اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجّاه ، ومن دعاه أجاب له.

وتصديق ذلك في كتاب الله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١] ، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ، (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) [التغابن : ١٧] ، (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران : ١٠١] ، (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦].

قوله تعالى : (وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً)(٥)

قوله : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ).

تقدم الخلاف فيه.

وأبو عمرو يقرأ (١) هنا : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) بالإظهار.

وقاعدته في [مثله](٢) الإدغام ، إلا أن الياء لما كانت عنده عارضة لكونها بدلا من همزة ، فكأنه لم يجتمع مثلان ، وأيضا فإن سكونها عارض ، فكأن ياء «اللائي» متحركة ، والحرف ما دام متحركا لا يدغم في غيره. وقرىء (٣) : «يئسن» فعلا ماضيا.

وقرىء : «ييئسن» (٤) مضارع.

و (مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ).

«من» الأولى لابتداء الغاية ، وهي متعلقة بالفعل قبلها ، والثانية للبيان متعلقة بمحذوف(٥).

و «اللّائي» مبتدأ ، و «فعدّتهنّ» مبتدأ ثان ، و (ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) خبره ، والجملة خبر الأول ، والشرط معترض ، وجوابه محذوف.

ويجوز أن يكون (إِنِ ارْتَبْتُمْ) جوابه (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) ، والجملة الشرطية خبر المبتدأ ، ومتعلق الارتياب محذوف ، تقديره : إن ارتبتم في أنها يئست أم لا لإمكان ظهور حمل وإن كان انقطع دمها.

__________________

(١) ينظر : العنوان ١٥٤ ، ١٩٢ ، وإتحاف ٢ / ٥٤٥ ، وينظر : الدر المصون ٦ / ٣٣٠.

(٢) في أ : مسألة.

(٣) وهي قراءة الجمهور كما في البحر المحيط ٨ / ٢٨٠.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٣٠.

١٦١

وقيل : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض ، أو استحاضة ، وإذا كان هذا عدة المرتاب فيها فغير المرتاب فيها أولى.

وأغرب ما قيل : إن (إِنِ ارْتَبْتُمْ) بمعنى : تيقّنتم ، فهو من الأضداد.

قوله : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ).

مبتدأ ، خبره محذوف ، فقدره جملة كالأولى ، أي : فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا ، والأولى أن يقدر مفردا ، أي : فكذلك أو مثلهن.

ولو قيل : بأنه معطوف على (اللَّائِي يَئِسْنَ) عطف المفردات ، وأخبر عن الجمع بقوله : «فعدّتهنّ» لكان وجها حسنا ، وأكثر ما فيه توسّط الخبر بين المبتدأ وما عطف عليه. وهذا ظاهر قول أبي حيان (١) : و (اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) معطوف على قوله (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) ، فإعرابه مبتدأ كإعراب «واللائي».

قوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) مبتدأ ، و «أجلهنّ» مبتدأ ثان ، و (أَنْ يَضَعْنَ) خبر المبتدأ الثاني وهو وخبره خبر الأول.

والعامّة : على إفراد «حملهنّ».

والضحاك (٢) : «أحمالهنّ».

فصل في عدة التي لا ترى الدم (٣)

لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض ، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم.

قال أبو عثمان عمير بن سليمان : لما نزل عدة النّساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها ، قال أبيّ بن كعب : يا رسول الله ، إن ناسا يقولون : قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء ، الصغار والكبار وذوات الحمل ، فنزلت : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) الآية (٤).

وقال مقاتل : لما ذكر قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) قال

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٢٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٨٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٠.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٠٧.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٣٣) والحاكم (٢ / ٤٩٢ ـ ٤٩٣) من حديث أبي بن كعب.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (٣ / ٣٨٩) وعزاه لإسحاق بن راهويه.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٥٧) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

١٦٢

خلّاد بن النعمان : يا رسول الله ، فما عدّة التي لم تحض ، وعدة التي انقطع حيضها وعدة الحبلى؟ فنزلت : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) ، يعني : قعدن عن الحيض (١).

وقيل : إن معاذ بن جبل سأل عن عدّة الكبيرة التي يئست ، فنزلت الآية.

وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة؟.

فصل في تفسير الآية

قال المفسرون : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) ، فلا يرجون أن يحضن (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي : شككتم.

وقيل : تيقنتم ، وهو من الأضداد ، يكون شكّا ويقينا كالظّن.

واختيار الطّبري (٢) : أن يكون المعنى إن شككتم ، فلم تدروا ما الحكم فيهن.

وقال الزجاج (٣) : إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها.

قال القشيري : وفي هذا نظر ، لأنا إذا شككنا ، هل بلغت سن اليأس لم نقل : عدتها ثلاثة أشهر.

والمعتبر في سن اليأس أقصى عادة امرأة في العالم.

وقيل : غالب نساء عشيرة المرأة.

وقال مجاهد : قوله : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) للمخاطبين ، يعني إن لم تعلموا كم عدة الآيسة ، والتي لم تحض فالعدّة هذه (٤).

وقيل : المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر.

وقال عكرمة وقتادة : من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض تحيض في أول الشهر مرارا ، وفي الأشهر مرة (٥).

وقيل : إنه متصل بأول السورة ، والمعنى لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٠٧) عن مقاتل.

(٢) ينظر : جامع البيان ١٢ / ١٣٤.

(٣) ينظر معاني القرآن للزجاج ٥ / ١٨٥.

(٤) ينظر القرطبي (١٨ / ١٠٧) عن مقاتل.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٣٤) عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٥٨) وعزاه إلى عبد الرزاق.

١٦٣

قال القرطبي (١) : «وهو أصح ما قيل فيه».

فصل في المرتابة في عدتها

المرتابة في عدتها لم تنكح حتى تستبرىء نفسها من ريبتها ، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الرّيبة ، وقد قيل في المرتابة التي ارتفع حيضها ، لا تدري ما رفعه إنها تنتظر سنة من يوم طلّقها زوجها ، منها تسعة أشهر استبراء ، وثلاثة عدة ، فإن طلقها فحاضت حيضة ، أو حيضتين ، ثم ارتفع حيضها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضها ثم حلت [للأزواج](٢). وهذا قول الشافعي بالعراق.

فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر [أربعة أشهر وعشرا ، والأمة شهرين وخمس ليال بعد التسعة أشهر](٣).

وروي عن الشافعي أيضا : أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سنّ اليائسات.

وهو قول النخعي والثوري وغيرهما ، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق.

فصل في ارتياب المرأة الشابة

إذا ارتابت المرأة الشابة هل هي حامل أم لا؟.

فإن استبان حملها فأجلها وضعه ، وإن لم يستبن ، فقال مالك : عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة ، وبه قال أحمد وإسحاق وروي عن عمر بن الخطّاب وغيره.

وأهل «العراق» يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها وإن مكثت عشرين سنة ، إلا أن تبلغ من الكبر سنّا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر.

قال الثعلبي : وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء ، وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه.

قال إلكيا (٤) : وهو الحق ، لأن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر. والمرتابة ليست آيسة.

فصل فيمن تأخر حيضها لمرض

فأما من تأخر حيضها لمرض ، فقال مالك وبعض أصحابه : تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة كما تقدم.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٠٨.

(٢) في أ : للزواج.

(٣) سقط من أ.

(٤) ينظر : أحكام القرآن له ٤ / ٤٢١.

١٦٤

وقال أشهب : هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة.

وقد طلق حبان بن منقذ امرأته وهي ترضع ، فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده عليّ وزيد فقالا : نرى أن ترثه ، لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار ، فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة.

فصل

لو تأخّر الحيض بغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها ، تسعة أشهر ثم ثلاثة على ما تقدم ، فتحل ما لم ترتب بحمل ، فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام أو خمسة أو سبعة على الاختلاف.

قال القرطبي (١) : «وأشهر الأقوال خمسة أعوام ، فإن تجاوزتها حلّت».

وقال أشهب : لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة.

قال ابن العربي (٢) : «وهو الصحيح ، إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة أو أكثر من ذلك» ، وروي مثله عن مالك.

فصل فيمن جهل حيضها بالاستحاضة

وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها أقوال :

قال ابن المسيب : تعتد سنة. وهو قول الليث.

قال الليث : عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة «سنة».

قال القرطبي (٣) : «وهو مشهور قول علمائنا ، سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها ، وميزت ذلك أو لم تميزه ، عدّتها في مذهب مالك سنة ، منها تسعة أشهر استبراء ، وثلاثة عدّة».

وقال الشّافعي في أحد أقواله : عدتها ثلاثة أشهر ، وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين.

قال ابن العربي (٤) : «وهو الصحيح عندي».

وقال أبو عمر : المستحاضة إذا علمت إقبال حيضتها وإدبارها اعتدت بثلاثة قروء.

قال القرطبي (٥) : «وهذا أصحّ في النظر ، وأثبت في القياس والأثر».

قوله : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ).

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٠٨.

(٢) ينظر : أحكام القرآن له ٤ / ١٨٢٨.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٠٩.

(٤) أحكام القرآن ٤ / ١٨٢٨.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٠٩.

١٦٥

يعني : الصغيرة ، فعدتهن ثلاثة ، فأضمر الخبر ، وإنما كانت عدتها الأشهر لعدم الأقراء في حقّها عادة ، والأحكام إنما أجراها الله تعالى على العادات ، فتعتد بالأشهر ، فإن رأت الدّم في زمن احتماله عند النّساء انتقلت إلى الدّم لوجود الأصل ، فإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم ، كما أن المسنّة إذا اعتدت بالدم ، ثم ارتفع عادت إلى الأشهر ، وهذا إجماع.

فصل

قوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) وضع الحمل ، وإن كان ظاهرا في المطلقة ؛ لأنه عليها عطف وإليها رجع عقب الكلام ، فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك ، لعموم الآية ، وحديث سبيعة ، كما مضى في سورة «البقرة».

فإذا وضعت المرأة ما في بطنها من علقة أو مضغة حلت عند مالك.

وقال الشافعي وأبو حنيفة (١) : لا تحل إلا بوضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان ، فإن كانت حاملا بتوءمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما.

قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).

أي : من يتقه في طلاق السنة (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) في الرجعة.

وقال مقاتل : ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة(٢).

(ذلِكَ أَمْرُ اللهِ) أي : الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم وبيّنه لكم ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي : يعمل بطاعته (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي : في الآخرة.

قوله : (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً).

هذه قراءة العامة مضارع «أعظم».

وابن مقسم (٣) : «يعظم» بالتشديد ، مضارع عظم مشددا.

والأعمش (٤) : «نعظم» بالنون ، مضارع «أعظم» وهو التفات من غيبة إلى تكلم.

قوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى)(٦)

قوله : (أَسْكِنُوهُنَ).

__________________

(١) زاد في أ : وأحمد.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٠٩).

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٢٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٨٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٠ ، والتخريجات النحوية ٢٥٢.

١٦٦

قال ابن (١) الخطيب : (أَسْكِنُوهُنَ) وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) كأنه قيل : كيف يعمل بالتقوى في جنس المعتدات؟ فقيل : «أسكنوهنّ».

قوله : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ). فيه وجهان :

أحدهما : أن «من» للتبعيض.

قال الزمخشري (٢) : «مبعضها محذوف معناه : أسكنوهن مكانا من حيث سكنتم ، أي : بعض مكان سكناكم ، كقوله تعالى : (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [النور : ٣٠] أي : بعض أبصارهم».

قال قتادة : إن لم يكن إلا بيت واحد ، فأسكنها في بعض جوانبه (٣).

قال ابن الخطيب (٤) : وقال في الكشاف : «من» صلة ، والمعنى أسكنوهن من حيث سكنتم.

والثاني : أنها لابتداء الغاية. قاله الحوفي ، وأبو البقاء.

قال أبو البقاء (٥) : والمعنى تسبّبوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم ودلّ عليه قوله (مِنْ وُجْدِكُمْ) ، والوجد : الغنى.

قوله : (مِنْ وُجْدِكُمْ). فيه وجهان :

أظهرهما : أنه بدل من قوله : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) بتكرار العامل ، وإليه ذهب أبو البقاء.

كأنه قيل : أسكنوهن من سعتكم.

والثاني : أنه عطف بيان لقوله : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) ، وإليه ذهب الزمخشري ، فإنه قال بعد أن أعرب (مِنْ حَيْثُ) تبعيضية ، قال (٦) : «فإن قلت : فقوله «من وجدكم» قلت : هو عطف بيان لقوله (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) ومفسّر له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكانا من مسكنكم (٧) مما تطيقونه ، والوجد : الوسع والطاقة.

وناقشه أبو حيان (٨) بأنه لم يعهد في عطف البيان إعادة العامل ، إنما عهد هذا في البدل ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلا.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٣٣.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٥٨.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٦١) وعزاه إلى عبد بن حميد عن قتادة.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٣٣.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٢٨.

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٥٨.

(٧) في أ : وجدكم.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨١.

١٦٧

وقرأ العامة : «وجدكم» بضم الواو.

والحسن ، والأعرج ، وأبو حيوة (١) : بفتحها.

والفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب (٢) : بكسرها.

وهي لغات بمعنى واحد.

يقال : وجدت في المال أجد وجدا وجدة ، والوجد : الغنى والقدرة ، والوجد بفتح الواو : الحزن أيضا والحب والغضب.

فصل في تفسير الآية

قال القرطبي (٣) : روى أشهب عن مالك : يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل لقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) ، فلو كان معها ما قال أسكنوهن.

وقال ابن نافع : قال مالك في قوله تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) يعني المطلقات اللاتي بنّ من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن ، وليست حاملا ، فلها السّكنى ، ولا نفقة لها ولا كسوة ؛ لأنها بائن منه ، ولا يتوارثان ولا رجعة له عليها ، وإن كانت حاملا فلها الكسوة والنفقة والمسكن حتى تنقضي عدتها.

قال البغوي (٤) : ونعني بالكسوة مؤونة السكن ، فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكا للزوج وجب على الزوج أن يخرج ويترك الدار لها مدة عدتها ، وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة ، وإن كانت عارية فرجع المعير فيها فعليه أن يكتري لها دارا تسكنها ، فأما من لم تبن منه ، فإنها امرأته يتوارثان ، ولا تخرج إلا بإذن زوجها ما دامت في العدة ولم يؤمر بالسكن لهما لأن ذلك لازم للزوج مع النفقة والكسوة حاملا كانت أو غير حامل ، وإنما أمر الله بالسكن للبائن ، قال تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فجعل الله ـ عزوجل ـ للحوامل البائنات من أزواجهن السكنى والنفقة.

قال ابن العربي (٥) : «إنّ الله ـ تعالى ـ لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة ، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل ، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها».

قال القرطبي (٦) : اختلف العلماء في المطلقة ثلاثا على ثلاثة أقوال : فمذهب مالك والشافعي : أن لها السّكنى ولا نفقة لها.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٢٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٨١ ، وزاد : ابن أبي عبلة ، وينظر : الدر المصون ٦ / ٣٣١.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١١٠.

(٤) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٣٥٩.

(٥) ينظر : أحكام القرآن له ٤ / ١٨٣٩.

(٦) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١١٠.

١٦٨

ومذهب أبي حنيفة وأصحابه : أن لها السكنى والنفقة.

ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور : لا نفقة لها ولا سكنى ، لحديث فاطمة بنت قيس قالت : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعي أخو زوجي ، فقلت : إن زوجي طلقني ، وإن هذا يزعم أنه ليس لي سكنى ولا نفقة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل لك السّكنى والنفقة ، قال : إن زوجها طلّقها ثلاثا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّما السّكنى والنّفقة على من له عليها رجعة (١) ، فلمّا قدمت «الكوفة» طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك ، وإن أصحاب عبد الله يقولون : إن لها الكنى والنفقة.

وعن الشعبي قال : لقيني الأسود بن يزيد ، فقال : يا شعبي ، اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيس ، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة ، قلت : لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولأنه لو كان لها سكنى لما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تعتدّ في بيت ابن أم مكتوم.

وأجيب عن ذلك بما روت عائشة أنها قالت : كانت فاطمة في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها (٢).

وقال سعيد بن المسيب : إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها (٣).

وقال قتادة وابن أبي ليلى : لا سكنى إلا للرجعية ، لقوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ، وقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) راجع إلى ما قبله ، وهي المطلقة الرجعية.

فصل في المعتدة عن وطء الشبهة

قال البغوي (٤) : «وأما المعتدّة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق ، فلا سكنى لها ولا نفقة ، وإن كانت حاملا ، والمعتدة من وفاة زوج لا نفقة لها حاملا كانت أو حائلا عند أكثر العلماء ، وروي عن عليّ أن لها النفقة إن كانت حاملا من التركة حتى تضع ، وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري. واختلفوا في سكناها :

فللشافعي قولان :

أحدهما : لا سكنى لها بل تعتدّ حيث شاءت ، وهو قول علي وابن عبّاس وعائشة ، وبه قال عطاء والحسن ، وهو مذهب أبي حنيفة.

__________________

(١) أخرجه أحمد (٦ / ٤١٦) والدار قطني (٤ / ٢٢) وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (٨ / ٢٠٠) والبيهقي (٧ / ٤٧٣ ـ ٤٧٤) من حديث فاطمة بنت قيس.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٥٩).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٣٦٠.

١٦٩

والثاني : لها السكنى ، وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وبه قال مالك ، وسفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، لما روى كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب أن الفريعة بنت مالك بن سنان ـ وهي أخت أبي سعيد الخدري ـ أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف «القدوم» لحقهم فقتلوه ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أرجع إلى أهلي ، فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة ، فقالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعم» ، فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بي فدعيت له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كيف قلت؟» قالت : فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي ، فقال : «امكثي حتّى يبلغ الكتاب أجله» ، قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا ، قالت : فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك ، فأخبرته ، فاتبعه وقضى به (١).

فمن قضى بهذا القول قال : إذنه لفريعة أولا بالرجوع إلى أهلها صار منسوخا بقوله : «امكثي في بيتك حتّى يبلغ الكتاب أجله» ، ومن لم يوجب السّكنى قال : أمرها بالمكث آخرا استحبابا لا وجوبا.

قوله : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ).

قال مجاهد : في المسكن (٢).

وقال مقاتل : في النّفقة (٣). وهو قول أبي حنيفة.

وعن أبي الضحى : هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ، ثم طلقها.

قوله : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ).

هذا في وجوب النّفقة والسّكنى للحامل المطلقة ثلاثا أو أقل حتى تضع حملها ، فأما الحامل المتوفى عنها زوجها ، فقال علي ، وابن عمر وابن مسعود ، وشريح ، والنخعي ، والشعبي ، وحماد ، وابن أبي ليلى ، وسفيان ، وأصحابه : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.

__________________

(١) أخرجه مالك (٢ / ٥٩١) رقم (٨٧) وأبو داود (٢٣٠٠) والترمذي (١٢٠٤) والدارمي (٢ / ١٦٨) والنسائي (٦ / ٢٠٠) وابن حبان (١٣٣٢) وابن سعد (٨ / ٢٦٨) والشافعي (٢٤٢) وابن أبي شيبة (٥ / ١٨٥) وأحمد (٦ / ٣٧٠ ، ٤٢٠ ـ ٤٢١) والطيالسي (١٦٣٤ ـ منحة) والبيهقي (٧ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥) من حديث الفريعة بنت مالك.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٣٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٦١) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٤) والقرطبي (١٨ / ١١١).

١٧٠

وقال ابن عباس ، وابن الزبير ، وجابر بن عبد الله ، ومالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : لا ينفق عليها إلا من نصيبها ، وقد مضى في «البقرة».

قوله : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ).

يعني المطلّقات ، أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهنّ وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية ، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبنّ ، ويجوز عند الشافعي. وتقدم القول في الرضاع في «البقرة».

قوله : (وَأْتَمِرُوا).

افتعلوا من الأمر ، يقال : ائتمر القوم وتأمّروا ، أي : أمر بعضهم بعضا.

وقال الكسائي : «ائتمروا» تشاوروا ؛ وتلا قوله تعالى : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) [القصص : ٢٠] وأنشد قول امرىء القيس : [الطويل]

٤٧٨٢ ب ـ ..........

ويعدو على المرء ما يأتمر (١)

فصل في هذا الخطاب

الخطاب في قوله : «وائتمروا» للأزواج والزوجات ، أي : وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل ، والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع.

وقيل : ائتمروا في إرضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار.

وقيل : هو الكسوة والدثار.

وقيل : معناه لا تضار والدة بولدها ، ولا مولود له بولده.

قوله : (فَسَتُرْضِعُ).

قيل : هو خبر في معنى الأمر ، والضمير في «له» للأب ، لقوله تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) والمفعول محذوف للعلم به ، أي : فسترضع الولد لوالده امرأة أخرى ، والظّاهر أنه خبر على بابه.

فصل في تفسير الآية

قوله : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم أجرة رضاعها ، وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها وليستأجر غير أمه.

وقيل : معناه إن تضايقتكم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها.

__________________

(١) تقدم.

١٧١

وقال الضحاك : إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى ، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجرة.

واختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد.

فقال مالك : إرضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية ، إلا لشرفها وموضعها ، فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله.

وقال أبو حنيفة : لا يجب على الأم بحال.

وقيل : يجب عليها بكل حال.

فإن طلقها فلا يجب عليها إرضاعه إلا أن لا يقبل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع ، فإن اختلفا في الأجرة ، فإن دعت إلى أجرة المثل وامتنع الأب إلا تبرعا فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعة ، وإن دعا الأب إلى أجر المثل ، وامتنعت الأم لتطلب شططا ، فالأب أولى به ، فإن أعسر الأب بأجرتها أجبرت على رضاع ولدها.

قوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)(٧)

قوله : (لِيُنْفِقْ).

هذه قراءة العامة : أعني كسر اللام ، وجزم المضارع بها.

وحكى أبو معاذ (١) القارىء : «لينفق» بنصب الفعل على أنها لام «كي» نصب الفعل بعدها بإضمار «أن» ويتعلق الحرف حينئذ بمحذوف ، أي : شرعنا ذلك لينفق.

وقرأ العامة : «قدر» مخففا.

وابن أبي عبلة (٢) : «قدّر» مشددا.

فصل في وجوب النفقة للولد على الوالد

قال القرطبي (٣) : هذه الآية أصل وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم ، خلافا لمحمد بن الموّاز إذ يقول : إنها على الأبوين على قدر الميراث.

قال ابن العربيّ (٤) : ولعل محمدا أراد أنها على الأم عند عدم الأب ، وفي البخاري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقول لك المرأة : أنفق عليّ وإلّا طلّقني ، ويقول لك العبد : أنفق علي واستعملني ، ويقول لك ابنك : أنفق عليّ إلى من تكلني؟» (٥) ،

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨١ ، والدر المصون ٦ / ٣٣١.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٦٠.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١١٣.

(٤) ينظر : أحكام القرآن له ٤ / ١٨٤٣.

(٥) أخرجه البخاري (٩ / ٤١٠) كتاب النفقات ، باب : وجوب النفقة على الأهل والعيال حديث (٥٣٥٥) من حديث أبي هريرة.

١٧٢

فقد تعارض القرآن [والسّنة](١) وتواردا في شرعة واحدة.

قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) من المال ، والمعنى لا يكلف الله الفقير مثل ما يكلف الغني (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي : بعد الضيق غنى وبعد الشدة سعة.

فصل في اختلاف الزوجين في قبض النفقة

قال ابن تيمية : إذا اختلف الزوجان في قبض النفقة والكسوة ، فقال القاضي أبو يعلى وأتباعه : إن القول قول الزّوجة ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي كما لو اختلف اثنان في قبض سائر الحقوق مثل الصّداق ، وثمن المبيع ونحو ذلك ، ومذهب مالك بخلاف ذلك.

وقال الغزالي : فيها وجهان ، وحسنوا قول الزوج.

قال ابن تيمية : وكذلك يجيء لأصحاب أحمد وجهان كما لو كان الصداق منفعة حصلت لها ، فقالت : حصلت من غيرك وقال : بل حصلت منّي مثل أن يصدقها تعليم قصيدة أو غيرها مما يجوز جعله صداقا فإنها إذا تعلمت من غيره كان عليه الأجرة ، فإن قال : أنا علمتها وقالت : بل غيره ، ففيها وجهان ، فهكذا في النّفقة ، فإنها لا بدّ أن تكون قد ارتزقت في الزمن الماضي ، وهو يقول : أنا رزقتها ، وهي تقول : بل غيره.

والصّواب المقطوع به أنه لا يقبل قولها في ذلك مطلقا ؛ فإن هذا فيه فساد عظيم على هذا القول في مذهب الشّافعي ، وقول أحمد الموافق له ولا يجيء ذلك على مذهب مالك ، ولا على مذهب أبي حنيفة ، وقول أحمد الموافق له ؛ فإنا إذا قلنا : إن نفقة الزوجة تسقط بمضي الزمان لم يقبل دعواها بالنفقة الماضية ، وإنما يجيء على قولنا إن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان ، كما هو المشهور من مذهب أحمد ، وهو قول الشافعي.

والعمدة في ذلك الأمر المعروف عن عمر بن الخطاب ؛ قال ابن المنذر : إن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غلبوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا ، أو يطلقوا ؛ فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ، وليس قبول الزوجة في ذلك مأثورا عن أحمد ، ولا ملائما لأصوله ، فإنه في تداعي الزوجين وغيرهما يرجح من تشهد له اليد الحكمية العرفية دون اليد الحسية ، ومعلوم أن المدعى عليه يترجح تارة باليد في الأعيان وببراءة الذمة في الحقوق ، فكما أن في اليد لم يلتفت إلى مجرّد الحس ، بل يرجع إلى اليد الحكمية التي يستدلّ عليها بالأفعال والتصرفات ؛ إذ الأصل في الدعاوى ترجيح من الظّاهر معه. والظهور يستدلّ عليه

__________________

(١) سقط من أ.

١٧٣

بالأفعال والتصرفات والأمور العادية ، كما يستدلّ عليها بمجرد اليد الحسية ، فإذا كانت العادة الغالبة والعرف المعروف يقتضي وجود فعل لم يكن الظاهر عدمه حتى يرجح قول من يدعي عدمه.

وهذا ينبني على أصول :

أحدها : أنه قد وجد كسوة ونفقة وإنما تنازعا في المنفق ، فقال هو : مني ، وقالت هي : من غيرك ، فهنا الأصل عدم غيره ، ثم إنها تطالب بتعيين ذلك الغير ، فإن ادعت ممتنعا لم يقبل بحال ، وإن ادعت ممكنا فهو محل التردّد ، فإن إنفاقه واجب ، والأمر الحادث يضاف إلى السبب القوي دون الضعيف.

والأصل الثاني : أن العادة والعرف إذا قضي بوجود أمر فهل القول قول نافيه ، أو قول مثبته.

والأصل الثالث : أن ما يتعذر إقامة البينة عليه لا يكلف إقامة البينة عليه كالوطء ، ومن المعلوم أن المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها ورسوله ليس فيها شهادة على المرأة بذلك ؛ لأن ذلك ليس من الأمر بالمعروف ، ولهذا لم يفعله أحد على عهد سلف الأمة ولا يفعله جماهير بني آدم ، وفعله إما متعذّر أو متعسر ، فإنه إن أطعمها مما يأكل فليس عنده من يشهد على إطعامها وإن ناولها طعاما كلّ يوم فمن المتعسّر شهود في كل وقت ، وقد يكونان ساكنين حيث لا شهود ، وهذا ظاهر بيّن.

الأصل الرابع : أن المرأة مفرطة بترك أخذ نفقتها منه بالمعروف ، ومطالبته بها إذا كان لا ينفق ، بخلاف ما إذا كان غائبا ، وهي الصّورة التي روي عن عمر أنه أمر فيها بنفقة الماضي ، بل قد يقال : إن ذلك رضا منها بترك النفقة ، وليس هذا قولا بسقوط النفقة في الماضي ، بل بأن هذا دليل من جهة العرف على أنها إما أن تكون قد أنفق عليها ، أو تكون راضية بترك النفقة.

وهذا أصل خامس : وهو أن العادة المعروفة تدل على أن المرأة إذا سكتت مدة طويلة عن المطالبة بالنفقة مع القدرة على الطلب كانت راضية بسقوطها.

فصل في النفقة والكسوة بالمعروف

وأما النفقة والكسوة بالمعروف وهي الواجبة بنصّ القرآن ، فهو ما كان في عرف الناس في حالهما نوعا وقدرا وصفة ، وإن كان ذلك يتنوّع بتنوّع حالهما من اليسار والإعسار والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار ، والمكان فيطعمها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد والعرف عندهم.

وقال بعضهم : هي مقدّرة بالشّرع نوعا وقدرا مدّا من حنطة ، أو مدّا ونصفا أو مدّين

١٧٤

قياسا على الإطعام الواجب في الكفارة. والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علما وعملا قديما وحديثا لقول الله تعالى : (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لهند : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (١) ، ولم يقدر لها نوعا ولا قدرا ، ولو كان ذلك مقدّرا بشرع لبينه لها قدرا ونوعا كما بين فرائض الزكوات والديات.

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في خطبته ب «عرفات» : «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (٢).

ومن المعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحال الزوجة في حاجتها ، وبتنوع الزمان والمكان وبتنوع حال الزوج في يساره وإعساره ، فليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة ، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف ولا كفاية طعام الشتاء مثل طعام الصيف ولا طعام البلاد الحارّة كالباردة ، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير كالمعروف في بلاد الفاكهة والخبز.

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ للذي سأله : ما حقّ زوجة أحدنا عليه؟.

قال : «تطعمها إذا أكلت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ولا تقبّح ولا تهجر إلّا في البيت» (٣).

وهكذا قال في نفقة المماليك : «هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل ، وليلبسه ممّا يلبس ولا تكلّفوهم ما يغلبهم فإن كلّفتموهم فأعينوهم» (٤).

ففي الزوجة والمملوك أمر واحد ، فالواجب على هذا هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع ، والقدرة ، وصفة الإنفاق.

فأما النوع فلا يتعين أن يعطيها مكيلا كالبرّ ، ولا موزونا كالخبز ، ولا ثمن ذلك كالدّراهم ، بل يرجع في ذلك إلى العرف ، فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن تكون عادتهم أكل التّمر والشعير فيعطيها ذلك ، أو تكون عادتهم أكل الخبز والأدم ، فيعطيها ذلك والطبيخ ، فيعطيها ذلك ، وإن كان عادتهم أن يعطيها حبا فتطحنه في البيت فعل

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ٤٧٣ ـ ٤٧٤) كتاب البيوع ، باب : من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم حديث (٢٢١١) ومسلم (٣ / ١٣٣٨) كتاب الأقضية ، باب : قضية هند حديث (٧ / ١٧١٤) من حديث عائشة.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (٤ / ٤٤٦).

(٤) أخرجه البخاري ١٠ / ٤٨٠ في الأدب ، باب ما ينهى من السباب واللعن (٦٠٥٠) ، ومسلم ٣ / ١٢٨٢ ـ ١٢٨٣ ، في الإيمان ، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (٣٨ ـ ١٦٦١).

١٧٥

ذلك ، وإن كان يطحن في الطّاحون ويخبز في البيت فعل ذلك ، وإن كان يخبز في غير البيت فعل ذلك ، وإن كان يشترى مخبوزا من السّوق فعل ذلك ، وكذلك الطّبيخ ونحوه ، فذلك هو المعروف فلا يتعيّن عليه دراهم ولا حبّ أصلا ، فإن تعيين ذلك من المنكر ليس من المعروف ، وهو مصرّ بها تارة ، وبه تارة ، وبهما أخرى ، وكذلك القدر لا يتعين مقدرا مطردا ، بل تتنوع المقادير بتنوع الأوقات.

وأما الإنفاق ، فقد قيل : إن الواجب تمليكها النفقة والكسوة.

وقيل : لا يجب التمليك ، وهو الصّواب ، فإن ذلك ليس من المعروف ، بل عرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون إلى يومنا هذا أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزلة فيأكل هو وزوجته ومملوكه جميعا تارة ، وتارة أفرادا ، ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه ، ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم تتصرف فيها تصرف الملاك ، بل من عاشر امرأته بمثل هذا كان عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف ، وتضارّا في العشرة ، وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرار لا عند العشرة بالمعروف.

وأيضا فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوجب للزوجة مثل ما أوجب للمملوك كما تقدم.

وقد اتّفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته ، فدل على عدم وجوب التمليك في حق الزوجة.

وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل ، ويكسوها إذا اكتسى ، وكان ذلك هو المعروف لمثلها في بلدها ، فلا حق لها سوى ذلك ، وإن أنكرت ذلك فعلى الحاكم أن يجبره أن ينفق بالمعروف ، ليس على الحاكم بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقا أو حبّ مقدر مطلقا ، لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما.

فصل في تفسير الآية

قال القرطبي (١) في قوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ) أي : «لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصّغير على قدر وسعه ، فيوسع إذا كان موسعا عليه ، ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك ، فتقدر النّفقة بحسب حال المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى العادة».

وقال الشافعي رحمه‌الله : النفقة محدودة ، ولا اجتهاد للحاكم ولا المفتي فيها وتقديرها هو بحال الزّوج وحده من يسره وعسره ، ولا اعتبار بحالها ، فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس ، فيلزم الزوج الموسر مدّان ، والمتوسط مد ونصف والمعسر مدّ ؛ لظاهر قوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ).

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن (١٨ / ١١٢).

١٧٦

فجعل الاعتبار بحال الزوج في اليسر والعسر ؛ ولأن الاعتبار بحالها يؤدي إلى الخصومة ؛ لأن الزوج يدعي أنها تطلب فوق كفايتها ، وهي تزعم أنها تطلب قدر كفايتها ، فقدرت قطعا للخصومة لهذه الآية ، ولقوله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ).

وأجاب القرطبي : بأن هذه الآية لا تعطي أكثر من الفرق بين الغني والفقير ، وأنها تختلف بعسر الزوج ويسره ، فأما أنه لا اعتبار بحال الزوجة فليس فيها ، وقد قال تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٣٣] ، وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقها ؛ لأنه لم يخص في ذلك واحدا منهما ، وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنية مثل نفقة الفقيرة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام لهند : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان.

قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً)(١١)

قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ).

لما ذكر الأحكام ذكر وحذّر مخالفة الأمر ، وذكر عتوّ القوم وحلول العذاب بهم ، وتقدم الكلام في «كأين» في «آل عمران».

قوله : (عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها).

ضمّن «عتت» معنى أعرض ، كأنه قيل : أعرضت بسبب عتوّها ، أي : عتت يعني القرية والمراد أهلها.

وقوله : (فَحاسَبْناها) إلى آخره. يعني في الآخرة ، وأتى به بلفظ الماضي لتحقّقه.

وقيل : العذاب في الدّنيا ، فيكون على حقيقته ، أي جازيناها بالعذاب في الدّنيا (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) في الآخرة وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : فعذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسّيف والخسف والمسخ وسائر المصائب ، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا.

والنّكر : المنكر ، وقرىء مخففا ومثقلا. وقد مضى في سورة الكهف.

قوله : (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها). أي : عاقبة كفرها (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي : هلاكا في الدنيا بما ذكرنا وفي الآخرة بجهنم.

١٧٧

قوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ).

تكرير للوعيد توكيدا.

وجوز الزمخشري (١) أن يكون «عتت» وما عطف عليه صفة ل «قرية» ، ويكون الخبر ل «كأيّ» في الجملة من قوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ).

وعلى الأول يكون الخبر «عتت» وما عطف عليه.

قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا).

منصوب بإضمار أعني ، بيانا للمنادى في قوله : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي : العقول ، ويكون عطف بيان للمنادى أو نعتا له ، ويضعف كونه بدلا لعدم حلوله محل المبدل منه.

قوله : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً).

في نصب «رسولا» أوجه :

أحدها : قال الزجاج (٢) والفارسي : إنه منصوب بالمصدر المنون قبله ؛ لأنه ينحل لحرف مصدري وفعل ، كأنه قيل : أن ذكر رسولا ، ويكون ذكره الرسول قوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح : ٢٩] ، والمصدر المنون عامل كقوله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد : ١٤ ، ١٥].

وقول الآخر : [الوافر]

٤٧٨٣ ـ بضرب بالسّيوف رءوس قوم

أزلنا هامهنّ عن المقيل (٣)

الثاني : أنه جعل نفس الذكر مبالغة ، ويكون محمولا على المعنى ، كأنه قال : قد أظهر لكم ذكرا رسولا ، فيكون من باب بدل الشّيء من الشّيء وهو هو.

الثالث : أنه بدل منه على حذف مضاف من الأول ، تقديره : أنزل ذا ذكر رسولا.

الرابع : كذلك ، إلا أن «رسولا» نعت لذلك المحذوف.

الخامس : أنه بدل منه على حذف مضاف ، أي ذكرا ذا رسول.

السادس : أن يكون «رسولا» نعتا ل «ذكرا» أو على حذف مضاف ، أي : ذكرا ذا رسول ، و «ذا» رسول نعتا ل «ذكرا».

السابع : أن يكون «رسولا» بمعنى رسالة ، فيكون «رسولا» بدلا صريحا من غير تأويل ، أو بينا عند من يرى جريانه في النكرات كالفارسي ، إلا أن هذا يبعده قوله (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ) لأن الرسالة لا تتلو إلا بمجاز.

__________________

(١) ينظر الكشاف (٤ / ٥٦٠).

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج (٥ / ١٨٨).

(٣) تقدم.

١٧٨

الثامن : أن يكون «رسولا» منصوب بفعل مقدر ، أي : أرسل رسولا ، لدلالة ما تقدّم عليه.

قال البغوي (١) : كأنه قيل : أنزل إليكم قرآنا وأرسل رسولا.

وقيل : مع رسول.

التاسع : أن يكون منصوبا على الإغراء ، أي : اتبعوا والزموا رسولا هذه صفته.

فصل في قوله : رسولا

اختلف الناس في «رسولا» ، هل هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن نفسه أو جبريل.

قال الزمخشري (٢) : «هو جبريل أبدل من «ذكرا» لأنه وصف بتلاوة آيات الله ، فكان إنزاله في معنى إنزال الذّكر ، فصح إبداله منه».

قال أبو حيّان (٣) : «ولا يصحّ هذا لتباين المدلولين بالحقيقة ، ولكونه لا يكون بدل بعض ، ولا بدل اشتمال». انتهى.

قال شهاب الدين (٤) : «وهذا الذي قاله الزمخشري سبقه إليه الكلبي ، وأما اعتراضه عليه ، فغير لازم ؛ لأنه بولغ فيه حتى جعل نفس الذكر كما تقدم بيانه».

وقرىء (٥) : «رسول» بالرفع على إضمار مبتدأ ، أي : هو رسول.

وقيل : الذكر هنا الشّرف كقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠] وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] ثم بين الشرف فقال : «رسولا» ، والأكثر على أن المراد بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الكلبي : هو جبريل ، فيكونان جميعا منزلين (٦).

قوله : (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ). نعت ل «الرسول» ، و (آياتِ اللهِ) القرآن. و «مبيّنات» قرأ العامة : بفتح الياء ، أي : يبينها الله ، وبها قرأ ابن عباس ، وهي اختيار أبي عبيد ، وأبي حاتم ، لقوله تعالى : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) [آل عمران : ١١٨].

وقرأ ابن عامر ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي : بكسرها ، أي : يبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام.

قوله : (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). الجار متعلق إما ب «أنزل» وإما ب «يتلو».

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٣٦١.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٦٠.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨٢.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٣٢.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٦١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٨٣ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٢.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١١٤).

١٧٩

وفاعل «يخرج» إما ضمير الباري ـ تعالى ـ المنزل ، أو ضمير الرسول ، أو الذكر.

والمراد بالذين آمنوا من سبق له ذلك في علم الله.

وقوله : (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). أي : من الكفر إلى الهدى والإيمان.

قال ابن عباس : نزلت في مؤمني أهل الكتاب ، وأضاف الإخراج إلى الرسول ؛ لأن الإيمان إنما حصل بطاعته (١).

قوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ). هذا أحد المواضع التي روعي فيها اللفظ أولا ثم المعنى ثانيا ، ثم اللفظ آخرا.

قوله : (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) قرأ نافع وابن عامر (٢) : بالنون ، والباقون : بالياء.

وقوله : «خالدين». قال بعضهم : ليس قوله «خالدين» فيه ضمير عائد على «من» إنما يعود على مفعول «يدخله» و «خالدين» حال منه والعامل فيها «يدخله» لا فعل الشّرط. هذه عبارة أبي حيّان (٣).

وفيها نظر ، لأن «خالدين» حال من مفعول «يدخله» عند القائلين بالقول الأول ، وكان إصلاح العبارة أن يقال : حال من مفعول «يدخله» الثاني وهو «جنّات». والخلود في الحقيقة لأصحابها ، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال : «خالدين هم فيها» لجريان الوصف على غير من هو له.

قوله : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ). حال ثانية ، أو حال من الضمير في «خالدين» ، فتكون متداخلة. ومعنى قوله : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) ، أي : وسّع له في الجنّات.

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(١٢)

قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ).

يدلّ على كمال قدرته وأنه يقدر على البعث والمحاسبة ، ولا خلاف في أن السماوات سبع بعضها فوق بعض بدليل حديث الإسراء وغيره ، وقوله : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) يعني سبعا ، واختلف فيهن.

فقال الجمهور : إنها سبع أرضين مطبقا بعضها فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كلّ مكان من خلق الله.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١١٤).

(٢) ينظر : إعراب القراءات ٢ / ٣٧٣ ، والعنوان ١٩٢ ، وحجة القراءات ٧١٢.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٨٣.

١٨٠