اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وأضاف القرطبي (١) معهم أبا جعفر وأبا حيوة والمغيرة والأعرج : بالاستفهام.

وباقي السبعة بالخبر.

والقارئون بالاستفهام على أصولهم من تحقيق ، وتسهيل ، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه ، ولا بد من بيان ذلك فنقول : قرأ حمزة وأبو بكر وذكر القرطبي (٢) معهم المفضل : بتحقيق الهمزتين ، وعدم إدخال ألف بينهما ، وهذا هو أصلهما.

وقرأ ابن ذكوان : بتسهيل الثانية ، وعدم إدخال ألف.

وهشام بالتسهيل المذكور إلا أنه أدخل ألفا بينهما.

فقد خالف كل منهما أصله ، أما ابن ذكوان فإنه يحقق الهمزتين فقد سهل الثانية هنا ، وأما هشام فإن أصله أن يجري في الثانية من هذا النحو وجهين من التحقيق كرفيقه ، والتسهيل وقد التزم التسهيل هنا ، وأما إدخال الألف فإنه فيه على أصله ، كما تقدم أول البقرة (٣).

وقرأ نافع في رواية (٤) اليزيدي عنه : «إن» بكسر الهمزة على الشرط.

فأما قراءة «أن» ـ بالفتح ـ على الخبر ، ففيه أربعة أوجه :

أحدها : أنها «أن» المصدرية في موضع المفعول به مجرورة بلام مقدرة ، واللام متعلقة بفعل النهي ، أي : ولا تطع من هذه صفاته ، لأن كان متمولا وصاحب بنين.

الثاني : أنها متعلقة ب «عتل» وإن كان قد وصف. قاله الفارسي (٥).

وهذا لا يجوز عند البصريين ، وكأن الفارسي اغتفره في الجار.

الثالث : أن يتعلق ب «زنيم» ، ولا سيما عند من يفسره بقبيح الأفعال.

الرابع : أن يتعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده من الجملة الشرطية تقديره لكونه متمولا ، مستظهرا بالبنين كذب بآياتنا ، قاله الزمخشريّ (٦).

قال : ولا يعمل فيه ، قال : الذي هو جواب «إذا» لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب.

وقال مكيّ (٧) ، وتبعه أبو البقاء (٨) : «لا يجوز أن يكون العامل» «تتلى» لأن ما بعد

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٥٤.

(٢) السابق.

(٣) آية رقم (٦).

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٠٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٣.

(٥) لم أعثر عليه في الحجة.

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٨٨.

(٧) ينظر : المشكل ٢ / ٧٤٩.

(٨) ينظر الإملاء ٢ / ١٢٣٤.

٢٨١

«إذا» لا يعمل فيما قبلها ، لأن «إذا» تضاف إلى الجمل ، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف» انتهى.

وهذا يوهم أن المانع من ذلك ما ذكره فقط ، والمانع أمر معنوي ، حتى لو فقد هذا المانع الذي ذكره لامتنع من جهة المعنى ، وهو لا يصلح أن يعلل تلاوة آيات الله عليه بكونه ذا مال وبنين.

وأما قراءة «آن كان» على الاستفهام ، ففيها وجهان :

أحدهما : أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما قبله ، أي : أتطيعه لأن كان ، أو الكون طواعية لأن كان.

والثاني : أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما بعده ، أي : لأن كان كذب وجحد.

وأما قراءة «إن كان» ـ بالكسر ـ فعلى الشرط ، وجوابه مقدر ، تقديره : إن كان كذا يكفر ويجحد ، دل عليه ما بعده.

وقال الزمخشريّ : والشرط للمخاطب ، أي : لا تطع كل حلاف شارطا يساره ، لأنه إن أطاع الكافر لغنائه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونحو صرف الشرط للمخاطب صرف الترجي إليه في قوله (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤].

وجعله أبو حيّان (١) من دخول شرط على شرط ، يعنى «إن ، وإذا» إلا أنه قال : ليسا من الشروط المترتبة الوقوع. وجعل نظير ذلك قول ابن دريد : [الرجز]

٤٨١٧ ـ فإن عثرت بعدها إن وألت

نفسي من هاتا فقولا لا لعا (٢)

قال : «لأن الحامل على تدبر آيات الله كونه ذا مال وبنين ، وهو مشغول القلب بذلك غافل عن النظر قد استولت عليه الدّنيا وأنظرته».

وقرأ الحسن بن أبزى : بالاستفهام ، وهو استفهام تقريع وتوبيخ ، على قوله حين تليت عليه آيات الله : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

فصل في توجيه قراءة الآية

قال القرطبيّ (٣) : فمن قرأ بهمزة مطوّلة ، أو بهمزتين محققتين ، فهو استفهام والمراد به التوبيخ ، ويحسن له أن يقف على «زنيم» ، ويبتدىء (أَنْ كانَ) على معنى : لأن كان ذا

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣١٠.

(٢) البيت لابن دريد الأزدي ، ينظر شرح مقصورة ابن دريد (٣٣) والخزانة ٤ / ٥٤٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٤.

(٣) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٥٤.

٢٨٢

مال وبنين تطيعه ، ويجوز أن يكون التقدير : لأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر ، ودل عليه ما تقدم من الكلام ، فصار كالمذكور بعد الاستفهام ، ومن قرأ «أن كان» بغير استفهام ، فهو مفعول من أجله ، والعامل فيه فعل مضمر والتقدير : يكفر لأن كان ذا مال وبنين ، ودل على هذا الفعل : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ولا يعمل في «أن» : «تتلى» ولا «قال» ، لأن ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها ؛ لأن «إذا» تضاف إلى الجمل التي بعدها ، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف و «قال» جواب الجزاء ، ولا يعمل فيما قبل الجزاء ، إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه ، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط ، فيكون مقدما مؤخرا في حالة واحدة ، ويجوز أن يكون المعنى : لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد.

قال ابن الأنباريّ : ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على «زنيم» لأن المعنى : لأن كان ذا مال كان ، ف «أن» متعلقة بما قبلها.

وقال غيره : يجوز أن يتعلق بقوله (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) ، والتقدير : يمشي بنميم ، لأن كان ذا مال وبنين ، وأجاز أبو علي أن يتعلق ب «عتلّ» ومعنى (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أباطيلهم ، وترهاتهم.

قوله : «سنسمه». أي : نجعل له سمة ، أي : علامة يعرف بها.

قال جرير : [الكامل]

٤٨١٨ ـ لمّا وضعت على الفرزدق ميسمي

وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل (١)

والخرطوم : الأنف ، وهو هنا عبارة عن الوجه كله من التعبير عن الكل بالجزء ؛ لأنه أظهر ما فيه وأعلاه ، والخرطوم أيضا : الخمر ، وكأنه استعاره لها لأن الشنتمري قال : هي الخمر أول ما يخرج من الدّن ؛ فجعلت كالأنف لأنه أول ما يبدو من الوجه فليست الخرطوم الوجه مطلقا ، ومن مجيء الخرطوم بمعنى الخمر ، قول علقمة بن عبدة : [البسيط]

٤٨١٩ ـ قد أشهد الشّرب فيهم مزهر رنم

والقوم تصرعهم صهباء خرطوم (٢)

وأنشد النضر بن شميل : [البسيط]

٤٨٢٠ ـ تظلّ يومك في لهو وفي طرب

وأنت باللّيل شرّاب الخراطيم (٣)

__________________

(١) ينظر ديوانه ٣٣٥ ، والقرطبي ١٨ / ١٥٥ ، وروح المعاني ٢٩ / ٣٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٤.

(٢) ينظر ديوانه (١١٣) ، والبحر ٨ / ٣٠٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٤.

(٣) البيت للأعرج ، ينظر القرطبي ١٨ / ١٥٥ ، والبحر ٨ / ٣٠٠ والدر المصون ٦ / ٣٥٤ ، وروح المعاني ٢٩ / ٢٦.

٢٨٣

فصل في تفسير «سنسمه»

قال ابن عباس : «سنسمه» سنحطمه بالسّيف ، قال : وقد حطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف ، فلم يزل محطوما إلى أن مات (١).

وقال قتادة : سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها (٢) ، يقال : وسمه وسما وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكيّ.

قال الضحاك : سنكويه على وجهه (٣) ، وقد قال الله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] فهي علامة ظاهرة ، وقال تعالى : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) [طه : ١٠٢] وهذه علامة أخرى ظاهرة. وأفادت هذه الآية علامة ثالثة ، وهي الوسم على الأنف بالنار ، وهذا كقوله : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١].

قاله الكلبي وغيره وقال أبو العالية ومجاهد : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي على أنفه ، ويسودّ وجهه في الآخرة ، فعرف بسواد وجهه (٤).

قال القرطبيّ (٥) : «والخرطوم : الأنف من الإنسان ، ومن السباع موضع الشفة ، وخراطيم القوم : سادتهم».

قال الفراء : وإن كان الخرطوم قد خصّ بالسّمة فإنّه في الوجه لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل.

وقال الطبريّ : نبين أمره تبيانا واضحا ، فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السّمة على الخراطيم.

وقال : المعنى : سنلحق به عارا وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه.

قال القتيبي : تقول العرب للرجل يسبّ سبة سوء قبيحة باقية قد وسم ميسم سوء ، أي : ألصق به عار لا يفارقه ، كما أن السمة لا يمحى أثرها.

وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة ، ولا شك أنّ المبالغة العظيمة في ذمه بقيت على وجه الأرض الدهر ، ولا يعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه ، فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٤) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٤) وعزاه إلى عبد بن حميد وعبد الرزاق.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٥٥).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر السابق.

٢٨٤

وقيل : ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه ؛ وأهله وماله من سوء ، وذل وصغار ، قاله ابن بحر.

وقال النضر بن شميل : المعنى سنحده على شرب الخمر ، والخرطوم : الخمر ، وجمعه : خراطيم ، وأنشد البيت المتقدم.

قال ابن (١) الخطيب : «وهذا تعسف».

قوله تعالى : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٣٣)

قوله (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ). يريد أهل مكة ، والابتلاء : الاختبار. والمعنى : أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا ، فلما بطروا وعادوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أصحاب الجنّة المعروف خبرها عندهم ، وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من «صنعاء» ، ويقال : بفرسخين ، كانت لرجل يؤدي حقّ الله منها ، فلما مات صارت إلى ولده ، فمنعوا الناس خيرها ، وبخلوا بحق الله فيها ؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها.

قال الكلبيّ : كان بينهم وبين «صنعاء» فرسخان ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم (٢).

وقيل : جنة بصوران على فراسخ من صنعاء ، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بيسير.

وقيل : كانوا من بني إسرائيل.

وقيل : كانوا من ثقيف ، وكانو بخلاء ، وكانوا يجذون النخل ليلا من أجل المساكين ، فأرادوا حصاد زرعها ، وقالوا : (لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي : الليل ، ويقال أيضا للنهار : صريم ، فإن كان أراد الليل ، فلاسوداد مواضعها وكأنهم وجدوا مواضعها حمأة ، وإن كان أراد بالصريم النهار ، فلذهاب الشجر والزّرع وخلو الأرض منه ،

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٧٧.

(٢) ينظر : القرطبي (١٨ / ١٥٥).

٢٨٥

وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ فاقتلعها.

فقيل : إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم ، ولذلك سميت الطائف ، وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء ، والشجر [والزرع] والأعناب غيرها.

وقال البكريّ في المعجم (١) : سميت الطائف ، لأن رجلا من العرب يقال له : الدّمون ، بنى حائطا ، وقال : إني قد بنيت لكم حائطا حول بلدكم ، فسميت الطائف. والله أعلم.

قوله (إِذْ أَقْسَمُوا) ، أي : حلفوا فيما بينهم (لَيَصْرِمُنَّها) أي : ليجذّنها «مصبحين» أي : وقت الصباح قبل أن يخرج المساكين (وَلا يَسْتَثْنُونَ) ، أي : لم يقولوا : إن شاء الله.

قوله : «مصبحين» حال من فاعل (لَيَصْرِمُنَّها) وهو من «أصبح» التامة ، أي داخلين في الصباح ، كقوله تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) [الصافات : ١٣٧] وقوله : إذا سمعت بسرى القين فاعلم بأنه مصبح والكاف في «كما» في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف ، أي : بلوناهم ابتلاء كما بلونا ، و «ما» مصدرية ، أو بمعنى «الذي» و «إذا» منصوبة ب «بلونا» و (لَيَصْرِمُنَّها) جواب للقسم ، وجاء على خلاف منطوقهم ، ولو جاء لقيل : «لنصرمنها» بنون المتكلم.

قوله : (وَلا يَسْتَثْنُونَ).

هذه مستأنفة ، ويضعف كونها حالا من حيث إن المضارع المنفي ب «لا» كالمثبت في عدم دخول الواو عليه وإضمار مبتدأ قبله ، كقولهم : «قمت وأصك عينه» مستغنى عنه.

ومعنى : (لا يَسْتَثْنُونَ) لا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم للمساكين ، من الثني ، وهو الكف والرد ؛ لأنّ الحالف إذا قال : والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره فقد رد انعقاد تلك اليمين.

وقيل : المعنى : لا يسثنون عزمهم عن الحرمات.

وقيل : لا يقولون : إن شاء الله.

قال الزمخشريّ : وسمي استثناء وهو شرط ؛ لأن معنى : لأخرجن إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد.

قوله (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ). أي هلاك ، أو بلاء طائف ، والطائف غلب في الشر.

قال الفراء : هو الأمر الذي يأتي ليلا.

ورد عليه بقوله (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) [الأعراف : ٢٠١] وذلك لا يختص بليل ، ولا نهار.

__________________

(١) ينظر : معجم ما استعجم ١ / ٦٧.

٢٨٦

وقرأ النخعيّ (١) : «طيف».

قوله (مِنْ رَبِّكَ). يجوز أن يتعلق ب «طاف» وأن يتعلق بمحذوف صفة ل «طائف».

قوله : (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ). والصرام : جذاذ النخل ، وأصل المادة الدلالة على القطع ، ومنه الصّرم ، والصّرم ـ بالضم والفتح ـ وهو القطيعة ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٤٨٢١ ـ أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل

وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي (٢)

ومنه الصريمة ، وهي قطعة منصرمة عن الرمل لا تنبت شيئا ؛ قال : [البسيط]

٤٨٢٢ ـ وبالصّريمة منهم منزل خلق

عاف تغيّر ، إلّا النّؤي والوتد (٣)

والصارم : القاطع الماضي ، وناقة مصرمة : انقطع لبنها ، وانصرم الشهر والسنة ، أي : قرب انفصالهما ، وأصرم زيد : ساءت حاله ، كأنه انقطع سعده.

فقوله «كالصّريم». قيل : هي الأشجار المنصرم حملها.

وقال ابن عباس : كالليل ؛ لأنه يقال له : الصريم ، لسواده (٤) ، والصريم أيضا : النهار وقيل : الصّبح ؛ لأنه انصرم من الليلة ، قاله الأخفش. فهو من الأضداد.

وقال شمر : الصريم الليل ، والصريم النهار.

وقيل : الصريم : رملة معروفة باليمن لا تنبت شيئا.

وقال الثوريّ : كالزرع المحصود ، فالصريم بمعنى المصروم ، أي : المقطوع ما فيه.

وقال الحسن : صرم عنها الخير ، أي : قطع (٥) ، فالصريم مفعول أيضا.

وقال المؤرج : أي : كالرملة انصرمت من معظم الرمل ، يقال : صريمة وصرائم ، فالرملة لا تنبت شيئا ينتفع به.

وقيل : سمي الليل صريما ؛ لأنه يقطع بظلمته عن التصرف ، ولهذا يكون «فعيل» بمعنى «فاعل».

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٥.

(٢) ينظر ديوانه (١٢) والجنى الداني ص ٣٥ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٢٢ ، والدر ٣ / ١٦ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٠ ، والمقاصد ٤ / ٢٨٩ وأوضح المسالك ٤ / ٦٧ ، ورصف المباني ص ٥٢ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٦٧ ، ومغني اللبيب ١ / ١٣ ، وهمع الهوامع ١ / ١١٢.

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٩٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٤) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٥٧) عن الحسن.

٢٨٧

قال القشيريّ : وفي هذا نظر ؛ لأن النهار يسمى صريما ، ولا يقطع عن التصرف.

وقيل : سمي الليل صريما ؛ لأنه يصر نور البصر ويقطعه.

فصل في بيان أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان

قال القرطبيّ : في الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان. لأنهم عزموا على أن يفعلوا ، فعوقبوا على فعلهم ؛ ونظيره قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج : ٢٥].

وفي الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النّار ، قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : إنّه كان حريصا على قتل صاحبه» (١). وقد مضى في آل عمران عند قوله : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) [آل عمران : ١٣٥].

قوله : (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ).

قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض : (اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) يعني بالحرث الثّمار والزروع والأعناب ، ولذلك قال : «صارمين» ، لأنهم أرادوا قطع الثمار من الأشجار.

(أَنِ اغْدُوا) يجوز أن تكون المصدرية ، أي : تنادوا بهذا الكلام ، وأن تكون المفسرة ، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : هلّا قيل : اغدوا إلى حرثكم ، وما معنى على؟.

قلت : لما كان الغدو إليه ليصرموه ، ويقطعوه كان غدوا عليه كما تقول : غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم : يغدى عليهم بالجفنة ويراح» انتهى.

فجعل «غدا» متعديا في الأصل ب «إلى» فاحتاج إلى تأويل تعديه ب «على» ، وفيه نظر ؛ لورود تعديه ب «على» في غير موضع ؛ كقوله : [الوافر]

٤٨٢٣ ـ وقد أغدو على ثبة كرام

نشاوى واجدين لما نشاء (٢)

وإذا كانوا قد عدوا مرادفه ب «على» فليعدوه بها ، ومرادفه «بكر» تقول : بكرت عليه و «غدوت عليه» بمعنى واحد ؛ قال : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه البخاري ١٤ / ١٩٩ ، كتاب الديات ، باب قول الله (ومن أحياها) (٦٨٧٥) ، ومسلم ٤ / ٢٢١٣ ، كتاب الفتن ، باب إذا تواجه المسلمان (١٤ ـ ٢٨٨٨).

(٢) البيت لزهير ينظر ديوانه (١٧) ، واللسان (ثبا) والدر المصون ٦ / ٣٥٥.

٢٨٨

٤٨٢٤ ـ بكرت عليه غدوة فرأيته

قعودا إليه بالصّريم عواذله (١)

قوله (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ). جوابه محذوف ، أي فاغدوا و «صارمين» : قاطعين حادين.

وقيل : ماضين العزم من قولك : سيف صارم.

قوله (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ). أي : يتشاورون فيما بينهم ، والمعنى يخفون كلامهم، ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد ، قاله عطاء وقتادة.

وهو من خفت يخفت إذا سكت ، ولم يبين.

قال ابن الخطيب (٢) : «وخفى وخفت ، كلاهما في معنى الكتم ، ومنه الخمود والخفاء».

وقيل : يخفون أنفسهم من الناس ، حتى لا يروهم ، وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام.

وقوله : (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) جملة حالية من فاعل «انطلقوا».

قوله : (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ).

«أن» مفسرة ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : يتخافتون بهذا الكلام ، أي : يقوله بعضهم لبعض : (لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ).

قال ابن الخطيب (٣) : والنهي للمسكين عن الدخول نهي لهم عن تمكينه منه ، أي : لا تمكنوه من الدخول.

وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة (٤) : «لا يدخلنها» بإسقاط «أن» إما على إضمار القول كمذهب البصريين ، وإما على إجراء «يتخافتون» مجراه كقول الكوفيين.

قوله : (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ).

يجوز أن يكون «قادرين» حالا من فاعل «غدوا» و (عَلى حَرْدٍ) متعلق به وأن يكون (عَلى حَرْدٍ) هو الحال و «قادرين» إما حال ثانية ، وإما حال من ضمير الحال الأول.

والحرد : قيل : الغضب والحنق. قاله السديّ وسفيان.

__________________

(١) البيت لزهير ينظر ديوانه ص ١٤٠ ، والأضداد ص ٤٢ ، ١٩٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٤٠ ، ولسان العرب (صرم) ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٥٢ ، والبحر ٨ / ٣٠٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٦.

(٢) الفخر الرازي ٣٠ / ٧٨ ، ٧٩.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٩٠ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٥٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٠٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٦.

٢٨٩

وأنشد للأشهب بن رميلة : [الطويل]

٤٨٢٥ ـ أسود شرى لاقت أسود خفيّة

تساقوا على حرد دماء الأساود (١)

قيل : ومثله : [الرجز]

٤٨٢٦ ـ إذا جياد الخيل جاءت تردي

مملوءة من غضب وحرد (٢)

عطف لما تغاير اللفظان ؛ كقوله : [الوافر]

٤٨٢٧ ـ ............

وألفى قولها كذبا ومينا (٣)

قال أبو عبيدة والقتيبي : (عَلى حَرْدٍ) على منع من حاردت الناقة حرادا ، أي : قل لبنها.

والحرود من النوق القليلة الدر ، وحاردت السّنة : قل مطرها ، وخيرها.

ويقال : حرد ـ بالكسر ـ يحرد حردا ، وقد تفتح فيقال : حرد فهو حردان وحارد ، وليوث حوارد.

وقيل : الحرد ، والحرود : الانفراد ، يقال : حرد ـ بالفتح ـ يحرد ـ بالضم ـ حرودا وحردا ، أي : انعزل. ومنه كوكب حارد ، أي : منفرد.

قال الأصمعي : هي لغة هذيل.

وقال القرطبيّ (٤) : يقال : حرد يحرد حرودا ، أي : تنحى عن قومه ، ولم يخالطهم.

وقال أبو زيد : رجل حريد من قوم حرداء ، وقد حرد يحرد حرودا إذا ترك قومه ، وتحول عنهم.

قال الأصمعي : رجل حريد ، أي : فريد وحيد ، قال : والمنفرد والمنحرد في لغة هذيل وأنشد لأبي ذؤيب : [البسيط]

٤٨٢٨ ـ ...........

كأنّه كوكب في الجوّ منحرد (٥)

__________________

(١) البيت للأشهب بن رميلة ، ويروى الشطر الثاني :

تساقت على لوح دماء الأساود

ينظر : أمالي القالي ١ / ٨ ، والحماسة البصرية ١ / ٢٦٩ ، وخزانة الأدب ٦ / ٢٧ ، وسمط اللآلي ص ٣٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥١٧ ، ولسان العرب (حرد) ، (خفا) ومعجم ما استعجم ٢ / ٥٠٦ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٨٣ ، والمنصف ١ / ٦٧ ، والحيوان ٤ / ٢٤٥ ، والمقتضب ٢ / ٢٢٨.

(٢) البيت للأعرج ينظر : اللسان (حرد) والبحر ٨ / ٣٠١ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٦.

(٣) تقدم.

(٤) الجامع لأحكام القرآن (١٨ / ١٥٨).

(٥) عجز بيت لأبي ذؤيب كما قال المصنف وصدره :

من وحش حوضى يراعي الصيد مبتقلا

ينظر القرطبي ١٨ / ١٥٩ ، وديوان الهذليين ١ / ١٢٦.

٢٩٠

ورواه أبو عمرو : بالجيم ، قال : وهو سهيل.

وقيل : الحرد القصد ، يقال : حرد يحرد ـ بالكسر ـ حردا ، قصدا ، تقول : حردت حردك ، أي : قصدت قصدك ؛ قال الراجز : [الرجز]

٤٨٢٩ ـ أقبل سيل جاء من عند الله

يحرد حرد الجنّة المغلّه (١)

وقال قتادة ومجاهد : (عَلى حَرْدٍ) ، أي : على جد وجهد (٢).

وقال القرطبيّ ومجاهد وعكرمة : أي : على أمر مجتمع قد أسموه بينهم (٣).

قال البغويّ : «وهذا معنى القصد».

وقال الحسن : على حاجة وفاقة (٤).

وقيل : الحرد اسم جنتهم بعينها ، قاله السديّ.

وقال الأزهريّ : حرد اسم قريتهم. وفيهما بعد. و «قادرين» إما من القدرة وهو الظاهر ، وإما من التقدير ، وهو التضييق ، أي : مضيقين على المساكين.

وقرأ العامة : بالإسكان.

وقرأ أبو العالية (٥) وابن السميفع : بالفتح ، وهما لغتان.

فصل في تفسير «قادرين»

قال الفرّاء : ومعنى «قادرين» قد قدروا أمرهم ، وبنوا عليه.

وقال قتادة : قادرين على جنتهم عند أنفسهم (٦).

وقال الشعبيّ : قادرين على المساكين.

وقيل : معناه من الوجود ، أي : منعوا وهم واجدون.

ومعنى الآية : وغدوا ، وكانوا عند أنفسهم ، وفي ظنهم أنهم قادرون على منع المساكين.

قوله (فَلَمَّا رَأَوْها). يعني الجنة محترقة ، لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد أنكروها ، وشكوا فيها ، وقال بعضهم لبعض : (إِنَّا لَضَالُّونَ) أي :

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٩١) عن مجاهد وقتادة والحسن.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٩٢) عن مجاهد وعكرمة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٦) وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن مجاهد.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٩٢) عن الحسن.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٥٩.

(٦) ينظر تفسير البغوي (٨ / ٣٨٠).

٢٩١

ضللنا الطريق إلى جنتنا ، ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي ، قالوا : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) حرمنا خيرها بشؤم عزمنا على البخل ومنعنا الفقراء ، قاله قتادة.

وقيل : (إِنَّا لَضَالُّونَ) عن الصّواب في غدونا على نية منع المساكين ، فلذلك عوقبنا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي : حرمنا جنتنا بما صنعنا.

روى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إيّاكم والمعاصي إنّ العبد ليذنب الذّنب فيحرم به رزقا كان هيّىء له» ثم تلا : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ)(١) الآيتين.

قوله : (قالَ أَوْسَطُهُمْ) ، يعني أعدلهم ، وأفضلهم وأعقلهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ : لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي : هلا تستثنون ، وكان استثناؤهم تسبيحا. قاله مجاهد وغيره ، وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء ، فلم يطيعوه.

قال أبو صالح : كان استثناؤهم سبحان الله ، فقال لهم : «هلا تسبحون الله» ، أي تقولون : سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم.

وقال النحاس : أصل التسبيح التنزيه لله ـ عزوجل ـ ، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله ؛ لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته.

وقال ابن الخطيب (٢) : التسبيح عبارة عن تنزيهه عن كل سوء فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى ، لوجب عود النقص إلى قدرة الله تعالى ، فقولك : (إِنْ شاءَ اللهُ) مزيل هذا النقص ، فكان ذلك تسبيحا.

وقيل : المعنى : هلّا تستغفرونه من فعلكم ، وتتوبون إليه من خبث نيتكم.

قيل : إنّ القوم لمّا عزموا على منع الزكاة واغتروا بالمال والقوة ، قال لهم أوسطهم : توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب ، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامه الأول ، وقال : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) فحينئذ اشتغلوا بالتوبة وقالوا : (سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) قال ابن عباس في قولهم سبحان ربنا أي نستغفر ربنا من ذنوبنا لأنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا المساكين.

وقال الحسن : هذا التسبيح هو الصّلاة كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة ، وإلا لكانت ناهية لهم [عن الفحشاء والمنكر ، ولكانت داعية لهم] إلى أن يواظبوا على ذكر الله ، وعلى قول إن شاء الله.

قوله (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ). أي : يلوم بعضهم بعضا ، يقول هذا لهذا : أنت أشرت علينا بهذا الرأي ، ويقول ذلك لهذا : أنت خوفتنا بالفقر ، ويقول الثالث لغيره: أنت

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٥) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٧٩.

٢٩٢

رغبتني في جمع المال ، ثم نادوا على أنفسهم بالويل فقالوا : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي : عاصين بمنع حق الفقراء ، وترك الاستثناء.

وقال ابن كيسان : طغينا نعم الله ، فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) تعاقدوا وقالوا : إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعنّ كما صنع آباؤنا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها.

قرىء (١) : «يبدلنا» بالتخفيف والتشديد ، وهما لغتان.

وقيل : التبديل تغير الشيء ، أو تغير حاله وعين الشيء قائم ، والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه ، ثم قال : (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) أي : طالبون منه الخير راجعون لعفوه.

قال المفسرون : إن الله أمر جبريل عليه‌السلام أن يقتلع تلك الجنة ، بزغر من أرض الشام ، ويأخذ من أرض الشام جنة ، فيجعلها مكانها.

وقال ابن مسعود : إن القوم لما أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم أبدلهم الله جنة يقال لها : الخيوان فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا واحدا (٢).

وقال أبو خالد اليماني : دخلت تلك الجنة ، فرأيت كلّ عنقود منها كالرّجل الأسود القائم.

وقال الحسن : قول أهل الجنة : (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) لا أدري إيمانا كان ذلك منهم ، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابهم الشدة. فتوقف في كونهم مؤمنين (٣).

وسئل قتادة عن أهل الجنّة ، أهم من أهل الجنّة أم من أهل النّار؟.

قال : لقد كلفتني تعبا (٤).

والأكثرون يقولون : إنهم تابوا وأخلصوا. حكاه القشيري.

قوله : (كَذلِكَ الْعَذابُ). مبتدأ وخيره مقدم ، أي : مثل ذلك العذاب عذاب الدنيا وأما عذاب الآخرة فأكبر منه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

قال ابن زيد : (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي : عذاب الدنيا وهلاك الأموال (٥).

وقيل : هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٩٢ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٥ ، وقال ابن عطية : وقرأ «يبدلنا» بسكون الباء وتخفيف الدال جمهور القراء والحسن وابن محيصن والأعمش ، وقرأ نافع وأبو عمرو بالتثقيل وفتح الباء.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٨١).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٨ / ١٦٠).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر المصدر السابق.

٢٩٣

قال ابن عباس : هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر ، وحلفوا ليقتلنّ محمدا ، وأصحابه ، وليرجعوا إلى أهل مكة ، حتى يطوفوا بالبيت ، ويشربوا الخمر ، وتضرب القيان على رءوسهم ، فأخلف الله ظنهم ، وقتلوا وأسروا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرم ، فخابوا (١).

فصل في العبرة من هذه الآية بضرب المثل

قال ابن الخطيب (٢) : قوله تعالى (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، والمعنى : لأجل أن أعطاه الله المال والبنين كفر بالله ، كلا ، بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء ، فإذ صرفه إلى الكفر دمر الله عليه ، بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذه المعصية اليسيرة دمر الله جنتهم ، فكيف حال من عاند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصرّ على الكفر والمعصية.

فصل في بيان هل كان الحق واجبا عليهم أم لا؟

قيل : إن الحق الذي منعه أهل الجنّة المساكين كان واجبا عليهم ، ويحتمل أنه كان تطوعا ، والأول أظهر.

وقيل : السورة مكية ، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحط ، وعلى قتال بدر.

قوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ)(٤٣)

قوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، أي : جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.

قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية ، قال كفّار مكة للمسلمين : إن الله تعالى فضّلنا عليكم في الدنيا فلا بد وأن يفضّلنا عليكم في الآخرة ، فإن لم يحصل التفضيل ، فلا أقل من المساواة. فأجاب الله عن هذا الكلام بقوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) ، أي : إن التسوية بين المطيع والعاصي غير جائزة ثم وبّخهم فقال : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه (٣).

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر : الفخر الرازي (٣٠ / ٨٠).

(٣) ذكره القرطبي ١٨ / ١٦٠ عن ابن عباس.

٢٩٤

قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ). يجوز أن يكون منصوبا بالاستقرار ، وأن يكون حالا من «جنّات».

فصل في رد كلام القاضي

قال القاضي : في الآية دليل واضح على أن وصف الإنسان بأنه مسلم ومجرم كالمتنافي ، والفاسق لما كان مجرما ، وجب أن لا يكون مسلما.

وأجيب بأنه تعالى أنكر جعل المسلم مثلا للمجرم ، ولا شك أنه ليس المراد إنكار المماثلة في جميع الأمور ، فإنهما متماثلان في الجوهرية ، والجسمية ، والحدوث ، والحيوانية ، وغيرها من الأمور الكثيرة ، بل المراد : إنكار استوائهما في الإسلام والجرم ، أو في آثار هذين الأمرين ، فالمراد : أن يكون إنكار أثر الإسلام مساويا لأثر جرم المجرم عند الله ، وهذا لا نزاع فيه ، فمن أين يدل على أن الشخص الواحد يمتنع فيه كونه مسلما ومجرما؟.

فصل في رد كلام الجبائي

قال الجبائيّ : دلت الآية على أن المجرم لا يكون ألبتة في الجنة ؛ لأنه تعالى أنكر حصول التسوية بينهما في الثواب ، بل لعله يكون ثواب المجرم أزيد من ثواب المسلم ، إذا كان المجرم أطول عمرا من المسلم ، وكانت طاعته غير محبطة. والجواب : هذا ضعيف (١) ، لأنا بينا التسوية في درجة الثواب ، ولعلهما لا يستويان فيه بل يكون ثواب المسلم الذي لم يعص أكثر من ثواب من عصى ، على أنا نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من المجرمين هم الكفار الذين حكى الله عنهم هذه الواقعة ، لأن حمل الجمع المحلى بالألف واللام على المعهود السابق مشهور في اللغة والعرف.

قوله : (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ). أي : ألكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصي ، وهذا كقوله (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) [الصافات : ١٥٦ ـ ١٥٧].

قوله : (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ).

العامة على كسر الهمزة ، وفيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها معمولة ل «تدرسون» ، أي : تدرسون في الكتاب أن لكم ما تحتاجونه ، فلما دخلت اللام كسرت الهمزة ، كقولك : علمت أنك عاقل ـ بالفتح ـ وعلمت إنك لعاقل ـ بالكسر ـ.

والثاني : أن تكون على الحكاية للمدروس كما هو ، كقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٨١.

٢٩٥

سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) [الصافات : ٧٨ ، ٧٩] ، قالهما الزمخشري.

وفي الفرق بين الوجهين عسر ، قال : «وتخير الشيء واختاره ، أخذ خيره ، كتنخله وانتخله ، أخذ منخوله».

الثالث : أنها على الاستئناف على معنى «إن كان لكم كتاب فلكم متخير».

قال القرطبي (١) : تم الكلام عند قوله «تدرسون» ثم ابتدأ فقال : (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي : إن لكم في هذا الكتاب إذن ما تخيرون ، أي : ليس لكم ذلك ، والكناية في «فيه» الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب.

وقرأ طلحة (٢) والضحاك : «أن لكم» بفتح الهمزة. وهو منصوب ب «تدرسون» إلا أن فيه زيادة لام التأكيد ، وهي نظير قراءة (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ) [الفرقان : ٢٠] بالفتح.

وقرأ الأعرج وابن (٣) هرمز : «أإنّ لكم» في الموضعين ، يعني «أإنّ لكم فيه لما تخيّرون» «أإنّ لكم لما تحكمون» بالاستفهام فيهما جميعا.

ثم إنه تعالى زاد في التوبيخ فقال : (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ) ، أي : عهود ومواثيق (عَلَيْنا بالِغَةٌ) مؤكدة والبالغة المؤكدة بالله تعالى ، أي : أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة.

قال ابن الخطيب (٤) : والمعنى : أم ضمنا لكم ، وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد.

قوله : «بالغة».

العامة على رفعها نعتا ل «أيمان» و (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بما تعلق به «لكم» زمن الاستقرار أي كائنة لكم إلى يوم ، أو «ببالغة» ، أي : تبلغ إلى ذلك اليوم ، وتنتهي إليه.

وقرأ زيد (٥) بن علي والحسن : بنصبها.

فقيل : على الحال من «أيمان» لأنها تخصصت بالعمل ، أو بالوصف.

وقال القرطبيّ (٦) : «على الحال من الضمير في «لكم» لأنه خبر عن «أيمان» ففيه ضمير منه ، وإما من الضمير في «علينا» إن قدرت «علينا» وصفا للأيمان لا متعلقا بنفس

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٦١.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٥١ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٠٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٧.

(٣) ينظر السابق.

(٤) الفخر الرازي ٣٠ / ٨٢.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٩٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٠٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٧.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٦١.

٢٩٦

الأيمان ؛ لأن فيه ضميرا منه كما يكون إذا كان خبرا عنه.

وقيل : من الضمير في «علينا إن قدرت علينا» وصفا للأيمان».

وقوله : (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ). أي : لأنفسكم من الخير والكرامة.

قوله : (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) ، جواب القسم في قوله : «أيمان» لأنها بمعنى أقسام.

قوله : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ). أي : سل ـ يا محمد ـ هؤلاء المتقولين عليّ : أيهم كفيل بما تقدم ذكره ، والزعيم : الكفيل والضمين (١) ، قاله ابن عباس وقتادة ، لقوله تعالى : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [يوسف : ٧٢].

وقال ابن كيسان : الزعيم هنا : القائم بالحجة والدعوى.

وقال الحسن : الزعيم : الرسول (٢).

قوله : «أيّهم» متعلق ب «سلهم» و «بذلك» متعلق ب «زعيم» ، أي : ضمين وكفيل وقد تقدم أن «سأل» تعلق لكونه سببا في العلم ، وأصله أن يتعدى ب «عن» ، أو الباء كقوله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩] ، وقوله : [الطويل]

٤٨٣٠ ـ فإن تسألوني بالنّساء ...

 .......... (٣)

والجملة في موضع نصب بعد إسقاط الخافض كما تقدم تقريره.

قوله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ). هذه قراءة العامة.

وقرأ عبد الله (٤) : «أم لهم شرك فليأتوا بشركهم» بلفظ المصدر.

قال القرطبيّ (٥) : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) ، أي : ألهم ، والميم صلة ، ومعنى : شركاء ، أي : شهداء (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) يشهدون على ما زعموا (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في دعواهم.

وقيل : فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم ، فهو أمر تعجيز.

وقال ابن الخطيب (٦) : «في تفسيره وجهان :

الأول : أن المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء لله ويعتقدون أن أولئك شركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب ، والخلاص من العقاب ، وإنما إضاف الشركاء إليهم ؛ لأنهم جعلوها شركاء لله ، كقوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الروم : ٤٠].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٩٦) عن ابن عباس وقتادة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٧) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٦١).

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٥٨.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٦١.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٨٢.

٢٩٧

الثاني : أم لهم أناس يشاركونهم في هذا المذهب ، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم ، والمراد بيان أنه كما ليس لهم دليل عقلي ، ولا دليل من كتاب يدرسونه ، فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القول ، فدل ذلك على بطلانه».

قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ)(٤٧)

ثم إنه تعالى لما أبطل قولهم شرح بعده عظمة يوم القيامة ، وهو قوله :

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) «يوم» منصوب بقوله «فليأتوا» أي : فليأتوا بشركائهم يوم يكشف عن ساق ليشفع الشركاء لهم وحينئذ لا يوقف على «صادقين».

أو بإضمار «اذكر» فيكون مفعولا به ، أو بمحذوف وهو ظرف ، أي : يوم يكشف يكون كيت وكيت. أو ب «خاشعة». قاله أبو البقاء.

و (عَنْ ساقٍ) قائم مقام الفاعل.

وقرأ ابن مسعود (١) وابن أبي عبلة : «تكشف» بالتاء من فوق مبنيا للفاعل ، أي : الشدة والساعة. وعنه أيضا كذلك : مبنيا للمفعول (٢).

وهي مشكلة ، لأن التأنيث لا معنى له ها هنا إلا أن يقال : إن المفعول مستتر ، أي : تكشف هي ، أي : الشدة ، ويتعلق (عَنْ ساقٍ) بمحذوف ، أي : تكشف عن ساقها.

ولذلك قال الزمخشري : «وتكشف» بالتاء مبنيا للفاعل والمفعول جميعا ، والفعل للساعة ، أو الحال : أي يشتد الحال ، أو الساعة.

وقرىء (٣) : «ويكشف» ـ بضم التاء أو الياء وكسر الشين ـ من «أكشف» إذا دخل في الكشف ، وأكشف الرجل إذا انقلبت شفته العليا لانكشاف ما تحتها. ويقال له أيضا : أخلع وكشف الساق كناية عن الشدة.

قال الراجز : [الرجز]

٤٨٣١ ـ عجبت من نفسي ومن إشفاقها

ومن طرادي الطّير عن أرزاقها

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٨٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٠٩.

(٢) ينظر السابق.

(٣) ينظر الكشاف ٤ / ٥٩٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٠٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٨.

٢٩٨

في سنة قد كشفت عن ساقها

حمراء تبري اللّحم عن عراقها (١)

وقال حاتم الطائيّ : [الطويل]

٤٨٣٢ ـ أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها

وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا (٢)

وقال الآخر : [مجزوء الكامل]

٤٨٣٣ ـ كشفت لهم عن ساقها

وبدا من الشّرّ البواح (٣)

وقال الراجز : [الرجز]

٤٨٣٤ أ ـ قد شمرت عن ساقها فشدّوا

وجدّت الحرب بكم فجدّوا (٤)

وقال الآخر : [السريع ، أو الرجز]

٤٨٣٤ ب ـ صبرا أمام إنّه شرّ باق

وقامت الحرب بنا على ساق (٥)

قال الزمخشريّ : الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب ، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب وإبداء خدامهن عند ذلك ؛ قال حاتم :

٤٨٣٥ أ ـ أخو الحرب ...

 ........... (٦)

وقال ابن قيس الرّقيّات : [الخفيف]

٤٨٣٥ ب ـ تذهل الشّيخ عن بنيه وتبدي

عن خدام العقيلة العذراء (٧)

انتهى.

فصل في «الساق»

قال ابن عباس في قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) ، قال : كرب وشدة (٨).

__________________

(١) ينظر البحر ٨ / ٣١٠ والقرطبي ١٨ / ١٦٢ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٨ ، واللسان (عرق) ، وروح المعاني (٢٩ / ٤٢).

(٢) ينظر القرطبي ١٨ / ١٦٢ ، والكشاف ٤ / ٥٩٣ ، والبحر ٨ / ٣٠٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٨.

(٣) البيت لسعد بن مالك بن ضبعة ويروى «الصّراح» مكان «البواح». ينظر الكتاب (٢ / ٣٢٦) والحماسة (٥٠٤) ، والخصائص ٣ / ٢٥٢ ، والقرطبي ١٨ / ١٦٢ ، والبحر ٨ / ٣١٠ ، واللسان (سوق) والدر المصون ٦ / ٣٥٨.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر البحر ٨ / ٣١٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٨.

(٦) ونسب أيضا لمحمد بن الجهم بن هارون.

(٧) ينظر ديوان ابن قيس الرقيات (ص ٩٦) ، والأغاني ٥ / ٦٩ وخزانة الأدب ٧ / ٢٨٧ ، ١١ / ٣٧٧ ، وسر صناعة الإعراب ص ٥٣٥ ، وشرح المفصل ٩ / ٣٧ ، ولسان العرب (شعا) ، والمنصف ٢ / ٢٣١ ، والإنصاف ص ٦٦١ ، وتذكرة النحاة ص ٤٤٤ ، ومجالس ثعلب ص ١٥٠ ، ومعجم الشعراء ص ٤٥٠ ، ورصف المباني ٢ / ٢٣١.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٩٧) والحاكم (٢ / ٤٩٩ ـ ٥٠٠) عن ابن عباس. ـ

٢٩٩

وعن مجاهد : شدة الأمر وحده (١).

وروى مجاهد عن ابن عباس قال : أشد ساعة في القيامة (٢).

وقال أبو عبيدة : إذا اشتد الأمر ، أو الحرب قيل كشف الأمر عن ساقه.

والأصل فيه : أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد ، شمر عن ساقه ، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة.

وقيل : ساق الشيء : أصله الذي به قوامه كساق الشجرة ، وساق الإنسان ، أي : يوم يكشف عن أصل الأمر ، فتظهر حقائق الأمور ، وأصلها.

وقيل : يكشف عن ساق جهنم.

وقيل : عن ساق العرش.

وقيل : يريد وقت اقتراب الأجل وضعف البدن ، أي : يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه ، ويدعوه المؤذنون إلى الصلاة ، فلا يمكنه أن يقوم ، ويخرج.

فصل في تأويل «الساق»

قال القرطبيّ : فأما ما روي أن الله تعالى يكشف عن ساقه ، فإنه ـ عزوجل ـ يتعالى عن الأعضاء ، والأبعاض ، وأن ينكشف ، ويتغطى ، ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره وقيل : «يكشف عن نوره عزوجل».

وروى أبو موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى (عَنْ ساقٍ) قال : يكشف عن نور عظيم يخرّون له سجّدا (٣).

__________________

ـ وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٧) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٩٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٨) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مندة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٩٧) وينظر المصادر السابقة.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٠٠) وأبو يعلى (١٣ / ٢٦٩) رقم (٧٢٨٣) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص ٣٤٧ ـ ٣٤٨) من طريق روح بن جناح عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن أبي بردة عن أبيه مرفوعا قال البيهقي : تفرد به روح بن جناح عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن أبي بردة عن أبيه مرفوعا قال البيهقي : تفرد به روح بن جناح يأتي بأحاديث منكرة لا يتابع عليها.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٣١) وقال : رواه أبو يعلى وفيه روح بن جناح وثقه دحيم وقال فيه : ليس بالقوي وبقية رجاله ثقات. وذكره أيضا الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٣٧٨٨) وعزاه إلى أبي يعلى والحديث زاد نسبته السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٧) إلى ابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر.

٣٠٠