ضعف ، وتقدم إعراب ما بعده.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها

لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف مما عنده ، وفي قدرته من القهر ، يقال: ذرني وإياه أي كله إليّ ، فأنا أكفيكه.

قال السديّ : والمراد بالحديث القرآن (٢).

وقيل : يوم القيامة ، وهذا تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ، أي : سنأخذهم على غفلة ، وهم لا يعرفون ، فعذبوا يوم بدر.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٨٣) والقرطبي (١٨ / ١٦٣).

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٦٣).

٣٠٣

وقال سفيان الثوري : نسبغ عليهم النعم ، وننسيهم الشكر.

وقال الحسن : كم مستدرج بالإحسان إليه ، وكم مفتون بالثناء عليه ، وكم مغرور بالستر عليه (١).

وقال أبو روق : كلما أحدثوا الخطيئة جددنا لهم نعمة ، وأنسيناهم الاستغفار.

قال ابن عباس : سنمكر بهم (٢) ، وروي أن رجلا من بني إسرائيل قال : يا ربّ ، كم أعصيك وأنت لا تعاقبني ، فأوحى الله إلى نبي زمانهم أن قل له : كم من عقوبة لي عليك وأنت لا تشعر أنّ جمود عينك ، وقساوة قلبك استدراج منّي ، وعقوبة لو عقلت (٣).

والاستدراج : ترك المعالجة ، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدريج.

ومنه قيل : درجات ، وهي منزلة واستدرج فلان فلانا ، أي : استخرج ما عنده قليلا قليلا ، ويقال : درجه إلى كذا ، واستدرجه بمعنى أدناه على التدريج ، فتدرج.

ومعنى الآية : إنا لما أنعمنا عليهم اعتقدوا أن ذلك الإنعام تفضيل لهم على المؤمنين ، وهو في الحقيقة يسبب هلاكهم.

قوله : (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي : أمهلهم ، وأطيل لهم المدة ، كقوله (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] والملاوة : المدة من الدهر ، وأملى الله له ، أي : أطال له ، والملوان: الليل والنهار.

وقيل : (وَأُمْلِي لَهُمْ) ، أي : لا أعاجلهم بالموت ، والمعنى واحد ، والملا مقصور : الأرض الواسعة سميت بها لامتدادها (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي : إن عذابي لقوي شديد ؛ فلا يفوتني أحد ، وسمى إحسانه كيدا كما سماه استدراجا في صورة الكيد ووصفه بالمتانة لقوة أثر استحسانه في السبب للهلاك.

فصل في إرادة الكائنات

قال ابن الخطيب : تمسك الأصحاب بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات ، لأن هذا الاستدراج والكيد إن لم يكن لهما أثر في الطغيان ، فليسا بكيد ، ولا استدراج ، وإن كان لهما أثر فيه لزم أن يكون الحق سبحانه مريدا له ، لأن من فعل شيئا لحصول شيء وأكده وقواه لا بد وأن يكون مريدا لحصول ذلك الشيء.

أجاب الكعبيّ : بأن المراد استدراجهم إلى الموت ، أي : يخفى عنهم زمن الموت من حيث لا يعلمون ، وهو مقتضى الحكمة ، وإلا لكان فيه إغراء بالمعاصي ، لأنهم لو عرفوا الوقت الذي يموتون فيه أقدموا على المعاصي ، ثم صاروا مفتنين.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر المصدر السابق.

٣٠٤

وأجاب الجبائيّ : بأن معنى قوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي : إلى العذاب (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) في الآخرة ، (وَأُمْلِي لَهُمْ) في الدنيا توكيدا للحجة عليهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) فأمهله ، وأزيح الأعذار عنه (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] ، ويدل على هذا قوله قبل ذلك : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) ولا شك أن هذا التهديد إنما هو بعذاب الآخرة ، فوجب أن يكون الاستدراج والكيد المذكور عقيبه هو عذاب الآخرة وأجاب الأصحاب : أن هنا الإمهال إذا كان مؤديا إلى الطغيان كان الراضي بالإمهال العالم بتأديه إلى الطغيان لا بد وأن يكون راضيا بذلك الطغيان.

قوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً). عاد الكلام إلى ما تقدم من قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي : أم تلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله ، والمغرم : الغرامة فهم من غرامة ذلك مثقلون ، أي : يثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال ، فيثبطهم ذلك عن الإيمان.

والمعنى : ليس عليهم كلفة في متابعتك ، بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.

قوله : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) ، أي : علم ما غاب عنهم (فَهُمْ يَكْتُبُونَ).

وقيل : أينزل عليهم الوحي بهذا الذي يقولون ، وعن ابن عباس : الغيب هنا هو اللوح المحفوظ ، فهم يكتبون منه ثواب ما هم عليه من الكفر ، ويخاصمونك به ، ويكتبون أنهم أفضل ، وأنهم لا يعاقبون (١).

وقيل : «يكتبون» أي : يحكمون ما يريدون ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار.

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)(٥٢)

قوله (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : لقضاء ربّك ، والحكم هنا القضاء.

وقيل : اصبر على ما حكم به عليك ربّك من تبليغ الرسالة.

وقال ابن بحر : فاصبر لنصر ربك.

وقيل : منسوخ بآية السيف (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يعني يونس ـ عليه‌السلام ـ أي : لا تكن مثله في الغضب ، والضجر ، والعجلة.

وقال قتادة : إن الله تعالى يعزي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأمره بالصبر ، ولا يعجل كما عجل يونس

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

٣٠٥

ـ عليه الصلاة والسلام (١) ـ. وقد مضى الفرق بين «ذي» و «صاحب» في «يونس».

قوله : (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ).

«إذ» منصوب بمضاف محذوف ، أي : ولا يكن حالك كحاله ، أو قصتك كقصته في وقت ندائه ، ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصبّ عليها النهي على أحوالها ، وصفاتها.

وقوله : (وَهُوَ مَكْظُومٌ). جملة حالية من الضمير في «نادى».

والمكظوم : الممتلىء حزنا وغيظا ، ومنه كظم السقاء إذا ملأه.

قال ذو الرمة : [البسيط]

٤٨٣٦ ـ وأنت من حبّ ميّ مضمر حزنا

عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم (٢)

فصل في دعاء يونس

(إِذْ نادى) ، أي : حين دعا من بطن الحوت ، فقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧].

قال القرطبي (٣) : ومعنى (وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي : مملوء غمّا.

وقيل : كربا ، فالأول قول ابن عباس ومجاهد (٤) ، والثاني : قول عطاء وأبي مالك ، قال الماورديّ : والفرق بينهما أن الغمّ في القلب ، والكرب في الأنفاس.

وقيل : «مكظوم» محبوس ، والكظم : الحبس ومنه قولهم : كظم غيظه ، أي : حبس غضبه ، قاله ابن بحر.

وقيل : «إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس ، قاله المبرّد».

والمعنى : لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر ، والمغاضبة ، فتبتلى ببلائه.

قوله : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ).

قال ابن الخطيب (٥) : لم لم يقل : تدراكته نعمة؟ وأجاب : بأنه إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في «تداركه». ولأن التأنيث غير حقيقي.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٠٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٢) وعزاه إلى عبد الرزاق وأحمد في «الزهد» وابن المنذر.

(٢) ينظر البحر ٨ / ٣١١ ، وفتح القدير ٥ / ٢٧٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٨ ، وروح المعاني ٢٩ / ٤٥.

(٣) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٦٥.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٠٢) عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٢) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٨٧.

٣٠٦

وقرأ أبيّ (١) وعبد الله بن عباس : «تداركته» بتاء التأنيث لأجل اللفظ.

والحسن وابن (٢) هرمز والأعمش : «تدّاركه» ـ بتشديد الدال ـ.

وخرجت على الأصل : تتداركه ـ بتاءين ـ مضارعا ، فأدغم ، وهو شاذ ؛ لأن الساكن الأول غير حرف لين ؛ وهي كقراءة البزي (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) [النور : ١٥] ، و (ناراً تَلَظَّى) [الليل : ١٤] ، وهذا على حكاية الحال ، لأن المقصد ماضيه ، فإيقاع المضارع هنا للحكاية ، كأنه قال : لو لا أن كان يقال فيه : تتداركه نعمة.

قوله : (نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ).

قال الضحاك : النعمة هنا : النبوة (٣).

وقال ابن جبير : عبادته التي سلفت (٤).

وقال ابن زيد : نداؤه بقوله (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(٥) [الأنبياء : ٨٧].

وقال ابن بحر : إخراجه من بطن الحوت.

وقيل : رحمة من ربّه ، فرحمه وتاب عليه.

قوله : (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) ، هذا جواب (لَوْ لا) ، أي : لنبذ مذموما لكنه نبذ سقيما غير مذموم.

وقيل : جواب «لو لا» مقدر ، أي : لو لا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت.

ومعنى : «مذموم» ، قال ابن عباس : مليم.

وقال بكر بن عبد الله : مذنب.

وقيل : مبعد من كل خير. والعراء : الأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل ، ولا شجر يستر.

وقيل : لو لا فضل الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، ثم نبذ بعراء القيامة مذموما ، يدل عليه قوله تعالى (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات : ١٤٣ ، ١٤٤].

فصل في عصمة الأنبياء

قال ابن (٦) الخطيب : هل يدل قوله (وَهُوَ مَذْمُومٌ) على كونه فاعلا للذنب؟ قال : والجواب من ثلاثة أوجه :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٩٦ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٥٤ ، والدر المصون ٦ / ٣١١.

(٢) ينظر السابق.

(٣) ذكره الماوردي (٦ / ٧٣) والقرطبي (١٨ / ١٦٥) عن الضحاك.

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٨٧.

٣٠٧

الأول : أن كلمة «لو لا» دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل.

الثاني : لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل ، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

الثالث : لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة ، لقوله (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) والفاء للتعقيب.

قيل : إن هذه الآية نزلت بأحد حين حل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما حل فأراد أن يدعو على الذين انهزموا.

وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف.

قوله : (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) ، أي : فاصطفاه واختاره. (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

قال ابن عباس : رد الله إليه الوحي ، وشفعه في نفسه ، وفي قومه (١) ، وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف ، أو يزيدون.

فصل فيمن قال : إن يونس لم يكن نبيا قبل واقعة الحوت

قال ابن (٢) الخطيب : قال قوم : لعل صاحب الحوت ما كان رسولا قبل هذه الواقعة ، ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولا ، وهو المراد من قوله (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لا بد وأن يختاروا هذا القول ، لأن الاحتباس في بطن الحوت ، وعدم موته هناك لما لم يكن هناك إرهاص ، ولا كرامة ، فلا بد وأن تكون معجزة ، وذلك يقتضي أنه كان رسولا في تلك الحال.

فصل في خلق أفعال العباد

قال ابن (٣) الخطيب : احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله : (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) وهذا يدل على أن الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه.

قال الجبائيّ : يحتمل أن يكون معنى «جعله» أنه أخبر بذلك ، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح ، إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني.

والجواب : أن ذلك مجاز ، والأصل في الكلام الحقيقة.

قوله : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا) «إن» المخففة من الثقيلة. «ليزلقونك» ، أي : يغتالونك بأبصارهم ، قرأها نافع (٤) : بفتح الياء ، والباقون : بضمها.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٦٥).

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٨٧.

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٨٨.

(٤) ينظر : السبعة ٦٤٧ ، والحجة للقراء السبعة ٦ / ٣١٢ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٨٢ ، وحجة القراءات ٧١٨.

٣٠٨

فأما قراءة الجماعة : فمن أزلقه ، أي : أزال رجله ، فالتعدية بالهمزة من أزلق يزلق.

وأما قراءة نافع ، فالتعدية بالحركة ، يقال : زلق ـ بالكسر ـ وزلقته ـ بالفتح ، ونظيره : شترت عينه ـ بالكسر ـ وشترها الله ـ بالفتح. [وقد تقدم لذلك أخوات].

وقيل : زلقه وأزلقه ـ بمعنى واحد ـ إزلاقا ، إذا نحاه وأبعده ، وأزلق برأسه يزلقه زلقا ، إذا حلقه.

قال القرطبي : «وكذلك أزلقه ، وزلقه تزليقا ، ورجل زلق وزملق ـ مثال هدبد ـ وزمالق وزملق ـ بتشديد الميم ـ وهو الذي ينزل قبل أن يجامع ، حكاه الجوهري وغيره».

والباء في «بأبصارهم» إما للتعدية كالداخلة على الآلة ، أي : جعلوا أبصارهم كالآلة المزلقة لك ك «عملت بالقدوم» ، وإما للسببية ، أي : بسبب عيونهم.

وقرىء (١) : «ليزهقونك» من زهقت نفسه ، وأزهقها.

ثم فيه وجوه :

أحدها : أنهم من شدة تحديقهم ، ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة ، والبغضاء يكادون يزلقون قدمك من قولهم : نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أنشد ابن عباس لما مر بأقوام حددوا النظر فيه : [الكامل]

٤٨٣٧ ـ نظروا إليّ بأعين محمرّة

نظر التيوس إلى شفار الجازر (٢)

فصل في المراد بالنظر

أخبر الله تعالى بشدة عداوتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين ، فنظر إليه قوم من قريش وقالوا : ما رأينا مثله ، ولا مثل حججه.

وقيل : كانت العين في بني أسد ، حتى إن البقرة السمينة ، أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول : يا جارية ، خذي المكتل والدرهم ، فأتنا بلحم هذه الناقة فما تبرح حتى تقع الناقة للموت فتنحر.

وقال الكلبيّ : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئا يومين أو ثلاثة ثم يرجع جانب الخباء ، فتمر به الإبل والغنم ، فيقول : لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فلا تذهب قليلا حتى تسقط منها طائفة هالكة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعين ، فأجابهم ، فلما مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنشد : [الكامل]

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٩٧ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٥٤ ، ونسبها لابن مسعود ، وينظر : البحر المحيط ٨ / ٣١١ ، وزاد : ابن عباس ، والأعمش ، وعيسى.

(٢) ينظر الرازي ٣٠ / ٨٨.

٣٠٩

٤٨٣٨ ـ قد كان قومك يحسبونك سيّدا

وإخال أنّك سيّد معيون (١)

فعصم الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزلت هذه الآية (٢).

وذكر الماورديّ : أن العرب كانوا إذا أراد أحدهم أن يصيب أحدا يعني في ماله ونفسه يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله ، فيقول : بالله ما رأيت أقوى منه ، ولا أشجع ، ولا أكبر منه ، ولا أحسن فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية.

قال القشيريّ : وفي هذا نظر ؛ لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغض ، ولهذا قال : (وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي : ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن.

قال القرطبيّ (٣) : أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا ، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله ، ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك.

فمعنى الكلمة إذا التنحية والإزالة ، وذلك لا يكون في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بهلاكه وموته.

قال الهرويّ : أراد ليغتالونك بعيونهم ، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك.

وقال ابن عباس : ينفذونك بأبصارهم (٤) ، يقال : زلق السّهم ، وزهق إذا نفذ ، وهو قول مجاهد أي : ينفذونك من شدة نظرهم.

وقال الكلبي : يصرعونك (٥) ، وعنه أيضا والسّدي وسعيد بن جبير : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة (٦).

__________________

(١) البيت للعباس بن مرداس. ينظر ديوانه ١٠٨ وجمهرة اللغة ص ٩٥٦ ، والحيوان ٢ / ١٤٢ وشرح التصريح ٢ / ٣٩٥ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٨٧ ، واللسان (عين) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٧٤ ، وأوضح المسالك ٤ / ٤٠٤ ، والخصائص ١ / ٢٦١ ، وشرح الأشموني ٣ / ٧٦٦ ، والمقتضب ١ / ١٠٢.

وأمالي ابن الشجري ١١ / ١١٣ ، والقرطبي ١٨ / ١٦٦ ، والبحر ٨ / ٣١١ ، وروح المعاني ٢٩ / ٤٦.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٦٥).

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٦٦.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٠٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٣) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٥) ذكره القرطبي (١٨ / ١٦٦) وذكره الطبري (١٢ / ٢٠٤).

(٦) ينظر المصدر السابق.

٣١٠

وقال العوفي : يرمونك.

وقال المؤرج : يزيلونك.

وقال النضر بن شميل والأخفش : يفتنونك.

وقال الحسن وابن كيسان : ليقتلونك كما يقال : صرعني بطرفه ، وقتلني بعينه.

قوله : (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) من جعلها ظرفية جعلها منصوبة ب «يزلقونك» ، ومن جعلها حرفا جعل جوابها محذوفا للدلالة ، أي : لما سمعوا الذّكر كادوا يزلقونك ، ومن جوز تقديم الجواب ، قال : هو هنا متقدم (١).

والمراد بالذكر القرآن ، ثم قال : (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) وهو على ما افتتح به السّورة ، ثم قال : (وَما هُوَ) يعني : القرآن.

(إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي : الذين يزعمون أنه دلالة جنونه إلا ذكر للعالمين تذكير لهم ، وبيان لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد.

وقال الحسن : دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية (٢).

وقيل : وما محمد إلا ذكر للعالمين يتذكرون به.

وقيل : معناه شرف ، أي : القرآن ، كقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرف للعالمين أيضا شرفوا باتباعه والإيمان به.

عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة القلم أعطاه الله ـ عزوجل ـ ثواب الذين حسّن الله أخلاقهم» (٣).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٦٠.

(٢) ذكره البغوي ٤ / ٣٨٤.

(٣) تقدم تخريجه.

٣١١

سورة الحاقة

مكّية ، وهي اثنتان وخمسون آية ، ومائتان وستة وخمسون كلمة ، وألف وأربعة وستون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)(٨)

قوله تعالى : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ).

«الحاقة» مبتدأ ، و «ما» مبتدأ ثان ، و «الحاقة» خبره ، والجملة خبر الأول ؛ لأن معناها «ما هي» واللفظ استفهام ، ومعناها التفخيم والتعظيم لشأنها.

قال ابن الخطيب (١) : وضع الظاهر موضع المضمر ؛ لأنه أهول لها ، ومثله (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ١ ، ٢] وقد تقدّم تحرير هذا في «الواقعة».

و «الحاقّة» فيها وجهان :

أحدهما : أنه وصف اسم فاعل بمعنى أنها تبدي حقائق الأشياء.

وقيل : إن الأمر يحق فيها فهي من باب «ليل نائم ، ونهار صائم» قاله الطبري.

وقيل : سميت حاقة ؛ لأنها تكون من غير شكّ لأنها حقّت فلا كاذبة لها.

وقيل : سميت القيامة بذلك ؛ لأنها أحقت لأقوام الجنّة ، وأحقّت لأقوام النّار.

وقيل : من حق الشيء : ثبت فهي ثابتة كائنة.

وقيل : لأنها تحق كل محاق في دين الله أي : تغلبه ، من حاققته ، فحققته أحقه أي : غلبته.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٠ / ٩٠.

٣١٢

وفي «الصحاح» (١) : وحاقه ، أي : خاصمه ، وادعى كل واحد منهما الحقّ ، فإذا غلبه قيل : حقه ، ويقال : ما له فيه حقّ ، ولا حقاق أي : خصومة ، والتحاق : التخاصم ، والاحتقاق : الاختصام ، والحاقّة والحقّ والحقة ثلاث لغات بمعنى.

وقال الكسائيّ والمؤرج : الحاقّة : يوم الحقّ.

والثاني : أنه مصدر ك «العاقبة» و «العافية».

قوله (مَا الْحَاقَّةُ) في موضع نصب إلى إسقاط الخافض ، لأن «أدرى» بالهمزة يتعدى لاثنين ، للأول : بنفسه ، والثاني : ب «الباء» ، قال تعالى : (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) [يونس : ١٦] ، فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة لها كانت في موضع المفعول الثاني ، ودون الهمزة تتعدى لواحد ب «الباء» نحو : «دريت بكذا» أو يكون بمعنى «علم» فيتعدّى لاثنين.

فصل في معنى «ما أدراك»

معنى (ما أَدْراكَ) ، أي شيء أعلمك ما ذاك اليوم ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عالما بالقيامة ، ولكن لا علم له بكونها وصفتها ، فقيل ذلك تفخيما لشأنها ، كأنك لست تعلمها ، ولم تعاينها.

وقال يحيى بن سلام : بلغني أنّ كل شيء في القرآن (وَما أَدْراكَ) فقد أدراه وعلمه ، وكل شيء قال : «وَما يُدْرِيكَ» فهو مما لم يعلمه.

وقال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه : (وَما أَدْراكَ) فإنه أخبر به ، وكل شيء قال فيه : «وما يدريك» ، فإنه لم يخبر به.

قوله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ).

«القارعة» القيامة ، سميت بذلك [لأنها] تقرع قلوب العباد بالمخافة.

وقيل : لأنها تقرع الناس بأهوالها يقال : أصابتهم قوارع الدهر ، أي : أهواله وشدائده وقوارض لسانه ؛ جمع قارضة ، وهي الكلمة المؤذية ، وقوارع القرآن : الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا قرع من الجن والإنس نحو آية «الكرسي» كأنّه يقرع الشيطان.

وقال المبرّد : القارعة مأخوذة من القرعة من رفع قوم وحطّ آخرين.

وقوارع القيامة : انشقاق السماء ، وانفطارها ، والأرض والجبال بالدكّ والنسف ، والنجوم بالطّمس والانكدار.

وإنما قال : («كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) ، ولم يقل : بها ليدل على أنّ معنى القرع حاصل في الحاقّة ، فيكون ذلك زيادة على وصف شدتها ، ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك

__________________

(١) ينظر : الصحاح ٤ / ١٤٦١.

٣١٣

بذكر من كذب بها ، وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيرا لأهل «مكة» وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم.

وقيل : عنى بالقارعة : العذاب الذي نزل بهم في الدنيا ، وكان نبيّهم يخوفهم بذلك ، فيكذبونه وثمود قوم صالح ، وكانت منازلهم ب «الحجر» فيما بين «الشام» و «الحجاز».

قال ابن إسحاق : هو وادي «القرى» ، وكانوا عربا ، وأما عاد فقوم هود ، وكانت منازلهم ب «الأحقاف» ، و «الأحقاف» : الرمل بين «عمان» إلى «حضرموت» و «اليمن» كله ، وكانوا عربا ذوي بسطة في الخلق وقد تقدم ذلك في «الأحقاف».

قوله : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ). هذه قراءة العامة.

وقرأ زيد (١) بن عليّ : «فهلكوا» مبنيا للفاعل.

وقوله : «بالطاغية» فيه إضمار أي : بالفعلة الطّاغية.

وقال قتادة : بالصّيحة الطاغية المتجاوزة (٢) للحدّ ، أي : لحد الصيحات من الهول ، كما قال : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) [القمر : ٣١].

و «الطغيان» : مجاوزة الحدّ ، ومنه (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ) [الحاقة : ١١] ، أي : جاوز الحدّ.

وقال ابن زيد : بالرجل الطّاغية ، وهو عاقر الناقة (٣) ، و «الهاء» فيه للمبالغة على هذه الأوجه صفة.

والمعنى : أهلكوا بما أقدم عليه طاغيهم من عقر الناقة وكان واحدا ، وإنما هلك الجميع ؛ لأنهم رضوا بفعله ، ومالئوه.

وقيل له : طاغية كما يقال : فلان راوية وداهية وعلامة ونسابة.

ويحتمل أن يقال : بسبب الفرقة الطاغية ، وهم : التسعة رهط ، الذين كانوا يفسدون في الأرض ، ولا يصلحون ، وأحدهم عاقر الناقة.

وقال الكلبيّ : «بالطّاغية» : بالصّاعقة (٤).

وقال مجاهد : بالذّنوب (٥).

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٣٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٦١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٠٧).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٦٨).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٦٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وعبد بن حميد.

٣١٤

وقال الحسن : بالطّغيان (١) فهي مصدر ك «العاقبة» و «الكاذبة» ، أي : أهلكوا بطغيانهم وكفرهم ، وبوضحه : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) [الشمس : ١١].

قال ابن الخطيب (٢) : وهذا منقول عن ابن عبّاس ، قال : وقد طعنوا فيه بوجهين :

الأول : قال الزجاج : إنه لما ذكر في الجملة الثانية نوع الشيء الذي وقع به العذاب ، وهو قوله تعالى : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) وجب أن يكون الحال في الجملة الأولى كذلك حتى تحصل المناسبة.

والثاني : قال القاضي : لو كان المراد ما قالوه لكان من حق الكلام أن يقال : أهلكوا لها ولأجلها.

ف «الباء» للسببية على الأقوال إلّا على قول قتادة ، فإنها فيه للاستعانة ك «عملت بالقدوم».

قوله : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ). أي : باردة تحرق ببردها كإحراق النار مأخوذ من الصّرصر وهو البرد. قاله الضحاك (٣).

وقيل : إنّها لشديدة الصوت.

وقال مجاهد : إنّها لشديدة السّموم (٤) ، و «عاتية» عتت على خزّانها فلم تطعهم ، ولم يطيقوها من شدة هبوبها غضبت لغضب الله.

وقال عطاء عن ابن عباس : عتت على عاد فقهرتهم ، فلم يقدروا على ردّها بحيلة من استناد إلى جبل ، بل كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم (٥).

وروى سفيان الثوريّ عن موسى بن المسيّب عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أرسل الله من نسمة من ريح إلّا بمكيال ولا قطرة من ماء إلّا بمكيال إلا يوم عاد ويوم قوم نوح فإنّ الماء يوم قوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل» ، [(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) الآية والرّياح لمّا كان يوم عاد غشت على الخزائن ولم يكن لهم عليها سبيل] ، ثم قرأ : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ)(٦).

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٧٦) والقرطبي (١٨ / ١٦٨).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٩١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٠٨).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٩٢.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٠٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٥) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد.

وقد روي عن ابن عباس مرفوعا ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٥) وعزاه إلى أبي الشيخ في «العظمة» والدارقطني في «الأفراد» وابن مردويه وابن عساكر.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٠٨) عن علي بن أبي طالب موقوفا.

٣١٥

وقيل : إنّ هذا ليس من العتو الذي هو عصيان ، إنّما هو بلوغ الشيء وانتهاؤه ، ومنه قولهم : عتا النّبت ، أي : بلغ منتهاه وجفّ ، قال تعالى : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [مريم: ٨] ، أي : بالغة منتهاها في القوّة والشدّة.

قوله : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) ، أي : أرسلها وسلّطها عليهم ، والتسخير استعمال الشيء بالاقتدار.

وقال الزجاج : أقامها عليهم.

والجملة من قوله : «سخّرها» يجوز أن تكون صفة ل «ريح» ، وأن تكون حالا منها لتخصيصها بالصفة ، أو من الضمير في «عاتية» ، وأن تكون مستأنفة.

قال ابن الخطيب (١) : وعندي أنّ فيه لطيفة ، وذلك أن في الناس من قال : إن تلك الرياح إنما اشتدت ؛ لاتصال فلكي نجومي اقتضى ذلك ، فقوله : «سخّرها» فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب ، وأن ذلك إنّما حصل بتقدير الله وقدرته ، فإنه لو لا هذه الدقيقة لما حصل منه التخويف ، والتحذير عن العقاب.

وقوله : (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) الفائدة فيه أنه ـ تعالى ـ لو لم يذكر ذلك لما كان مقدار زمان ذلك العذاب معلوما ، فلما قال : (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) احتمل أن يكون متفرقا في هذه المدة ، فأزال هذا الظنّ بقوله : «حسوما» أي : متتابعة متوالية.

فصل في تعيين الأيام المذكورة في الآية

قال وهب : هي الأيام التي تسميها العرب أيام العجوز ، ذات برد ورياح شديدة.

وقيل : سمّيت عجوزا لأنها في عجز الشتاء.

وقيل : لأن عجوزا من قوم عاد دخلت سربا ، فتبعتها الريح فقتلتها في اليوم الثامن من نزول العذاب ، وانقطع العذاب.

قوله : «حسوما». فيه أوجه :

أحدها : أن ينتصب نعتا لما قبلها.

الثاني : أن ينتصب على الحال ، أي : ذات حسوم.

وقرأ السدّي (٢) : «حسوما» ـ بالفتح ـ حالا من الريح ، أي : سخرها عليهم مستأصلة.

الثالث : أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظها ، أي : تحسمهم حسوما.

الرابع : أن يكون مفعولا له.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٩٢.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٩٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٣١٦.

٣١٦

ويتضح ذلك بقول الزمخشريّ : «الحسوم» : لا يخلو من أن يكون جمع «حاسم» ك «شاهد» و «شهود» ، أو مصدرا «كالشّكور» ، «والكفور» ، فإن كانت جمعا ، فمعنى قوله : «حسوما» أي : نحسات حسمت كلّ خير ، واستأصلت كلّ بركة ، أو متتابعة هبوب الريح ما خفضت ساعة تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكيّ على الدّاء كرّة بعد أخرى حتى ينحسم.

وإن كان مصدرا فإما أن ينتصب بفعله مضمرا ، أي : تحسمهم حسوما بمعنى استأصل استئصالا ، أو تكون صفة كقولك : ذات حسوم ، أو يكون مفعولا له ، أي : سخرها عليهم للاستئصال.

قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي الشاعر : [الوافر]

٤٨٣٩ ـ ففرّق بين بينهم زمان

تتابع فيه أعوام حسوم (١)

انتهى. وقال المبرّد : الحسوم : الفصل ، حسمت الشّيء من الشيء فصلته منه.

ومنه الحسام.

قال الشاعر : [المتقارب]

٤٨٤٠ ـ فأرسلت ريحا دبورا عقيما

فدارت عليهم فكانت حسوما (٢)

وقال الليث : هي الشّؤم ، يقال : هذه ليالي الحسوم ، أي : تحسم الخير عن أهلها ، لقوله تعالى : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) [فصلت : ١٦] ، وهذان القولان يرجعان إلى القول الأول ؛ لأن الفصل قطع وكذلك الشّؤم لأنه يقطع الخير.

قال ابن زيد : حسمتهم فلم تبق منهم أحدا (٣) ، وعنه أيضا : أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوفتها ؛ لأنها بدأت طلوع الشمس أول يوم ، وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم (٤).

واختلف في أولها : فقال السدّي : غداة يوم الأحد (٥).

وقال الربيع بن أنس : غداة يوم الجمعة (٦) وقال يحيى بن سلام : غداة يوم الأربعاء (٧) ، وهو يوم النحس المستمر.

__________________

(١) البيت لعبد العزيز بن زرارة الكلبي. ينظر الكشاف ٤ / ٥٩٩ ، والبحر ٨ / ٣١٤ ، والقرطبي ١٨ / ١٦٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٢.

(٢) ينظر البحر المحيط ٨ / ١٣٤ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٢.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٠٩).

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٦٩).

(٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٧٧) والقرطبي (١٨ / ١٦٩).

(٦) ينظر المصدر السابق.

(٧) ينظر المصدر السابق.

٣١٧

قيل : كان آخر أربعاء في السّنة ، وآخرها يوم الأربعاء ، وهي في «آذار» من أشهر السريانيين ، ولها أسماء مشهورة ، قال فيها ابن أحمر : [الكامل]

٤٨٤١ ـ كسع الشّتاء بسبعة غبر

أيّام شهلتنا مع الشّهر

فإذا انقضت أيّامها ومضت

صنّ وصنّبر مع الوبر

وبآمر وأخيه مؤتمر

ومعلّل وبمطفىء الجمر

ذهب الشّتاء مولّيا عجلا

وأتتك واقدة من النّجر (١)

وقال آخر : [الكامل]

٤٨٤٢ ـ كسي الشّتاء بسبعة غبر

بالصّنّ والصّنّبر والوبر

وبآمر وأخيه مؤتمر

ومجلّل وبمطفىء الجمر (٢)

قوله : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) أي : في تلك الليالي والأيّام «صرعى» جمع صريع ، وهي حال نحو : «قتيل وقتلى ، وجريح وجرحى».

والضمير في «فيها» للأيام والليالي كما تقدم ، أو للبيوت أو للريح ، والأول أظهر لقربه ؛ ولأنه مذكور.

قوله : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ). أي : أصول نخل ، و (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ) حال من القوم ، أو مستأنفة.

وقرأ أبو نهيك (٣) : «أعجز» على وزن «أفعل» نحو : «ضبع وأضبع».

وقرىء : «نخيل» (٤) حكاه الأخفش.

وقد تقدّم أن اسم الجنس يذكّر ويؤنّث ، واختير هنا تأنيثه للفواصل ، كما اختير تذكيره لها في سورة «القمر».

وقال أبو الطّفيل : أصول نخل خاوية ، أي : بالية.

وقيل : خالية الأجواف لا شيء فيها.

قال القرطبيّ (٥) : وقد قال تعالى في سورة «القمر» : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] فيحتمل أنّهم شبّهوا بالنخل التي صرعت من أصلها وهو إخبار عن عظم أجسامهم ، ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع ، أي : أنّ الريح قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية ، أي : أن الرّيح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٦٩.

(٢) تقدما.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣١٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٢.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٠٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٣١٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٢.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٦٩.

٣١٨

وقال ابن شجرة : كانت الريح تدخل في أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية.

وقال يحيى بن سلام : إنما قال : الخاوية ، لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية.

قوله : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ).

أدغم اللام في التاء أبو عمرو وحده ، وتقدم في «الملك».

و (مِنْ باقِيَةٍ) مفعوله ، و «من» مزيدة ، والهاء في «باقية» قيل : للمبالغة ، فيكون المراد ب «الباقية» : البقاء ، ك «الطاغية» بمعنى الطّغيان ، أي : من باق.

والأحسن أن يكون صفة لفرقة ، أو طائفة ، أو نفس ، أو بقية ونحو ذلك.

وقيل : فاعلة بمعنى المصدر ك «العافية» و «العاقبة».

قال المفسرون : والمعنى هل ترى لهم أحدا باقيا.

قال ابن جريج : كانوا سبع ليال وثمانية أيّام أحياء في عذاب الله من الريح ، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح ، فألقتهم في البحر ، فذلك قوله : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) وقوله : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف : ٢٥].

قوله تعالى : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ)(٢٩)

قوله : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ).

قرأ أبو عمرو (١) والكسائيّ : بكسر القاف ، وفتح الباء ، أي : ومن هو في جهته ، ويؤيده قراءة أبي موسى : «ومن تلقاه».

__________________

(١) ينظر السبعة ٦٤٨ ، والحجة ٦ / ١٣٤ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٨٥ ، وحجة القراءات ٧١٨.

٣١٩

وقرأ أبيّ وعبد الله (١) : «ومن معه».

والباقون : بالفتح والسكون على أنه ظرف ، أي : ومن تقدمه.

والقراءة الأولى اختارها أبو عبيدة ، وأبو حاتم اعتبارا بقراءة أبيّ ، وعبد الله.

قوله : (وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ).

«المؤتفكات» : أهل قرى لوط.

وقراءة العامة : بالألف.

وقرأ الحسن (٢) والجحدريّ : «والمؤتفكة» على التوحيد.

قال قتادة : إنما سمّيت قرى لوط «مؤتفكات» لأنّها ائتفكت بهم ، أي : انقلبت (٣).

وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظيّ قال : خمس قريات : «صبعة ، وصعرة وعمرة ، ودوما ، وسدوم» ، وهي القرية العظمى (٤).

وقوله : «بالخاطئة». إما أن تكون صفة ، أي : بالفعلة ، أو الفعلات الخاطئة ، وهي المعصية والكفر.

وقال مجاهد : بالخطايا التي كانوا يفعلونها.

وقال الجرجاني : بالخطأ العظيم ، فيكون مصدرا ك «العاقبة» و «الكاذبة».

قوله : (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) إن عاد الضمير إلى فرعون ، ومن قبله ، فرسول ربّهم موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

وإن كان عائدا إلى أهل المؤتفكات ، فرسول ربّهم لوط عليه الصلاة والسلام.

قال الواحديّ : والوجه أن يقال : المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله: «فعصوا» فيكون كقوله : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ).

قال القرطبي (٥) : وقيل : «رسول» بمعنى رسالة ، وقد يعبر عن الرسالة بالرسول ، كقوله: [الطويل]

٤٨٤٣ ـ لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول (٦)

قوله : (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) ، أي : عالية زائدة على الأخذات ، وعلى عذاب الأمم،

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٦٠٠ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٥٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٢.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٥٨ ، والبحر المحيط ٨ / ١٣٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢١١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠٦) وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر وعبد بن حميد.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٧٠).

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٧٠.

(٦) تقدم.

٣٢٠