اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا : فكذبنا النذير ، وهذا يدل على أن من لم يكذب الله ورسوله لا يلقى في النار ، وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرّ لا يدخل النار ، وأجاب القاضي عنه : بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المخوفة ، وكل من يدخل النار مخالف للدليل.

فصل في معرفة الله بعد ورود السمع

واحتج بهذه الآية من قال : إن معرفة الله ، وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع ، قالوا : لأنه تعالى إنما عذبهم ؛ لأنه أتاهم النذير ، فدل على أنه لو لم يأتهم النذير لم يعذبوا (١).

قوله : (فَسُحْقاً). فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على المفعول به ، أي : ألزمهم الله سحقا.

والثاني : أنه منصوب على المصدر ، تقديره : «أسحقهم الله سحقا» فناب المصدر عن عامله في الدعاء نحو «جدعا له ، وغفرا» فلا يجوز إظهار عامله.

واختلف النحاة : هل هو مصدر لفعل ثلاثي ، أم لفعل رباعي ، فجاء على حذف الزوائد.

فذهب الفارسي والزجاج إلى أنه مصدر «أسحقه الله» أي : أبعده.

قال الفارسي (٢) : فكان القياس إسحاقا ، فجاء المصدر على الحذف ، كقوله :[الوافر]

٤٧٩٩ ـ ...........

وإن يهلك فذلك كان قدري (٣)

أي : تقديري.

والظاهر أن لا يحتاج إلى ذلك ؛ لأنه سمع «سحقه الله» ثلاثيا ؛ ومنه قول الشاعر : [الطويل]

٤٨٠٠ ـ يجول بأطراف البلاد مغرّبا

وتسحقه ريح الصّبا كلّ مسحق (٤)

والذي يظهر أن الزجاج (٥) والفارسي إنما قالا ذلك فيمن يقول من العرب : أسحقه الله سحقا.

__________________

(١) السابق نفسه.

(٢) ينظر : الحجة للقراء السبعة ٦ / ٣٠٧.

(٣) عجز بيت ليزيد بن سنان وقيل لغيره وصدره :

وإن يبرأ فلم أنفث عليه

ينظر المفضليات (١٢٢) ، والبحر المحيط ٨ / ٢٩٥ والقرطبي ١٨ / ١٣٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٤٣.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٣٩ ، وروح المعاني ٢٨ / ١٤ ، والبحر ٨ / ٢٩٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٤٣.

(٥) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٥ / ١٩٩.

٢٤١

وقرأ العامة : بضم وسكون.

والكسائي وآخرون (١) : بضمتين.

وهما لغتان ، والأحسن أن يكون المثقل أصلا للمخفف ، و «لأصحاب» بيان ك (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣] ، وسقيا لك.

وقال مكيّ (٢) : «والرفع يجوز في الكلام على الابتداء».

أي : لو قيل : «فسحق» جاز ، لا على أنه تلاوة ، بل من حيث الصناعة ، إلّا أن ابن عطية قال ما يضعفه ، فإنه قال (٣) : «فسحقا ، نصبا على جهة الدعاء عليهم ، وجاز ذلك فيه وهو من قبل الله ـ تعالى ـ من حيث إن هذا القول فيهم مستقر أزلا ، ووجوده لم يقع ولا يقع إلا في الآخرة ، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى فيه كما تقول : سحقا لزيد ، وبعدا له ، والنصب في هذا كله بإضمار فعل ، فأما ما وقع وثبت ، فالوجه الرفع ، كما قال تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين : ١] و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ٥٤] ، وغير هذا من الأمثلة» ، انتهى.

فضعف الرفع كما ترى ؛ لأنه لم يقع ، بل هو متوقع في الآخرة.

فصل

قال المفسّرون (٤) : (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) ، أي : فبعدا لهم من رحمة الله.

وقال سعيد بن جبير ، وأبو صالح : هو واد في جهنّم يقال له : السحق (٥).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(١٨)

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ، نظيره : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [ق : ٣٣] وقد

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٤٤ ، والحجة ٦ / ٣٠٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٧٩ وحجة القراءات ٧١٦ ، والعنوان ١٩٤ ، وشرح شعلة ٦٠٥ ، وإتحاف ٢ / ٥٥١.

(٢) ينظر : المشكل ٢ / ٧٤٥.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٤٠.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٣٩.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٦٨) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٣) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

٢٤٢

مضى الكلام فيه. أي : يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو «بالغيب» وهو عذاب يوم القيامة «ويخشونه» في دار التكليف ، أي : يتقون جميع المعاصي.

قال ابن الخطيب (١) : وفي الآية دليل على انقطاع وعيد الفساق ، لأن من جاء يوم القيامة مع هذه الخشية بفسق ، فله الأمران ، وانقطاع الثّواب بالعقاب باطل بالإجماع ، فتعين العكس.

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو الجنّة.

قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) الأحسن أن يكون الخبر «لهم» و «مغفرة» فاعل به ، لأن الخبر المفرد أصل ، والجار من قبيل المفردات ، أو أقرب إليها.

قوله : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ).

اللفظ لفظ الأمر ، والمراد به الخبر ، يعني : إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو جهرتم به ، فإن الله عليم بذات الصّدور ، يعني بما في القلوب من الخير والشر.

قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض : أسرّوا قولكم كي لا يسمع ربّ محمد ، فنزلت : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) يعني وأسروا قولكم في أمر محمد (٢).

وقيل : إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال ، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد ، فالحال واحدة في علمه تعالى بها ، فاحذروا من المعاصي سرّا كما تحترزون عنها جهرا ، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). ما فيها كما يسمى ولد المرأة جنينا في بطنها.

قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ). في (مَنْ خَلَقَ) وجهان :

أحدهما : أنه فاعل «يعلم» والمفعول محذوف ، تقديره : ألا يعلم الخالق خلقه ، وهذا هو الذي عليه جمهور الناس ، وبه بدأ الزمخشريّ (٣).

والثاني : أن الفاعل مضمر يعود على الباري تعالى ، و «من» مفعول به ، أي : لا يعلم الله من خلقه.

قال أبو حيّان (٤) : والظّاهر أن «من» مفعول ، والمعنى أينتفي علمه بمن خلقه ، وهو الذي لطف علمه ودقّ ، ثم قال : وأجاز بعض النحويين أن يكون «من» فاعلا والمفعول محذوف ، كأنه قال : ألا يعلم الخالق سرّكم ، وجهركم ، وهو استفهام معناه الإنكار».

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٥٨.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٧١) والقرطبي (١٨ / ١٣٩).

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٧٩.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٩٥.

٢٤٣

قال شهاب الدين (١) : «وهذا الوجه الذي جعله هو الظاهر يعزيه الناس لأهل الزّيغ والبدع الدافعين لعموم الخلق لله تعالى ، وقد أطنب مكي في ذلك ، وأنكر على القائل به ، ونسبه إلى ما ذكرت ، فقال (٢) : وقد قال بعض أهل الزيغ : إن «من» في موضع نصب اسم للمسرين والمجاهرين ليخرج الكلام عن عمومه ، ويدفع عموم الخلق عن الله تعالى ، ولو كان كما زعم لقال : ألا يعلم ما خلق ؛ لأنه إنما يقدم ذكر ما تكن الصدور فهو في موضع ما ، ولو أتت «ما» في موضع «من» لكان فيه أيضا بيان العموم أن الله خالق كل شيء من أقوال الخلق وأفعالهم أسروها ، أو أظهروها خيرا كانت ، أو شرا ، ويقوي ذلك (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ولم يقل : عليم بالمسرين والجاهرين ، ويكون «ما» في موضع نصب ، وإنما تخرج الآية من هذا العموم إذا جعلت «ما» في موضع نصب اسما للأناس المخاطبين قبل هذه الآية ، وقوله : (بِذاتِ الصُّدُورِ) يمنع من ذلك» انتهى.

قال شهاب الدين (٣) : ولا أدري كيف يلزم ما قاله مكي بالإعراب الذي ذكره ، والمعنى الذي أبداه ، وقد قال بهذا القول أعني الإعراب الثاني جماعة من المحققين ، ولم يبالوا بما ذكره لعدم إفهام الآية إياه.

قال الزمخشريّ بعد كلام ذكره (٤) : ثم أنكر أن يحيط علما بالمضمر والمسر والمجهر (مَنْ خَلَقَ) الأشياء ، وحاله أنه اللطيف الخبير المتصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ، ويجوز أن يكون (مَنْ خَلَقَ) منصوبا بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ، ثم قال : فإن قلت : قدرت في (أَلا يَعْلَمُ) مفعولا على معنى ألا يعلم ذلك المذكور ما أضمر في القلب ، وأظهر باللسان من خلق ، فهلّا جعلته مثل قولهم : هو يعطي ويمنع؟ وهلا كان المعنى : ألا يكون عالما من هو خالق ؛ لأن الخلق لا يصلح إلا مع العلم؟ قلت : أبت ذلك الحال التي هي قوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) لأنك لو قلت : ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحا ؛ لأن (أَلا يَعْلَمُ) معتمد على الحال ، والشيء لا يوقف بنفسه ، فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ، ولكن ألا يعلم كذا ، وهو عالم بكل شيء».

فصل في معنى الآية

معنى الآية : ألا يعلم السّر من خلق السر ، يقول : أنا خلقت السر في القلب ، أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد؟.

قال أهل المعاني (٥) : إن شئت جعلته من أسماء الخالق ـ عزوجل ـ ويكون

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٤٤.

(٢) ينظر المشكل ٢ / ٧٤٦.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٤٤.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٧٩.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٤٠.

٢٤٤

المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه ، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق ، والمعنى : ألا يعلم الله من خلق ، ولا بد أن يكون الخالق عالما بمن خلقه ، وما يخلقه.

قال ابن المسيّب : بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير ، وقد عصفت الريح ، فوقع في نفس الرجل ، أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١)؟.

وقال أبو إسحاق الإسفراييني : من أسماء صفات الذّات ما هو للعلم ، منها «العليم» ، ومعناه : تعميم جميع المعلومات ، ومنها «الخبير» ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون ومنها «الحكيم» ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف ، ومنها «الشّهيد» ، ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر ، ومعناه : ألّا يغيب عنه شيء ، ومنها «الحافظ» ويختص بأنه لا ينسى شيئا ، ومنها «المحصي» ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور ، واشتداد الريح ، وتساقط الأوراق ، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة ، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق؟ وقد قال: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

فصل

لما قال تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ذكر الدليل على أنه عالم ، فقال : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) الآية ، والمعنى : أن من خلق لا بدّ وأن يكون عالما بما يخلقه ، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد ، والقاصد إلى الشيء لا بد وأن يكون عالما بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية.

قال ابن الخطيب (٢) : فنقول : لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيلها ، وهو غير عالم لأن التفاوت بين الحركة السريعة ، والبطيئة إنما هو لتحلّل السّكنات ، فالفاعل للحركة البطيئة قد يفعل حركة ، وسكونا ، ولم يخطر بباله ذلك فضلا عن كميته ، ولأن المتحرك لا يعرف عدد أجزاء الحركات إلّا إذا عرف عدد الأحياز التي هي بين مبدأ المسافة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بالجواهر المفردة التي تنتقل في تلك المسافة وعددها ، وذلك غير معلوم ، ولأنّ النائم يتحرك مع عدم علمه ؛ ولأن قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) إنما يتصل بما قبله لو كان خالقا لكل ما يفعلونه سرّا وجهرا ، وبما في الصدور.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأجساد؟.

فالجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد أن من فعل شيئا يكون عالما بشيء آخر.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٤٠).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٥٩.

٢٤٥

قوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

قيل : اللطيف : العالم.

وقيل : هو فاعل الأشياء اللطيفة التي يخفى علمها على أكثر الفاعلين ، ولهذا يقال : إن لطف الله تعالى بعباده عجيب ، والمراد به دقائق تدبيره لهم ، وهذا أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعد تكرارا.

قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) لما بين الدليل كونه عالما بما يسرون وما يعلنون ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سرا : يا فلان أنا أعلم سرك وعلانيتك ، فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك ، وكل هذا الخير الذي هيأته لك ، ولا تأمن تأديبي ، فكأنه تعالى يقول : يا أيها الكفّار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم ، فخافوني ؛ فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم ، ولو شئت خسفت بكم.

والذّلول : المنقاد الذي يذلّ لك ، والمصدر الذل وهو اللين والانقياد ، أي : لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة.

وقيل : يثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها ، ولو كانت تتكفأ متمايلة لما كانت منقادة لنا.

وقيل : إشارة إلى التمكن من الزرع ، والغرس ، وشق العيون ، والأنهار ، وحفر الآبار ، وبناء الأبنية ، ولو كانت صلبة لتعذر ذلك.

وقيل : لو كانت مثل الذّهب والحديد لكانت تسخن جدا في الصيف ، وكانت تبرد جدا في الشتاء (١).

قوله : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها). هذه استعارة حسنة جدا.

وقال الزمخشري (٢) : مثل لفرط التذليل ، ومجاوزته الغاية ؛ لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير ، وأنهاه عن أن يطأه الراكب بقدمه ، ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك.

فصل في هذا الأمر

هذا أمر إباحة ، وفيه إظهار الامتنان.

وقيل : هو خبر بلفظ الأمر ، أي : لكي تمشوا في أطرافها ، ونواحيها ، وآكامها وجبالها.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٤٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٨٠.

٢٤٦

وقال ابن عبّاس وقتادة وبشير بن كعب : (فِي مَناكِبِها) في جبالها (١).

وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها : إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة. فقالت : مناكبها : جبالها ، فصارت حرّة ، فأراد أن يتزوجها ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».

وقال مجاهد : في أطرافها (٢) ، وعنه أيضا : في طرفها وفجاجها (٣) ، وهو قول السديّ والحسن.

وقال الكلبيّ : في جوانبها (٤). ومنكبا الرجل : جانباه ، وأصل الكلمة : الجانب ، ومنه منكب الرجل والريح النكباء ، وتنكب فلان عن فلان.

يقول : امشوا حيث أردتم ، فقد جعلتها لكم ذلولا لا تمتنع.

وحكى قتادة عن أبي الجلد : أن الأرض من أربعة وعشرون ألف فرسخ ، فللسودان اثنا عشر ألفا ، وللروم ثمانية آلاف ، وللفرس ثلاثة الآف ، وللعرب ألف.

قوله : (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ).

قال الحسن : ما أحله لكم.

وقيل : مما أنبته لكم.

وقيل : مما خلقه الله لكم رزقا من الأرض (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) المرجع.

وقيل : معناه أن الذي خلق السماوات ولا تفاوت فيها ، والأرض ذلولا قادر على أن ينشركم ، وإليه تبعثون من قبوركم.

قوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ).

تقدم اختلاف القراء في الهمزتين المفتوحتين نحو (أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٦] تخفيفا وتحقيقا وإدخال ألف بينهما وعدمه في سورة «البقرة».

وأن قنبلا يقرأ هنا (٥) : بإبدال الهمزة الأولى واوا في الوصل (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) وأمنتم»،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٦٨ ـ ١٦٩) عن ابن عباس وبشير بن كعب وقتادة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٤) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر. وذكره أيضا عن بشير بن كعب وعزاه إلى ابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ١٦٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٤) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٦٩).

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٤٠).

(٥) وهي قراءة ابن كثير كما في : السبعة ٦٤٤ ، والحجة ٦ / ٣٠٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٧٩ ، وحجة القراءات ٧١٦ ، والعنوان ١٩٤ ، وشرح شعلة ٦٠٥ ، وإتحاف ٢ / ٥٥١.

٢٤٧

وهو على أصله من تسهيل الثانية بين بين ، وعدم ألف بينهما ، وأما إذا ابتدأ ، فيحقق الأولى ، ويسهل الثانية بين بين على ما تقدم ، ولم تبدل الأولى واوا ، لزوال موجبه وهو انضمام ما قبلها ، وهي مفتوحة نحو «موجل ، ويؤاخذكم» ، وقد مضى في سورة «الأعراف» عند قوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ) [الأعراف : ١٢٣] ، وإنما عددناه تذكيرا ، وبيانا.

قوله : (مَنْ فِي السَّماءِ). مفعول (أَأَمِنْتُمْ) وفي الكلام حذف مضاف ، أي : أمنتم خالق السماوات.

وقيل : «في» بمعنى «على» ، أي : على السماء ، كقوله : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] ، أي : على جذوع النخل.

وإنما احتاج القائل بهذين إلى ذلك ؛ لأنه اعتقد أن «من» واقعة على الباري ، وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيّز لئلا يلزم التجسيم ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ فإن «من» هنا المراد بها : الملائكة سكان السماء ، وهم الذين يتولّون الرحمة والنقمة.

وقيل : خوطبوا بذلك على اعتقادهم ؛ فإن القوم كانوا مجسمة مشبّهة ، والذي تقدم أحسن.

قال ابن الخطيب (١) : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين ؛ لأن ذلك يقتضي إحاطة السّماء به من جميع الجوانب ، فيكون أصغر منها ، والعرش أكبر من السماء بكثير ، فيكون حقيرا بالنسبة إلى العرش ، وهو باطل بالاتفاق ، ولأنه قال : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٢] فلو كان فيهما لكان مالكا لنفسه ، فالمعنى : إما من في السموات عذابه ، وإما أن ذلك ما كانت العرب تعتقد ، وإما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته ، كما قال تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣] فإنّ الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين ، والغرض من ذكر السّماء تفخيم سلطان الله ، وتعظيم قدرته ، والمراد الملك الموكل بالعذاب ، وهو جبريل يخسفها بإذن الله.

قوله : (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) و (أَنْ يُرْسِلَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنهما بدلان من (مَنْ فِي السَّماءِ) بدل اشتمال ، أي : أمنتم خسفه ، وإرساله.

قاله أبو البقاء (٢).

والثاني : أن يكون على حذف «من» ، أي : أمنتم من الخسف والإرسال ، والأول أظهر.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٦١.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٦٦.

٢٤٨

فصل

قال القرطبيّ : ويحتمل أن يكون المعنى : أمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أي : تذهب وتجيء ، والمور : الاضطراب بالذهاب والمجيء. قال الشاعر : [الطويل]

٤٨٠١ ـ رمين فأقصدن القلوب ولن ترى

دما مائرا إلّا جرى في الحيازم (١)

جمع «حيزوم» وهو وسط الصدر.

وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض ، فهو المور.

قال ابن الخطيب : إن الله ـ تعالى ـ يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك ، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها ، فيذهبون والأرض فوقهم تمور ، فتقلبهم إلى أسفل السافلين.

قال القرطبي (٢) : قال المحققون : أمنتم من فوق السّماء ، كقوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) [التوبة : ٢] أي : فوقها لا بالمماسة والتحيّز ، لكن بالقهر والتدبير.

وقيل : معناه : أمنتم من على السماء كقوله : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ، أي: عليها ، ومعناه أنه مدبرها ، ومالكها كما يقال : فلان على «العراق» ، أي : وليها وأميرها ، والأخبار في هذا صحيحة ، وكثيرة منتشرة مشيرة إلى العلوّ ، لا يدفعها إلا ملحد ، أو جاهل أو معاند ، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ، ووصفه بالعلو والعظمة ، لا بالأماكن والجهات والحدود ؛ لأنها صفات الأجسام ، وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء ؛ لأن السماء مهبط الوحي ، ومنزل القطر ، ومحل القدس ، ومعدن المطهرين من الملائكة ، وإليها ترفع أعمال العباد ، وفوقها عرشه وجنته كما جعل الله الكعبة قبلة للصلاة ، فإنه خلق الملائكة وهو غير محتاج إليها ، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ، ولا مكان له ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان.

قوله (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً).

قال ابن عباس : أي : حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل (٣).

وقيل : ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء ، لشدتها وقوتها.

وقيل : سحاب فيه حجارة.

قوله (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٤١.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٤١.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٤١).

٢٤٩

قيل : هاهنا النذير : المنذر ، يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك ، والمعنى : فستعلمون رسولي ، وصدقه ولكن حين لا ينفعكم ذلك.

وقيل : إنه بمعنى الإنذار ، والمعنى فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول ، وكيف في قوله (كَيْفَ نَذِيرِ) [ينبىء](١) عن ما ذكرنا من صدق الرسول ، وعقوبة الإنذار.

وقد تقدم أن «نذير ، ونكير» مصدران بمعنى الإنذار ؛ والإنكار.

وأثبت (٢) ورش ياء «نذيري» وقفا ، وحذفها وصلا ، وحذفها الباقون في الحالين.

قوله : (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). يعني كفار الأمم كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي : إنكاري وتغييري : قاله الواحديّ (٣).

وقال أبو مسلم : النكير عقاب المنكر ، ثم قال : سقطت الياء من «نذيري» ومن «نكيري» حتى تشابه رءوس الآي المتقدمة عليها ، والمتأخرة عنها.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢٤)

قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ).

لما ذكر من تقدم من الوعيد ذكر البرهان على كمال قدرته ، وعلى إيصال جميع أنواع العذاب إليهم ، ومعناه كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور ، وصافات : أي : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن.

قال شهاب الدين (٤) : «صافّات» يجوز أن يكون حالا من «الطّير» ، وأن يكون حالا من «فوقهم» إذا جعلناه حالا ، فتكون متداخلة ، و «فوقهم» ظرف ل «صافّات» أو ل «يروا».

قوله : (وَيَقْبِضْنَ) عطف الفعل على الاسم ؛ لأنه بمعناه ، أي : وقابضات ، فالفعل

__________________

(١) في أ : يعني.

(٢) ينظر : السبعة ٦٤٥ ، والحجة ٦ / ٣٠٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٨٠ ، والعنوان ١٩٤ ، وشرح الطيبة ٦ / ٦٤ ، وإتحاف ٢ / ٥٥١.

(٣) ينظر البحر المحيط ٨ / ٢٩٦.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٤٥.

٢٥٠

هنا مؤول بالاسم عكس قوله : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا) [الحديد : ١٨] فإن الاسم هناك مؤول بالفعل وقد تقدم الاعتراض على ذلك.

وقول أبي البقاء (١) : معطوف على اسم الفاعل حملا على المعنى ، أي : يصففن ويقبضن ، أي : «صافّات وقابضات» لا حاجة إلى تقديره : يصففن ويقبضن ؛ لأن الموضع للاسم فلا نؤوله بالفعل.

قال أبو حيان (٢) : «وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ) [العاديات : ٣ ـ ٤] ، ومثل هذا العطف فصيح وكذا عكسه إلّا عند السّهيلي ؛ فإنه قبيح ؛ نحو قوله : [الرجز]

٤٨٠٢ ـ بات يغشّيها بعضب باتر

يقصد في أسوقها وجائر (٣)

أي : قاصد في أسواقها وجائر».

وكذا قال القرطبيّ (٤) : هو معطوف على «صافّات» عطف المضارع على اسم الفاعل كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر : «بات يغشّيها» البيت.

قال شهاب الدين (٥) : هو مثله في عطف الفعل على اسم الفاعل إلا أن الاسم فيه مؤول بالفعل عكس هذه الآية ، ومفعول «يقبضن» محذوف ، أي : ويقبضن أجنحتهن.

قاله أبو البقاء (٦) ، ولم يقدر ل «صافّات» مفعولا كأنه زعم أن الاصطفاف في أنفسها ، والظاهر أن المعنى : صافات أجنحتها وقابضات ، فالصف والقبض منها لأجنحتها.

ولذلك قال الزمخشري (٧) : «صافّات» باسطات أجنحتهن ، ثم قال : فإن قلت : لم قال : ويقبضن ، ولم يقل : «قابضات»؟.

قلت : لأن الطيران هو صف الأجنحة ؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، يكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح.

قوله (ما يُمْسِكُهُنَّ). يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وأن تكون حالا من

__________________

(١) ينظر الإملاء ٢ / ٢٦٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٩٧.

(٣) ينظر الخزانة ٢ / ٣٤٥ والعيني ٤ / ١٧٤ ، والصبان ٣ / ٢٠ ، والقرطبي ١٨ / ١٤٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٧٩٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٤٦.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٤٢.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٤٦.

(٦) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٦٦.

(٧) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٨١.

٢٥١

الضمير في «يقبضن» قاله أبو البقاء (١). والأول أظهر.

وقرأ الزهريّ (٢) : بتشديد السّين.

فصل في معنى : يقبضن

قوله : «ويقبضن». أي : يضربن بها لجنوبهن.

قال أبو جعفر النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحيه : صاف ، وإذا ضمها فأصاب جنبه قابض ، لأنه يقبضهما.

قال أبو خراش الشاعر : [الطويل]

٤٨٠٣ ـ يبادر جنح اللّيل فهو موائل

يحثّ الجناح بالتّبسّط والقبض

وقيل : ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران.

وقوله (ما يُمْسِكُهُنَّ) أي : ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عزوجل (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ).

قال ابن الخطيب (٣) : وفيه وجهان :

الأول : المراد من «البصير» كونه عالما بالأشياء الدقيقة ، كما يقال : فلان له بصر في هذا الأمر ، أي : حذق.

والثاني : أن يجري اللفظ على ظاهره ، فتقول : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) فيكون رائيا لنفسه ، ولجميع الموجودات وهذا الذي يقوله أصحابنا : إنه تعالى شيء يصح أن يكون مرئيا ، وأن كل الموجودات كذلك ، فإن قيل : البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم ، يقال : فلان بصير بكذا إذا كان عالما قلنا : لا نسلم ، فإنه يقال : إن الله سميع بالمسموعات بصير بالمبصرات.

فصل

في قوله تعالى (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى (٤) ، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري له ، وقد نسبه للرحمن.

قوله : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي).

قرأ العامة : بتشديد الميم على إدغام ميم «أم» في ميم «من» و «أم» بمعنى «بل» لأن بعدها

اسم استفهام ، وهو مبتدأ ، خبره اسم الإشارة.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٦٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٩٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٤٦.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٦٣.

(٤) ينظر السابق.

٢٥٢

وقرأ طلحة (١) : بتخفيف الأول وتثقيل الثاني.

قال أبو الفضل : معناه : أهذا الذي هو جند لكم ، أم الذي يرزقكم. و «ينصركم» صفة لجند.

فصل في لفظ جند

قال ابن عباس : (جُنْدٌ لَكُمْ) أي : حزب ومنعة لكم (يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ)(٢) ، فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه. ولفظ الجند يوحد ، ولهذا قال : هذا الذي هو جند لكم ، وهو استفهام إنكاري ، أي لا جند لكم يدفع عذاب الله من دون الرحمن ، أي : من سوى الرحمن (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) من الشيطان يغرهم بأن لا عذاب ، ولا حساب.

قال بعض المفسرين (٣) : كان الكفار يمتنعون عن الإيمان ، ويعاندون الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ معتمدين على شيئين :

أحدهما : قوتهم بعددهم ومالهم.

والثاني : اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات ، وتدفع عنهم جميع الآفات فأبطل الله عليهم الأول بقوله (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ) الآية ، ورد عليهم الثاني بقوله : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) الآية.

قوله (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) شرط ، جوابه محذوف للدلالة عليه ، أي : أفمن يرزقكم غيره.

وقدّر الزمخشريّ شرطا بعد قوله : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) تقديره (٤) : «إن أرسل عليكم عذابه» ولا حاجة له صناعة.

فصل في معنى الآية

المعنى (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) أي : يعطيكم منافع الدنيا.

وقيل : من آلهتكم (إِنْ أَمْسَكَ) يعني الله تعالى رزقه وهذا مما لا ينكره ذو عقل ، وهو أنه تعالى إن أمسك أسباب الرزق كالمطر ، والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى : (بَلْ لَجُّوا) ، أي : تمادوا وأصروا (فِي عُتُوٍّ) طغيان «ونفور» عن الحق ، أو تباعد أو إعراض عن الحق.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٤٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٩٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٤٦.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٧٢) والقرطبي (١٨ / ١٤٢).

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٣٦.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٨١.

٢٥٣

قوله : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى). «مكبّا» حال من فاعل «يمشي».

قال الواحديّ (١) : «أكب» ، مطاوع كبه ، يقال : كببته فأكب.

قال الزمخشريّ (٢) : هو من الغرائب والشواذ ، ونحوه قشعت الريح السحاب فأقشع ، وما هو كذلك ولا شيء من بناء «أفعل» مطاوع ، بل قولك : أكب ، من باب «أنفض ، وألأم» ومعناه : دخل في الكب ، وصار ذا كب وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع.

ومطاوع «كب ، وقشع» انكب وانقشع.

قال أبو حيان (٣) : «ومكبا» حال من «أكب» وهو لا يتعدى ، و «كب» متعد ، قال تعالى (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل : ٩٠] والهمزة فيه للدخول في الشيء ، أو للصيرورة ، ومطاوع كب انكب ، تقول : كببته فانكب. قال الزمخشريّ (٤) : «ولا شيء من بناء «أفعل» مطاوعا ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه» انتهى.

وهذا الرجل يتبجح بكتاب سيبويه ، وكم من نص في كتاب سيبويه عمي بصره وبصيرته عنه حتى إن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتابا يذكر فيه ما غلط الزمخشري فيه ، وما جهله من كتاب سيبويه. انتهى.

قال شهاب الدين (٥) : انظر إلى هذا الرجل كيف أخذ كلام الزمخشري الذي أسلفته عنه طرز به عبارته حرفا بحرف ثم أخذ ينحي عليه بإساءة الأدب جزاء ما لقنه تلك الكلمات الرائقة ، وجعل يقول : إن مطاوع «كبّ» «انكب» لا «أكب» وأن الهمزة للصيرورة ، أو للدخول في الشيء ، وبالله لو بقي دهره غير ملقن إياها لما قالها أبدا ، ثم أخذ يذكر عن إنسان مع أبي القاسم كالسّها مع القمر أنه غلطه في نصوص من كتاب سيبويه ، والله أعلم بصحتها : [الوافر]

٤٨٠٤ ـ وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السّقيم (٦)

وعلى تقدير التسليم ، فالفاضل من عدت سقطاته.

قال القرطبيّ (٧) : يقال : أكب الرجل على وجهه فيما لا يتعدى بالألف ، فإذا تعدى قيل: كبه الله على وجهه بغير ألف ، وقوله : (أَفَمَنْ يَمْشِي) هو المعادل ل (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا).

__________________

(١) ينظر البحر المحيط ٨ / ٢٩٧.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٨٢.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٩٧.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٤٧.

(٦) البيت للمتنبي ينظر ديوانه ٢ / ٣٥٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٤٧.

(٧) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٤٣.

٢٥٤

وقال أبو البقاء (١) : «وأهدى» خبر «من (يَمْشِي») وخبر «من» الثانية محذوف.

يعني أن الأصل : أم من يمشي سويا أهدى ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأن قولك : أزيد قائم ، أم عمرو لا يحتاج فيه من حيث الصناعة إلى حذف الخبر ، نقول : هو معطوف على «زيد» عطف المفردات ، ووحد الخبر لأن «أمّ» لأحد الشيئين.

فصل

قال المفسرون (٢) : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا) منكسا رأسه لا ينظر أمامه ، ولا يمينه ، ولا شماله ، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجه ه «كمن يمشي سويا» معتدلا ناظرا ما بين يديه ، وعن يمينه وعن شماله.

قال ابن عباس : هذا في الدنيا ، ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى طريق ، فلا يزال ينكسه على وجهه ، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدي له(٣).

قال قتادة : هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا ، يحشره الله يوم القيامة على وجهه(٤).

وقال ابن عباس والكلبيّ : عنى بالذي يمشي على وجهه أبا جهل ، وبالذي يمشي سويا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥).

وقيل : أبو بكر.

وقيل : حمزة.

وقيل : عمار بن ياسر.

قال عكرمة : وقيل : هو عام في الكافر والمؤمن ، أي : إن الكافر لا يدري أعلى حق هو ، أم على باطل ، أي : هذا الكافر أهدى ، أم المسلم الذي يمشي سويا معتدلا يبصر الطريق ، وهو على صراط مستقيم وهو الإسلام (٦).

قوله (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ). أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم أن الله خلقهم (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) يعني القلوب.

قوله «قليلا». نعت مصدر محذوف ، أو حال من ضمير المصدر كما هو رأي سيبويه و «ما» مزيدة أي : تشكرون قليلا ، والجملة من «تشكرون» إما مستأنفة ، وهو الظاهر ، وإما حال مقدرة ؛ لأنهم حال الجعل غير شاكرين.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٦٦.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٤٢.

(٣) ينظر : تفسير البغوي (٤ / ٣٧٢) ، والقرطبي (١٨ / ١٤٢).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٧١ ـ ١٧٢).

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٤٣).

(٦) ينظر المصدر السابق.

٢٥٥

والمراد بالقلة العدم ، أو حقيقتها ، أي : لا تشكرون هذه النعم ، ولا توحدون الله تعالى ، تقول : قلّما أفعل كذا ، أي : لا أفعله.

قال ابن الخطيب (١) : وذكر السمع والبصر والفؤاد هاهنا تنبيها على دقيقه لطيفة ، كأنه تعالى قال : أعطيتم هذه الأعضاء الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة ، فضيعتموها ولم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه ، فكأنكم ضيعتم هذه النعم ، وأفسدتم هذه المواهب ، فلهذا قال : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).

قوله : (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

قال ابن الخطيب (٢) : اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوان أولا ، ثم بصفات الإنسان ثانيا ، وهي السمع والبصر والعقل ، ثم بحدوث ذاته ثالثا ، وهو قوله (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر ليثبت ما ادعاه في قوله (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ولهذا ختم الآية بقوله (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) لأنه لما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة ، فلهذا ختمها بقوله (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

فصل في معنى «ذرأكم»

قال ابن عباس : خلقكم في الأرض (٣).

وقال ابن بحر : نشركم فيها ، وفرقكم فيها على ظهرها (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيجازي كلّا بعمله.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)(٣٠)

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، أي : متى يوم القيامة ومتى هذا العذاب الذي تعدوننا به؟.

قال أبو مسلم : إنه تعالى قال : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بلفظ المستقبل ، وهذا يحتمل ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل ، ويحتمل

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٦٥.

(٢) السابق.

(٣) ينظر : القرطبي (١٨ / ١٣٢).

٢٥٦

الماضي ، والتقدير : وكانوا يقولون : متى هذا الوعد ، ولعلهم كانوا يقولون ذلك سخرية ، واستهزاء ، وكانوا يقولونه إيهاما للضعفة ، ثم إنه تعالى أجاب عن هذا السؤال ، فقال (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) ، أي : قل لهم يا محمد : علم وقت قيام الساعة عند الله فلا يعلمه غيره ، نظيره : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) [الأعراف : ١٨٧] الآية (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : مخوف ومعلم لكم ، ثم إنه تعالى بين حالهم عند ذلك الوعد وهو قوله : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي : الموعود ، أو العذاب زلفة ، أي : قريبا ، فهو حال.

وقال القرطبيّ (١) : «مصدر ، بمعنى مزدلفا ، أي : قريبا ، قاله مجاهد» (٢).

ولا بد من حذف مضاف ، أي : ذا زلفة ، وجعل الزلفة مبالغة.

وقيل : «زلفة» تقديره : مكانا ذا زلفة ، فينتصب انتصاب المصدر.

فصل في المراد بالعذاب

قال الحسن : عيانا (٣). وأكثر المفسرين على أن المراد عذاب الآخرة.

وقال مجاهد : عذاب يوم بدر (٤).

وقيل : رأوا ما يوعدون من الحشر قريبا منهم ، لقوله (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

وقال ابن عباس : يعني علمهم الشيء قريبا.

قوله : «سيئت» ، الأصل : «ساء» أحزن وجوههم العذاب ، ورؤيته ، ثم بني للمفعول ، وساء هنا ليست المرادفة ل «بئس» كما تقدم مرارا.

وأشم كسرة السين الضم (٥) : نافع وابن عامر والكسائي ، كما فعلوا ذلك في (سِيءَ بِهِمْ) [هود : ٨٧] في «هود» كما تقدم. والباقون : بإخلاص الكسر ، وتقدم تحقيق هذا وتصريفه في أول «البقرة» ، وأن فيه لغات عند قوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) [البقرة : ١١].

فصل في معنى الآية

قال ابن عباس (٦) : «سيئت» أي : اسودت وعليها الكآبة والغبرة (٧).

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٧٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٥) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٧٣).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٧٣) عن مجاهد ، وذكره أيضا القرطبي (١٨ / ١٤٣).

(٥) وكذلك أبو جعفر ، والحسن ، وابن كثير ، وأبو رجاء ، وشيبة ، وابن وثاب وطلحة كما في : المحرر الوجيز ٥ / ٣٤٣ ، والبحر المحيط (٨ / ٢٩٨) ، والدر المصون ٦ / ٣٤٨.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٧٣) عن مجاهد ، وذكره أيضا القرطبي (١٨ / ١٤٣).

(٧) في ب : والقترة.

٢٥٧

يقال : ساء الشيء يسوء ، فهو مسيء إذا قبح ، وساء يساء إذا قبح ، وهو فعل لازم ومتعدّ ومعنى (سِيئَتْ وُجُوهُ) ، أي : قبحت ، بان عليها الكآبة ، وغشيها الكسوف والقترة وكلحوا.

قال الزجاج (١) : تبين فيها السوء ، أي : ساءهم ذلك العذاب وظهر على وجوههم سمة

تدل على كفرهم ، كقوله تعالى (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦].

قوله : (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) ، أي : قال لهم الخزنة.

قال الفراء : «تفتعلون» من الدعاء. وهو قول أكثر العلماء ، أي : تتمنون ، وتسألون.

وقال ابن عباس : تكذبون (٢) ، وتأويله : هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأحاديث قاله الزجاج (٣).

وقرأ العامة : بتشديد الدال مفتوحة.

فقيل : من الدعوى ، أي : تدعون أنه لا جنة ولا نار ، قاله الحسن.

وقيل : من الدعاء ، أي : تطلبونه وتستعجلونه.

وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء (٤) والضحاك ، ويعقوب وأبو زيد وأبو بكر وابن أبي عبلة ونافع في رواية الأصمعي : بسكون الدال ، وهي مؤيدة للقول بأنها من الدعاء في قراءة العامة.

وقال قتادة : هو قولهم : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا)(٥) [ص : ١٦].

وقال الضحاك : هو قولهم : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) [الأنفال : ٣٢] الآية.

وقال النحاس : تدّعون ، وتدعون ، بمعنى واحد ، كما يقال : قدر واقتدر ، وعدى واعتدى إلا أن في «افتعل» معنى شيء بعد شيء ، و «فعل» يصح للقليل والكثير.

قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ). أي : قل لهم يا محمد ، يعني مشركي مكة وكانوا يتمنون موت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] أرأيتم إن متنا ، أو رحمنا ، فأخرت آجالنا ، يعني أنا ومن معي من المؤمنين فمن يجيركم من عذاب الله؟ فلا حاجة لكم إلى التربص بنا ولا إلى استعجال قيام الساعة.

وأسكن الياء في «أهلكني» (٦) ابن محيصن والمسيبي وشيبة والأعمش وحمزة وفتحها الباقون.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٥ / ٢٠١.

(٢) ينظر القرطبي (١٨ / ١٤٤).

(٣) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٥ / ٢٠١.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٤٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٩٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٤٨.

(٥) ينظر : القرطبي (١٨ / ١٤٤).

(٦) ينظر : السبعة ٦٤٥ ، والحجة ٦ / ٣٠٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٨٠ ، والعنوان ١٩٤ ، وشرح الطيبة ٦ / ٦٤ ، وإتحاف ٢ / ٥٥٢ ، والقرطبي ١٨ / ١٤٤.

٢٥٨

وكلهم فتح الياء في (وَمَنْ مَعِيَ) إلا أهل الكوفة (١) فإنهم سكنوها ، وفتحها حفص ، كالجماعة.

قوله : (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا). قد تقدم لم أخر متعلق الإيمان وقدم متعلق التوكل ، وأن التقديم يفيد الاختصاص.

قال القرطبيّ (٢) : إنما قدم لوقوع «آمنّا» تعريضا بالكافرين ، حين ورد عقب ذكرهم ، كأنه قيل : آمنا ولم نكفر كما كفرتم ، ثم قال : (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) خصوصا لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم ، قاله الزمخشري (٣).

وقرأ الكسائي (٤) : «فسيعلمون» بياء الغيبة نظرا إلى قوله «الكافرين».

والباقون : على الخطاب ، إما على الوعيد وإما على الالتفات من الغيبة المرادة في قراءة الكسائي وهو تهديد لهم ، أي : فستعلمون عند معاينة العذاب من الضال نحن ، أم أنتم.

قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) يا معشر قريش (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي : غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء ، و «غورا» خبر «أصبح» ، وجوز أبو البقاء : أن يكون حالا على تمام «أصبح» ، لكنه استبعده (٥).

وحكى أنه قرىء (٦) : «غؤورا» ـ بضم الغين ، وهمزة مضمومة ، ثم واو ساكنة ـ على «فعول» وجعل الهمزة منقلبة عن واو مضمومة.

فصل في المراد بالماء

كان ماؤهم من بئرين : بئر زمزم وبئر ميمون (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي : جار ، قاله قتادة والضحاك (٧).

فلا بد لهم أن يقولوا : لا يأتينا به إلا الله تعالى ، فقل لهم : فلم تشركون به من لا يقدر على أن يأتيكم به.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٤٥ ، والحجة ٦ / ٣٠٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٧٩ ، ٣٨٠ ، والعنوان ١٩٤ ، وشرح الطيبة ٦ / ٦٤ ، وإتحاف ٢ / ٥٥٢ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٤٣.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٤٤.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٨٣.

(٤) ينظر : السبعة ٦٤٤ ، والحجة ٦ / ٣٠٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٨٠ ، وحجة القراءات ٧١٦ ، والعنوان ١٩٤ ، وشرح شعلة ٥ / ٦ ، وشرح الطيبة ٦ / ٦٣ ، وإتحاف ٢ / ٥٥٢.

(٥) ينظر الإملاء ٢ / ٢٦٦.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٤٨.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٧٤) عن قتادة والضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٦) عن قتادة. وعزاه إلى عبد بن حميد.

٢٥٩

يقال : غار الماء يغور غورا : نضب ، والغور : الغائر ، وصف بالمصدر للمبالغة كما تقول : رجل عدل ، ورضى. كما تقدم في سورة الكهف.

قال ابن عباس : (بِماءٍ مَعِينٍ) أي : ظاهر تراه العيون (١) ، فهو مفعول.

وقيل : هو من معن الماء ، أي : كثر ، فهو على هذا «فعيل».

وعن ابن عباس أيضا : «فمن يأتيكم بماء عذب» (٢).

روى أبو هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ سورة من كتاب الله ما هي إلّا ثلاثون آية شفعت لرجل فأخرجته يوم القيامة من النّار وأدخلته الجنّة هي سورة تبارك» (٣).

وعن عبد الله بن مسعود قال : إذا وضع الميت في قبره يؤت من قبل رجليه فيقال : ليس لكم عليه سبيل لأنه قد كان يقوم بي سورة «الملك» ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه : ليس لكم عليه سبيل كان يقرأ بي سورة «الملك» ، ثم قال : هي المانعة من عذاب الله وهي في التوراة سورة الملك ، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب (٤).

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وددت أنّ (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) في قلب كلّ مؤمن» (٥).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٦) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٧٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٦) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ١٦٤) كتاب فضائل القرآن ، باب : ما جاء في فضل سورة الملك رقم (٢٨٩١) وأبو داود (١ / ٤٤٠) كتاب الصلاة ، باب : في عدد الآي رقم (١٤٠٠) وابن ماجه (٢ / ١٢٤٤) كتاب الأدب ، باب : ثواب القرآن (٣٧٨٦) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٤٩٦) وأحمد (٢ / ٢٩٩) وابن حبان (١٧٦٦ ـ موارد) وابن الضريس في «فضائل القرآن» رقم (٢٣٥) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (٦٨١) من حديث أبي هريرة.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٤) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٩٨) والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢٥٠٩) والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٣١) من طريق عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وقال الهيثمي : وفيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٠) وزاد نسبته إلى ابن الضريس.

(٥) أخرجه عبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص ٢٠٦) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٣٠) وقال رواه الطبراني وفيه إبراهيم بن الحكم بن أبان وهو ضعيف.

٢٦٠