اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وهذه السورة مشتملة على ذكر من كان يكذّب قلبا دون اللسان ، ويصدقه لسانا دون القلب.

وأما تعلق الأول بالآخر ، فلأن في آخر تلك السّورة تنبيه للمؤمنين على تعظيم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ورعاية حقّه بعد النداء لصلاة الجمعة ، وتقديم متابعته على غيره ، فإنّ ترك التعظيم والمتابعة من شيم المنافقين ، والمنافقون هم الكاذبون.

فصل في نزول السورة

روى البخاري عن زيد بن أرقم ، قال : كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبيّ ابن سلول يقول : «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا» ، وقال : «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ» ، فذكرت ذلك لعمي ، فذكر عمي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه ، فحلفوا ما قالوا ، فصدّقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذّبني فأصابني همّ لم يصبني مثله ، فجلست في بيتي ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) إلى قوله : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) ، وقوله : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ، فأرسل إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : «إنّ الله قد صدقك»(١).

وروى الترمذي عن زيد بن أرقم ، قال : «غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان معنا أناس من الأعراب ، فكنّا نبدر الماء ، أي : نقسمه ، وكان الأعراب يسبقوننا إلى الماء ، فيسبق الأعرابي أصحابه ، فيملأ الحوض ، ويجعل حوله حجارة ، ويجعل النّطع عليه حتى يجيء أصحابه ، قال : فأتى رجل من الأنصار أعرابيّا فأرخى زمام ناقته لتشرب ، فأبى أن يدعه ، فانتزع حجرا ففاض الماء ، فرفع الأعرابيّ خشبة ، فضرب بها رأس الأنصاريّ فشجّه ، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره ـ وكان من أصحابه ـ فغضب عبد الله بن أبي ، ثم قال : «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا» من حوله ، يعني : الأعراب ، وكانوا يحضرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الطعام ، فقال عبد الله : فإذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا بالطعام فليأكل هو ومن عنده ، ثم قال لأصحابه : «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ».

قال زيد : وأنا ردف عمي ، فسمعت عبد الله بن أبي ، فأخبرت عمي ، فانطلق ، فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فحلف وجحد قال : فصدّقه رسول الله

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٥١٢) كتاب التفسير سورة المنافقون ، باب قوله : إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ رقم (٤٩٠٠) من حديث زيد بن أرقم.

١٠١

ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكذّبني ، قال : فجاء عمّي إليّ فقال : ما أردت إلى أن مقتك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذبك ، والمنافقون.

قال : فوقع عليّ من جرأتهم ما لم يقع على أحد.

قال : فبينما أسير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد خفقت برأسي من الهمّ إذ أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعرك في أذني وضحك في وجهي ، فما كان يسرّني أنّ لي بها الخلد في الدنيا ، ثم إن أبا بكر لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟.

قلت : ما قال لي شيئا إلا أنه عرك أذني ، وضحك في وجهي ، فقال : أبشر ثم لحقني عمر ، فقلت له مثل قولي لأبي بكر ، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة المنافقين» (١).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

فصل في المنافق

سئل حذيفة بن اليمان عن المنافق ، فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به (٢).

وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» (٣).

وروى عبد الله بن عمر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها : إذا ائتمن خان ، وإذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر» (٤).

وروي عن الحسن أنه ذكر له هذا الحديث ، فقال : إن بني يعقوب حدّثوا فكذّبوا ، ووعدوا فأخلفوا وائتمنوا فخانوا. إنما هذا القول من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين ، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال شفقا أن تفضي بهم إلى النفاق.

وليس المعنى : أن من بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «المؤمن إذا حدّث صدق ، وإذا وعد نجّز ، وإذا ائتمن وفّى» (٥).

والمعنى : أن المؤمن الكامل إذا حدّث صدق.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٨٧ ـ ٣٨٨ ـ ٣٨٩) كتاب التفسير ، باب : سورة المنافقون حديث (٣٣١٣) من حديث زيد بن أرقم أيضا وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٨٠).

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : القرطبي (١٨ / ٨٠).

١٠٢

قوله : «نشهد».

يجري مجرى القسم كفعل العلم واليقين ، ولذلك تلقي بما يتلقى به القسم (١) في قوله : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ).

وفي قوله : [الكامل]

٤٧٧٠ ـ ولقد علمت لتأتينّ منيّتي

إنّ المنايا لا تطيش سهامها (٢)

وقد تقدم [الخلاف](٣) في الصدق والكذب ، واستدلالهم بهذه الآية ، والجواب عنها في أول البقرة (٤).

وقال القرطبي (٥) هنا : معنى «نشهد» نحلف ، فعبر عن الحلف بالشهادة ؛ لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيّب ، ومنه قول قيس بن ذريح : [الطويل]

٤٧٧١ ـ وأشهد عند الله أني أحبّها

فهذا لها عندي ، فما عندها ليا؟ (٦)

ونظيره قول الملاعن : أشهد بالله.

قال الزمخشري (٧) : «والشهادة تجري مجرى الحلف في التوكيد. يقول الرجل : أشهد ، وأشهد بالله ، وأعزم ، وأعزم بالله في موضع «أقسم وأولي» ، وبه استشهد أبو حنيفة على أن «أشهد» يمين».

ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على ظاهره أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعترافا بالإيمان ونفيا للنفاق عن أنفسهم وهو الأشبه.

قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ).

جملة معترضة بين قوله : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وبين قوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ) [لفائدة.

قال الزمخشري (٨) : «ولو قال : («قالُوا : نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ، (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لكان يوهم أن قولهم هذا كذب ، فوسط بينهما قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ليميط هذا الإبهام».

قال القرطبي (٩) : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) كما قالوه بألسنتهم](١٠) ، (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) بضمائرهم ، فالتكذيب راجع إلى الضمائر ، وهذا يدلّ على أن الإيمان

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٩.

(٢) تقدم.

(٣) في أ : الكلام.

(٤) آية رقم ١٠.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٨٠.

(٦) ينظر : مجنون ليلى ص ٣٠٠ ، والقرطبي ١٨ / ٨٠.

(٧) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٣٨.

(٨) الكشاف ٤ / ٥٣٨.

(٩) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٨٠.

(١٠) سقط في أ.

١٠٣

تصديق القلب ، وعلى أنّ الكلام الحقيقي كلام القلب ، ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب ، وقيل : أكذبهم الله في أيمانهم ، وهو قوله : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) [التوبة : ٥٦].

قال ابن الخطيب (١) : فإن قيل : لو قالوا : نعلم إنّك لرسول الله مكان قولهم : نشهد إنّك لرسول الله ، تفيد ما أفاد قولهم : نشهد؟.

فالجواب : لا ؛ لأن قولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) صريح في الشّهادة على إثبات الرسالة ، وقولهم : نعلم ليس بصريح في ذلك.

قوله : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً).

قد تقدم الكلام أنه يجوز أن يكون جوابا للشرط.

ويجوز أن يكون مستأنفا جيء به لبيان كذبهم وحلفهم عليه ، أي أنّ الحامل لهم على الأيمان اتقاؤهم بها عن أنفسهم (٢).

والعامة : على فتح الهمزة ، جمع يمين.

والحسن (٣) : بكسرها مصدرا.

وتقدم مثله في «المجادلة» ، والجنّة : التّرس ونحوه ، وكل ما يقيك سوءا. ومن كلام الفصحاء : [جبّة البرد] جنّة البرد.

قال أعشى همدان الشاعر : [الطويل]

٤٧٧٢ ـ إذا أنت لم تجعل لعرضك جنّة

من المال سار الذّم كلّ مسير (٤)

فصل

قال القرطبي (٥) وغيره : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) ، أي : سترة ، وليس يرجع إلى قوله : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وإنّما يرجع إلى سبب الآية التي نزلت عليه حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن أبيّ أنه حلف ما قال ، وقد قال ، وقال الضحاك : يعني : حلفهم بالله «إنهم لمنكم».

وقيل : يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة «براءة» في قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) [التوبة : ٧٤].

__________________

(١) ينظر : التفسير الكبير ٣٠ / ١٣.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٩.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣١١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦٧ ، والدر المصون ٦ / ٣١٩.

(٤) تقدم.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٨٠.

١٠٤

فصل في نص اليمين

قال القرطبي (١) : «من قال : أقسم بالله ، وأشهد بالله ، أو أعزم بالله ، أو أحلف بالله ، أو أقسمت بالله ، أو شهدت ، أو عزمت ، أو حلفت ، وقال في ذلك كله : «بالله» فلا خلاف أنها يمين ، وكذلك عند مالك وأصحابه أن من قال : أقسم ، أو أشهد ، أو أعزم ، أو أحلف ، ولم يقل «بالله» إذا أراد «بالله» ، وإن لم يرد «بالله» فليس بيمين».

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لو قال : أشهد بالله لقد كان كذا كان يمينا ، ولو قال : أشهد لقد كان كذا ـ دون النية ـ كان يمينا لهذه الآية ؛ لأن الله تعالى ذكر منهم الشهادة ثم قال : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً).

وعند الشافعي : لا يكون ذلك يمينا وإن نوى اليمين ؛ لأنّ قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) ليس يرجع إلى قوله : (قالُوا نَشْهَدُ) ، وإنما يرجع إلى ما في براءة من قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا).

قوله : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

أي : أعرضوا ، وهو من الصّدود ، أو صرفوا المؤمنين عن إقامة حدود الله عليهم من القتل ، والسبي ، وأخذ الأموال ، فهو من الصّدّ ، أو منعوا الناس عن الجهاد بأن يتخلفوا أو يقتدي بهم غيرهم.

وقيل : فصدوا اليهود والمشركين عن الدّخول في الإسلام بأن يقولوا : ها نحن كافرون بهم ، ولو كان ما جاء به محمد حقّا لعرف هذا منا ، ولجعلنا نكالا ، فبيّن الله أنّ حالهم لا يخفى عليه ، ولكن حكمه أن من أشهر [الإيمان](٢) أجري عليه في الظّاهر حكم الإيمان.

قوله : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

أي : سيئت أعمالهم الخبيثة في نفاقهم ، وأيمانهم الكاذبة ، وصدّهم عن سبيل الله (٣). و «ساء» يجوز أن تكون الجارية مجرى «بئس» ، وأن تكون على بابها ، والأول أظهر وقد تقدم حكم كل منهما (٤).

فإن قيل : إنه تعالى ذكر أفعال الكفرة من قبل ، ولم يقل : إنّهم ساء ما كانوا يعملون؟.

قال ابن الخطيب (٥) : والجواب أن أفعالهم مقرونة بالأيمان الكاذبة التي جعلوها

__________________

(١) السابق ١٨ / ٨١.

(٢) في أ : الإسلام.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨١.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢٠.

(٥) التفسير الكبير ٣٠ / ١٣.

١٠٥

جنّة أي : سترة لأموالهم ودمائهم عن أن يستبيحها المسلمون.

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا).

هذا إعلام من الله بأن المنافقين كفار ، إذ أقروا باللسان ثم كفروا بالقلب.

وقيل : نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدوا (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي ختم عليها بالكفر (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) الإيمان ولا الخير (١).

وقرأ العامّة : «فطبع» مبنيا للمفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار بعده.

وزيد بن علي (٢) : «فطبع» مبنيا للفاعل.

وفي الفاعل وجهان (٣) :

أحدهما : أنه ضمير عائد على الله تعالى ، ويدل عليه قراءة الأعمش ، وقراءته في رواية عنه: «فطبع الله» مصرحا بالجلالة الكريمة.

وكذلك نقله القرطبي (٤) عن زيد بن علي.

فإن قيل : إذا كان الطّبع بفعل الله ـ تعالى ـ كان ذلك حجة لهم على الله تعالى فيقولون : إعراضنا عن الحق لغفلتنا بسبب أنه ـ تعالى ـ طبع على قلوبنا؟.

فأجاب ابن الخطيب (٥) : بأن هذا الطبع من الله ـ تعالى ـ لسوء أفعالهم ، وقصدهم الإعراض عن الحق فكأنه تعالى تركهم في أنفسهم الجاهلة وغوايتهم الباطلة.

والثاني : أن الفاعل ضمير يعود على المصدر المفهوم مما قبله ، أي : فطبع هو أي بلعبهم بالدين.

قوله : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ).

أي : هيئاتهم ، ومناظرهم ، (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) يعني : عبد الله بن أبي وقال ابن عباس : كان عبد الله بن أبي وسيما جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان ، فإذا قال ، سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالته ، وصفه الله بتمام الصّورة وحسن الإبانة (٦).

وقال الكلبي : المراد ابن أبي وجدّ بن قيس ومعتّب بن قشير ، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة (٧).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨١.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٣٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٢٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢٠.

(٤) وكذلك صرح به الزمخشري في الكشاف ٤ / ٥٣٩.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٤.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٤٨) والدارقطني (١٨ / ٨١).

(٧) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ٨١).

١٠٦

وفي صحيح مسلم : وقوله : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ). كانوا رجالا [أجمل](١) شيء كأنهم خشب مسنّدة شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام (٢).

وقيل : شبههم بالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها (٣).

قال الزمخشري (٤) : شبهوا في استنادهم بالخشب المسندة إلى حائط ؛ لأنهم أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط ، لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار ، أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به فأسند إلى الحائط ، فشبهوا به في عدم الانتفاع ، ويجوز أن يراد بها الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان.

فصل في قراءة خشب

قرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي (٥) : «خشب» بإسكان الشين. وهي قراءة البراء بن عازب ، واختيار أبي عبيد.

لأنّ واحدتها خشبة كما تقول : بدنة وبدن. قاله الزمخشري (٦).

وقال أبو البقاء (٧) : و «خشب» ـ بالإسكان والضم ـ جمع خشب ، مثل : أسد وأسد.

قال القرطبي (٨) : وليس في اللغة : «فعلة» يجمع على «فعل» ، ويلزم من ثقلها أن تقول : «البدن» فتقرأ : «والبدن» ، وذكر اليزيدي أنه جمع الخشباء ، كقوله تعالى : (وَحَدائِقَ غُلْباً) [عبس : ٣٠] واحدتها : حديقة غلباء.

وقرأ الباقون من السبعة : بضمتين.

وقرأ سعيد بن جبير (٩) ، وابن المسيب : بفتحتين.

ونسبها الزمخشري لابن عبّاس ، ولم يذكر غيره (١٠).

__________________

(١) في أ : أكمل.

(٢) أخرجه مسلم ٤ / ٢١٤ في صفات المنافقين (١ ـ ٢٧٧٢) من حديث زيد بن أرقم.

(٣) ينظر : القرطبي (١٨ / ٨٢).

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٤٠.

(٥) ينظر : السبعة ٦٣٦ ، والحجة ٦ / ٢٩١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٦٧ ، وحجة القراءات ٧٠٩ ، والعنوان ١٩١ ، وشرح شعلة ٦٠٣ ، وإتحاف ٢ / ٥٣٩.

(٦) الكشاف ٤ / ٥٤٠.

(٧) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٢٤.

(٨) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٨٢.

(٩) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣١٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٢٠.

(١٠) ينظر الكشاف ٤ / ٥٤٠.

١٠٧

فأما القراءة ـ بضمتين ـ فقيل : يجوز أن تكون جمع خشبة ، نحو : ثمرة وثمر. قاله الزمخشري (١).

وفيه نظر ؛ لأن هذه الصيغة محفوظة في «فعلة» لا ينقاس نحو : ثمرة وثمر.

ونقل الفارسي عن الزبيدي : «أنه جمع : خشباء ، وأخشبة» غلط عليه ؛ لأنه قد يكون قال : «خشب» ـ بالسكون ـ جمع «خشباء» نحو : «حمراء وحمر» لأن «فعلاء» الصفة لا تجمع على «فعل» بضمتين ، بل بضمة وسكون.

وقوله : الزبيدي ، تصحيف ، إما منه ، وإما من الناسخ ، إنما هو اليزيدي تلميذ أبي عمرو بن العلاء ، ونقل ذلك الزمخشري (٢).

وأما القراءة بضمة وسكون.

فقيل : هي تخفيف الأولى.

وقيل : هي جمع خشباء ، كما تقدم.

وهي الخشبة التي نخر جوفها ، أي : فرغ ، شبهوا بها لفراغ بواطنهم مما ينتفع به (٣).

وأما القراءة ـ بفتحتين ـ فهو اسم جنس ، وأنّثت صفته ، كقوله : (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] وهو أحد الجائزين.

وقوله : «مسنّدة».

تنبيه على أنه لا ينتفع بها كما ينتفع بالخشب في سقف وغيره ، أو شبهوا بالأصنام ؛ لأنهم كانوا يسندونها إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم (٤).

وقيل : شبّهوا بالخشب المسنّدة إلى الحائط ، لأن الخشبة المسنّدة إلى الحائط أحد طرفيها إلى جهة ، والآخر إلى جهة أخرى.

والمنافق كذلك لأن أحد طرفيه وهو الباطن إلى جهة أهل الكفر ، والطرف الآخر وهو الظاهر إلى جهة أهل الإسلام.

ونقل القرطبي (٥) عن سيبويه أنه يقال : «خشبة وخشاب وخشب» مثل : ثمرة وثمار وثمر ، والإسناد : الإمالة ، تقول : أسندت الشيء أي : أملته ، و «مسنّدة» للتكثير ، أي : استندوا إلى الإيمان لحقن دمائهم.

__________________

(١) السابق.

(٢) ينظر : السابق ، والدر المصون ٦ / ٣٢٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢٠.

(٤) ينظر : السابق ، والكشاف ٤ / ٥٤٠.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٨٢.

١٠٨

قوله : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).

فيه وجهان (١) :

أظهرهما : أن «عليهم» هو المفعول الثاني للحسبان ، أي واقعة وكائنة عليهم ويكون قوله: (هُمُ الْعَدُوُّ) جملة مستأنفة ، أخبر الله عنهم بذلك.

والثاني : أن يكون «عليهم» متعلقا ب «صيحة» و (هُمُ الْعَدُوُّ) جملة في موضع المفعول الثاني للحسبان.

قال الزمخشري (٢) : «ويجوز أن يكون (هُمُ الْعَدُوُّ) هو المفعول الثّاني كما لو طرحت الضمير.

فإن قلت : فحقه أن يقال : هي العدوّ ، قلت : منظور فيه إلى الخبر كما في قوله : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧] ، وأن يقدر مضاف محذوف أي : يحسبون كل أهل صيحة» انتهى.

وفي الثاني بعد بعيد.

فصل

وصفهم الله تعالى بالجبن والخور.

قال مقاتل والسدي : إذا نادى مناد في العسكر أن انفلتت دابة ، أو أنشدت ضالّة ظنوا أنهم هم المرادون ، لما في قلوبهم من الرعب (٣).

كما قال الأخطل : [الكامل]

٤٧٧٣ ـ ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم

خيلا تكرّ عليهم ورجالا (٤)

وقيل : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ) ، أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم ؛ لأن للريبة خوفا ، استأنف الله خطاب نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال : (هُمُ الْعَدُوُّ) وهذا معنى قول الضحاك (٥).

وقيل : يحسبون كلّ صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر فيها بقتلهم ، فهم أبدا وجلون من أن ينزل الله فيهم أمرا يبيح به دماءهم ، ويهتك به أستارهم ، ثم وصفهم الله بقوله (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم (٦)

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢٠ ، ٣٢١.

(٢) الكشاف ٤ / ٥٤١.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨٢.

(٤) غير موجود في ديوان الأخطل وإنما هو لجرير بن عطية.

ينظر شرح ديوان جرير ص ٥٤٣ ، وكذا نسبه أبو حيان في البحر ٨ / ٢٦٨ ونسبه الزمخشري والقرطبي إلى الأخطل ينظر الكشاف ٤ / ١٠٩ ، وشرح شواهده ص ٥٠٥ ، والقرطبي ١٨ / ٨٢.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٨٢).

(٦) ينظر تفسير ابن أبي حاتم مخطوط.

١٠٩

قوله : (فَاحْذَرْهُمْ). فيه وجهان (١) :

أحدهما : فاحذر أن تثق بقولهم ، أو تميل إلى كلامهم.

الثاني : فاحذر ممايلتهم لأعدائك ، وتخذيلهم لأصحابك.

(قاتَلَهُمُ اللهُ).

قال ابن عباس : أي : لعنهم الله (٢).

قال أبو مالك : هي كلمة ذمّ وتوبيخ.

وقد تقول العرب : قاتله الله ما أشعره ، فيضعونه موضع التعجب.

وقيل : معنى (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي : أحلّهم محلّ من قاتله عدو قاهر ، لأن الله تعالى قاهر لكلّ معاند. حكاه ابن عيسى (٣).

قوله : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

«أنى» بمعنى : كيف.

قال ابن عطية (٤) : ويحتمل أن يكون «أنى» ظرفا ل «قاتلهم» ، كأنه قال : قاتلهم الله كيف انصرفوا ، أو صرفوا ، فلا يكون في القول استفهام على هذا. انتهى.

قال شهاب الدين (٥) : وهذا لا يجوز ؛ لأن «أنّى» إنما تستعمل بمعنى «كيف» ، أو بمعنى «أين» الشرطية أو الاستفهامية ، وعلى التقادير الثلاثة فلا تتمحض للظرف ، فلا يعمل فيها ما قبلها ألبتّة كما لا يعمل في أسماء الشرط والاستفهام.

فصل

قال ابن عباس : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : يكذبون (٦).

وقال قتادة : أي يعدلون عن الحق (٧).

وقال الحسن : يصرفون عن الرشد (٨).

وقيل : معناه كيف تضل عقولهم على هذا مع وضوح الدّلائل ، وهو من الإفك.

قوله : «أنّى» بمعنى : «كيف» ، وقد تقدم (٩).

__________________

(١) ينظر : القرطبي (١٨ / ٨٢).

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٦) وينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨٢.

(٤) المحرر الوجيز ٥ / ٣١٣.

(٥) الدر المصون ٦ / ٣٢١.

(٦) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨٢.

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ينظر المصدر السابق.

(٩) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨٢.

١١٠

قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ).

هذه المسألة عدها النحاة من الإعمال ، وذلك أن «تعالوا» يطلب (رَسُولُ اللهِ) مجرورا ب «إلى» أي : تعالوا إلى رسول الله.

و «يستغفر» يطلبه فاعلا ، فأعمل الثاني ، ولذلك رفعه ، وحذف من الأول ، إذ التقدير : تعالوا إليه. ولو أعمل الأول لقيل : تعالوا إلى رسول الله يستغفر ، فيضمر في «يستغفر» فاعل.

ويمكن أن يقال : ليست هذه من الإعمال في شيء ؛ لأن قوله «تعالوا» أمر بالإقبال من حيث هو ، لا بالنظر إلى مقبل عليه (١).

قوله : (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) هذا جواب «إذا».

وقرأ نافع : «لووا» مخففا (٢) ، والباقون مشددا على التكثير.

و «يصدّون» حال ؛ لأن الرؤية بصرية ، وكذا قوله : («وَهُمْ) يستكبرون» حال أيضا ، إما من أصحاب الحال الأولى ، وإما من فاعل «يصدون» فتكون متداخلة.

وأتي ب «يصدّون» مضارعا دلالة على التجدّد والاستمرار (٣).

وقرىء (٤) : «يصدّون» بالكسر.

وقد تقدمتا في «الزخرف» (٥).

فصل في نزول الآية (٦)

لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا : افتضحتم بالنفاق فتوبوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من النفاق ، واطلبوا أن يستغفر لكم ، فلووا رءوسهم أي : حرّكوها استهزاء وإباء. قاله ابن عباس (٧).

وعنه أنه كان لعبد الله موقف في كل سبب يحضّ على طاعة الله ، وطاعة رسوله ، فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليك غضبان ، فأته يستغفر لك فأبى ، وقال : لا أذهب إليه.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢١.

(٢) ينظر : السبعة ٦٣٦ ، والحجة ٦ / ٢٩٢ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٦٨ ، وحجة القراءات ٧٠٩ ، والعنوان ١٩١ ، وشرح الطيبة ٦ / ٥٥ ، وشرح شعلة ٦٠٣ ، وإتحاف ٢ / ٥٤٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢١.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣١٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٢١.

(٥) آية (٥٧).

(٦) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨٣.

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٨٣).

١١١

قال المفسّرون : وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال له : «المريسيع» من ناحية «قديد» إلى السّاحل فازدهم أجير لعمر يقال له : «جهجاه بن سعيد الغفاري» يقود له فرسه بحليف لعبد الله بن أبيّ ، يقال له : «سنان بن وبرة الجهنيّ» حليف بني عوف من الخزرج على ماء «بالمشلّل» فصرخ جهجاه بالمهاجرين ، وصرخ سنان بالأنصار فلطم جهجاه سنانا وأعان عليه جهجاه فأعان جهجاه رجل من المهاجرين يقال له : حقال ، وكان فقيرا ، فقال عبد الله بن أبي : أوقد فعلوها؟ والله ما مثلنا ومثلهم إلّا كما قال الأول : «سمّن كلبك يأكلك» أما ـ والله ـ لئن رجعنا إلى «المدينة» ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، يعني محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال لقومه : كفوا طعامكم عن هذا الرجل ، لا تنفقوا على من عنده حتى ينفضّوا ويتركوه ، فقال زيد بن أرقم ـ وهو من رهط عبد الله ـ أنت ـ والله ـ الذليل المنتقص في قومك ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عز من الرحمن ، ومودة من المسلمين ، والله لا أحبّك بعد كلامك هذا أبدا ، فقال عبد الله : اسكت إنما كنت ألعب ، فأخبر زيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله ، فأقسم بالله ما فعل ولا قال ، قال : فعذره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال زيد بن أرقم : فوجدت في نفسي ولا مني الناس ، فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله ، فقيل لعبد الله : قد نزلت فيك آيات شديدة ، فاذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستغفر لك ، فألوى رأسه فنزلت الآيات. خرجه البخاري والترمذي بمعناه (١).

وقيل : معنى قوله : (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ) يستتبكم من النّفاق ، لأن التوبة استغفار (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي يعرضون عن الرسول (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي متكبرون عن الإيمان(٢).

قيل : قال ابن أبيّ لما لوى رأسه : أمرتموني أن أومن فقد آمنت ، وأن أعطي الزكاة من مالي فقد أعطيت ، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد.

قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ).

قرأ العامّة : «أستغفرت» بهمزة مفتوحة من غير مدّ ، وهي همزة التسوية التي أصلها الاستفهام.

وقرأ يزيد (٣) بن القعقاع : «آستغفرت» بهمزة ثم ألف.

فاختلف الناس في تأويلها :

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٥٢٠) كتاب التفسير ، باب قوله : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل رقم (٤٩٠٧).

(٢) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨٣.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣١٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٢١.

١١٢

فقال الزمخشري (١) : إشباعا لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان لا قلبا لهمزة الوصل كما ف ي «آلسحر» [يونس : ٥٩] و (آللهُ) [يونس : ٨١].

يعني إنما أشبع همزة التسوية فتولد منها ألف.

وقصده بذلك إظهار الهمزة وبيانها ، إلا أنه قلب الوصل ألفا كما قلبها في قوله : آلسحر ، (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) لأنّ هذه الهمزة للوصل ، فهي تسقط في الدرج ، وأيضا فهي مكسورة فلا يلتبس معها الاستفهام بالخبر بخلا ف «آلسحر» ، (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ).

وقال آخرون (٢) : هي عوض عن همزة الوصل ، كما في (آلذَّكَرَيْنِ) [الأنعام : ١٤٣].

وهذا ليس بشيء ؛ لأن هذه مكسورة فكيف تبدل ألفا.

وأيضا فإنما قلبناها هناك ألفا ولم نحذفها وإن كان حذفها مستحقا لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ، وهنا لا لبس.

وقال ابن عطية (٣) : وقرأ أبو جعفر يعني يزيد بن القعقاع : «آستغفرت» بمدّة على الهمزة وهي ألف التسوية. وقرأ أيضا : بوصل الألف دون همزة على الخبر ، وفي هذا كله ضعف ، لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام ، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام ، وهو يريدها ، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر.

قال شهاب الدين (٤) : أما قراءته «استغفرت» بوصل الهمزة فرويت أيضا عن أبي عمرو ، إلا أنه يضم ميم «عليهم» عند وصله الهمزة لأن أصلها الضم ، وأبو عمرو يكسرها على أصل التقاء الساكنين.

وأما قوله : وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر ، فإن أراد بهذا مدّ هذه الهمزة في هذا المكان فصحيح ، بل لا تجده أيضا ، وإن أراد حذف همزة الاستفهام ، فليس بصحيح ؛ لأنه يجوز حذفها إجماعا قبل «أم» نثرا ونظما ، فأما دون «أم» ففيه خلاف.

والأخفش رحمه‌الله يجوّزه ، ويجعل منه (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ) [الشعراء : ٢٢].

وقول الآخر : [الطويل]

٤٧٧٤ ـ [طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا منّي وذو الشّيب يلعب](٥)

وقول الآخر : [المنسرح]

٤٧٧٥ ـ أفرح أن أرزأ الكرام وأن

أورث ذودا شصائصا نبلا (٦)

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٤٣.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢١.

(٣) المحرر الوجيز ٥ / ٣١٤.

(٤) الدر المصون ٦ / ٣٢٢.

(٥) تقدم.

(٦) تقدم.

١١٣

وأما قبل «أم» فكثير ، كقوله : [الطويل]

٤٧٧٦ ـ لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان (١)

وقد تقدمت هذه المسألة مستوفاة.

فصل في نزول هذه الآية

قال قتادة : هذه الآية نزلت بعد قوله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ، وذلك أنّها لما نزلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخبرني ربي فلأزيدنهم على السبعين» ، فأنزل الله تعالى : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] الآية.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بالفاسقين المنافقون (٢).

فصل في تفسير الآية

معنى (٣) قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ).

أي : كل ذلك سواء لا ينفع استغفارك شيئا ؛ لأن الله تعالى لا يغفر لهم ، نظيره : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦] ، (سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) [الشعراء : ١٣٦] ، (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

قال ابن الخطيب (٤) : قال قوم : فيه بيان أن الله ـ تعالى ـ يملك هداية وراء هداية البيان ، وهي خلق فعل الاهتداء فيمن علم منه ذلك.

وقيل : معناه لا يهديهم لفسقهم ، وقالت المعتزلة : لا يسمّيهم المهتدين إذا فسقوا وضلّوا.

فإن قيل : لم ذكر الفاسقين ولم يقل : الكافرين أو المنافقين أو المستكبرين مع أن كلّا منهم تقدم ذكره؟.

فالجواب (٥) : أن كل واحد منهم دخل تحت الفاسقين.

قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٠٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٣٧) عن ابن عباس.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨٤.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٥.

(٥) السابق ٣٠ / ١٦.

١١٤

الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٨)

قوله : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا).

قد تقدم سبب النزول ، وأن ابن أبي قال : لا تنفقوا على من عند محمد (حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي يتفرقوا عنه ، فأعلمهم الله سبحانه وتعالى أن خزائن السماوات والأرض له ينفق كيف يشاء(١).

قال رجل لحاتم الأصم : من أين تأكل؟ فقال : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وقال الحسن : (خَزائِنُ السَّماواتِ) الغيوب ، وخزائن الأرض القلوب ، فهو علّام الغيوب ومقلب القلوب (٢).

قوله : (يَنْفَضُّوا).

قرأ العامّة : «ينفضّوا» من الانفضاض وهو التفرق.

وقرأ الفضل بن عيسى (٣) الرقاشي : «ينفضوا» من أنفض القوم ، فني زادهم.

ويقال : نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفضّ.

فيتعدى دون الهمزة ولا يتعدى معها ، فهو من باب «كببته فانكبّ».

قال الزمخشري (٤) : وحقيقته جاز لهم أن ينفضوا مزاودهم.

ثم قال تعالى : (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) أنه إذا أراد أمرا يسره (٥).

قوله : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).

القائل ابن أبيّ ، كما تقدم.

وقيل : إنه لما قال : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات ، فاستغفر له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وألبسه قميصه ، فنزل قوله : (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

وروي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول قال لأبيه : والله الذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الأعزّ وأنا الأذلّ ، فقاله.

توهموا أن العزة لكثرة الأموال والأتباع فبيّن الله ـ تعالى ـ أنّ العزّة والمنعة والقوّة لله (٦).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨٤.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٨٤).

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣١٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٧٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٢٢.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٤٣.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨٤.

(٦) ينظر السابق.

١١٥

قوله : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).

قرأ العامّة : بضم الياء وكسر الراء مسندا إلى «الأعزّ» و «الأذلّ» مفعول به ، والأعزّ بعض المنافقين على زعمه.

وقرأ الحسن (١) وابن أبي عبلة والمسيبي : «لنخرجنّ» بنون العظمة ، وبنصب «الأعزّ» على المفعول به ، ونصب «الأذلّ» على الحال.

وبه استشهد من جوز تعريفها.

والجمهور جعلوا «أل» مزيدة على حدّ «أرسلها العراك» و «ادخلوا الأول فالأول».

وجوّز أبو البقاء (٢) : أن يكون منصوبا على المفعول ، وناصبه حال محذوفة ، أي : مشبها الأذلّ.

وقد خرجه الزمخشري على حذف مضاف ، أي : خروج الأول أو إخراج الأول (٣).

يعني بحسب القراءتين من «خرج وأخرج» فعلى هذا ينتصب على المصدر لا على الحال.

ونقل الدّاني عن الحسن أيضا : «لنخرجنّ» بفتح نون العظمة وضم الراء ، ونصب «الأعزّ» على الاختصاص كقولهم : «نحن العرب أقرى النّاس للضيف» و «الأذلّ» نصب على الحال أيضا. قاله أبو حيان (٤).

وفيه نظر ، كيف يخبرون عن أنفسهم أنهم يخرجون في حال الذل مع قولهم : «الأعزّ» أي: «أخصّ الأعزّ» ويعنون ب «الأعزّ» أنفسهم.

وقد حكى هذه القراءة أيضا أبو حاتم.

وحكى الكسائي والفرّاء : أن قوما قرأوا : «ليخرجنّ» ـ بفتح الياء وضم الراء ـ ورفع «الأعزّ» فاعلا ونصب «الأذل» حالا.

وهي واضحة (٥).

وقرىء (٦) : «ليخرجنّ» ـ بضم الياء ـ مبنيّا للمفعول ، «الأعز» قائم مقام الفاعل «الأذلّ» حال أيضا.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٤٣ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣١٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٧٠ ، والدر المصون ٦ / ٣١٣.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٢٤.

(٣) الكشاف ٤ / ٥٤٣.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٢٧٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢٣.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٧٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٢٣.

١١٦

فصل في ختم الآية ب (لا يَفْقَهُونَ)

قال ابن الخطيب (١) : فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ختم الآية الأولى بقوله : (لا يَفْقَهُونَ) وختم الثّانية بقوله : (لا يَعْلَمُونَ)؟.

فالجواب : ليعلم بالأولى قلة كياستهم وفهمهم ، وبالثانية حماقتهم وجهلهم ، ولا يفقهون من فقه يفقه ، كعلم يعلم ، أو من فقه يفقه ، كعظم يعظم ، فالأول لحصول الفقه بالتكلّف ، والثاني لا بالتكلّف ، فالأول علاجيّ ، والثاني مزاجي.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١١)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ).

حذّر المؤمنين أخلاق المنافقين ، أي : لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون إذ قالوا ـ لأجل الشّحّ ـ بأموالهم ـ : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا).

وقوله : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ).

أي : عن الحجّ والزكاة.

وقيل : عن قراءة القرآن.

وقيل : عن إدامة الذكر.

وقال الضحاك : عن الصلوات الخمس (٢).

وقال الحسن : عن جميع الفرائض (٣) ، كأنه قال : عن طاعة الله.

وقيل : هذا خطاب للمنافقين ، أي : آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب ، (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربه (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

قوله : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ).

قال ابن عباس : يريد زكاة الأموال (٤).

__________________

(١) ينظر : التفسير الكبير ٣٠ / ١٧.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٤٠) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٠٩).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٨٤).

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣٠ / ١٧) عن ابن عباس.

١١٧

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ).

قال القرطبي (١) : «هذا يدل على وجوب تعجيل إخراج الزّكاة ولا يجوز تأخيرها أصلا وكذلك سائر العبادات إذا دخل وقتها».

قال ابن الخطيب (٢) : وبالجملة فقوله : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) تنبيه على المحافظة على الذّكر قبل الموت ، وقوله : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) : تنبيه على الشكر كذلك.

قوله : (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي).

أي : هلّا أخّرتني.

وقيل : «لا» صلة ، فيكون الكلام بمعنى التّمنّي.

أي لو أخرتني إلى أجل قريب فنسأل الرجعة إلى الدنيا لنعمل صالحا.

روى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : «من كان له مال يبلّغه حجّ بيت ربّه أو يجب عليه فيه زكاة فلم يفعل ، سأل الرّجعة عند الموت ، فقال رجل : يا ابن عبّاس ، اتّق الله ، إنّما سأل الرّجعة الكفّار ، فقال : سأتلو عليك بذلك قرآنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) إلى قوله (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قال : فما يوجب الزّكاة؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعدا ، قال : فما يوجب الحجّ؟ قال : الزاد والراحلة» (٣).

قال القرطبيّ : ذكره الحليمي في كتاب «منهاج الدين» مرفوعا ، فقال : وقال ابن عبّاس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان عنده مال يبلّغه الحجّ» الحديث (٤).

قال ابن العربيّ : «أخذ ابن عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفل ، فأما تفسيره بالزّكاة فصحيح كلّه عموما وتقديرا بالمائتين.

وأما القول بالحج ففيه إشكال ؛ لأننا إن قلنا : الحج على التراخي ففي المعصية بالموت قبل الحج خلاف بين العلماء ، فلا تخرج الآية عليه.

وإن قلنا : الحج على الفور فالعموم في الآية صحيح لأنّ من وجب عليه الحج فلم

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٨٥.

(٢) ينظر : التفسير الكبير ٣٠ / ١٨.

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٩٠) رقم (٣٣١٦) والطبري في «تفسيره» (١٢ / ١١٠) عن ابن عباس موقوفا.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٤٠) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.

(٤) ينظر الحديث السابق.

١١٨

يؤده لقي من الله ما يودّ لو أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات.

وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء ، وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل ، لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها ، وإنما تدخل في المتفق عليه.

والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق بالإجماع أو بنصّ القرآن ؛ لأن ما عدا ذلك لا يتحقق فيه الوعيد».

قوله : (فَأَصَّدَّقَ).

نصب على جواب [التمني](١) في قوله : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي).

وقرأ أبي وعبد الله وابن جبير (٢) : «فأتصدّق» ، وهي أصل قراءة العامة ولكن أدغمت الفاء في الصاد.

قوله : «وأكن».

قرأ أبو عمرو : «وأكون» (٣) بنصب الفعل عطفا على «فأصّدّق».

والباقون : «وأكن» مجزوما ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين.

واختلفت عبارات الناس في ذلك (٤).

فقال الزمخشري (٥) : «عطفا على محل «فأصّدّق» كأنّه قيل : إن أخّرتني أصّدق وأكن».

وقال ابن عطية (٦) : عطفا على الموضع ؛ لأنّ التقدير : إن أخرتني أصّدق وأكن ، وهذا مذهب أبي علي الفارسي».

وقال القرطبي (٧) : «عطف على موضع الفاء ، لأن قوله : «فأصدق» لو لم تكن الفاء لكان مجزوما ، أي «أصّدّق» ، ومثله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) [الأعراف : ١٨٦] فيمن جزم.

فأما ما حكاه سيبويه (٨) عن الخليل فهو غير هذا ، وهو أنه جزم على توهم

__________________

(١) في أ : النهي.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٤٤ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣١٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٧٠.

(٣) ينظر : السبعة ٦٣٧ ، والحجة ٦ / ٢٩٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٦٩ ، وحجة القراءات ٧١٠ ، والعنوان ١٩١ ، وشرح الطيبة ٦ / ٥٦ ، وشرح شعلة ٦٠٣ ، وإتحاف ٢ / ٥٤٠.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢٣.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٤٤.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣١٥.

(٧) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٨٦.

(٨) ينظر : الكتاب ١ / ٤٤٩.

١١٩

الشرط الذي يدل عليه التمني ، ولا موضع له هنا لأنّ الشرط ليس بظاهر ، وإنما يعطف على الموضع بحيث يظهر الشرط ، كقوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) فمن جزم عطفه على موضع (فَلا هادِيَ لَهُ) ؛ لأنه لو وقع موقعه فعل لا نجزم» انتهى.

وهذا الذي نقله سيبويه هو المشهور عند النحويين.

ونظّر ذلك سيبويه بقول زهير رحم الله المؤمنين : [الطويل]

٤٧٧٧ ـ بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (١)

فخفض «ولا سابق» عطفا على «مدرك» الذي هو خبر «ليس» على توهم زيادة الباء فيه قد كثر جرّ خبرها بالباء المزيدة ، وهو عكس الآية الكريمة ؛ لأنه في الآية جزم على توهّم سقوط الفاء ، وهنا خفض على توهّم وجود الباء ، ولكن الجامع توهم ما يقتضي جواز ذلك.

قال شهاب الدين (٢) : «ولكني لا أحب هذا اللفظ مستعملا في القرآن الكريم ، فلا يقال : جزم على التوهم لقبحه لفظا».

وقال أبو عبيد : رأيت في مصحف عثمان «أكن» بغير واو.

وقد فرق أبو حيان بين العطف على الموضع والعطف على التوهم فقال (٣) : «الفرق بينهما أنّ العامل في العطف على الموضع موجود ، وأثره مفقود ، والعامل في العطف على التوهم مفقود ، وأثره موجود». انتهى.

قال شهاب الدين (٤) : «مثال الأول «هذا ضارب زيد وعمرا» فهذا من العطف على الموضع فالعامل وهو «ضارب» موجود ، وأثره وهو النصب مفقود ، ومثال الثاني ما نحن فيه ، فإن العامل للجزم مفقود وأثره موجود ، وأصرح منه بيت زهير ، فإن الباء مفقودة وأثرها موجود ، ولكن أثرها إنما ظهر في المعطوف لا في المعطوف عليه ، وكذلك في الآية الكريمة ، ومن ذلك أيضا بيت امرىء القيس : [الطويل]

٤٧٧٨ ـ فظلّ طهاة اللّحم من بين منضج

صفيف شواء أو قديد معجّل (٥)

فإنهم جعلوه من العطف على التوهّم ، وذلك أنه توهّم أنه أضاف «منضج» إلى «صفيف» وهو لو أضافه إليه فجره فعطف «قديد» على «ضعيف» بالجر توهما لجرّه بالإضافة».

__________________

(١) تقدم.

(٢) الدر المصون ٦ / ٣٢٣.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٧١.

(٤) الدر المصون ٦ / ٣٢٣.

(٥) تقدم.

١٢٠