اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وقال الضحاك : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي : سبعا من الأرضين ، ولكنها مطبقة بعضها فوق بعض من غير فتوق بخلاف السماوات (١).

قال القرطبي (٢) : والأول أصحّ ؛ لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخاري وغيره ، روى أبو مروان عن أبيه : أن كعبا حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها : «اللهمّ ربّ السّموات السّبع وما أظللن ، وربّ الأرضين السّبع وما أقللن ، وربّ الشّياطين وما أضللن ، وربّ الرّياح وما أذررن ، إنّا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ، ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها ، ومن شرّ من فيها» (٣).

وروى مسلم عن سعيد بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه يوم القيامة من سبع أرضين» (٤).

قال الماوردي (٥) : وعلى أنها سبع أرضين تختص دعوة أهل الإسلام بأهل الأرض العليا ولا يلزم فيمن غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز ، وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان :

أحدهما : أنهم يشاهدون من كل جانب من أرضهم ، ويستمدّون الضياء منها ، وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. والثاني : أنهم لا يشاهدون السماء ، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه ، وهذا قول من جعل الأرض كرة.

وحكى الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس : أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض يفرق بينها البحار ، وتظل جميعهم السماء ، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض ، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى ، احتمل أن يلزمهم دعوة الإسلام لإمكان الوصول إليهم لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه ، واحتمل ألا يلزمهم دعوة الإسلام ؛ لأنها لو لزمتهم لكان النصّ بها واردا ، ولكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمورا بها.

قال بعض العلماء : السماء في اللغة عبارة عما علاك ، ففلك القمر بالنسبة إلى السماء الثانية أرض ، وكذلك السماء الثانية بالنسبة إلى الثالثة أرض وكذلك البقية بالنسبة

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١١٤).

(٢) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١١٥.

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه البخاري ٥ / ١٢٣ ، كتاب المظالم ، باب : إثم من ظلم شيئا من الأرض (٢٤٥٢) وطرفه في ٣١٩٨ ، والبيهقي في السنن ٦ / ٩٩.

(٥) ينظر : النكت والعيون ٦ / ٣٦ ـ ٣٧.

١٨١

إلى ما تحته سماء وبالنسبة إلى ما فوقه أرض ، فعلى هذا تكون السماوات السّبع وهذه سبع سماوات وسبع أرضين.

قوله : (مِثْلَهُنَ). قرأ العامّة : بالنصب ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف على سبع سموات. قاله الزمخشري (١).

واعترض عليه أبو حيّان (٢) بلزوم الفصل بين حرف العطف ، وهو على حرف واحد وبين المعطوف بالجار والمجرور ، وهو مختص بالضرورة عند أبي علي.

قال شهاب الدين (٣) : وهذا نظير قوله : (آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] عند ابن مالك ، وتقدم تحريره في سورة البقرة والنساء ، وهود عند قوله :

(وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء : ٥٨] ، (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود: ٧١].

والثاني : أنه منصوب بمقدر بعد الواو ، أي : خلق مثلهن من الأرض.

واختلف الناس في المثليّة.

فقيل : مثلها في العدد.

وقيل : في بعض الأوصاف ؛ فإن المثليّة تصدق بذلك ، والأول المشهور.

وقرأ عاصم (٤) في رواية : «مثلهنّ» بالرفع على الابتداء ، والجار قبله خبره.

قوله : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ).

يجوز أن يكون مستأنفا وأن يكون نعتا لما قبله. قاله أبو البقاء (٥).

وقرأ أبو عمرو (٦) في رواية ، وعيسى : «ينزّل» بالتشديد ، أي : الله ، «الأمر» مفعول به. والضمير في «بينهنّ» عائد عل ى «السّماوات والأرضين» عند الجمهور ، أو على السماوات والأرض عند من يقول : إنها أرض واحدة.

وقوله : (لِتَعْلَمُوا) : متعلق ب «خلق» أو ب «يتنزّل».

والعامة : «لتعلموا» بتاء الخطاب ، وبعضهم بياء الغيبة.

فصل في تفسير الآية

قال مجاهد : يتنزل الأمر من السماوات السبع إلى الأرضين السبع.

وقال الحسن : بين كل سماءين أرض وأمر (٧).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٦١.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨٣.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٣٣.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٢٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٨٣ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٣.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٢٨.

(٦) ينظر القراءة السابقة.

(٧) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٤) وعزاه إلى عبد بن حميد.

١٨٢

والأمر هنا الوحي في قول مقاتل وغيره ، وعلى هذا يكون «بينهنّ» إشارة إلى بين هذه الأرض العليا التي هي أدناها ، وبين السابعة التي هي أعلاها.

وقيل : الأمر هنا القضاء والقدر ، وهو قول الأكثرين ، فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى : (بَيْنَهُنَ) إشارة إلى ما بين الأرض السّفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها.

وقيل : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) بحياة بعض ، وموت بعض ، وغنى قوم ، وفقر قوم.

وقيل : ما يدبّر فيهن من عجيب تدبيره ، فينزل المطر ، ويخرج النبات ، ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء ، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها فينقلهم من حال إلى حال.

قال ابن كيسان : وهذا على اتساع اللغة ، كما يقال للموت : أمر الله ، وللريح والسّحاب ونحوهما.

قال قتادة : في كل أرض من أرضه ، وسماء من سمائه خلق من خلقه ، وأمر من أمره وقضاء من قضائه (١).

(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، أي : من قدر على هذا الملك العظيم ، فهو على ما بينهما من خلقه أقدر من العفو ، والانتقام أمكن ، وإن استوى كل ذلك في مقدوره ومكنته ، (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) ، فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته.

ونصب «علما» على المصدر المؤكد ؛ لأن «أحاط» بمعنى «علم».

وقيل : بمعنى : وأن الله أحاط إحاطة.

روى الثعلبيّ عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) مات على سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٤٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٦٣) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.

(٢) تقدم تخريجه.

١٨٣

سورة التحريم

مدنية ، وهي ثنتا عشرة آية ، ومائتان وسبع وأربعون كلمة ، وألف وستون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(٢)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ)؟.

قال ابن الخطيب (١) : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها ، وذلك لاشتراكهما في الأحكام المخصوصة بالنساء ، واشتراك الخطاب في الطلاق في أول تلك السورة يشترك مع الخطاب بالتحريم في أول هذه السورة ؛ لأن الطلاق في أكثر الصور يشتمل على تحريم ما أحل الله.

وأما تعلّق أول هذه السورة بآخر تلك السورة فلأن المذكور في آخر تلك السورة يدلّ على عظمة حضرة الله تعالى وعلى كمال قدرته وعلمه ، ولما كان خلق السماوات والأرض ، وما بينهما من العجائب والغرائب مما ينافي القدرة على تحريم ما أحلّ الله ، فلهذا قال : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ).

فصل في سبب نزول الآية

ثبت في صحيح مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ، فيشرب عندها عسلا ، قالت : فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها فلتقل : إني أجد ريح مغافير ، فدخل على إحداهما ، فقالت له ذلك ، فقال : بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، ولن أعود له ، فنزل : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) إلى قوله : (إِنْ تَتُوبا) لعائشة وحفصة (٢).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٣٧.

(٢) أخرجه البخاري ٩ / ٢٨٧ ، كتاب الطلاق ، باب : لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ (٥٢٦٧) ، ومسلم كتاب الطلاق ، باب : وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق (٢٠ ـ ١٤٧٤).

١٨٤

وعنها أيضا قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الحلواء والعسل ، فكان إذا صلّى العصر دار على نسائه ، فدخل على حفصة ، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل ، فسقت منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شربة ، فقلت : أما ـ والله ـ لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسودة ، وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك ، فقولي له : يا رسول الله ، أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك : لا ، فقولي له : ما هذه الريح ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح ؛ فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي : جرست نحله العرفط ، وسأقول ذلك له ، وقوليه أنت يا صفية ، فلما دخل على سودة قالت سودة : والذي لا إله إلا هو ، لقد كدت أن أبادئه بالذي قالت لي ، وإنه لعلى الباب ، فرقا منك ، فلما دنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت : يا رسول الله ، أكلت مغافير؟ قال : لا ، قلت : فما هذه الريح؟ قال : سقتني حفصة شربة عسل ، قالت : جرست نحله العرفط ، فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك ، ثم (١) دخل على صفيّة ، فقالت مثل ذلك ، فلما دخل على حفصة ، قالت له : يا رسول الله ، ألا أسقيك منه؟ قال : لا حاجة لي به ، قالت : تقول سودة : سبحان الله ، لقد حرمناه ، قالت : قلت لها : اسكتي (٢).

ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العسل حفصة ، وفي الأولى زينب.

وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس : أنه شربه عند سودة (٣).

وقد قيل : إنما هي أمّ سلمة ، رواه أسباط عن السديّ (٤).

وقاله عطاء بن أبي مسلم.

قال ابن العربي (٥) : «وهذا كله جهل ، أو تصور بغير علم».

فقال باقي نساه حسدا وغيرة لمن شرب ذلك عندها : إنا لنجد منك ريح المغافير.

والمغافير : بقلة أو صمغة متغيّرة الرائحة ، فيها حلاوة ، واحدها : مغفور.

وجرست : أكلت ، والعرفط : نبت له ريح كريح الخمر.

وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة ، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك.

__________________

(١) في أ : فلما.

(٢) أخرجه البخاري (٩ / ٢٨٧) كتاب الطلاق ، باب : لم تحرم ما أحل الله لك حديث (٥٢٦٨) من حديث عائشة.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٦٦) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وقال : بسند صحيح.

(٤) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١١٨).

(٥) ينظر أحكام القرآن (٤ / ١٨٤٥).

١٨٥

وقال ابن عبّاس : أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقبلها ، والمرأة أم شريك ، قاله عكرمة (١).

وقيل : إن التي حرّم مارية القبطية ، وكان قد أهداها له المقوقس ملك «الإسكندرية».

قال ابن إسحاق : هي من كورة «أنصنا» من بلد يقال له : «حفن» ، فواقعها في بيت حفصة.

روى الدار قطني عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأم ولده ، مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها ، فقالت له : تدخلها بيتي؟ ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك ، فقال لها : لا تذكري هذا لعائشة ، فهي عليّ حرام إن قربتها ، قالت حفصة : فكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تذكريه لأحد» (٢) ، فذكرته لعائشة ، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا ، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) الآية (٣).

قال القرطبي (٤) : أصح هذه الأقوال أولها ، وأضعفها أوسطها.

قال ابن العربي (٥) : «أما ضعفه في السند ، فلعدم عدالة رواته ، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموهوبة ليس تحريما لها ؛ لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه ، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل ، وأما ما روي أنه حرم مارية القبطية ، فهو أمثل في السند ، وأقرب إلى المعنى ، لكنه لم يدون في الصحيح بل روي مرسلا ، وإنما الصحيح أنه كان في العسل ، وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة ، فحلف أن لا يشربه ، وأسر ذلك ، ونزلت الآية في الجميع».

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٦٩) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه وقال : بسند ضعيف.

(٢) في أ : لعائشة.

(٣) أخرجه الدار قطني (٤ / ٤١ ـ ٤٢) عن ابن عباس عن عمر به قال شمس الحق آبادي في «التعليق المغني (٤ / ٤١) : الحديث أخرجه الهيثم بن كليب في مسنده ثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا جرير بن حازم، عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن عمر نحوه ، قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح ، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه : المستخرج ، وقال الحافظ في فتح الباري : وأخرج الضياء في المختارة من مسند الهيثم بن كليب ، ثم من طريق جرير بن حازم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحفصة : لا تخبري أحدا أن أم إبراهيم عليّ حرام.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٦٧) وعزاه إلى ابن مردويه عن ابن عباس.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١١٨.

(٥) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٨٤٥.

١٨٦

فصل في هل التحريم يمين؟

قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ) إن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم ولم يحلف ، فليس ذلك بيمين ، ولا يحرم قول الرجل : «هذا عليّ حرام» شيئا ، حاشا الزوجة.

وقال أبو حنيفة : إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب ، دون الملبوس ، وكانت يمينا توجب الكفارة.

وقال زفر : هو يمين في الكل ، حتى في الحركة والسكون ، واستدل المخالف بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّم العسل ، فلزمته الكفّارة ، وقد قال تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) فسماه يمينا.

قال القرطبي (١) : ودليلنا قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) [المائدة : ٨٧]. وقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) [يونس : ٥٩].

فذم الله المحرّم للحلال ، ولم يوجب عليه كفارة.

قال الزجاج (٢) : ليس لأحد أن يحرم ما أحلّ الله ، ولم يجعل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه.

فمن قال لزوجته أو أمته : أنت عليّ حرام ، فإن لم ينو طلاقا ، ولا ظهارا فهذا اللفظ يوجب عليه كفارة يمين ، ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء ، فعليه كفارة واحدة.

ولو حرم على نفسه طعاما ، أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك ، ويجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة.

فصل في اختلافهم هل التحريم طلاق؟

إذا قال الرّجل لزوجته : «أنت عليّ حرام».

قال القرطبيّ (٣) : «فيه ثمانية عشر قولا :

أحدها : لا شيء عليه ، وبه قال الشعبي ، ومسروق ، وربيعة ، وأبو سلمة ، وأصبغ ، وهو عندهم كتحريم الماء ، والطعام ، قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧]. والزوجة من الطّيّبات ، ومما أحل الله.

وقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) [النحل : ١١٦].

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١١٩.

(٢) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ٥ / ١٩٢.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١١٩.

١٨٧

فما لم يحرمه الله ، فليس لأحد أن يحرمه ، ولا أن يصير بتحريمه حراما ، ولم يثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لما أحله الله : هو حرام عليّ ، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه ، وهو قوله: «والله لا أقربها بعد اليوم».

وروى البغويّ في تفسيره (١) : أن حفصة لما أخبرت عائشة ، غضبت عائشة ، ولم تزل بنبي الله حتى حلف ألّا يقربها ، فقيل له : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ)؟ أي : لم تمتنع منه بسبب اليمين ، يعني : أقدم عليه ، وكفّر.

وثانيها : أنه يمين يكفرها ، قاله أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وعائشة ـ رضي الله عنهم ـ والأوزاعي ، وهو مقتضى الآية.

قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : إذا حرم الرجل عليه امرأته ، فإنما هي يمين يكفرها.

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.

يعني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حرم جاريته ، فقال تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) إلى قوله: (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) فكفّر عن يمينه ، وصيّر الحرام يمينا (٢) ، خرجه الدار قطني.

وثالثها : أنه يجب فيها كفّارة ، وليست بيمين ، قاله ابن مسعود ؛ لأن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفّارة على المعنى ، والآية ترده.

ورابعها : هي ظهار ، ففيها كفارة الظهار ، قاله عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق ، ولأنه إنما حرم وطؤها ، والظهار أقل درجات التحريم.

وخامسها : أنه إن نوى الظهار كان ظهارا ، وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين ، وإن لم ينو فعليه كفارة يمين ، قاله الشافعي.

وسادسها : أنها طلقة رجعية ، قاله عمر بن الخطاب ، والزهري ، وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون.

وسابعها : أنها طلقة بائنة ، قاله حماد بن أبي سليمان ، وزيد بن ثابت ، ورواه ابن

__________________

(١) ينظر معالم التنزيل (٤ / ٣٦٣).

(٢) أخرجه الدار قطني (٤ / ٤٠) من طريق هشام عن يحيى عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.

والحديث متفق عليه من طريق هشام عن يحيى بهذا الإسناد إلى قوله أسوة حسنة.

أخرجه البخاري ٩ / ٢٨٧ ، كتاب الطلاق ، باب : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٥٢٦٦) ومسلم ٢ / ١١٠٠ ، كتاب الطلاق ، باب : وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق (١٨ ـ ١٤٧٣).

١٨٨

خويز منداد عن مالك ؛ ولأن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة.

وثامنها : أنها ثلاث تطليقات. قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت أيضا ، وأبو هريرة ؛ لأنه التحريم المتيقن.

وتاسعها : هي في المدخول بها ثلاث ، وينوي في المدخول بها. قاله علي بن زيد والحسن والحكم ، وهو مشهور مذهب مالك ؛ لأن غير المدخول بها تبينها الطلقة ، وتحرمها.

وعاشرها : هي ثلاث ، ولا ينوي بحال ، ولا في محل ، وإن لم يدخل بها ، قاله عبد الملك في «المبسوطة» ، وبه قال ابن أبي ليلى ؛ لأنه أخذ بالحكم الأعظم لهما ؛ لأنه لو صرح بالثلاث لغير المدخول بها لنفذ.

وحادي عشرها : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي المدخول بها ثلاث ، قاله أبو مصعب ، ومحمد بن الحكم.

وثاني عشرها : أنه إن نوى الطّلاق ، والظهار كان ما نوى ، وإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا ، فإن نوى اثنتين ألزمناه.

وثالث عشرها : أنه لا ينعقد نيّة الظّهار ، وإنما يكون طلاقا. قاله ابن القاسم.

ورابع عشرها : قال يحيى بن عمر : يكون طلاقا ، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها ، حتى يكفر كفارة الظّهار.

وخامس عشرها : إن نوى الطلاق ، فما أراد من أعداده ، وإن نوى واحدة فهي رجعية ، وهو قول الشافعي ـ رضي الله عنه ـ وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.

وسادس عشرها : إن نوى ثلاثا ، فثلاثا ، وإن نوى واحدة ، فواحدة ، وإن نوى يمينا ، فهي يمين ، وإن لم ينو شيئا ، فلا شيء عليه ، وهو قول سفيان ، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور ، إلا أنهما قالا : لم ينو شيئا فهي واحدة.

وسابع عشرها : له نيته ولا يكون أقلّ من واحدة ، قاله ابن شهاب ، وإن لم ينو شيئا لم يكن شيئا.

قال ابن العربي (١) : «ورأيت لسعيد بن جبير ، وهو :

الثامن عشر : أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا ، ولست أعلم لها وجها ، ولا يبعد في المقالات عندي».

__________________

(١) ينظر : أحكام القرآن (٤ / ١٨٤٨).

١٨٩

قال القرطبي (١) : وقد روى الدارقطني عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي عليّ حراما ، فقال : كذبت ، ليست عليك بحرام ، ثم تلا : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ)؟ عليك أغلظ الكفّارات عتق رقبة (٢) ، وقد قال جماعة من المفسرين : إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد إلى مارية صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله زيد بن أسلم وغيره».

هذا كله في الزوجة ، وأما الأمة [فليس](٣) فيها شيء من ذلك إلّا أن ينوي العتق عند مالك ، وذهب عامة العلماء إلى أن عليهن كفّارة يمين.

قال ابن العربي (٤) : «والصحيح أنها طلقة واحدة ؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله ، وهو الواحدة إلا أن يعدده ، فكذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر ، مثل أن يقول : أنت عليّ حرام إلا بعد زوج ، فهذا نص في المراد».

فصل في هذا الاستفهام

قال ابن الخطيب (٥) : قال صاحب «النظم» : قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ) استفهام بمعنى الإنكار ، وذلك من الله نهي ، وتحريم الحلال مكروه ؛ لأن الحلال لا يحرم إلا بتحريم الله تعالى.

فإن قيل : قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب ، وخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم؟.

فالجواب : أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب ، بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي.

فإن قيل : تحريم ما أحلّ الله غير ممكن ، فكيف قال : لم تحرم ما أحل الله؟ فالجواب : أن المراد بهذا التحريم هو الامتناع من الانتفاع بالأزواج ؛ لاعتقاد كونه حراما بعد ما أحله الله تعالى ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم امتنع عن الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالا ؛ فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله ـ تعالى ـ فقد كفر ، فكيف يضاف إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ مثل هذا؟.

قوله : (تَبْتَغِي).

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٢٠.

(٢) أخرجه النسائي في «الكبرى» (٤٩٥٦) والدار قطني (٤ / ٤٣) من طريق سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(٣) في أ : فلا يلزم.

(٤) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٨٥٠.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٣٨.

١٩٠

يجوز أن يكون حالا من فاعل «تحرّم» ، أي : لم تحرم مبتغيا به مرضات أزواجك.

ويجوز أن يكون تفسيرا ل «تحرّم».

ويجوز أن يكون مستأنفا ، فهو جواب للسؤال.

و «مرضات» اسم مصدر ، وهو الرضا ، وأصله «مرضوة».

والمصدر هنا مضاف إما للمفعول ، أو للفاعل ، أي : ترضي أنت أزواجك أو أن ترضين.

والمعنى : يفعل ذلك طلبا لرضاهن (وَاللهُ غَفُورٌ) أي : لما أوجب المعاتبة (رَحِيمٌ) برفع المؤاخذة.

قال القرطبيّ (١) : «وقد قيل : إن ذلك كان ذنبا من الصّغائر ، والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنه لم تكن له صغيرة ، ولا كبيرة».

قوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ).

(فَرَضَ اللهُ لَكُمْ) أي : بيّن لكم ، كقوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) [النور : ١] وقيل : قد أوجب الله.

وقال صاحب «النظم» (٢) : إذا وصل «فرض» ب «على» لم تحتمل غير الإيجاب كقوله : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ) [الأحزاب : ٥٠] ، وإذا وصل باللام احتمل الوجهين.

قوله : (تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ).

تحليل اليمين كفّارتها ، أي : إذا أحللتم استباحة المحلوف عليه ، وهو قوله تعالى في سورة «المائدة» : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) [الآية : ٨٩].

قال القرطبيّ (٣) : وتحصل من هذا أن من حرم شيئا من المأكول ، أو المشروب لم يحرم عليه ؛ لأن الكفارة لليمين لا للتحريم ، وأبو حنيفة يراه يمينا في كل شيء ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرم ، فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله ، أو أمة فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية ، وإن نوى الظهار فظهار ، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن ، وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثا ، وإن قال : نويت الكذب دين فيما بينه وبين الله تعالى ، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء ، وإن قال : كل حلال عليه حرام ، فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى ، ولا يراه الشافعي يمينا ، ويكون في الكفارة وجهان.

قوله : (تَحِلَّةَ).

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٢٢.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٣٨.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٢٢.

١٩١

مصدر «حلّل» مضعفا ، نحو «تكرمة» ، وهذان ليسا [مقيسين](١) ، فإن قياس مصدر «فعّل» «التفعيل» إذا كان صحيحا غير مهموز.

فأما المعتل اللام نحو «زكّى» ومهموزها نحو : «نبّأ» فمصدرهما «تفعلة» نحو : «تزكية ، وتنبئة».

على أنه قد جاء «التفعيل» كاملا في المعتل ، نحو : [الرجز]

٤٧٨٤ ـ باتت تنزّي دلوها تنزيّا (٢)

وأصلها : «تحللة» ك «تكرمة» فأدغمت ، وانتصابها على المفعول به.

فصل في تكفير النبي عن هذه اليمين

قيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفر عن يمينه.

وقال الحسن : لم يكفر ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر (٣).

وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة ، والأول أصح ، وأن المراد بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك ، وقد تقدم عن زيد بن أسلم أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كفر بعتق رقبة.

وعن مقاتل : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية (٤). والله أعلم.

فصل في الاستثناء في اليمين

قيل : قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين ، فبين في قوله تعالى : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ) [الأحزاب : ٣٨] ، أي : فيما شرعه له في النساء المحللات ، أي : حلل لكم ملك اليمين ، فلم تحرم مارية في نفسك مع تحليل الله إياها لك.

وقيل : تحلة اليمين الاستثناء ، أي : فرض الله لكم الاستثناء المخرج عن اليمين ، ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الأيمان متى شاء ، وإن تخلّل مدّة.

وعند الجمهور لا يجوز إلا متصلا ، فكأنه قال : «استثن بعد هذا فيما تحلف عليه» وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة.

قال القرطبيّ (٥) : «والأصل «تحللة» ، فأدغمت ، و «تفعلة» من مصادر «فعّل» كالتوصية والتسمية ، فالتحلة تحليل اليمين ، فكأن اليمين عقد ، والكفارة حلّ وقيل : التحلة الكفارة ، أي : أنها تحلّ للحالف ما حرّم على نفسه ، أي إذا كفر صار كمن لم يحلف».

__________________

(١) في أ : تفسير.

(٢) تقدم.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» ١٨ / ١٢٢.

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٢٢.

١٩٢

فصل

قال ابن الخطيب (١) : وتحلة القسم على وجهين :

أحدهما : تحليله بالكفارة كما في هذه الآية.

وثانيهما : أن يستعمل بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر ، كما روي من قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لن تلج النّار إلا تحلّة القسم» (٢) أي : زمانا يسيرا.

وقرىء : «كفّارة أيمانكم» (٣).

قوله : (وَاللهُ مَوْلاكُمْ).

أي : وليّكم وناصركم في إزالة الحظر ، فيما تحرمونه على أنفسكم ، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفّارة ، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

قوله تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً)(٥)

قوله : (وَإِذْ أَسَرَّ).

العامل فيه «اذكر» فهو مفعول به لا ظرف.

والمعنى : اذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه ، يعني حفصة «حديثا» يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك.

وقال الكلبيّ : أسرّ إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان [خليفتين](٤) من بعدي على أمّتي(٥).

وقال ابن عباس : أسرّ أمر الخلافة بعده إلى حفصة ، فذكرته حفصة (٦).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٣٩.

(٢) أخرجه البخاري ٣ / ١٤٢ في الجنائز ومسلم ٤ / ٢٠٢٨ في البر والصلة ، باب : فضل من يموت له ولد فيحتسبه (١٥٠ / ٢٦٣٢).

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٣٩.

(٤) في أ : خلفة.

(٥) تفسير القرطبي (١٨ / ١٢٢).

(٦) ينظر المصدر السابق.

١٩٣

روى الدارقطني في سننه عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) ، قال : اطلعت حفصة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أم إبراهيم ، فقال : «لا تخبري عائشة» ، قال : فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره الله عليه ، «فعرّف بعضه ، وأعرض عن بعض» ، قال : أعرض عن قولها : «إن أباك وأباها يكونان خليفتين من بعدي» ، كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينشر ذلك بين الناس.

(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أخبرت عائشة لمصافاة كانت بينهما ، وكانتا متظاهرتين على زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وأظهره الله عليه» أي : أطلعه الله على أنها قد نبأت به (١).

قوله : (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ).

أصل «نبّأ وأنبأ ، وأخبر وخبّر ، وحدّث» أن يتعدى لاثنين [إلى](٢) الأول بنفسها ، وإلى الثاني بحرف الجر ، وقد يحذف الجار تخفيفا ، وقد يحذف الأول للدلالة عليه ، وقد جاءت الاستعمالات الثلاثة في هذه الآية فقوله : (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) تعدى لاثنين ، حذف أولهما ، والثاني مجرور بالباء ، أي : «نبّأت به غيرها» ، وقوله : (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) ذكرهما ، وقوله : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) ذكرهما ، وحذف الجار.

وقرأ طلحة (٣) بن مصرف : «فلمّا أنبأت» ، وهما لغتان «نبّأ وأنبأ».

قوله : (عَرَّفَ بَعْضَهُ).

قرأ الكسائي (٤) : بتخفيف الراء.

قال القرطبي (٥) : «وبها قرأ علي ، وطلحة بن مصرف ، وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة والكلبي والأعمش عن أبي بكر».

قال عطاء : كان أبو عبد الرحم السلمي إذا قرأ عليه الرجل «عرّف» مشددة حصبه بالحجارة.

وقرأ الباقون : بتشديد الراء.

فالتثقيل يكون المفعول الأول معه محذوفا ، أي : «عرّفها بعضه» ، أي : وقفها عليه على سبيل العتب.

__________________

(١) أخرجه الدارقطني (٤ / ١٥٣ ـ ١٥٤) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس والكلبي مشهور بالضعف.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٤٦٩) وعزاه إلى الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس.

(٢) في أ : على.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٣٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٨٥ ، والقرطبي ١٨ / ١٢٣.

(٤) ينظر : السبعة ٤٦٠ ، والحجة ٦ / ٣٠١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٧٥ ، وحجة القراءات ٧١٣ ، والعنوان ١٩٣ ، وشرح الطيبة ٦ / ٦٠ ، وشرح شعلة ٦٠٤ ، وإتحاف ٢ / ٥٤٧.

(٥) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٣٢.

١٩٤

(وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) ، تكرما منه وحلما ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم يدل عليه قوله تعالى : (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) ، أي : لم يعرفها إياه ، ولو كانت مخففة لقال في ضده : وأنكر بعضا.

وأما التخفيف : فمعناه جازى على بعضه ، وأعرض عن بعض.

قال الفرّاء (١) : وتأويل قوله ـ عزوجل ـ : «عرف» بالتخفيف ، أي : غضب فيه ، وجازى عليه ، كقولك لمن أساء إليك : «لأعرفنّ لك ما فعلت» أي : لأجازينّك عليه.

فصل في نزول الآية

قال المفسرون : إنه أسرّ إلى حفصة شيئا فحدثت به غيرها ، فطلقها مجازاة على بعضه ، ولم يؤاخذها بالباقي ، وهو من قبيل قوله تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) [البقرة : ١٩٧] أي : يجازيكم عليه ، وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) [النساء : ٦٣] ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أطلعه على جميع ما أنبأت به غيرها ؛ لقوله تعالى : (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ).

وقرأ عكرمة (٢) : «عرّاف» بألف بعد الراء.

وخرجت على الإشباع ، كقوله : [الرجز]

٤٧٨٥ ـ أعوذ بالله من العقراب (٣)

وقيل : هي لغة يمانية ، يقولون : «عراف زيد عمرا».

وإذا ضمنت هذه الأفعال الخمسة معنى «أعلم» تعدت لثلاثة.

وقال الفارسي : «تعدّت بالهمزة أو التضعيف».

وهو غلط ، إذ يقتضي ذلك أنها قبل التضعيف ، والهمزة كانت متعدية لاثنين ، فاكتسبت بالهمزة ، أو التضعيف ثالثا ، والأمر ليس كذلك اتفاقا.

فصل في تفسير الآية

قال السديّ : عرف بعضه ، وأعرض عن بعض تكرما (٤).

وقال الحسن : ما استقصى كريم قط ، قال الله تعالى : (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)(٥).

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٣ / ١٦٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٥.

(٣) تقدم.

(٤) ذكره القرطبي (١٨ / ١٢٣).

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٦٤) وينظر المصدر السابق.

١٩٥

وقال مقاتل : يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة ، وهو قول حفصة لعائشة : إن أبا بكر وعمر سيملكان بعده (١).

قال المفسرون : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جازى حفصة ، بأن طلقها طلقة واحدة ، فلما بلغ ذلك عمر ، فقال عمر : لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلقك ، فأمره جبريل بمراجعتها ، وشفع فيها ، واعتزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه شهرا ، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم ، حتى نزلت آية التخيير كما تقدم.

وقيل : هم بطلاقها ، حتّى قال له جبريل : لا تطلقها ، فإنها صوّامة قوّامة ، وإنها من نسائك في الجنة ، فلم يطلقها.

قوله : (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) ، أي : أخبر حفصة بما أظهره الله عليه ، قالت : «من أنبأك هذا» يا رسول الله عني ، فظنت أن عائشة أخبرته ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : «نبّأني العليم الخبير» الذي لا يخفى عليه شيء.

وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى الكراهية في وجه حفصة حين رأته مع مارية أراد أن يتراضاها فأسرّ إليها شيئين : تحريم الأمة على نفسه ، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وفي أبيها عمر ، فأخبرت حفصة بذلك عائشة ، وأطلع الله نبيه عليه فعرف حفصة ، وأخبرها بما أخبرت به عائشة ، وهو تحريم الأمة (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) يعني عن ذكر الخلافة ، كره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينشر ذلك بين الناس ، (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي : أخبر حفصة بما أظهره الله عليه ، قالت حفصة : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أي : من أخبرك بأني أفشيت السّرّ؟ «قال : نبّأني العليم الخبير».

قال ابن الخطيب (٢) : وصفه بكونه خبيرا بعدما وصفه بكونه عليما لما أن في الخبير من المبالغة ما ليس في العليم.

قوله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ).

شرط في جوابه وجهان :

أحدهما : هو قوله : (فَقَدْ صَغَتْ).

والمعنى : إن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التّوبة ، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حب ما يحبه ، وكراهة ما يكرهه.

و «صغت» مالت وزاغت عن الحق.

ويدل له (٣) قراءة ابن مسعود : «فقد زاغت».

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٢٣).

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٣٩.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٦٦ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٣١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٨٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٥.

١٩٦

قال القرطبيّ (١) : «وليس قوله (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) جزاء للشرط ؛ لأن هذا الصغو كان سابقا ، فجواب الشرط محذوف للعلم به ، أي : إن تتوبا كان خيرا لكما ؛ إذ قد صغت قلوبكما».

والثاني : أن الجواب محذوف ، وتقديره : فذلك واجب عليكما ، أو فتاب الله عليكما قاله أبو البقاء (٢) ، ودلّ على المحذوف (فَقَدْ صَغَتْ) ؛ لأن إصغاء القلب إلى ذلك ذنب.

قال شهاب الدين (٣) : «وكأنه زعم أن ميل القلب ذنب ، وكيف يحسن أن يكون جوابا وقد غفل عن المعنى المصحح لكونه جوابا».

وقوله : (قُلُوبُكُما) من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالا لمجيء تثنيتين لو قيل : «قلباكما» ، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين من اثنين جمعوهما ؛ لأنه لا يشكل. وقد تقدم هذا في آية السرقة في المائدة (٤).

ومن مجيء التثنية قوله : [الكامل]

٤٧٨٦ ـ فتخالسا نفسيهما بنوافذ

كنوافذ العبط الّتي لا ترقع (٥)

والأحسن في هذا الباب الجمع ، ثم الإفراد ، ثم التثنية.

وقال ابن عصفور : لا يجوز الإفراد إلّا في ضرورة ؛ كقوله : [الطويل]

٤٧٨٧ ـ حمامة بطن الواديين ترنّمي

سقاك من الغرّ الغوادي مطيرها (٦)

وتبعه أبو حيان (٧) ، وغلط ابن مالك في كونه جعله أحسن من التثنية.

وليس بغلط لكراهة توالي تثنيتين مع أمن اللبس.

وقوله : «إن تتوبا» فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.

فصل في المراد بهذا الخطاب

المراد بهذا الخطاب أمّا المؤمنين بنتا الشيخين الكريمين : عائشة وحفصة ـ رضي الله عنهما ـ حثّهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي : زاغت ومالت عن الحق ، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب العسل والنّساء.

__________________

(١) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٢٤.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٢٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٣٥.

(٤) آية رقم ٣٨.

(٥) تقدم.

(٦) تقدم.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨٦.

١٩٧

قال ابن زيد رضي الله عنه مالت قلوبكما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده ، فسرهما ما كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وقيل : فقد مالت قلوبكما إلى التوبة.

قوله : (وَإِنْ تَظاهَرا).

أصله : «تتظاهرا» فأدغم ، وهذه قراءة العامة.

وقرأ عكرمة (٢) : «تتظاهرا» على الأصل.

والحسن وأبو رجاء ، ونافع ، وعاصم (٣) في رواية عنهما : بتشديد الظّاء والهاء دون ألف ، وكلها بمعنى المعاونة من الظهر ؛ لأنه أقوى الأعضاء وأجلها.

فصل في معنى تتظاهرا

معنى تتظاهرا ، أي : تتعاونا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعصية والإيذاء.

روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مكثت سنة ، وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية ، فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه ، فلما رجع وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له ، فوقفت ، حتى فرغ ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضّأ ، فلما رجع قلت : يا أمير المؤمنين ، من اللّتان تظاهرتا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟.

فقال : تلك حفصة وعائشة ، قال : فقلت له : والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة ، فما أستطيع هيبة لك ، قال : فلا تفعل ، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك (٤). وذكر الحديث.

قوله : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ).

يجوز أن يكون «هو» فصلا ، و «مولاه» خبره والمبتدأ جملة «إنّ».

والمعنى : الله وليّه وناصره ، فلا يضره ذلك التّظاهر منهما.

قوله : (وَجِبْرِيلُ).

يجوز أن يكون عطفا على اسم الله تعالى.

والمعنى : الله وليه ، وجبريل وليه ، فلا يوقف على «مولاه» ويوقف على جبريل.

ويكون (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) مبتدأ ، «والملائكة» معطوفا عليه ، والخبر «ظهير» ورفع

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٥٢).

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٣١ ، والبحر المحيط ٢٨٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٥.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) أخرجه البخاري (٨ / ٥٢٥ ـ ٥٢٦) كتاب التفسير ، باب : تبتغي مرضاة أزواجك رقم (٤٩١٣) ومسلم (٢ / ٥. ١١) عن ابن عباس والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧١) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن سعد وأحمد وعبد بن حميد وابن حبان وابن المنذر وابن مردويه.

١٩٨

«جبريل» نظرا إلى محل اسم «إن» وذلك بعد استكمال خبرها وقد تقدم مذاهب الناس في ذلك.

ويكون «جبريل» وما بعده داخلين في الولاية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكون «جبريل» ظهيرا له بدخوله في عموم الملائكة.

ويكون «الملائكة» مبتدأ ، و «ظهير» خبره ، وأفرد لأنه بزنة «فعيل».

قال القرطبيّ (١) : «هو بمعنى الجمع».

قال أبو علي : قد جاء «فعيل» للكثرة ، قال تعالى : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [المعارج : ١١]. ومعنى : «ظهير» أي : أعوان ، وهو في معنى ظهراء كقوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩].

ويجوز أن يكون الكلام تم عند قوله «مولاه» ، ويكون «جبريل» مبتدأ ، وما بعده عطف عليه ، و «ظهير» خبر الجميع ، فتختص الولاية بالله ، ويكون جبريل قد ذكر في المعاونة موتين ، مرة بالتنصيص عليه ، ومرة بدخوله في عموم الملائكة.

وهذا عكس ما في «البقرة» في قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٨] ، فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفا له ، وهناك ذكر العام بعد الخاص ، ولم يذكر الناس إلا القسم الأول.

وفي «جبريل» لغات تقدم ذكرها في «البقرة».

قوله : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ).

قال المسيّب بن شريك : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أبو بكر (٢).

وقال سعيد بن جبير : هو عمر (٣).

وقال عكرمة : أبو بكر وعمر (٤).

وروى شقيق عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) : أبو بكر وعمر(٥).

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٢٥.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٢٤).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٣) عن سعيد بن جبير وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن سعد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عنه.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٥٤) عن مجاهد والضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٣) عن عكرمة وعزاه إلى ابن عساكر.

(٥) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٣٠) عن ابن مسعود وقال : رواه الطبراني وفيه عبد الرحيم بن زيد العمي وهو متروك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٣) وزاد نسبته إلى أبي نعيم في «فضائل الصحابة» وابن مردويه.

١٩٩

وعن أسماء بنت عميس قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) : علي بن أبي طالب (١).

وقيل : خيار المؤمنين ، و «صالح» : اسم جنس ، كقوله تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ١ ، ٢]. قاله الطبريّ.

وقال العلاء بن زياد ، وقتادة ، وسفيان : هم الأنبياء (٢).

وقال ابن زيد : هم الملائكة (٣).

وقال السديّ : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

وقيل : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ليس لفظ الواحد ، وإنما هم «صالحو المؤمنين» فأضاف الصالحين إلى المؤمنين ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

فصل في هذا التظاهر

قيل : كان التّظاهر منهما في التحكيم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النفقة ، ولهذا آلى منهن شهرا واعتزلهن.

وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد النّاس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثمّ أقبل عمر ، فاستأذن ، فأذن له ، فوجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا حوله نساؤه ، واجما ساكتا ، قال : فلأقولن شيئا أضحك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت بنت خارجة تسألني النفقة ، فقمت إليها ، فوجأت عنقها فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «هنّ حولي كما ترى يسألنني النّفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة رضي الله عنها يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ليس عنده ، فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا أبدا ليس عنده ، ثم اعتزلهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهرا ، أو تسعا وعشرين ، ثم نزلت عليه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ) حتى بلغ (لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب : ٢٩] الحديث (٥).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٤) وعزاه إلى ابن مردويه عن أسماء بنت عميس وذكره أيضا عن ابن عباس وعزاه إلى ابن مردويه وابن عساكر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٥٤) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٤) عن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

وذكره أيضا عن العلاء بن زياد وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٥٤) عن ابن زيد.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٢٤).

(٥) أخرجه مسلم (٢ / ١١٠٤) كتاب الطلاق ، باب : أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا (٢٩ / ١٤٧٨) من طريق أبي الزبير عن جابر.

٢٠٠