اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين كفار قريش ، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطا وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله فذكرت ذلك له ، فأنزل الله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)(١) ذكر هذا الخبر الماوردي (٢) وغيره ، وخرجه أبو داود الطّيالسي في مسنده.

قوله : (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) وقوله : (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدلان من الذين قبلهما بدل اشتمال ، فيكون في موضع جرّ.

والمعنى : لا ينهاكم الله عن أن تبروا هؤلاء الذين لم يقاتلوكم ، إنما ينهاكم عن تولي هؤلاء وهم خزاعة ، صالحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ألّا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا ، فأمر ببرهم والوفاء لهم إلى أجلهم. حكاه الفرّاء (٣).

وقوله : (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ). أي : تعطوهم قسطا من أموالكم على وجه الصلة ، وليس يريد به من العدل ، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل ، قاله ابن العربي (٤).

فصل في نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر

نقل القرطبي عن القاضي أبي بكر في كتاب «الأحكام» له : أن بعض العلماء استدلّ بهذه الآية على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر ، قال : وهذه وهلة عظيمة ، إذ الإذن في الشيء ، أو ترك النهي عنه لا يدل على وجوب ، وإنما يعطي الإباحة خاصة ؛ وقد بيّنّا أنّ القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه ، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك ، فتلا هذه الآية عليهم» (٥).

قوله تعالى : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٩)

قوله تعالى : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي : جاهدوكم على الدين

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٢) والحاكم (٢ / ٤٨٠ ـ ٤٨٦) وأحمد والبزار كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٢٦) والطيالسي وأبو يعلى كما في «المطالب العالية» (٣ / ٣٨٧) رقم (٣٧٧٨).

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقال الهيثمي (٧ / ١٢٦) : وفيه مصعب بن ثابت وثقه ابن حبان وضعفه جماعة وبقية رجاله رجال الصحيح وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٠٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في «تاريخه» والطبراني وابن مردويه.

(٢) ينظر : النكت والعيون ٥ / ٥١٩ ـ ٥٢٠.

(٣) ينظر : معاني القرآن له ٣ / ١٥٠ ، والقرطبي ١٨ / ٤٠.

(٤) ينظر : أحكام القرآن له ٤ / ١٧٨٣.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٤٠ ، وأحكام القرآن للقاضي ابن العربي ٤ / ١٧٨٤.

٢١

(وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) وهم عتاة أهل «مكة» ، (وَظاهَرُوا) أي : عاونوا (عَلى إِخْراجِكُمْ) ، وهم مشركو مكة (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) أي : يتخذهم أولياء وأنصارا وأحبابا (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(١).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)(١١)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) الآية لما أمر المسلمين بترك موالاة [المشركين](٢) اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبين أحكام مهاجرة النساء (٣).

قال ابن عباس رضي الله عنهما : جرى الصّلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل «مكة» رده إليهم ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها ـ وكان كافرا ـ وهو صيفي بن راهب. وقيل : مسافر المخزومي ، فقال : يا محمد ، اردد عليّ امرأتي فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (٤).

وقيل : جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يردها.

وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ، ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله إخوتها ، وحبسها فقالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردها علينا للشرط ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان الشّرط في الرجال لا في النساء ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (٥).

وعن عروة قال : كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديبية ألّا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه فكره المؤمنون ذلك ، وأبى سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٠.

(٢) في أ : الكفار.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤١.

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٠٦) وعزاه إلى الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف.

٢٢

سهيل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدة وإن كان مسلما ، حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل ، يومىء إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك.

وقيل (١) : إن التي جاءت أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ ، ففرت منه ، وهو يومئذ كافر ، فتزوّجها سهيل بن حنيف ، فولدت له عبد الله. قاله زيد بن حبيب ، نقله الماورديّ (٢).

وأكثر أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة (٣).

قوله : (الْمُؤْمِناتُ). تسمية للشيء بما يدلي إليه ويقاربه ويشارفه ؛ أو في الظاهر (٤).

وقرىء «مهاجرات» (٥) ـ بالرفع ـ وخرجت على البدل.

فصل في دخول النساء عقد المهادنة لفظا أو عموما (٦)

اختلفوا هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظا أو عموما؟.

فقالت طائفة : كان شرط ردهن في عقد الهدنة صريحا ، فنسخ الله ردّهن من العقد ومنع منه ، وبقاه في الرجال على ما كان ، وهذا يدل على أن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجتهد رأيه في الأحكام ، ولكن لا يقرّه الله على خطأ.

وقالت طائفة : لم يشترط ردّهن في العقد لفظا ، وإنما أطلق العقد في ردّهن أسلم ، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال ، فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه ، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين :

أحدهما : أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم.

الثاني : أنهن أرقّ قلوبا ، وأسرع تقلبا منهم ، فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم. ومن أسلمت فلا تردوها.

قوله : (فَامْتَحِنُوهُنَ).

قيل (٧) : إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها ، قالت : سأهاجر إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بامتحانهن ، واختلفوا فيما كان يمتحنهن به.

فقال ابن عباس : كان يمتحنهن بأن يستحلفن بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ،

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤١.

(٢) ينظر : النكت والعيون ٥ / ٥٢١.

(٣) القرطبي : ١٨ / ٤١.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٦.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٥٤ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٦.

(٦) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤١.

(٧) السابق ١٨ / ٤٢.

٢٣

ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقا لرجل من المسلمين ، ولا لحدث أحدثته ، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام ، وحب الله ورسوله ، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجها مهرها ، وما أنفق عليها ، ولم يردها ، فذلك قوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ)(١).

وروي عن ابن عباس أيضا : أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله (٢).

وروى معمر عن الزهري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يمتحنهن إلا بالآية التي قال الله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً)(٣).

خرجه الترمذي. وقال حديث حسن صحيح.

فصل

قال أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشا من أنه يرد عليهم من جاءه منهم مسلما ، فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن.

فصل

قال القرطبي (٤) : ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد عليهم من جاءه مسلما ؛ لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز ، وهذا مذهب الكوفيين ، وأجاز مالك عقد الصلح على ذلك.

واحتج الكوفيون بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث خالد بن الوليد إلى قوم خثعم ، فاعتصموا بالسجود فقتلهم ، فوداهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [بنصف الدية](٥) وقال : «أنا بريء من كلّ مسلم

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٤) والبزار كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٢٦) والحارث بن أبي أسامة كما في «المطالب العالية» (٣ / ٣٨٧) رقم (٣٧٧٧) عن ابن عباس.

وقال الهيثمي (٧ / ١٢٦) رواه البزار وفيه قيس بن الربيع وثقه شعبة والثوري وضعفه غيرهما وبقية رجاله ثقات.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣١٠) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وقد حسن السيوطي سنده.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٤) ومثله ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٠٨) وعزاه إلى ابن مردويه.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٤) عن عائشة.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٢.

(٥) سقط من أ.

٢٤

أقام مع مشرك بدار الحرب لا تراءى ناراهما». قالوا : فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين ، إذ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد برىء ممن أقام معهم في دار الحرب. ومذهب مالك والشافعيّ أن هذا الحكم غير منسوخ.

قال الشافعي : وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو [رجل](١) يأمره ، فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود (٢).

قوله : (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ).

هذه الجملة فائدتها بيان أنه لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن ، فإن ذلك مما استأثر الله به. قاله الزمخشري (٣).

أي (٤) : هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بإيمانهن ، لأنه متولي السرائر ، وسمّى الظن الغالب في قوله : (عَلِمْتُمُوهُنَ) علما لما بينهما من القرب كما يقع الظّن موقعه ، وتقدم ذلك في البقرة (٥).

قوله : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ).

أي : بما يظهرن من الإيمان.

وقيل : أي : علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان (٦)(فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) وقوله : (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) تأكيد للأول لتلازمهما.

وقيل : أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين وهن مؤمنات (٧).

فصل في معنى الآية

معنى الآية (٨) : لم يحل الله مؤمنة لكافر ، وهذا أول دليل على أنّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها.

وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدّارين.

والصحيح الأول ؛ لأن الله ـ تعالى ـ بين العلّة ، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار.

قوله : (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا).

__________________

(١) في أ : أحد.

(٢) زاد في أ : عليه.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥١٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٦.

(٤) في أ : أن.

(٥) آية رقم (٤٦).

(٦) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٢.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٦.

(٨) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٣.

٢٥

أمر الله ـ تعالى ـ إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يردّ على زوجها ما أنفق ، وذلك من الوفاء بالعهد ؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام أمر برد المال حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال (١).

فصل في استحقاق الغرم بالمنع (٢)

ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر ، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا ، فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع ، وإن كان المسمى خمرا وخنزيرا لم نغرم شيئا ؛ لأنه لا قيمة له.

وللشافعي في هذه الآية قولان :

أحدهما : أن هذا منسوخ.

قال الشافعي : وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهدنة مسلمة مهاجرة من الحرب إلى الإمام في دار الإسلام أو دار الحرب ، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض ، وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالة ، ففيه [قولان](٣) :

أحدهما : أن يعطى [زوجها](٤) العوض لهذه الآية.

والثاني : لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت امرأته مسلمة العوض ، فإن شرط الإمام ردّ النساء كان الشرط باطلا منسوخا ، وليس عليه عوض ، لأنه لا عوض للباطل.

فصل

أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج ، وأن المخاطب بهذا الإمام ، ينفذ من بيت المال الذي لا يتعين له مصرف (٥).

وقال مقاتل : يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين ، وليس لزوجها الكافر شيء (٦).

وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد فأما [من] لا عهد بينه وبين المسلمين ، فلا يردّ عليهم الصداق (٧).

قال القرطبي (٨) : «والأمر كما قال».

قوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ). أي : في أن تنكحوهن (٩).

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) السابق.

(٣) في أ : وجهان.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٣.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٤٣).

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ينظر القرطبي ١٨ / ٤٣.

(٩) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٦.

٢٦

وقوله : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَ).

يجوز أن يكون ظرفا محضا ، وأن يكون شرطا ، جوابه مقدّر ، أي : فلا جناح عليكم (١).

فصل

ومعنى الآية : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : مهورهن ، فأباح الله نكاحهن للمسلمين ؛ وإن كان لهن أزواج في دار الكفر ؛ لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفّار.

قال القرطبي (٢) : أباح نكاحهنّ إذا أسلمن ، وانقضت عدتهن لما ثبت في تحريم نكاح المشركة المعتدة ، فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال.

قوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).

قرأ أبو عمرو في آخرين (٣) بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين ، وباقي السبعة ـ بتخفيفها ـ من «مسك ، وأمسك» بمعنى واحد.

يقال : أمسكت الحبل إمساكا ، ومسّكته تمسيكا ، وفي التشديد مبالغة ، والمخفف صالح لها أيضا (٤).

وقرأ الحسن ، وابن أبي ليلى ، وأبو عمرو (٥) ، وابن عامر في رواية عنهما : «تمسّكوا» ـ بالفتح في الجميع وتشديد السين ـ والأصل : «تتمسّكوا» ـ بتاءين ـ فحذفت إحداهما.

وعن الحسن (٦) أيضا : «تمسكوا» مضارع «مسك» ثلاثيا.

والعصم : جمع عصمة ، والعصمة هاهنا : النّكاح ، يقول : من كانت له كافرة بمكة فلا يعقد بها فقد انقطعت عصمتها.

و «الكوافر» جمع «كافرة» ، ك «ضوارب» في «ضاربة» و «صواحب».

ويحكى عن الكرخي الفقيه المعتزلي أنه قال : «الكوافر» يشمل الرجال والنساء.

قال الفارسي : فقلت له : النحويون لا يرون هذا إلّا في النساء جمع كافرة.

__________________

(١) السابق.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٤٣.

(٣) ينظر : السبعة ٦٣٣ ، والحجة ٦ / ٢٨٦ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٦٠ ، وحجة القراءات ٧٠٧ ، والعنوان ١٨٩ ، وشرح الطيبة ٦ / ٥١ ، وشرح شعلة ٦٠٢ ، وإتحاف ٢ / ٥٣٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٦.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٩٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٤ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٦.

(٦) ينظر : إعراب القراءات ٢ / ٣٦٠ ، والسابق.

٢٧

فقال أبو علي : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة؟.

قال أبو عليّ : فبهت ، وقلت : هذا تأييد إلهي.

قال شهاب الدين (١) : وإنما أعجب بقوله لكونه معتزليا ، والحق أنه لا يجوز كافرة وصفا للرجال إلا أن يكون الموصوف مذكورا ، نحو : هذه طائفة كافرة ، أو في قوّة المذكور ، أما أن يقال : طائفة باعتبار الطائفة غير المذكورة ، ولا في قوة المذكورة بل لمجرد الاحتمال ، ويجمع جمع «فاعلة» فهذا لا يجوز ، وقول الفارسي : «لا يرون هذا إلا في النّساء» فهذ يصح ولكنه الغالب ، وقد يجمع «فاعل» وصف المذكر العاقل على «فواعل» وهو محفوظ نحو : «فوارس ونواكس».

فصل في المراد بالآية

قال النخعي (٢) : المراد بالآية : المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب ، فتكفر ، وكان الكفار يتزوجون المسلمات ، والمسلمون يتزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين ب «مكة» مشركتين : قريبة بنت أبي أمية ، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما ب «مكة» ، وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن المغيرة ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة ، وهما على شركهما ، فلما ولي عمر ، قال أبو سفيان لمعاوية : طلق قريبة ، لئلا يرى عمر صلبه في بيتك ، فأبى معاوية ، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ففرق الإسلام بينهما ، ثم تزوّجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص ، وكانت ممن فرت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نساء الكفار فحبسها ، وتزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية.

وقال الشعبيّ : كانت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، امرأة أبي العاص بن الربيع ، أسلمت ولحقت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقام أبو العاص ب «مكة» مشركا ، ثم أتى «المدينة» ، فأسلم ، فردها عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى أبو داود عن عكرمة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما : رد رسول الله ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول ، لم يحدث شيئا.

قال محمد بن عمر في حديثه : بعد ست سنين.

وقال الحسن بن عليّ : بعد سنتين (٣).

قال أبو عمر : فإن صح هذا ، فلا يخلو من وجهين :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٦.

(٢) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٤.

(٣) أخرجه أبو داود ١ / ٦٨ في الطلاق ، باب : إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها (٢٢٤٠) ، وذكره القرطبي في تفسيره ١٨ / ٤٤.

٢٨

إما أنها لم تحضر حتى أسلم زوجها ، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) [البقرة : ٢٢٨] ، يعني عدتهن ، وهذا مما لا خلاف فيه ، إن عنى به العدة.

قال الزهريّ في قصة زينب هذه : كانت قبل أن تنزل الفرائض.

وقال قتادة : كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة ، بقطع العهود بينهم وبين المشركين (١).

فصل في المراد بالكوافر

المراد بالكوافر هنا : عبدة الأوثان ، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها.

وقيل : هي عامّة ، نسخ منها نساء أهل الكتاب ، فعلى الأول إذا أسلم وثنيّ ، أو مجوسيّ ولم تسلم امرأته فرق بينهما ، وهو قول بعض أهل العلم ، منهم مالك والحسن وطاووس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم ، لقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).

وقال بعضهم : ينتظر بها تمام العدة ، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد ، واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب ، أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته ، وكان إسلامه ب «مر الظهران» ، ثم رجع إلى «مكة» وهند بها كافرة مقيمة على كفرها ، فأخذت بلحيته ، وقالت : [اقتلوا](٢) الشيخ الضّال ، ثم أسلمت بعده بأيام ، فاستقر على نكاحها ، لأن عدتها لم تكن انقضت.

قالوا : ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته ، ثم أسلمت بعده ، فكانا على نكاحها.

قال الشافعي رحمه‌الله : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ؛ لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار ، كما أن المسلمين ، لا تحل لهم الكوافر والوثنيات والمجوسيات لقوله تعالى : (لا هُنَ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) ، ثم بينت السّنّة أن مراد الله من قوله هذا : أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الثاني منهما في العدة (٣).

وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافر من الذميين : إذا أسلمت المرأة ، عرض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم وإلا فرق بينهما.

قالوا : ولو كانا حربيين ، فهي امرأته ، حتى تحيض ثلاث حيض ، إذا كانا جميعا في

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره (١٨ / ٤٤).

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٥.

٢٩

دار الحرب ، أو في دار الإسلام ، وإن كان أحدهما في دار الحرب ، والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما.

وقد تقدم أن اعتبار الدار ليس بشيء ، وهذا الخلاف إنما هو في المدخول بها.

وأما غير المدخول بها ، فلا نعلم خلافا في انقطاع العصمة بينهما ، ولا عدة عليها ، هكذا يقول مالك رحمه‌الله في المرأة ترتد وزوجها مسلم : تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ، وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح.

وقال الشافعي وأحمد : [ينظر إلى تمام](١) العدة.

[فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ، فمذهب مالك والشافعي ، وأحمد توقف إلى تمام العدة ، وهو قول مجاهد](٢).

وكذلك الوثني تسلم زوجته ، إن أسلم في عدّتها ، فهو أحق بها ، كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما ، لما ذكر مالك في «الموطأ» (٣).

[قال ابن شهاب : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو شهر](٤).

قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب ، إلّا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلى أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها ، وقال بعضهم : ينفسخ النكاح بينهما ، لما روى يزيد بن علقمة قال : أسلم جدي ، ولم تسلم جدتي ، ففرق بينهما عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو قول طاوس والحسن وعطاء وعكرمة ، قالوا : لا سبيل له عليها إلا بخطبة (٥).

قوله : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا).

قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد ، يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين ، إذا جاء أحد من الكافرات معلمة مهاجرة : ردوا إلى الكفار مهرها ، وكان ذلك إنصافا وعدلا بين الحالتين.

قال ابن العربي رحمه‌الله : كان هذا حكم الله ، مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة(٦).

قال الزهريّ : ولو لا هذه الهدنة ، والعهد الذي كان بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش

__________________

(١) في أ : توقف إلى تمام.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : الموطأ ٢ / ٥٤٤ في النكاح (٤٥).

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٥.

(٥) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ٧٨٨.

(٦) زاد في أ : أيها المسلمون شيء من أزواجكم إلى الكفار.

٣٠

يوم الحديبية ، لأمسك النساء ، ولم يرد الصّداق ، وكذلك يفعل بمن جاءه من المسلمات قبل العهد ، فلما نزلت هذه الآية أخطر المؤمنون بحكم الله عزوجل وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله ، فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ).

وقوله : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي بما ذكر في هذه الآية ، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

قوله : (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ). فيه وجهان (١) :

أحدهما : أنه مستأنف لا محلّ له من الإعراب.

والثاني : أنه حال من : (حُكْمُ اللهِ) ، والراجع إما مستتر أي : يحكم هو ، أي : الحكم على المبالغة ، وإما محذوف ، أي : يحكمه ، وهو الظاهر.

قوله : (مِنْ أَزْواجِكُمْ).

يجوز أن يتعلق ب «فاتكم» أي : من جهة أزواجكم ، يراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج ، كما تقدم.

ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة ل «شيء».

ثم يجوز في «شيء» ، أن يراد به : المهر ، ولكن على هذا ، فلا بد من حذف مضاف ، أي : من مهور أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته.

ويجوز أن يراد ب «شيء» [النساء ، أي : بشيء من النساء ، أي : نوع وصف منهن ، وهو ظاهر وصفه بقوله : (مِنْ أَزْواجِكُمْ).

وقد صرّح الزمخشري بذلك ، فإنّه قال : وإن سبقكم وانفلت منكم شيء من أزواجكم أحد منهن إلى الكفّار ، وفي قراء أبي مسعود : «أحد».

فهذا تصريح بأن المراد ب «شيء» : النساء الفارات](٢) ، ثم قال (٣) : فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضع فائدة؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه ألا يغادر شيء من هذا الجنس ، وإن قلّ وحقر غير معوض عنه ، تغليظا في هذا الحكم وتشديدا فيه ، ولو لا نصّه على أنّ المراد ب «شيء» : أحد ، كما تقدم ، لكان قوله : «إلا أن يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر» ، ظاهرا في أن المراد ب «شيء» : المهر ؛ لأنه يوصف بالقلة والحقارة وصفا سائغا وقوله : «تغليظا» فيه نظر ؛ لأن المسلمين ليس لهم تسبب في فرار النساء إلى الكفار ، حتى يغلظ عليهم الحكم بذلك.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٦.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥١٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٧.

٣١

وعدي : «فات» ب «إلى» ؛ لأنه ضمن معنى الفرار والذهاب والسبق ونحو ذلك(١).

قوله : (فَعاقَبْتُمْ) ، عطف على «فاتكم».

وقرأ العامة : «عاقبتم». وفيه وجهان (٢) :

أحدهما : أنه من العقوبة ، قال الزجاج (٣) : «فعاقبتم» فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم.

والثاني : أنّه من العقبة ، وهي التوبة ، شبه ما حكم به على المسلمين ، والكافرين من أداء هؤلاء مهور النساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى ، بأمر يتعاقبون فيه ، كما يتعاقب في الركوب وغيره ، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر. انتهى.

وقرأ مجاهد والأعرج والزهري وأبو حيوة وعكرمة (٤) وحميد : بتشديد القاف دون ألف.

ففسرها الزمخشري على أصله يعقبه : إذا قفاه ؛ لأن كل واحد من المتعاقبين ، يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم ـ بالتخفيف ـ يقال : عقبه يعقبه انتهى.

والذي قرأه بالتخفيف وفتح القاف : النخعي ، وابن وثاب ، والزهري ، والأعرج أيضا. وبالتخفيف (٥) ، وكسر القاف : مسروق ، والزهري ، والنخعي أيضا.

وعن مجاهد (٦) : أعقبتم.

قال الزمخشري : معناه : دخلتم في العقبة (٧).

قال البغوي : «معناه : أي : صنعتم بهم ، كما صنعوا بكم» (٨).

وفسّر الزجاج القراءات الباقية ، فكانت العقبى : أي : كانت الغلبة لكم حتى غنمتم (٩).

والظّاهر أنه كما قال الزمخشريّ : من المعاقبة بمعنى المناوبة.

يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي : جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر ، ويقال : أعقب ـ أيضا. وأنشد بعضهم رحمه‌الله : [الطويل]

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٣٠٧.

(٢) ينظر السابق.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٥ / ١٦٠.

(٤) ينظر : الكشاف ٦ / ٥١٩ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٩٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٧.

(٥) ينظر السابق.

(٦) السابق.

(٧) ينظر : الكشاف ٤ / ٥١٩.

(٨) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٣٣٤.

(٩) ينظر معاني القرآن للزجاج ٥ / ١٦٠.

٣٢

٤٧٦١ ـ وحاردت النّكد الجلاد ولم يكن

لعقبة قدر المستعيرين معقب (١)

قال البغوي (٢) : «وكلها لغات بمعنى واحد ، يقال : عاقب وأعقب وتعقّب وتعاقب واعتقب ، إذا غنم».

وقيل : التعقيب : غزوة بعد غزوة (٣).

فصل

روي أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا (٤) ، فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا).

روى الزّهري عن عروة عن عائشة ـ رضي الله عنها وعنهم ـ قالت : حكم الله عزوجل بينهم ، فقال ـ جل ثناؤه ـ : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) ، فكتب إليهم المسلمون : قد حكم الله ـ عزوجل ـ بيننا بأنه إذا جاءتكم امرأة منا ، أن توجهوا إلينا بصداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم ، وجهنا إليكم بصداقها ، فكتبوا إليهم : أما نحن ، فلا نعلم لكم عندنا شيئا ، فإن كان لنا عندكم شيء ، فوجهوا به ، فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا)(٥) الآية.

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي : بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة ، يرد بعضهم على بعض (٦).

قال الزهريّ : ولو لا العهد ، لأمسك النساء ، ولم يرد إليهم صداقا (٧).

وقال قتادة ومجاهد : إنّما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، وقالا : هي فيما بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد ، وقالا : ومعنى (فَعاقَبْتُمْ) فاقتصصتم (٨).

(فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) يعني : الصفات ، فهي عامة في جميع الكفار.

__________________

(١) قائله الكميت بن زيد الأسدي.

ينظر : الأمالي للقالي ١ / ٩١ ، وسمط اللالىء ١ / ٣٤ ، واللسان (عقب) و (نكد) ، والكميت وقصائده الهاشميات ص ١٢٦ ، والبحر ٨ / ٢٥٥ والدر المصون ٦ / ٣٠٧.

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٣٣٤.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ٢٩ / ٢٦٦.

(٤) ينظر القرطبي ١٨ / ٤٦.

(٥) ينظر القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٤٤).

(٦) ينظر المصدر السابق.

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧١ ـ ٧٢) عن مجاهد.

٣٣

وقيل : فعاقبتم المرتدة بالقتل.

وقال قتادة أيضا : وإن فاتكم شيء من أزواجكم ، إلى الكفار ، الذين ليس بينكم وبينهم عهد ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، ثم نسخ هذا في سورة براءة (١).

وقال الزهريّ : انقطع هذا يوم الفتح.

وقال سفيان الثوري : لا يعمل به اليوم.

وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضا. حكاه القشيري.

فصل

قال القرطبي (٢) : الآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم الفهري ، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام.

وقال البغويّ (٣) : روي عن ابن عبّاس قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرات ، ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة ، كانت تحت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروع بنت عقبة ، كانت تحت شماس بن عثمان ، وغرة بنت عبد العزيز بن نضلة ، وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وأم كلثوم بنت جرول ، وكانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما رجعن إلى الإسلام ، أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة.

فصل في رد مهر من أسلمت

اختلفوا في رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن ، هل كان واجبا ، أو مندوبا؟ وأصله أن الصلح هل كان قد وقع على رد النساء؟ على قولين :

أحدهما : أنه وقع على رد الرجال ، والنساء جميعا ، لما روي من قولهم : لا يأتيك منا أحد ، إلا رددته ، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخا بقوله : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) ، فعلى هذا كان رد المهر واجبا.

والثاني : أن الصلح لم يقع على ردّ النساء ؛ لأنه روي أنه لا يأتيك منّا رجل ، وإن كان على دينك إلا رددته ، وذلك ؛ لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها ، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت ، وأكرهت

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٤٦).

(٢) ينظر : القرطبي (١٨ / ٤٧).

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٣٣٤.

٣٤

عليها ؛ لضعف قلبها ، وقلة هدايتها إلى المخرج منه ، بإظهار كلمة الكفر مع التورية ، وإضمار الإيمان ، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته ، وهدايته إلى التقية ، فعلى هذا كان رد المهر مندوبا.

واختلفوا في أنه يجب به العمل اليوم في رد المال (١) إذا اشترط في معاقدة الكفار فقال عطاء ومجاهد وقتادة : لا يجب ، وزعموا أن الآية منسوخة (٢).

وقيل : هي غير منسوخة ، ويرد إليهم ما أنفقوا.

فصل في معنى الآية

معنى الآية (٣) : إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل «مكة» ، وليس بينكم وبينهم عهد ، ولها زوج مسلم قبلكم ، فغنمتم فأعطوا هذا الزّوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس (٤) ، [وهو قول ابن عبّاس رضي الله عنهما](٥).

وقال الزهري : يعطى من الفيء.

وعنه : يعطى من صداق من لحق منا.

وقيل : إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم ، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم ، فخذوا ذلك منهم (وَاتَّقُوا اللهَ) ، أي : احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٢)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) الآية.

لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مكة» ، جاءه نساء أهل «مكة» يبايعنه ، فأمر أن يأخذ عليهن أن لا يشركن (٦).

قالت عائشة رضي الله عنها : والله ما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قط إلا بما أمر الله ـ عزوجل ـ وما مست كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كف امرأة قط ، وكان يقول إذا أخذ عليهن : «قد بايعتكنّ» كلاما (٧).

__________________

(١) في أ : المال الذي.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٩ / ٣١١) عن ابن جريج قال : سألت عطاء عن هذه الآية تعلمها قال : لا. وعزاه إلى أبي داود في «ناسخه» وابن المنذر.

(٣) في أ : قال ابن عباس رضي الله عنهما.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٦.

(٥) سقط من أ.

(٦) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٧.

(٧) أخرجه البخاري (٨ / ٥٠٤) كتاب التفسير ، باب : «إِذا جاءك الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ» رقم (٤٨٩١) عن عائشة. ـ

٣٥

وروي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، بايع النساء ، وبين يديه وأيديهن ثوب ، وكان يشترط عليهن (١).

وقيل : لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا ، ومعه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أسفل منه ، فجعل يشترط على النساء البيعة ، وعمر يصافحهن.

وروي أنّه كلف امرأة وقفت على الصفا ، وكلفها أن تبايعهن ، ففعلت.

قال ابن العربي (٢) : وذلك ضعيف ، وإنما التعويل على ما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنه المتقدم. قالت : كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ) إلى آخر الآية ، قالت عائشة : فمن أقر بهذا من المؤمنات ، فقد أقر بالمحنة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن ، قال لهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انطلقن فقد بايعتكنّ» ، لا والله ما مسّت يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة قط ، غير أنه بايعهن بالكلام.

وقالت أمّ عطيّة رضي الله عنها : لما قدم رسول الله المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب ، فقام على الباب فسلّم فرددن عليه‌السلام فقال : أنا رسول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكن : «ألا تشركن (بِاللهِ شَيْئاً») الآية ، فقلن : نعم ، فمد يده من خارج البيت ، ومددنا أيدينا من داخل البيت ، ثم قال : اللهمّ اشهد (٣).

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ، ثم أمر النساء فغمسن أيديهن فيه (٤).

فصل

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من بيعة الرجال يوم فتح «مكة» ، وهو على الصفا ، وعمر بن الخطّاب أسفل منه يبايع النساء بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبلغهن عنه ، على ألّا يشركن بالله شيئا ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله

__________________

ـ وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣١١) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.

(١) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦ / ٤٢) عن معقل بن يسار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصافح النساء من تحت ثوب.

وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه عتاب بن حرب وهو ضعيف.

(٢) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٧٩١.

(٣) أخرجه أحمد (٣ / ٤٩٣).

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣١٤) وعزاه إلى ابن سعد وابن مردويه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

٣٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرفها لما صنعته بحمزة يوم أحد ، فقالت : والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال ، وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام ، والجهاد فقط ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا يَسْرِقْنَ) ، فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله قوتنا ، فلا أدري أيحلّ لي أم لا؟.

فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر ، فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لها : وإنّك لهند بنت عتبة؟ قالت : نعم ، فاعف عني ما سلف ، فقال عفا الله عنك ، ثم قال : (وَلا يَزْنِينَ) فقالت هند : أو تزني الحرّة؟ فقال : (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) ، أي : لا يئدن الموءودات ولا يسقطن الأجنة ، فقالت هند : ربّيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر ، وأنت وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان ـ وهو بكرها ـ قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى ، وتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : «ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ» (١).

قال أكثر المفسرين (٢) : معناه لا يلحقن بأزواجهن ولدا من غيرهم ، وكانت المرأة تلتقط ولدا ، فتلحقه بزوجها وتقول : هذا ولدي منك ، فكان هذا من البهتان والافتراء ؛ لأن النهي عن الزنا قد تقدم.

وقال بعض المفسرين : المرأة إذا التقطت ولدا ، كأنّما التقطت بيدها ومشت برجلها إلى أخذه ، فإذا أضافته إلى زوجها ، فقد أتت ببهتان تفتريه بين يديها ورجليها.

وقيل : يفترينه على أنفسهن حيث يقلن : هذا ولدنا ، وليس كذلك ، إذ الولد ولد الزنا.

وقيل : ما بين يديها ورجليها كناية عن الولد ؛ لأن البطن التي تحمل فيه الولد بين يديها ، وفرجها الذي تلد منه بين رجليها ، وهذا عام في الإتيان بولد ، وإلحاقه بالزوج ، وإن سبق النهي عن الزنا.

وقيل : معنى (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ) : ألسنتهن بالنميمة ، و «بين أرجلهن» : فروجهن.

وقيل : ما بين أيديهن من قبلة أو جسة ، وبين أرجلهن الجماع (٣).

وروي أن هندا لما سمعت ذلك قالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ما تأمر إلا بالأرشد ، ومكارم الأخلاق ، ثم قال : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) أي : في كل أمر وافق طاعة الله.

قال بكر بن عبد الله المزنيّ : في كل أمر فيه رشدهن.

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر ٦ / ٣١٢ وعزاه لابن جرير وابن مردويه.

(٢) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٨.

(٣) ينظر السابق.

٣٧

وقال مجاهد : لا تخلو المرأة بالرجال (١).

وقال سعيد بن المسيّب والكلبيّ وعبد الرحمن بن زيد : هو النهي عن النوح ، والدعاء بالويل ، وتمزيق الثوب ، وحلق الشعر ، ونتفه ، وخمش الوجه ، ولا تحدّث المرأة الرجال إلا ذا محرم ، ولا تخلو برجل غير ذي محرم ، ولا تسافر إلا مع ذي محرم (٢).

وروت أم عطيّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن ذلك في النوح ، وهو قول ابن عباس.

وروى شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا يعصينك في معروف» ، قال: «هو النّوح» (٣).

وفي صحيح مسلم عن أمّ عطيّة : لما نزل قوله : «يبايعنك» ، إلى قوله : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) ، قالت : كان منه النياحة ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، إلا آل بني فلان ، فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية ، فلا بد لي من أن أسعدهم ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إلا آل بني فلان» (٤).

قوله : «يبايعنك» : حال ، و «شيئا» : مصدر ، أي شيئا من الإشراك (٥).

وقرأ علي (٦) والسلمي والحسن : «يقتّلن» بالتشديد.

و «يفترينه» : صفة ل «بهتان» ، أو حال من فاعل : «يأتين».

فصل

ذكر الله ـ عزوجل ـ في هذه الآية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفة البيعة خصالا شتى ، صرح فيهن بأركان النهي في الدين ، ولم يذكر أركان الأمر ، وهي ستة أيضا : الشهادة ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والاغتسال من الجنابة ، وذلك لأن النهي دائم في كل الأزمان ، وكل الأحوال ، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد.

وقيل (٧) : إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها ، ولا يحجزهن [عنها](٨) شرف النسب ، فخصت بالذكر لهذا ، ونحو منه قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لوفد عبد القيس: «وأنهاكم عن الدّبّاء والحنتم والنّقير والمزفّت» (٩).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٦).

(٢) ينظر تفسير الرازي (٢٩ / ٢٦٧).

(٣) أخرجه الترمذي (٣٣٠٧) وابن ماجه (١٥٧٩) من طريق شهر بن حوشب عن أم سلمة.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

(٤) أخرجه الإمام مسلم في «صحيحه» (٢ / ٦٤٦) من حديث أم عطية.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٨.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٥٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٨.

(٧) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٨.

(٨) سقط من أ.

(٩) تقدم.

٣٨

فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي ؛ لأنها كانت شهوتهم وعادتهم ، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي ، هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها.

فصل

لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البيعة : («وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ) ، قالت هند : يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل مسّيك ، فهل عليّ حرج إن أخذت ما يكفيني وولدي؟ فقال : «لا ، إلّا بالمعروف» ، فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها ، فتضيع ، أو تأخذ أكثر من ذلك ، فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، أي : لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف ، يعني : من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة.

قال ابن العربي رحمه‌الله : «وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب ، ولا يضبط عليه بقفل ، فإنه إذا هتكته الزوجة وأخذت منه [كانت](١) سارقة تعصي بها ، وتقطع يدها».

فصل في الكلام على الآية

فإن قيل : هلّا قيل : إذا جاءك المؤمنات فامتحنوهن ، كما قال في المهاجرات؟.

فالجواب من وجهين (٢) : أحدهما : أن الامتحان حاصل بقوله تعالى : (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ) إلى آخره. وثانيهما : أن المهاجرات يأتين من دار الحرب فلا اطلاع للمبايع على ما في قلبها ، فلا بد من الامتحان ، وأما المؤمنات ، فهن في دار الإسلام ، وعلمن الشرائع ، فلا حاجة إلى الامتحان مع ظاهر حالها.

فإن قيل : ما الفائدة في تقديم البعض في الآية على البعض وترتيبها؟.

فالجواب (٣) : قدم الأقبح على ما هو الأدنى منه في القبح ، ثم كذلك إلى آخره ، وقدم في الأشياء المذكورة على ما هو الأظهر فيما بينهم.

فصل

قال عبادة بن الصامت : «أخذ علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أخذ على النساء : أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ، ولا يعضه بعضكم بعضا ، ولا تعصوا في معروف آمركم به» (٤).

__________________

(١) في أ : صارت.

(٢) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ٢٦٧.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) أخرجه البخاري ١ / ٨١ كتاب الإيمان ، باب : علامة الإيمان حب الأنصار (١٨) وفي ٧ / ٢٦٠ كتاب مناقب الأنصار ، باب : وفود الأنصار (٣٨٩٢ ـ ٣٨٩٣) وكتاب المغازي (٣٩٩٩) وفي ٨ / ٥٠٦ كتاب التفسير ، باب : «إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ» : (٤٨٩٤) وفي ١٢ / ٨٥ كتاب الحدود ، باب الحدود كفارة (٦٧٨٤) : وفي ١٢ / ١٩٩ كتاب الديات ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سترون بعدي أمورا ...» ـ

٣٩

معنى «يعضه» : يسحر ، والعضه : السحر.

ولهذا قال ابن بحر وغيره في قوله تعالى : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ) إنه : السحر.

وقال الضحاك : هذا نهي عن البهتان ، أن لا يعضه رجل ولا امرأة «ببهتان» (١) أي : بسحر ، والجمهور على أن معنى «ببهتان» : بولد ، يفترينه (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ) : ما أخذته لقيطا ، «وأرجلهن» : ما ولدته من زنا كما تقدم (٢).

فصل في هذا الأمر (٣)

قال المهدويّ : أجمع المسلمون على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا ، والأمر بذلك ندب لا إلزام.

وقال بعض العلماء : إذا احتيج إلى المحنة من أجل تباعد الدّار كان على إمام المسلمين إقامة المحنة.

قوله : (فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية : (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) قالت : وما مسّت يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا يد امرأة يملكها (٤).

وقالت [أميمة](٥) بنت رقيقة : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نسوة ، فقال : «فيما استطعتنّ وأطعتنّ» ، فقلت : يا رسول الله صافحنا ، فقال : «إنّي لا أصافح النّساء ، إنّما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة» (٦).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ)(١٣)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ، وهم اليهود.

__________________

ـ (٧٠٥٥) وفي ١٣ / ٢٠٤ كتاب الأحكام ، باب : كيف يبايع الإمام الناس (٧١٩٩). وفي ١٣ / ٢١٦ كتاب الأحكام ، باب : بيعة النساء (٧٢١٣) وفي ١٣ / ٤٥٥ كتاب التوحيد ، باب : في المشيئة والإرادة (٧٤٦٨) ومسلم (٣ / ١٣٣) كتاب الحدود ، باب : الحدود كفارة لأهلها (٤١ / ١٧٠٩).

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٤٩) عن الضحاك.

(٢) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٩.

(٣) ينظر السابق ١٨ / ٥٠.

(٤) تقدم.

(٥) في أ : أميمة.

(٦) أخرجه أحمد (٦ / ٣٥٧) والترمذي (١٩٥٧) والنسائي (٧ / ١٤٩) وابن ماجه (٢٨٧٤) والحميدي (١ / ١٦٣) رقم (٣٤٠) وابن حبان (١٤ ـ موارد) والطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٠) من حديث أميمة بنت رقيقة.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣١١) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن سعد وابن المنذر وابن مردويه.

٤٠