اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قوله : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ).

الظّاهر أنه مفرد ، ولذلك كتب بالحاء دون واو الجمع.

وجوزوا أن يكون جمعا ـ بالواو والنون ـ حذفت النون للإضافة ، وكتب دون واو اعتبارا بلفظه ، لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين ، نحو : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) [الشورى : ٢٤]. و (يَدْعُ الدَّاعِ) [القمر : ٦] ، و (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨] ، إلى غير ذلك.

ومثل هذا ما جاء في الحديث : «أهل القرآن أهل الله وخاصّته».

قالوا : يجوز أن يكون مفردا ، وأن يكون جمعا ، كقوله : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) [الفتح : ١١] وحذفت الواو لالتقاء الساكنين لفظا.

فإذا كتب هذا ، فالأحسن أن يكتب بالواو لهذا الغرض ، وليس ثمّ ضرورة لحذفها كما في مرسوم الخط.

وجوز أبو البقاء (١) في «جبريل» أن يكون معطوفا على الضمير في «مولاه» ، يعني المستتر ، وحينئذ يكون الفصل بالضمير المجرور كافيا في تجويز العطف عليه.

وجوز أيضا : أن يكون «جبريل» مبتدأ ، و «صالح» عطف عليه ، فالخبر محذوف ، أي : مواليه.

فصل في المراد بصالح المؤمنين

قال ابن عباس رضي الله عنهما : أراد بقوله (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) يعني أبا بكر وعمر مواليين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من عاداه ، وناصرين له (٢). وهو قول المقاتلين.

وقال الضحاك : خيار المؤمنين (٣).

وقيل : كل من آمن وعمل صالحا.

وقيل : كل من برىء من النفاق.

وقيل : الأنبياء.

وقيل : الخلفاء.

وقيل : الصحابة.

قوله : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ).

قيل : كل «عسى» في القرآن واجب إلا هذا.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٣٠.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٥٤) عن الضحاك.

٢٠١

وقيل : واجب ، ولكن الله ـ عزوجل ـ علقه بشرط ، وهو التطليق ولم يطلقهن.

قال النحويون : (إِنْ طَلَّقَكُنَّ) شرط معترض بين اسم «عسى» وخبرها ، وجوابه محذوف ، أو متقدم ، أي : «إن طلقكنّ فعسى».

وأدغم أبو عمرو القاف في الكاف على رأي بعضهم (١).

قال : وهو أولى من (يَرْزُقُكُمْ) [يونس : ٣١] ، ونحوه لثقل التأنيث.

قوله : (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً).

قرىء : مخففا (٢) ومشددا ، كما تقدم في «الكهف».

والتبديل والإبدال بمعنى كالتنزيل والإنزال.

وقوله : (أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ).

لأنكن لو كنتن خيرا منهن ما طلقكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال معناه السديّ.

وقيل : هذا وعد من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الآخرة نساء خيرا منهن ، وكان الله عالما بأنه لا يطلقهن ، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) [محمد : ٣٨] وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم ، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فصل في الكلام على لفظ مسلمات

قوله : (مُسْلِماتٍ) إلى آخره. إما نعت أو حال أو منصوب على الاختصاص.

قال سعيد بن جبير : يعنى مخلصات.

وقيل : مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله خاضعات لله بالطاعة (مُؤْمِناتٍ) أي : مصدقات بتوحيد الله.

وقيل : مصدقات بما أمرن به ، ونهين عنه (قانِتاتٍ) مطيعات ، والقنوت : الطاعة.

وقيل : داعيات بتوحيد الله.

وقيل : مصليات «تائبات» أي : من ذنوبهن ، قاله السديّ.

وقيل : راجعات إلى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تاركات لمحاب أنفسهن ، (عَبَّدْتَ) أي : كثيرات العبادة لله تعالى.

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كل عبادة في القرآن فهو التوحيد (٣)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٣٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٨٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٧.

(٢) وهي قراءة نافع والأعرج وأبي جعفر كما في : المحرر الوجيز ٥ / ٣٣٢ ، وينظر : الدر المصون ٦ / ٣٣٧.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٢٧).

٢٠٢

(سائِحاتٍ) أي : صائمات ، قاله ابن عبّاس والحسن وابن جبير (١).

وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان : مهاجرات.

قال زيد : وليس في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الأرض.

وقال الفرّاء (٢) والقتبي وغيرهما : سمي الصائم سائحا ؛ لأن السائح لا زاد معه ، وإنما يأكل من حيث وجد الطعام.

وقيل : يسحن معه حيثما ساح.

وقيل : ذاهبات في طاعة الله تعالى ، من ساح الماء إذا ذهب. وقد مضى في سورة براءة(٣).

وقرأ (٤) عمرو (٥) بن فائد : «سيّحات».

فصل في الكلام على الآية

قال ابن الخطيب (٦) : فإن قيل : كيف تكون المبدلات خيرا منهن ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيرا من أمهات المؤمنين؟.

فالجواب : إذا طلقهن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعصيانهن له ، وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بهذه الصفات مع الطاعة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا منهن.

فإن قيل : قوله : (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) يوهم التّكرار ؛ لأن المسلمات والمؤمنات سواء؟ فالجواب (٧) : الإسلام هو التصديق باللسان ، والإيمان التصديق بالقلب ، وقد لا يجتمعان فقوله (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) تحقيقا لاجتماعهما.

قوله : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً).

إنما توسطت الواو بين ثيبات وأبكارا لتنافي الوصف دون سائر الصفات.

و «ثيّبات» ونحوه لا ينقاس ؛ لأنه اسم جنس مؤنث ، فلا يقال : نساء حورات ، ولا رأيت عينات.

و «الثّيّب» وزنها «فيعل» من «ثاب يثوب» أي : رجع ، كأنها ثابت بعد زوال عذرتها.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٥٦) عن ابن عباس وقتادة والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٤) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) ينظر : معاني القرآن له ٣ / ١٦٧.

(٣) آية رقم ١١٢.

(٤) في أ : واختار.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٧.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٤٠.

(٧) السابق ٣٠ / ٤١.

٢٠٣

وأصله : «ثيوب» ك «سيّد وميّت» أصلهما : «سيود وميوت» على الإعلال المشهور.

والمعنى : منهن ثيّب ، ومنهن بكر.

قيل : إنما سميت ثيّبا ؛ لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها ، وإلى غيره إن فارقها.

وقيل : لأنها ثابت إلى بيت أبويها.

قال القرطبي (١) : «والأول أصح ؛ لأن ليس كل ثيب تعود إلى زوج ، وأما البكر : فهي العذراء ، سميت بكرا ؛ لأنها على أول حالتها التي خلقت بها».

قال ابن الخطيب (٢) : فإن قيل : ذكر الثيبات في مقام المدح ، وهي من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن؟.

فالجواب : يمكن أن يكون بعض الثيبات خيرا بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لاختصاصهن بالمال ، والجمال ، أو النسب ، أو المجموع ، وإذا كان كذلك ، فلا يقدح ذكر الثّيّب في المدح ، لجواز ذلك.

وقال الكلبيّ : أراد بالثيّب مثل : آسية امرأة فرعون ، وبالبكر مثل : مريم ابنة عمران (٣).

قال القرطبيّ (٤) : «وهذا إنما يمشي على قول من قال : إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيرا منهن ، والله أعلم».

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)(٦)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً).

«قوا» أمر من الوقاية ، فوزنه «عو» ؛ لأن الفاء حذفت لوقوعها في المضارع بين ياء وكسرة ، وهذا محمول عليه ، واللام حذفت حملا له على المجزوم ؛ لأن أصله «أوقيوا» ك «اضربوا» فحذفت الواو التي هي فاء لما تقدم ، واستثقلت الضمة على الياء ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الياء ؛ وضم ما قبل الواو لتصح.

وهذا تعليل البصريين.

ونقل مكي (٥) عن الكوفيين : أن الحذف عندهم فرقا بين المتعدي ، والقاصر ،

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٢٧.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٤١.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٢٧) عن الكلبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٤) عن بريدة بمعناه وعزاه إلى الطبراني وابن مردويه.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٢٧.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٢٧.

٢٠٤

فحذفت الواو التي هي فاء في «يقي ، ويعد» لتعديهما ، ولم يحذف من «يوجل» لقصوره.

قال : «ويرد عليهم نحو : يرم ، فإنه قاصر ، ومع ذلك فقد حذفوا فاءه».

قال شهاب الدين (١) : وفي هذا نظر ؛ لأن «يوجل» لم تقع فيه الواو بين ياء وكسرة لا ظاهرة ولا مضمرة.

وقلت : ولا مضمرة ، تحرّزا من «تضع ، ويسع ، ويهب».

وقرأ بعضهم : «وأهلوكم» (٢).

وخرجت على العطف على الضّمير المرفوع ب «قوا» ، وجوز ذلك الفصل بالمفعول قال الزمخشريّ بعد ذكره القراءة وتخريجها : فإن قلت : أليس التقدير : «قوا أنفسكم وليق أهلوكم أنفسهم»؟.

قلت : لا ، ولكن المعطوف في التقدير مقارن للواو ، و «أنفسكم» واقع بعده ، كأنه قيل : قوا أنتم ، وأهلوكم أنفسكم ، لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه ، فجعلت ضميرهما معا على لفظ المخاطب.

قوله : «نارا» مفعول ثان ، (وَقُودُهَا النَّاسُ) صفة ل «نارا» وكذلك (عَلَيْها مَلائِكَةٌ) ، ويجوز أن يكون الوصف وحده «عليها» ، و «ملائكة» فاعل به ، ويجوز أن يكون حالا لتخصيصها بالصفة الأولى ، وكذلك (لا يَعْصُونَ اللهَ).

وتقدم الخلاف في واو (وَقُودُهَا) [البقرة : ٢٤] ضمّا وفتحا في «البقرة».

فصل في معنى الآية

قال الضحاك (٣) : المعنى : قو أنفسكم ؛ وأهلوكم ، فليقوا أنفسهم نارا (٤).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٣٧.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٦٨.

قال الزمخشري في قوله تعالى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) : قرىء وأهلوكم. قال أحمد : ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو ، وأنفسكم واقع بعده ، كأنه قال : قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم ، ولكن لما اجتمع ضمير المخاطب والغائبين : غلب ضمير الخطاب على ضمير الغيبة. ثم قال : فإن قلت قوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أليس الجملتان في معنى واحد؟ وأجاب بأن معنى الأولى أنهم يلتزمون الأوامر ولا يأتونها ... الخ. قال أحمد : جوابه الأول مفرع على قاعدته الفاسدة في اعتقاد خلود الفساق في جهنم ؛ ولعله إنما أورد السؤال ليتكلف عنه بجواب ينفس عما في نفسه مما لا يطيق كتمانه من هذا الباطل نعوذ بالله منه ؛ وإلا فالسؤال غير وارد ؛ فإنه لا يمتنع أن المؤمن يحذر من عذاب الكافر أن يناله على الإيمان ، كقوله في آل عمران خطابا للمؤمنين (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ، وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٧.

(٣) في أ : الصحابة رضي الله عنهم.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ ج ٣٧٥) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر عن الضحاك.

٢٠٥

وروي عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر ، والدعاء ، حتى يقيهم الله بكم (١).

وقال علي ـ رضي الله عنه ـ وقتادة ومجاهد : قوا أنفسكم بأفعالكم ، وقوا أهليكم بوصيتكم (٢).

قال ابن العربي (٣) : وهو الصحيح ، والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف ؛ والمعطوف عليه في معنى الفعل.

كقوله : [الرجز]

٤٧٨٨ ـ علفتها تبنا وماء باردا

 ...........(٤)

وكقوله : [مجزوء الكامل]

٤٧٨٩ ـ ورأيت زوجك في الوغى

متقلّدا سيفا ورمحا (٥)

فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة ، ويصلح أهله صلاح الراعي للرعيّة.

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «كلّكم راع ، وكلّكم مسئول عن رعيّته ، فالإمام الّذي على النّاس راع وهو مسئول عنهم ، والرّجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم» (٦).

قال الحسن في هذه الآية : يأمرهم ، وينهاهم.

وقال بعض العلماء لما قال : (قُوا أَنْفُسَكُمْ) : دخل فيه الأولاد ؛ لأن الولد بعض منه كما دخلوا في قوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٦١] ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّ أحلّ ما أكل الرّجل من كسبه ، وإنّ ولده من كسبه» (٧) فلم يفرد بالذّكر إفراد سائر القرابات ، فيعلمه الحلال والحرام ، ويجنبه المعاصي والآثام إلى غير ذلك من الأحكام.

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «حقّ الولد على الوالد ، أن يحسن اسمه ، ويعلّمه الكتابة ، ويزوّجه إذا بلغ» (٨).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٥٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٤) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٥٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٤).

(٣) ينظر : أحكام القرآن (٤ / ١٨٥٢).

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

(٦) تقدم.

(٧) تقدم.

(٨) ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» رقم (٤٥١٩١) وعزاه إلى أبي نعيم في الحلية والديلمي في مسند الفردوس.

٢٠٦

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن» (١).

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «مروا أبناءكم بالصّلاة لسبع ، واضربوهم على تركها لعشر ، وفرّقوا بينهم في المضاجع» (٢).

قال بعض العلماء : ويخبر أهله بوقت الصلاة ، ووجوب الصيام.

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «رحم الله امرءا قام من اللّيل يصلّي ، فأيقظ أهله ، فإن لم تقم رشّ على وجهها الماء ، ورحم الله امرأة قامت في اللّيل تصلّي ، وأيقظت زوجها ، فإن لم يقم رشّت على وجهه الماء» (٣).

وذكر القشيريّ قال : فلما نزلت هذه الآية ، قال رجل : يا رسول الله ، نقي أنفسنا ، فكيف لنا بأهلينا؟.

فقال : «تنهونهم عما نهاكم الله ، وتأمرونهم بما أمر الله».

وقال مقاتل : ذلك حق عليه في نفسه ، وولده ، وأهله ، وعبيده ، وإمائه.

قال إلكيا : فعلينا تعليم أولادنا ، وأهلينا الدين ، والخير ، وما لا يستغنى عنه من الأدب.

وهو قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٣٢] ، وقوله للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ١٤].

وتقدم الكلام على قوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) في «البقرة».

__________________

(١) أخرجه من رواية أيوب بن موسى ، عن أبيه ، عن جده ، أحمد في مسنده ٤ / ٧٨ ، وأخرجه الترمذي في السنن ٤ / ٣٣٨ ، كتاب البر ، باب : ما جاء في أدب الولد الحديث (١٩٥٢) وقال : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عامر بن أبي عامر الخزّاز وهو عامر بن صالح بن رستم الخزّاز ، وأيوب بن موسى هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص ، وهذا عندي حديث مرسل ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٢٦٣ ، كتاب الأدب ، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٢ / ١٨ ، كتاب الصلاة ، باب : وجوب تعلم ما تجزىء به الصلاة .. وذكره السيوطي في جمع الجوامع ١ / ٧٣٣ ، وعزاه لعبد بن حميد البغوي في معجم الصحابة وابن قانع ، والعسكري في الأمثال.

(٢) أخرجه أبو داود بلفظه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في السنن ١ / ٣٣٤ ، كتاب الصلاة ، باب : متى يؤمر الغلام بالصلاة الحديث (٤٩٥) وبمعناه عن سبرة بن معبد أخرجه : أحمد في المسند ٣ / ٤٠٤ في مسند سبرة بن معبد رضي الله عنه. وأبو داود في المصدر السابق ١ / ٣٣٢ ، الحديث (٤٩٤) والترمذي في السنن ٢ / ٢٥٩ ، كتاب الصلاة باب متى يؤمر الصبي بالصلاة (٢٩٩) ، الحديث (٤٠٧) ، وقال : (حسن صحيح). وليس عندهم ذكر التفريق في المضاجع. وأخرجه الدار قطني في السنن ١ / ٢٣٠ ، كتاب الصلاة ، باب : الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها.

(٣) أخرجه أحمد من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ، في المسند ٢ / ٣٥٠ ضمن مسند أبي هريرة ، وأخرجه أبو داود في السنن ٢ / ٧٣ كتاب الصلاة ، باب : قيام الليل الحديث (١٣٠٨) وأخرج النسائي في المجتبى من السنن ٣ / ٢٠٥ كتاب قيام الليل ، باب : الترغيب في قيام الليل الحديث (١٣٣٦) وأخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ٣٠٩ كتاب صلاة التطوع ، باب : تحريض قيام الليل.

٢٠٧

فصل في مخاطبة الله تعالى للمؤمنين

قال ابن الخطيب (١) : فإن قيل : إنه ـ تعالى ـ خاطب المشركين في قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤] ، ثم قال : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فما معنى مخاطبته للمؤمنين بذلك؟.

فالجواب : أن الفساق ، وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفّار ، فإنهم مع الكفّار في دار واحدة ، فقيل للذين آمنوا : (قُوا أَنْفُسَكُمْ) باجتناب الفسوق ومجاورة الذين أعدت لهم هذه النار ، ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقّي عن الارتداد.

قوله : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ).

يعني الزّبانية ، غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا ، خلقوا من الغضب ، وحبب إليهم عذاب الخلق ، كما حبب لبني آدم الطعام ، والشراب «شداد» ، أي : شداد الأبدان وقيل : غلاظ الأقوال شداد الأفعال.

وقيل : «غلاظ» في أخذهم أهل النار «شداد» عليهم ، يقال : فلان شديد على فلان ، أي : قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب.

وقيل : أغلاظ أجسامهم ضخمة «شداد» أي : أقوياء.

قال ابن عبّاس : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة (٢).

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في خزنة جهنم : «ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب» (٣).

قوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ).

يجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف ، أي : «ما أمرهموه» ، والأصل : «به» ، لا يقال : كيف حذف العائد المجرور ، ولم يجر الموصول بمثله؟ لأنه يطرد حذف هذا الحرف فلم يحذف إلا منصوبا.

وأن تكون مصدرية ، ويكون محلها بدلا من اسم الله بدل اشتمال ، كأنه قيل : لا يعصون أمره.

وقوله : (وَيَفْعَلُونَ).

قال الزمخشريّ (٤) : «فإن قلت : أليست الجملتان في معنى واحد؟.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٤٢.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٢٨) عن ابن عباس.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر الكشاف ٤ / ٥٦٨.

٢٠٨

قلت : لا ؛ لأن الأولى معناها : أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها.

والثانية : معناها أنهم يؤدّون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه ، ولا يتوانون فيه».

وقال القرطبي (١) : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) أي : لا يخالفونه في أمر من زيادة ، أو نقصان (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) في وقته لا يقدمونه ، ولا يؤخرونه.

وقيل : أي : لذتهم في امتثال أمر الله ، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة ، ذكره بعض المعتزلة ، وعندهم أنه يستحيل التكليف غدا ، ولا يخفى معتقد أهل الحقّ في أن الله يكلف العبد اليوم وغدا ، ولا ينكر التكليف غدا في حق الملائكة ، ولله أن يفعل ما يشاء.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٧)

أي : فإن عذركم لا ينفع ، وهذا النهي لتحقيق اليأس (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا ، ونظيره : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) [الروم : ٥٧].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٨)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً).

قرأ الجمهور : بفتح نون «نصوحا».

فهي صيغة مبالغة أسند النصح إليها مجازا ، وهي من : نصح الثوب ، أي : خاطه فكأن التائب يرقع ما حرقه بالمعصية.

وقيل : هي من قولهم : عسل ناصح ، أي : خالص.

وقرأ أبو بكر (٢) : بضم النون.

وهو مصدر «نصح» ، يقال : نصح نصحا ونصوحا ، نحو : كفر كفرا وكفورا ، وشكر شكرا وشكورا.

وفي انتصابه أوجه :

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٢٨.

(٢) وقرأ بها خارجة عن نافع ، والحسن ، والأعرج ، وعيسى ، كما في : المحرر الوجيز ٥ / ٣٣٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٨٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٧.

٢٠٩

أحدها : أنه مفعول له ، أي : لأجل النصح الحاصل نفعه عليكم.

والثاني : أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أي : ينصحهم نصحا.

الثالث : أنه صفة لها ، إما على المبالغة على أنها نفس المصدر ، أو على حذف مضاف ، أي : ذات نصوح.

وقرأ زيد (١) بن عليّ : «توبا» دون تاء.

فصل في تعلق هذه الآية بقوله يا أيها الذين كفروا

قال ابن الخطيب (٢) : وجه تعلق هذه الآية بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا) أنه ـ تعالى ـ نبّههم على رفع العذاب في ذلك اليوم ، بالتوبة في الدنيا ، إذ في ذلك اليوم لا تفيد التوبة.

فصل

أمر بالتّوبة ، وهي فرض على الأعيان في كلّ الأحوال ، وكلّ الأزمان واختلفوا في التوبة النّصوح :

فقيل : هي التي لا عودة بعدها ، كما لا يعود اللّبن إلى الضرع.

روي عن عمر ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، ورفعه معاذ إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

وقال قتادة : «النّصوح» الصّادقة الخالصة (٤).

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٨.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٤٣.

(٣) أثر عمر بن الخطاب. أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٥٨) والحاكم (٢ / ٤٩٤) وصححه وذكره الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٣ / ٣٩٠) رقم (٣٧٨٥) وعزاه إلى أحمد بن منيع وقال : إسناده صحيح موقوف.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٦) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن النعمان بن بشير عن عمر.

حديث ابن مسعود. أخرجه أحمد (١ / ٣٩٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٦) وزاد نسبته إلى ابن مردويه والبيهقي.

حديث أبي بن كعب. أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان» بسند ضعيف كما قال الحافظ السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٦).

حديث معاذ. ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٦) وعزاه إلى ابن مردويه.

وقد روي عن ابن مسعود موقوفا أيضا. أخرجه الطبري (١٢ / ١٥٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٥٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٦) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

٢١٠

وقيل : الخالصة. يقال : نصح له ، أي : أخلص له القول.

وقال الحسن : «النّصوح» أن يبغض الذنب الذي أحبه ، ويستغفر منه إذا ذكره (١).

وقيل : هي التي لا يثق بقبولها ، ويكون على وجل منها.

وقال الكلبيّ : التوبة النّصوح ، الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع عن الذنب ، والعزم على ألّا يعود.

وقيل غير ذلك.

فصل في الأشياء التي يتاب منها

قال بعض العلماء : الذنب الذي لا يكون منه التوبة لا يخلو ، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين ، فإن كان حقا لله عزوجل كترك صلاة ، أو صوم أو تفريط في زكاة ؛ فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها.

وإن كان قتل نفسا بغير حقّ ، فإن تمكن من القصاص منه إن طلب به ، فإن عفي عنه كفاه النّدم ، والعزم على ترك العود بالإخلاص ، وكذلك إن عفي عنه في القتل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجدا له ، قال تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ١٧٨].

وإن كان ذلك من حدود الله ـ ما كان ـ فإنه إذا تاب إلى الله ـ تعالى ـ بالندم الصحيح سقط منه ، وقد نصّ الله ـ تعالى ـ على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم ، كما تقدم.

وكذلك الشّرّاب ، والسّراق ، والزّناة إذا صلحوا ، وتابوا ، وعرف ذلك منهم ، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم ، وإن رفعوا إليه فقالوا : تبنا لم يتركهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا ، هذا مذهب الشافعي.

فإن كان الذنب من مظالم العباد ، فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه ، والخروج عنه ـ عينا كان أو غيره ـ إن كان قادرا عليه ، فإن لم يكن قادرا ، فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت ، وأسرعه.

وإن كان لواحد من المسلمين ، وذلك الواحد لا يشعر به ، ولا يدري من أين أتى ، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه ، ثم يسأله أن يعفو عنه ، ويستغفر له ، فإذا عفى ، فقد سقط الذنب عنه ، وإن أرسل من يسأل ذلك له ، فعفى ذلك المظلوم عن ظلمه عرفه بعينه ، أو لم يعرفه ، فذلك صحيح.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٦) وعزاه إلى عبد بن حميد.

٢١١

وإن أساء رجل إلى رجل ، بأن فزعه بغير حق ، أو غمه ، أو لطمه ، أو صفعه بغير حق ، أو ضربه بسوط وآلمه ، ثم جاءه مستعفيا نادما على ما كان منه عازما على ألا يعود فلم يزل يتذلل له ، حتى طابت نفسه فعفا عنه ، سقط الذّنب عنه ، وهكذا إن شتمه بشتم لا حدّ فيه.

قوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).

«عسى» من الله واجبة ، وهو معنى قوله ـ عليه الصلاة والسلام : «التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له» (١).

و «أن» في موضع نصب.

قوله : (وَيُدْخِلَكُمْ). معطوف على «يكفّر».

قرأ العامة : بالنصب.

وابن أبي عبلة (٢) : بسكون اللام.

فاحتمل أن يكون من إجراء المنفصل مجرى المتصل ، فسلبت الحركة ؛ لأنه يتحلل من مجموع (يُكَفِّرَ عَنْكُمْ) مثل «نطع وقمع» فيقال : فيهما : نطع وقمع.

ويحتمل أن يكون عطفا على مح ل «عسى أن يكفر» كأنه قيل : توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ، ويدخلكم ، قاله الزمخشري (٣).

يعني أن «عسى» في محل جزم جوابا للأمر ؛ لأنه لو وقع موقعها مضارع لا نجزم كما مثل به الزمخشري.

وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم أن «عسى» جواب ولا تقع جوابا ؛ لأنها للإنشاء.

قوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ).

«يوم» منصوب ب «يدخلكم» ، أو بإضمار «اذكر».

ومعنى «يخزي» هنا : يعذب ، أي : لا يعذبه ، ولا يعاقب الذين آمنوا معه.

قالت المعتزلة : قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) يدل على أنه لا يعذب الذين آمنوا ؛ لأن الإخزاء يقع بالعذاب ، ولو كان أصحاب الكبائر من أهل الإيمان لم يخفف عليهم العذاب.

قال ابن الخطيب (٤) : وأجاب أهل السّنة بأنه ـ تعالى ـ وعد أهل الإيمان بألّا يخزيهم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٧٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٨.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٧٠.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٤٣.

٢١٢

من أهل السنّة من يقف على قوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) ، ومعناه لا يخزيه في رد الشفاعة ، والإخزاء : الفضيحة ، أي : لا يفضحهم بين يدي الكفار ، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا تقف الكفرة عليه.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون منسوقا على «النّبي» ، أي : ولا يخزي الذين آمنوا ، فعلى هذا يكون (نُورُهُمْ يَسْعى) مستأنفا ، أو حالا.

والثاني : أن يكون مبتدأ ، وخبره (نُورُهُمْ يَسْعى) ، و «يقولون» خبر ثاني أو حال.

وتقدم إعراب مثل هذه الجمل في «الحديد» وإعراب ما بعدها في «براءة».

وقرأ أبو حيوة ، وأبو نهل (١) الفهمي : «وبإيمانهم» بكسر الهمزة.

ومعنى قوله : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : في الدنيا وبأيمانهم عند الحساب ، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم ، وفيه نور ، وخير.

وقيل : يسعى النور بين أيديهم في موضع وضع أقدامهم (وَبِأَيْمانِهِمْ) لأن خلفهم وشمالهم طرق الكفرة ، وقولهم : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) قال ابن عباس : يقولون ذلك عند إطفاء نور المنافقين (٢) إشفاقا (٣).

وقال الحسن : إنه ـ تعالى ـ يتمّم لهم نورهم ، ولكنهم يدعون تقربا إلى حضرة الله تعالى ، كقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [غافر : ٥٥] وهو مغفور (٤).

وقيل : أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر موضع قدمه ، فيسألون إتمامه.

وقال الزمخشري (٥) : السّابقون إلى الجنّة يمرون كالبرق على الصّراط ، وبعضهم كالريح ، وبعضهم كالجواد المسرع ، وبعضهم حبوا ، وهم الذين يقولون : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا).

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٣٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٨٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٨.

(٢) في أ : الكفرة.

(٣) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٩٥) من طريق عتبة بن يقظان عن عكرمة عن ابن عباس وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ورده الذهبي فقال : عتبة واه.

وذكره الحافظ ابن حجر في «التهذيب» (٧ / ١٠٤) وقال : قال النسائي في «الكنى» : أبو زحارة عتبة بن يقظان غير ثقة وقال علي بن الجنيد لا يساوي شيئا وذكره ابن حبان في «الثقات».

والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٧) وزاد نسبته إلى البيهقي في «البعث».

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٥٩) عن الحسن.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٧٠.

٢١٣

فإن قيل : إنه ـ تعالى ـ لا يخزي النبي في ذلك اليوم ، ولا الذين آمنوا معه؟.

فالجواب (١) : لأن فيه إفادة الاجتماع ، بمعنى لا يخزي الله المجموع ، أي : الذين يسعى نورهم ، وفيه فائدة عظيمة ، إذ الاجتماع بين الذين آمنوا ، وبين نبيهم تشريف في حقهم وتعظيم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٩)

أمره أن يجاهد الكفّار بالسيف ، والمواعظ الحسنة ، والدعاء إلى الله ، والمنافقين بالغلظة ، وإقامة الحجّة أن يعرفهم أحوالهم في الآخرة ، وأنه لا نور لهم يجوزون به على الصّراط مع المؤمنين.

وقال الحسن : أي : جاهدهم بإقامة الحدود عليهم ، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود وكانت الحدود تقام عليهم (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) يرجع إلى الصنفين (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : المرجع (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : وفي مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) في أول السورة وفي هذه الآية ووصفه بالنبي لا باسمه ، كقوله لآدم : (يا آدَمُ) [البقرة : ٣٥] ، وموسى (يا مُوسى) [طه : ١١] ، ولعيسى (يا عِيسَى) [المائدة ١١٦] دليل على فضيلته عليهم.

فإن قيل : قوله (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) يدل على أن مصيرهم بئس المصير ، فما فائدة ذلك؟ فالجواب : أن مصيرهم بئس المصير مطلقا ، والمطلق يدل على الدوام ، وغير المطلق لا يدل على الدوام.

قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ)(١٢)

ثم ضرب الله مثلا للصّالحات ، من النّساء ، فقال :

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٤٣.

(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (١٨ / ١٣١).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٤٣.

٢١٤

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) إلى آخره ، تقدم الكلام على «ضرب» مع «المثل» ، وهل هو بمعنى «صير» أم لا؟ وكيف ينتصب ما بعدها في سورة «النحل» (١).

فصل في ضرب الله لهذا المثل

ضرب الله هذا المثل تنبيها على أنه لا يغني أحد عن قريب ، ولا نسب في الآخرة إذا فرق بينهما الدّين ، وكان اسم امرأة نوح «والهة» ، وامرأة لوط «والغة» ، قاله مقاتل.

وقال الضحاك عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : إن جبريل نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح «واغلة» وامرأة لوط «والهة» ، (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) يعني نوحا ولوطا (٢).

ويجوز أن يكون (امْرَأَتَ نُوحٍ) بدلا من قوله «مثلا» على تقدير حذف المضاف ، أي : ضرب الله مثلا مثل امرأة نوح.

ويجوز أن يكونا مفعولين.

قوله : (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ).

جملة مستأنفة كأنها مفسرة ل «ضرب المثل» ، ولم يأت بضميرهما ، فيقال : تحتهما أي : تحت نوح ولوط ، لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة ، وليصفهما بأجلّ الصّفات ، وهو الصّلاح.

قوله : (فَخانَتاهُما).

قال عكرمة ، والضحاك : بالكفر (٣).

وقال سليمان بن رقية ، عن ابن عباس : كانت امرأة نوح تقول للناس : إنه مجنون وامرأة لوط كانت تخبر بأضيافه (٤).

وعن ابن عباس : ما بغت (٥) امرأة نبي قط ، وإنما كانت خيانتهما أنهما كانا على غير دينهما (٦).

__________________

(١) آية (٧٥).

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٣١).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٦١) عن عكرمة.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ١٦١) والحاكم (٢ / ٤٩٧) عن سليمان عن ابن عباس. وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس.

(٥) في أ : خانت.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٧) عن ابن عباس موقوفا وعزاه إلى ابن المنذر. ـ

٢١٥

قال القشيريّ : وهذا إجماع من المفسرين إنما كانت خيانتهما في الدين ، وكانتا مشركتين وقيل : كانتا منافقتين.

وقيل : خيانتهما النّميمة إذا أوحى الله إليهما شيئا أفشتاه إلى المشركين ، قاله الضحاك.

وقيل : كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال.

قوله : (فَلَمْ يُغْنِيا).

العامة : بالياء من تحت ، أي : لم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما شيئا من الإغناء من عذاب الله.

وقرأ مبشر (١) بن عبيد : تغنيا ـ بالتاء من فوق ـ ، أي : فلم تغن المرأتان عن أنفسهما.

وفيها إشكال إذ يلزم من ذلك تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غير المواضع المستثناة.

وجوابه : أن «عن» هنا اسم كهي في قوله : [الكامل]

٤٧٩٠ ـ دع عنك نهبا صيح في حجراته

 ........... (٢)

وقد تقدم هذا والاعتراض عليه بقوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥] (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) [القصص : ٣٢] ، والجواب هناك.

فصل في معنى الآية

معنى الآية : لم يدفع نوح ، ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما لما عصيا شيئا من عذاب الله تنبيها بذلك على أنّ العذاب يدفع بالطّاعة ، لا بالوسيلة.

وقيل : إن كفار مكة استهزءوا وقالوا : إنّ محمدا يشفع لنا ، فبين تعالى أن الشفاعة لا تنفع كفار «مكة» ، وإن كانوا أقرباء كما لا ينفع شفاعة نوح امرأته ، وشفاعة لوط لامرأته مع قربهما له لكفرهما.

(وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) في الآخرة كما يقال لكفار مكة وغيرهم. قطع الله

__________________

ـ وأخرجه الطبري (١٢ / ١٦١) عن الضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٧) عن أشرس الخراساني مرفوعا وعزاه إلى ابن عساكر.

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٣٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٨٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٨.

(٢) تقدم.

٢١٦

بهذه الآية طمع من يرتكب المعصية أن ينفعه صلاح غيره ، ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعا.

قوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ).

واسمها آسية بنت مزاحم.

قال يحيى بن سلام : قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) مثل ضربه الله يحذر به عائشة ، وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ضرب الله لهما مثلا بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيبا في التمسك بالطاعة ، والثبات على الدين.

وقيل : هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة ، أي : لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون.

قال المفسرون : لما غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون.

وقيل : هي عمة موسى آمنت به ، فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد ، وألقاها في الشمس ، وألقى عليها صخرة عظيمة ، فقالت : «ربّ نجّني من فرعون وعمله». فرمى بروحها في الجنة ، فوقعت الصخرة على جسد لا روح فيه.

وقال الحسن : رفعها تأكل في الجنة ، وتشرب (١).

قال سلمان الفارسي : كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس ، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة (٢).

قوله : (إِذْ قالَتْ رَبِ).

منصوب ب «ضرب» ، وإن تأخر ظهور الضرب.

ويجوز أن ينتصب بالمثل.

قوله : (عِنْدَكَ).

يجوز تعلقه ب «ابن» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «بيتا» كان نعته فلما قدم نصب حالا.

و (فِي الْجَنَّةِ).

إما متعلق ب «ابن» وإما بمحذوف على أنه نعت ل «بيتا».

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٣٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٦٢) والحاكم (٢ / ٤٩٦) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٢٤٤) رقم (١٦٣٧) عن سلمان وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٧) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

٢١٧

فصل في قصة امرأة فرعون

قال المفسرون (١) : لما كانت تعذب في الشمس ، وأذاها حرّ الشمس «قالت : ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنّة» فوافق ذلك حضور فرعون ، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة ، فقال فرعون : لا تعجبوا من جنونها أنا أعذّبها وهي تضحك ، فقبض روحها.

وروي أنه وضع على ظهرها رحى فأطلعها الله ، حتى رأت مكانها في الجنّة ، وانتزع روحها ، فألقيت عليها صخرة بعد خروج روحها فلم تجد ألما.

وقال الحسن وابن كيسان : رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة ، فهي فيها تأكل ، وتشرب ، وتتنعم.

قوله : (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ).

تعني بالعمل : الكفر.

وقيل : «من عمله» ، أي : من عذابه وظلمه.

وقال ابن عباس : الجماع (٢).

(وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، أي : الكافرين.

قال الكلبيّ : أهل «مصر» (٣).

وقال مقاتل : القبط (٤).

قوله : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ).

عطف على (امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ).

ضرب الله المثل للكافرين بامرأتين ، وللمؤمنين بامرأتين.

وقال أبو البقاء (٥) : (وَمَرْيَمَ) أي : «واذكر مريم».

وقيل : أو «ومثل مريم».

وقرأ العامة : «ابنة» بنصب التاء.

وأيوب (٦) السختياني : بسكون الهاء ، وصلا ، أجرى الوصل مجرى الوقف.

والعامة أيضا : (فَنَفَخْنا فِيهِ) أي : في الفرج.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٣٢.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٨) وعزاه إلى وكيع في «الغرر».

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٣٢).

(٤) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٣٢).

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٦٥.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٩٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٩.

٢١٨

وعبد الله (١) : «فيها» أي : في الجملة. وقد تقدم في «الأنبياء» (٢) مثله.

والعامة أيضا : (وَصَدَّقَتْ) بتشديد الدال.

ويعقوب وقتادة وأبو مجلز ، وعاصم (٣) في رواية : بتخفيفها ، أي : صدقت فيما أخبرت به من أمر عيسى.

والعامة على : «بكلمات» جمعا.

والحسن ومجاهد والجحدري : «بكلمة» بالإفراد (٤).

فقيل : المراد بها عيسى ؛ لأنه كلمة الله.

فصل في مريم ابنة عمران

ضرب الله مثلا بمريم ابنة عمران وصبرها على أذى اليهود.

وقوله : (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) عن الفواحش.

وقال المفسرون هنا (٥) : أراد بالفرج الجيب ، لقوله (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) وجبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها.

وهي (٦) في قراءة أبيّ : «فنفخنا في جيبها من روحنا» ، وكل خرق في الثوب يسمى فرجا ، ومنه قوله تعالى : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ).

ويحتمل أن يكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها.

ومعنى «فنفخنا» أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها (مِنْ رُوحِنا) أي : روحا من أرواحنا وهي روح عيسى ، وقوله : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) أي : قول جبريل لها : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) [مريم : ١٩] الآية.

وقال مقاتل : يعني بالكلمات عيسى ، وأنه نبيّ وعيسى كلمة الله (٧) كما تقدم.

وقيل : (بِكَلِماتِ رَبِّها) يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة.

قوله : (وَكُتُبِهِ).

قرأ أهل «البصرة» وحفص : (وَكُتُبِهِ) على الجمع.

وقرأ الأخرون (٨) : «وكتابه» على التوحيد.

__________________

(١) ينظر السابق ، والكشاف ٤ / ٥٧٣.

(٢) آية رقم ٩١.

(٣) ينظر السابق ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٣٥ ، ٣٣٦.

(٤) ينظر السابق.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٣٣.

(٦) ينظر السابق.

(٧) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٣٢).

(٨) ينظر : السبعة ٦٤١ ، والحجة ٦ / ٣٠٤ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٧٦ ، وحجة القراءات ٧١٥ ، والعنوان ١٩٣ ، وشرح الطيبة ٦ / ٦١ ، وإتحاف ٢ / ٥٤٩.

٢١٩

والمراد منه الكثرة ، فالمراد به الجنس ، فيكون في معنى كل كتاب أنزله الله تعالى.

وقرأ أبو رجاء (١) : «وكتبه» بسكون التاء ، وهو تخفيف حسن.

وروي عنه (٢) : «وكتبه» بفتح الكاف.

قال أبو الفضل : مصدر وضع موضع الاسم ، يعني ومكتوبه.

فصل في المراد بالكتب

أراد الكتب التي أنزلت على إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى.

وقوله : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ).

يجوز في «من» وجهان :

أحدهما : أنها لابتداء الغاية.

والثاني : أنها للتبعيض ، وقد ذكرهما الزمخشريّ ، فقال (٣) : و «من» للتبعيض ، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية ، على أنها ولدت من القانتين ؛ لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله على نبيّنا وعليهما وعلى سائر الأنبياء وآلهم.

قال الزمخشري (٤) : فإن قلت : لم قيل : (مِنَ الْقانِتِينَ) على التذكير؟.

قلت : القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه.

ويجوز أن يرجع إلى أهل بيتها ، فإنهم كانوا مطيعين لله ، والقنوت : الطاعة.

وقال عطاء : من المصلّين بين المغرب والعشاء (٥).

وعن معاذ بن جبل : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها : أتكرهين ما قد نزل بك ، وقد جعل الله في الكره (٦) خيرا ، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهنّ منّي السّلام مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم وكليمة ـ أو قال : حليمة ـ بنت عمران أخت موسى بن عمران ، فقالت : بالرفاء والبنين يا رسول الله» (٧).

[قال ابن الأثير (٨) : الرفاء والبنين : الالتئام والاتفاق والبركة والنّماء ، وهو مهموز.

وذكره الهروي في «المعتلّ» قال : «وهو على معنيين :

أحدهما : الاتفاق وحسن الاجتماع ، والآخر : من الهدوء والسكون ، وأما المهموز

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٣٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٩٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٩.

(٢) ينظر السابق.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٧٣.

(٤) السابق.

(٥) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٣٢.

(٦) في أ : ذلك.

(٧) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٣٣.

(٨) ينظر النهاية ٢ / ٢٤٠.

٢٢٠