اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

حيث النّحو ، فلأن الحقائق لا يوصف بها ، فلا يقال : جسم رجل جاءني ، كما يقال : جسم ناطق جاءني ؛ لأنّ الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها (١). فقولنا : عالم أي شيء له علم (٢).

فصل

والخشية والخوف معناهما واحد عند أهل اللغة ، لكن بينهما فرق ، وهو أن الخشية خوف من عظمة المخشيّ ، لأن تركيب حروف «ش ي خ» في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة ، يقال : شيخ للسّيّد وللرجل الكبير السّنّ ، وهما جميعا مهيبان والخوف خشية من ضعف الخاشي ، لأنّ تركيب «خ وف» في تقاليبها يدل على الضعف ، ويدل على ذلك أنه حيث كان الخوف من عظمة المخشيّ قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ، وقال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١] وقال : (هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [المؤمنون : ٥٧] مع أن الملائكة والجبل أقوياء وحيث كان الخوف من ضعف الخاشي سماه خوفا قال تعالى : (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) [فصلت: ٣٠] أي بسبب مكروه يلحقكم في الآخرة. وقال تعالى : (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) [القصص : ١٨] وقال : «إنّي أخاف أن يقتلون» (٣) لوحدته وضعفه هذا في أكثر الاستعمال وربما يتخلف (المدّعى عنه لكن الكثرة كافية) (٤).

فصل

معنى الآية من خاف الرحمن فأطاعه بالغيب ، ولم يره. وقال الضّحاك والسّدي : يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد. قال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب.

(وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) هذه صفة مدح ، لأن شأن الخائف أن يهرب ، فأما المتقي فجاء ربه لعلمه أنه لا ينجي الفرار منه (٥).

وقوله : (مُنِيبٍ) أي مخلص مقبل على طاعة الله تعالى. والباء في (بِقَلْبٍ) إما للتعدية (٦) ، وإما للمصاحبة (٧) ، وإما للسببية (٨).

__________________

(١) وكل ما يقع وصفا للغير يكون معناه شيء له كذا.

(٢) وتلك من المقولات الفلسفية التي اشتهر بها الإمام الفخر الرازي وتوضيح الكلام أن من خشي عند الرازي وقصده حقيقة لا تقوم بغيرها فهي غير تامة. وانظر تفسيره ٢٨ / ١٧٧.

(٣) الأصحّ قرآنيا : فَأَخافُ* وهي ١٤ من الشعراء و ٣٣ من القصص.

(٤) زيادة من الرازي لتحقيق المراد وتوضحيه وانظر الرازي المرجع السابق.

(٥) البغوي ٦ / ٢٣٨ والقرطبي ١٧ / ٢١.

(٦) أي أحضر قلبا سليما.

(٧) أي مع قلب.

(٨) وهي الأعرف. وانظر الرازي المرجع السابق. والسببية معناها جاء بسبب قلبه المنيب.

٤١

والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات: ٨٤] أي سليم من الشرك.

قوله : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) الجار والمجرور حال من فاعل (ادْخُلُوها) أي سالمين من الآفات فهي حال مقارنة (١) ، أو مسلّما عليكم فهي حال مقدرة (٢) كقوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣]. كذا قيل (٣) وفيه نظر ، إذ لا مانع من مقارنة وتسليم الملائكة عليهم حال الدخول بخلاف فادخلوها خالدين فإنه لا يعقل الخلود إلا بعد الدخول (٤) ، والضمير في (ادْخُلُوها) عائد إلى الجنة ، أي ادخلوا الجنة بسلامة من العذاب والهموم وقيل : بسلام من الله وملائكته عليهم (٥).

قوله : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) قال أبو البقاء : أي ومن ذلك يوم الخلود (٦) كأنّه جعل (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم من إنعام الله عليهم بما ذكره ، وقيل (ذلِكَ) مشار به لما بعده من الزّمان ، كقولك : هذا زيد (٧). قال الزمخشري : في قوله : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) إضمار تقديره : ذلك يوم تقرير (٨) الخلود. ويحتمل أن يقال : اليوم يذكر ويراد به الزمان المطلق سواء كان يوما أو ليلا ، تقول : يوم يولد لفلان (٩) يكون السرور العظيم ، ولو ولد له بالليل لكان السرور حاصلا فالمراد به الزّمان فكأنه تعالى قال : ذلك زمان الإقامة الدّائمة (١٠).

فإن قيل : المؤمن قد علم أنه إذا دخل الجنة خلد فيها فما فائدة القول؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن قوله : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) قول قاله الله في الدنيا ، إعلاما وإخبارا ، وليس ذلك قولا يقوله عند قوله : (ادْخُلُوها) ، فكأنه تعالى أخبر في يومنا أنّ ذلك اليوم يوم الخلود.

__________________

(١) والحال المقارنة هي المقارنة لعاملها وهو الغالب فيها.

(٢) وهي المستقبلة نحو : «مررت برجل معه سيف مقاتلا به غدا» أي مقدرا ذلك. وعلى ذلك فالتنظير في الآية معناه : يسلّم عليكم بعد.

(٣) ذكره أبو حيان في بحره المحيط دون أن يحدد من قال به وانظر البحر ٨ / ١٢٨.

(٤) أي أن الحال المقارنة تظهر أكثر في تلك الآية آية «ق» من آية الزمر وفي ذلك اعتراض على أبي حيان صاحب الرأي أصلا. ويلمح من كلام الزمخشري في الكشاف مقارنة الحال وتقديرها في آية «ق» هذه وهي «بسلام».

(٥) البغويّ في معالم التنزيل ٦ / ٢٣٨.

(٦) التبيان ١١٧٧.

(٧) لم أعثر عليه لمعين.

(٨) في النسختين كذلك وفي الكشاف : تقديره بالدال وكلاهما متقاربان.

(٩) في (ب) له بدل لفلان.

(١٠) وهو رأي وجيه من المؤلف وإن كان قليلا بالنسبة إلى الدقة. وقد نقله عن الرازي في تفسيره الكبير انظر ٢٨ / ١٨٠.

٤٢

الثاني : أن اطمئنان القلب بالقول أكثر (١).

قوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) يجوز أن يتعلق (فِيها) ب (يَشاؤُنَ) ويجوز أن يكون حالا من الموصول (٢) ، أو من عائده (٣) والأول أولى.

فصل

ما الحكمة في أنه تعالى قال : ادخلوها بسلام على المخاطبة ، ثم قال : (لَهُمْ) ولم يقل: لكم؟

فالجواب من وجوه :

الأول : أن قوله تعالى : (ادْخُلُوها) فيه مقدر ، أي فيقال لهم ادخلوها. فلا يكون التفاتا.

الثاني : أنه التفات ، والحكمة الجمع بين الطرفين ، كأنه تعالى يقول : غير محلّ بهم في غيبتهم وحضورهم.

ففي حضورهم الحبور ، وفي غيبتهم الحور والقصور.

الثالث : أنه يجوز أن يكون قوله تعالى : (لَهُمْ) كلاما مع الملائكة ، يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم ، واعلموا أنّ لهم ما يشاؤون فيها فأحضروا بين أيديهم ما يشاؤون ، وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تقدرون أنتم عليه (٤).

و «ال (مَزِيدٌ) يحتمل أن يكون معناه الزيادة (٥) ، كقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول (٦) ، أي عندنا ما نزيده على ما يرجون ويأملون (٧).

قال أنس وجابر : هو النظر إلى وجه الله الكريم (٨).

قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(٣٧)

قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا) نصب (٩) بما بعده (١٠). وقدم إما لأنه استفهام ، وإما

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) وهو «ما» من «ما يَشاؤُنَ».

(٣) المحذوف وتقديره يشاؤونه وانظر التبيان ١١٧٧.

(٤) الرازي في مرجعه السابق ٢٨ / ١٨١.

(٥) فيكون مصدرا ميميا من الثّلاثيّ.

(٦) ومعنى المفعول متأتّ من قوله نزيده أي الهاء.

(٧) وقد قال بهذين الإعرابين الإمام أبو عبد الله فخر الدّين الرازي في مرجعه السابق.

(٨) القرطبي ١٧ / ٢١.

(٩) وهو كم.

(١٠) وهو أهلكنا.

٤٣

لأن (كَمْ) الخبرية تجري مجرى الاستفهامية في التصدير. و (مِنْ قَرْنٍ) تمييز و (هُمْ أَشَدُّ) صفة إما «ل (كَمْ) وإما ل (قَرْنٍ).

قوله : (فَنَقَّبُوا) الفاء عاطفة على المعنى كأنه قيل : اشتدّ بطشهم فنقّبوا (١) والضمير في (نقّبوا) إما للقرون المتقدمة وهو الظاهر وإما لقريش ، ويؤيده قراءة ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٢) ـ وابن يعمر (٣) ، وأبي العالية (٤) ، ونصر بن يسار (٥) ، وأبي حيوة ، والأصمعي ـ عن أبي عمرو ـ (رضي الله عنهم) (٦) فنقّبوا (٧) ـ بكسر القاف ـ أمرا لهم بذلك.

والتّنقيب التّنقير والتّفتيش ، ومعناه التّطواف في البلاد ، قال الحارث بن حلّزة :

٤٥١٤ ـ نقّبوا في البلاد من حذر المو

ت وجالوا في الأرض كلّ مجال (٨)

وقال امرؤ القيس :

٤٥١٥ ـ وقد نقّبت في الآفاق حتّى

رضيت من الغنيمة بالإياب (٩)

وقرأ ابن عباس وأبو عمرو أيضا في رواية : نقبوا بفتح القاف خفيفة (١٠). ومعناها كما تقدم. وقرىء : نقبوا بكسرها خفيفة (١١) أي نقبت أقدامهم وأقدام إبلهم

__________________

(١) مشى المؤلف في عرضه لتلك الإعرابات على سبيل التّوضيح والتّبيين لكلام أبي البقاء العكبريّ في التبيان ١١٧٧.

(٢) زيادة من (أ) الأصل.

(٣) هو يحيى بن يعمر وقد عرّف به.

(٤) الرّياحيّ وقد عرف به أيضا.

(٥) لم أعثر على ترجمته وفي المحتسب : سيّار لا يسار.

(٦) زيادة من (أ) الأصل.

(٧) وهي شاذة انظر الكشاف ٤ / ١١ والبحر المحيط ٨ / ١٢٩ ومختصر ابن خالويه ١٤٤ ومعاني الفراء ٣ / ٨٠ والمحتسب ٢ / ٢٨٥.

(٨) نسبه السيوطي في الدر المنثور له ٧ / ٦٨ لعديّ بن زيد ، والمشهور أنه للحارث ، وهو من الخفيف ومعناه أنهم طافوا بالبلاد يلتمسون محيصا من الموت. والشاهد : في نقبوا فإن معناه التطواف كما أوضح أعلى. وانظر القرطبي ١٧ / ٢٠٢ وفتح القدير ٥ / ٨٠ والبحر ٨ / ١٢٩ والكشاف ٤ / ١١ وشرح شواهده ٤ / ٥٠٣.

(٩) من الوافر. وروايته في الديوان ٩٩ بلفظ «وقد طوفت». وروي في اللسان بلفظ : «السلامة» بدل الغنيمة. وقد تقدم.

(١٠) ولم ترو عن أبي عمرو في المتواتر ، بل هي شاذّة ذكوها صاحب الجامع الإمام القرطبي ١٧ / ٢٢ عن الحسن وأبي العالية بينما ذكر أبو حيان في البحر ٨ / ١٢٩ والزّمخشريّ في الكشاف ٤ / ١٩ غير ذلك ، ذكر أبو حيان قراءة التخفيف مع كسر القاف بينما ذكر الزمخشري التخفيف المطلق دون تحديد كسر أو فتح. وانظر المختصر ١٤٤ أيضا بالنسبة إلى قائليها بفتح القاف من المحقق لكنه أطلق كالزمخشري.

(١١) نسبها محقق كتاب المختصر لابن يعمر وأبي العالية وهو تحريف وقع فيه المحقّق لا ابن خالويه ـ

٤٤

ودميت فحذف المضاف ، وذلك لكثرة تطوافهم (١).

قوله : (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) مبتدأ (٢) أو خبر مضمر تقديره : هل لمن سلك طريقهم. أو هل لهم من محيص (٣). وهذه الجملة يحتمل أن تكون على إضمار قول (٤) وأن لا تكون (٥).

فصل

المعنى فنقّبوا أي فضربوا وسافروا وتقلبوا ، وأصله من النّقب وهو الطريق كأنهم سلكوا كلّ طريق ، فلم يجدوا محيصا من أمر الله. وعلى هذا فالمراد بهم أهل مكة ، أي ساروا في الأسفار ورأوا ما فيها من الآثار ولم يجدوا ملجأ ومهربا.

وقيل : المعنى صاروا نقباء في الأرض أراد ما أفادهم بطشهم وقوّتهم ؛ لأن الفاء تدل على ترتيب الأمر على مقتضاه تقول : كان زيد أقوى من عمرو فغلبه. والمعنى كانوا أشدّ منهم بطشا فصاروا نقباء في الأرض ، وهم قوم ثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، ومن قوتهم خرقوا الطّرق ونقّبوها وقطعوا الصّخور (٦).

وقيل : (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) مفر من (٧) الموت ، فلم يجدوا. وهذا جمع بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل ؛ لأنه أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المهلك ، والإهلاك المدرك. وهذا إنذار لأهل مكة لأنهم على مثل سبيلهم.

فإن قيل : إذا كان (ذلك للجمع) (٨) بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل فلم توسّطهما قوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ)؟

فالجواب : ليكون ذلك ردعا (٩) بالخوف والطمع ، فذكر حال الكفور (المعاند) (١٠) ، وحال الشكور ترهيبا وترغيبا.

فإن قيل : لم لم يجمع بين التّرهيب والترغيب في العاجلة كما جمع بينهما في الآجلة ولم يذكر حال من أسلم من قبل وأنعم عليه كما ذكر حال من أشرك به وأهلكه؟

__________________

ـ ظاهر الكتب تنسب القراءة إليهما بكسر القاف مع تشديدها. وقد ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر ٨ / ١٢٩ دون نسبة.

(١) المرجع السابق.

(٢) يقصد «مَحِيصٍ» وهو مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

(٣) وهو ظاهر كلام أبي البقاء في التبيان ١١٧٧.

(٤) أي يقولون هل من محيص فتكون لا محلّ لها من الإعراب مقول القول.

(٥) أي لا محيص من الموت فيكون توقيفا وتقريرا. قاله أبو حيان في مرجعه السابق.

(٦) وانظر الرازي ٢٨ / ١٨١ و ١٨٢.

(٧) البغوي ٦ / ٢٣٨.

(٨) سقط من (ب).

(٩) كذا في النسختين وفي الرازي : دعاء.

(١٠) سقط كذلك من (ب).

٤٥

فالجواب : أن النعمة كانت قد وصلت إليهم ، وكانوا متقلّبين في النّعم فلم يذكّرهم به ، وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به وأما في الآخرة فكانوا غافلين عن الأمرين جميعا فأخبرهم بها (١).

وقوله : (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) استفهام بمعنى الإنكار أي لم يكن لهم محيص. وقيل : هو كلام مستأنف كأنه تعالى يقول لقوم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ هم أهلكوا مع قوة بطشهم فهل من محيص لكم تعتمدون عليه؟

ومن قرأ بالتشديد فهو مفعول أي بحثوا عن المحيص (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟)(٢).

والمحيص كالمحيد (٣) غير أن المحيص معدل ومهرب عن الشدة بدليل قولهم : «وقعوا في حيص بيص» (٤) أي في شدة وضيق ، والمحيد معدل وإن كان بالاختيار ، فيقال : حاد عن الطّريق بطرا (٥). ولا يقال : حاص عن الأمر بطرا.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) ذلك إشارة إلى الإهلاك ، أو إلى إزلاف الجنة. و «الذكرى» مصدر أي تذكرة وعظة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ).

قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٦) ـ : أي عقل. قال الفراء : هذا جائز في العربية تقول : ما لك قلب ولا قلبك (٧) معك ، أي عقلك معك.

وقيل : له قلب حاضر مع الله (٨). وقيل : قلب واع ؛ وذلك لأن من لا يتذكر كأنّه لا قلب له ، ومنه قوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩] أي هم كالجماد ، وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) [المنافقون : ٤] أي لهم صور ، وليس لهم قلب ، ولا لسان للشّكر (٩).

__________________

(١) وانظر الرازي ٢٨ / ١٨١.

(٢) ذكر هذه الأوجه الإعرابية أبو عبد الله الرازي الإمام الفخر في مرجعه السابق.

(٣) معنى وفي اللفظ هو : مصدر ميمي أو اسم مفعول وكلاهما من الثلاثي أو اسم مكان أو زمان وهو مثلهما.

(٤) تنطق هكذا : حيص بيص ، وحيص بيص ، وحيص بيص ، وحاص باص أي في ضيق وشدة ، وقيل : في اختلاط من أمر مخرج لهم منه. ونصب «حيص بيص» على كلّ حال وإذا أفردوه أجروه وربما تركوا إجراءه. وقال الجوهريّ : وحيص بيص اسمان جعلا واحدا وبنيا على الفتح مثل جاري بيت بيت. وفي معناهما كلام آخر انظر اللسان إن أردت والصّحاح «حيص».

(٥) كذا في النسختين وفي الرازي : نظرا والأصح النّسختان. وانظر هذا كله في الرازي ٢٨ / ١٨٢.

(٦) زيادة من (أ).

(٧) قال وهذا جائز في العربية أن تقول : ما لك قلب ، وما قلبك معك ، وأين ذهب قلبك؟ تريد العقل لكل ذلك. انظر معاني الفراء ٣ / ٨٠.

(٨) نقله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٣٩.

(٩) وقد ذكر هذين الرأيين الأخيرين الإمام الفخر في تفسيره الكبير ٢٨ / ٨٣.

٤٦

قوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) العامة على (أَلْقَى) مبنيا للفاعل ، وطلحة والسّلميّ والسّدّيّ وأبو البرهسم (١) : (أَلْقَى) مبنيا للمفعول (السَّمْعَ) رفع به (٢). وذكرت هذه القراءة لعاصم عن السّدّيّ فمقته وقال : أليس يقول : يلقون السّمع (٣) وإلقاء السمع كناية عن الاستماع ، لأن الذي لا يسمع كأنه حفظ سمعه فأمسكه (٤) والمعنى استمع القرآن واستمع ما يقال له ، لا يحدث نفسه بغيره ، تقول العرب : ألق إليّ سمعك ، أي استمع (٥) ، أو يكون معناه: لمن كان له قلب فقصد الاستماع ، أو ألقى السمع بأن أرسله وإن لم يقصد السماع (٦).

(وَهُوَ شَهِيدٌ) حاضر الذّهن.

ويحتمل أن يقال : الإشارة بذلك إلى القرآن في أول السورة أي في القرآن الذي سبق ذكره ذكرى لمن كان له قلب ، أو لمن استمع ويكون معنى (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي المنذر الذي تعجّبتم منه وهو شهيد عليكم كقوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً)(٧) [الأحزاب : ٤٥].

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ)(٤٢)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أعاد الدليل مرة أخرى وقد مرّ تفسيره في الم السجدة ، فقيل : إن هذا ردّ على اليهود في قولهم : إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ استراح يوم السّبت. والظاهر أنها ردّ على المشركين ، أي لم يعي عن الخلق الأول فكيف يعجز عن الإعادة؟

قال ابن الخطيب : وأشار بقوله : في ستّة أيام إلى ستة أطوار لأنّ المراد من الأيام لا يمكن أن يكون هو المفهوم من وضع اللغة ، لأن اليوم في اللغة عبارة عن زمان مكث الشّمس فوق الأرض من الطّلوع إلى الغروب. وقيل : خلق السموات لم يكن شمس ولا قمر لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت ، يقال : يوم يولد للملك ابن يكون سرور عظيم ويوم يموت فلان يكون حزن شديد ، وإن اتفقت الولادة أو الموت لئلا لا يتعين ذلك. وقد يدخل في مراد القائل ، لأنه أراد باليوم مجرّد الوقت (٨).

__________________

(١) سبق التعريف بكل هذه الأعلام.

(٢) على النائب عن الفاعل. وقد ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر ٨ / ١٢٩ وأبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢٨٥ وابن خالويه في المختصر ١٤٤ ، والزمخشري في الكشاف ٤ / ١١.

(٣) البحر المحيط ٨ / ١٢٩.

(٤) قاله الرازي ٢٨ / ١٨٢.

(٥) قاله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٣٩.

(٦) الرازي المرجع السابق.

(٧) انظر المرجع السابق.

(٨) الرازي ٢٨ / ١٨٤ في التفسير الكبير.

٤٧

قوله : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) يجوز أن يكون حالا (١) ، وأن يكون مستأنفا (٢). والعامة على ضمّ لام اللّغوب. وعليّ وطلحة والسّلميّ ويعقوب (٣) بفتحها. وهما مصدران (بمعنى) (٤). وينبغي (٥) أن يضم هذا إلى ما حكاه سيبويه من المصادر الجائية على هذا الوزن وهي خمسة (٦) وإلى ما زاده الكسائي (٧) وهو الوزوع فتصير سبعة ، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤] واللّغوب العناء والتّعب (٨).

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من كذبهم ، وقولهم بالاستراحة ، أو على قولهم: إن هذا لشيء عجيب. وهذا قبل الأمر بقتالهم.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) قيل : هذا أمر للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالصلاة كقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) [هود : ١١٤] وقوله (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) إشارة إلى طرفي النهار ، وقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) إشارة إلى (زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)(٩).

وتقريره أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان مشتغلا بأمرين :

أحدهما : عبادة الله.

والثاني : هداية الخلق ، فإذا لم يهتدوا قيل له : أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة.

وقيل : معنى سبّح بحمد ربك ، أي نزّهه عما يقولون ولا تسأم من تذكيرهم بعظمة الله ، بل نزّهه عن الشرك والعجز عن الممكن وهو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب ؛ فإنهما وقت اجتماعهم ويكون المراد بقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أوله ، لأنه أيضا وقت اجتماعهم.

وقيل : المعنى : قل سبحان الله ، لأن ألفاظا جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم كقولهم : كبّر لمن قال : الله أكبر وسلّم لمن قال : السّلام عليكم ، وحمّد لمن قال : الحمد لله.

__________________

(١) فتكون في محل نصب على الحالتين.

(٢) فتكون لا محل لها من الإعراب. وقد قال بهذين الوجهين أبو حيان في البحر ٨ / ١٢٩.

(٣) لم ترو عنه في المتواتر ، وتلك قراءة شاذة ذكرت في البحر المرجع السابق والكشاف ٤ / ١٢ ، والمحتسب ٢ / ٢٨٥ ، ومختصر شواذ القراءات لابن خالويه ١٤٥.

(٤) سقط من (ب) قال أبو حيان : الأول مقيس (وهو الضّمّ) وأما الفتح فغير مقيس كالقبول ، والولوع.

(٥) في (ب) وينبني.

(٦) وهي : الوضوء ، والولوع ، والطّهور ، والوزوع وهو الإغراء ، والقبول.

(٧) البحر ٨ / ١٢٩.

(٨) القرطبي : ١٧ / ٢٣.

(٩) وانظر الرازي ٢٨ / ١٨٤ و ١٨٥.

٤٨

وهلّك لمن قال : لا آله إلّا الله ، وسبّح لمن قال : سبحان الله ، وذلك أن هذه أمور تتكرّر من الإنسان في الكلام ، [فدعت](١) الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة للكلام وقالوا : هلل بخلاف قولهم : زيد في السّوق ، فإنّ من قال : زيد في السوق وأراد أن يخبر عنه بذلك لا يجد لفظا واحدا مفيدا لذلك لعدم تكرره.

ومناسبة هذا الوجه : هو (٢) أن تكذيبهم وإنكارهم يقتضي مقابلتهم باللّعن ، فقيل له : اصبر عليهم ، واجعل بدل الدعاء عليهم التسبيح لله ، والحمد لله ، (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) أو كنوح ـ عليهما الصلاة والسلام ـ حيث قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦]

فصل

وقد استعمل التسبيح مع الباء ومع اللام وبدونهما. فإن قلنا : المراد بالتسبيح الصلاة فيحتمل أن يكون المراد بحمد ربك : الأمر بقراءة الفاتحة ، كقولك : صلّى فلان بسورة كذا. وهذا بعيد.

وإن قلنا المراد : قل سبحان الله ، فالباء للمصاحبة. وكذلك إن قلنا : معناه التّنزيه أي نزّهه واحمده حيث وفّقك لتسبيحه فيكون المفعول محذوفا ، للعلم به ، أي نزه الله بحمد ربك ، أي ملتبسا أو مقترنا بحمد ربك (٣).

وأما اللام فإمّا أن يكون من باب شكر ونصح (٤) ، وإما أن يكون معناها خالصا لله (٥).

وأما تعدّيه بنفسه فهو الأصل. وأعاد الأمر للتسبيح ، إما تأكيدا وإما أن يكون الأول بمعنى الصلاة ، والثاني بمعنى التّسبيح والذكر. ودخلت الفاء ؛ لأن المعنى : وأمّا من الليل فسبحه (٦).

ولما ذكر أوقات الصلوات ذكر أدبار السّجود ؛ ليعمّ الأوقات فيكون كقوله : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) [الشرح : ٧] و «من» إما لابتداء الغاية ، أو (٧) من أوّل الليل ، وإمّا للتبعيض (٨).

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (أ) الأصل.

(٢) في (ب) على.

(٣) قال بهذا كله الإمام الفخر في التفسير الكبير ٢٨ / ١٨٥ بالمعنى منه.

(٤) يقال شكرته ونصحته ، وشكرت له ونصحت له.

(٥) فيكون لبيان الأظهر ، أي يسبحون الله وقلوبهم لوجه الله خالصة. وانظر الرازي المرجع السابق.

(٦) فيكون متضمنا الشرط ، فهو كقوله : «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ».

(٧) في (ب) أي وهو الصحيح.

(٨) وانظر الرازي بالمعنى المرجع السابق ٢٨ / ١٨٥.

٤٩

فصل

قال المفسرون : قبل طلوع الشمس يعني صلاة الصبح ، وقبل الغروب يعني العصر ، وروي عن ابن عباس : قبل الغروب الظهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) يعني صلاة المغرب ، والعشاء. وقال مجاهد : ومن الليل يعني صلاة الليل ، أيّ وقت صلى (١).

قوله : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قرأ نافع وابن كثير ، وحمزة : إدبار بكسر الهمزة (٢) ، على أنه مصدر قام مقام ظرف الزمان كقولهم : آتيك خفوق النّجم وخلافة الحجّاج. ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انتصابها وتمامها (٣). والباقون (٤) بالفتح جمع (دبر) (٥) وهو آخر الصلاة وعقبها. ومنه قول أوس :

٤٥١٦ ـ على دبر الشّهر الحرام فأرضنا

وما حولها جدب سنون تلمّع (٦)

ولم يختلفوا في : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) [الطور : ٤٩].

وقوله : (وَأَدْبارَ) معطوف إمّا على (قَبْلَ الْغُرُوبِ) وإمّا على (وَمِنَ اللَّيْلِ).

فصل

قال عمر بن الخطاب ، وعليّ بن أبي طالب ، والحسن ، والشعبيّ ، والنخعيّ والأوزاعي : أدبار السجود الركعتان قبل صلاة الفجر ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس. وروي عنه مرفوعا. وهذا قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد : أدبار السجود هو التسبيح باللّسان في أدبار الصلوات المكتوبات ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من سبّح في دبر كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين وكبّر ثلاثا وثلاثين وحمّد ثلاثا وثلاثين» فذلك تسعة وتسعون ثم قال : «تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد

__________________

(١) وانظر تلك المعاني والأقوال في البغوي والخازن ٦ / ٢٣٩ والقرطبي ١٧ / ٢٤.

(٢) وهي سبعية متواترة ذكرت في الكشف ٢ / ٢٨٥ ، والسبعة ٦٠٧ والإتحاف ٣٩٨.

(٣) والتقدير : ومن الليل فسبحه ووقت أدبار السجود ، أي وسبحه وقت. أقول : والمصادر تجعل ظروفا على تقدير إضافة أسماء الزمان إليها وحذفها اتساعا وحذف المضاف في هذا الباب هو المستعمل في أكثر الكلام. وانظر الكشف لمكي ٢ / ٢٨٧.

(٤) وهم أبو عمر وابن عامر ، وعاصم ، والكسائيّ.

(٥) وقد استعمل ذلك أيضا ظرفا ، قالوا : جئتك دبر كلّ صلاة. انظر الكشف المرجع السابق.

(٦) من الطويل له كما هو ظاهر في ديوانه دار صادر ٥٨ ورواية الديوان :

وجئنا بها شهباء ذات أشلّة

لها عارض فيه المنيّة تلمع

ورواية المؤلف هي رواية البحر لأبي حيان. ورواه ابن يعيش في المفصل ٢ / ٤٥ «جدّت» بدل جدب و «بأرضنا» بدل «فأرضنا». والشاهد : على دبر فالدبر هنا ظرف أيضا ومعناه العقب كقولنا : جئتك في دبر كل صلاة. وانظر مجمع البيان ٩ / ٢٢٢ والسراج المنير ٤ / ٩١ والبحر المحيط ٨ / ١٣٠.

٥٠

يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (١).

قوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ) هو استماع على بابه. وقيل : بمعنى الانتظار. وهو بعيد. فعلى الأول يجوز أن يكون المفعول محذوفا ، أي استمع نداء المنادي ، أو نداء الكافر بالويل والثبور ، فعلى هذا يكون «يوم ينادي» ظرفا ل (اسْتَمِعْ) أي استمع ذلك في يوم. وقيل : استمع ما أقول لك فعلى هذا يكون «يوم ينادي» مفعولا به أي انتظر ذلك اليوم(٢).

ووقف ابن كثير على (يُنادِي) بالياء. والباقون دون ياء. ووجه إثباتها أنه لا مقتضي لحذفها. ووجه حذفها وقفا اتباع الرسم وكأن الوقف محلّ تخفيف (٣).

وأما «المنادي» فأثبت ابن كثير أيضا ياءه وصلا ووقفا. ونافع وأبو عمرو بإثباتها وصلا وحذفها وقفا ، وباقي السبعة بحذفهما وصلا ووقفا. فمن أثبت ، فلأنه الأصل ، ومن حذف فلاتباع الرسم. ومن خص الوقف بالحذف فلأنه محلّ راحة ومحلّ تغيير (٤).

فصل

في (وَاسْتَمِعْ) وجوه :

الأول : أن يكون مفعوله محذوفا رأسا ، والمقصود : كن مستمعا ولا تكن مثل هؤلاء المعرضين الغافلين ، يقال : هو رجل سميع مطيع ، ولا يراد : مسموع بعينه.

الثاني : استمع ما يوحى إليك.

الثالث : استمع نداء المنادي.

فإن قيل : (اسْتَمِعْ) عطف على (فَاصْبِرْ) و (سَبِّحْ) وهو في الدنيا ، فالاستماع (٥) يكون في الدنيا وما يوحى (يكون) (٦) «يوم ينادي» لا يسمع في الدنيا.

فالجواب : أنه لا يلزم ذلك ، لجواز أن يقال : صلّ وادخل الجنّة أي صل في الدنيا وادخل الجنة في العقبى فكذا ههنا.

ويحتمل أن يكون استمع بمعنى انتظر. ويحتمل أن يكون المراد : تأهّب لهذه الصيحة لئلا يفجأك فيزعجك. والمراد بالمنادي : إما الله تعالى بقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الصافات: ٢٢] وبقوله : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) أو بقوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) [النحل : ٢٧] ويحتمل أن يكون المراد بالمنادي : إسرافيل قال مقاتل : ينادي إسرافيل بالحشر يا أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، واللحوم المتمزقة ، والشّعور المتفرقة ، إن الله يأمركم

__________________

(١) خرجه البغوي في معامل التنزيل عن أبي هريرة. وانظر هذه الأقوال في البغوي والخازن ٦ / ٢٤٠ والقرطبي ١٧ / ٢٥ و ٢٦.

(٢) قال بذلك معنى الرازي في تفسيره الكبير ٢٨ / ١٨٧ وأبو حيان في البحر المحيط ٨ / ١٣٠.

(٣) السبعة ٦٠٧ والإتحاف ٣٩٩ والبحر ٨ / ١٣٠.

(٤) المراجع السابقة وانظر الكشف أيضا ٢ / ٣٨٦.

(٥) في (ب) كالاستماع.

(٦) سقط من (ب).

٥١

أن تجتمعوا لفصل القضاء. أو يكون النداء للنفس فقال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٧ ـ ٢٨] إذ (١) ينادي المنادي هؤلاء للجنة ، وهؤلاء للنار ، ويحتمل أن يكون المنادي : هو المكلف لقوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ) [الزخرف : ٧٧]. والظاهر الأول (٢) ؛ لأن اللام للعهد والتعريف. والمعهود السابق قوله : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ).

وقوله : (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي لا يخفى على أحد. وقيل : من صخرة بيت المقدس وهي (٣) وسط الأرض. قال الكلبي : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا (٤).

قوله : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ) بدل من «يوم ينادي» (٥) و (بِالْحَقِّ) حال من (الصَّيْحَةَ) أي ملتبسة بالحق أو من الفاعل أي يسمعون ملتبسين بسماع الحق.

قوله : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ) بدل من «يوم ينادي» (٥) و (بِالْحَقِّ) حال من (الصَّيْحَةَ) أي ملتبسة بالحق أو من الفاعل أي يسمعون ملتبسين بسماع الحق.

قوله : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) يجوز أن يكون التقدير : ذلك الوقت ـ أي وقت النداء والسماع ـ يوم الخروج. ويجوز أن يكون (ذلِكَ) إشارة إلى النداء ، ويكون قد اتسع في الظرف فأخبر به عن المصدر ، أو فقدر مضاف ، أي ذلك النداء والاستماع نداء يوم الخروج ، واستماعه (٦). واللام في (الصَّيْحَةَ) للتعريف ، لقوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) [يس : ٢٩]. والمراد بالحق : الحشر أو اليقين ، يقال : صاح فلان بيقين لا بظنّ وتخمين أي وجد منه الصياح يقينا لا كالصّدى وغيره ، أو يكون المراد المقترنة بالحق (٧) ، يقال : اذهب بالسّلامة وارجع بالسّعادة أي مقرونا ومصحوبا.

وقيل : (بِالْحَقِّ) قسم ، أي يسمعون الصيحة بالله (و) (٨) الحقّ. وهو ضعيف (٩) وقوله : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي من القبور.

قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ)(٤٥)

قوله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) قد تقدم الكلام على قوله : (إِنَّا نَحْنُ) في سورة

__________________

(١) في (ب) أو.

(٢) قال الرازي : إلّا أنّ الظاهر أن المراد أحد الوجهين الأولين ، لأن قوله : المنادي للتعريف ، وكون الملك في ذلك اليوم مناديا معروف عرف حاله وإن لم يجر ذكره. وانظر فيما مضى معنى تفسير الإمام ٢٨ / ١٨٨.

(٣) في (ب) وهو.

(٤) وانظر هذه المعاني في تفسيري البغوي والخازن ٦ / ٢٤٠ و ٢٤١.

(٥) قاله أبو البقاء في التبيان ١١٧٧ وأبو حيان في البحر ٨ / ١٣٠.

(٦) بالمعنى من المرجع السابق وانظر تفسير الرازي ٢٨ / ١٨٨.

(٧) وتكون الباء للتعدية والإلصاق ، فإن التعدية قد تتحقق بالباء ، يقال : ذهب بزيد ، على معنى ألصق الذهاب بزيد فوجد قائما به فصار مفعولا.

(٨) زيادة من النسختين لا معنى لها.

(٩) وانظر تفسير الرازي السابق.

٥٢

يس. وأما قوله (نُحْيِي وَنُمِيتُ) فالمراد من الإحياء الإحياء أولا ، وقوله : (وَنُمِيتُ) إشارة إلى الموتة الأولى و (إِلَيْنَا الْمَصِيرُ) بيان للحشر. وهذا إشارة إلى قدرته على الحشر (١).

قوله : (يَوْمَ تَشَقَّقُ) يجوز أن يكون بدلا من (يَوْمَ) قبله (٢). وقال أبو البقاء : إنه بدل من (يَوْمَ) الأوّل (٣). وفيه نظر من حيث تعدد البدل والمبدل منه واحد. وقد تقدم أنّ الزّمخشريّ منعه.

ويجوز أن يكون «اليوم» ظرفا للمصير (٤) أي يصيرون إلينا يوم تشقّق الأرض. وقيل ظرف للخروج. وقيل منصوب ب «يخرجون» مقدرا (٥).

وتقدم الخلاف في (تَشَقَّقُ) في الفرقان (٦).

وقرأ زيد بن علي : (تَشَقَّقُ) بفك الإدغام (٧).

قوله : (سِراعاً) حال من الضمير في (عَنْهُمْ) والعامل فيها (تَشَقَّقُ).

وقيل : عاملها هو العاقل في (يَوْمَ تَشَقَّقُ) المقدّر أي يخرجون سراعا يوم تشقّق (٨) ؛ لأن قوله تعالى : (عَنْهُمْ) يفيد كونهم مفعولين بالتشقق ، فكأن التشقق عدّي (٩) بحرف الجر ، كما يقال : «كشفت عنه فهو مكشوف» ، فيصير (سِراعاً) هيئة المفعول كأنه قال : مسرعين.

والسراع جمع سريع ، كالكرام جمع كريم (١٠). وقوله : (ذلِكَ) يحتمل أن يكون إشارة إلى التّشقّق عنهم وإشارة إلى الإخراج المدلول عليه بقوله : (سِراعاً) ، ويحتمل أن يكون معناه ذلك الحشر حشر يسير (١١). والحشر الجمع.

قوله : (عَلَيْنا) متعلق ب (يَسِيرٌ) ففصل بمعمول الصّفة بينها وبين موصوفها. ولا يضرّ ذلك (١٢). ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال منه ؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون نعتا.

__________________

(١) الرازي المرجع السابق.

(٢) السابق وأبو حيان في البحر ٨ / ١٣٠.

(٣) التبيان ١١٧٧.

(٤) التبيان المرجع السابق والبحر المحيط السابق أيضا.

(٥) قال بها دون تحديد من قال بهما أبو حيان في البحر ٨ / ١٣٠ و ١٣١.

(٦) عند قوله : «يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» وهي الآية ٢٥ منها ، فقد قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «تَشَقَّقُ» بتشديد القاف فقط. وانظر السبعة ٦٠٧ و ٦٠٨ والإتحاف ٣٩٩ كما قرىء : تشقّق بضم التاء مضارع شقّقت على البناء للمجهول كما قرىء : تنشق مضارع انشقت ، وكلتا القراءتين الأخيرتين من الشواذ ولم ينسبها لأحد أبو حيان في البحر ٨ / ١٣٠.

(٧) ذكرها أبو علي الأهوازي في قراءة زيد بن علي من تأليفه وانظر المرجع السابق.

(٨) البحر السابق والتبيان ١١٧٧.

(٩) في النسختين عدّي وفي الرازي : عند الخروج من القبر.

(١٠) وانظر الرازي ٢٨ / ١٩٠.

(١١) السابق أيضا.

(١٢) وحسن ذلك كون الصفة فاصلة.

٥٣

وقال الزمخشري : التقديم للاختصاص ، أي لا يتيسّر (١) ذلك إلا على الله وحده أي هو علينا هيّن لا على غيرنا وهو إعادة جواب لهم.

قوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) يعني كفار مكة في تكذيبك ، وهذا تسلية للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويحتمل أن يكون تهديدا وتخويفا لأن قوله : (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) ظاهر في التهديد ، وبالعلم يكمل. ونظيره قوله تعالى : ثم إليه مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور (٢).

ويحتمل أن يكون تقريرا لأمر الحشر بالعلم ؛ لأنه لما بين أن الحشر يسير لكمال قدرته ونفوذ إرادته ، ولكن تمام ذلك بالعلم الشامل حتى يبين جزء زيد وجزء بدن (٣) عمرو ، فقال : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) لكمال قدرتنا ، ولا يخفى علينا الأجزاء لكمال علمنا.

وقوله : (أَعْلَمُ) إما ليست للمشاركة في أصل الفعل (٤) كقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ (٥) عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] أو معناه نحن أعلم به من كل عالم بما يعلمه (٦).

قوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي بمسلّط تجبر على الإسلام ، وهذا تسلية للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أي أنك لست حفيظا عليهم ، ومكلفا بأن يؤمنوا ، إنما أنت منذر ، وقد فعلت ما أمرت به.

قال المفسرون : هي منسوخة بآية القتال.

قوله : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) تقدّم الخلاف في ياء (وَعِيدِ) [ق : ١٤] إثباتا وحذفا. والمعنى دم على الإنذار ولا تترك الهداية بالكلية ، بل ذكّر المؤمنين فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

وقوله : (بِالْقُرْآنِ) أي اتل عليهم القرآن ليحصل لهم المنفعة بسبب ما فيه أو فذكّر بالقرآن بين به أنك رسول الله لكونه معجزا ، أو يكون المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير. وفي قوله : فذكر إشارة إلى أنه مرسل مأمور بالتذكير

__________________

(١) قال في الكشاف : «وتقديم الظرف يدل على الاختصاص ، يعني لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الأعلى القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن» الكشاف ٤ / ١٢.

(٢) من الآية ٧ من الزمر وانظر الرازي ٢٨ / ١٩١ وتصحيح الآية : ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ. فقد خلط بين آيتي يونس ٢٣ وبين تلك الآية.

(٣) كذا في النسختين وفي الرازي : حتى يميز بين جزء بدنين ، جزء بدون زيد وجزء بدون عمرو.

(٤) أي لا تكون للتفضيل مطلقا.

(٥) أي هيّن.

(٦) فتكون للتفضيل. و «ويعلمه» هو لفظ الرازي وهو الأصح وفي النسختين : يعمله.

٥٤

بالقرآن المنزل عليه ، وقوله «وَعِيد» إشارة إلى اليوم الآخر وقوله : (وَعِيدِ) إشارة إلى الوحدانية ، إذ لو قال : وعيد الله لذهب الوهم إلى كل صوب. وضمير المتكلم أعرف المعارف ، وأبعد عن الاشتراك. وقد تقدم أن أول السورة وآخرها مشتركان في المعنى حيث قال في الأول : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) ، وقال في آخرها : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ)(١).

روى أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة ق هوّن الله عليه سكرات الموت» (٢).

__________________

(١) وانظر تفسير العلامة الإمام الفخر في تفسيره الكبير ٢٨ / ١٩١ و ١٩٢.

(٢) ذكره الزمخشري في آخر تفسير سورة (ق) دون سند كعادته في نهاية كل سورة وفيه : هوّن الله عليه نارات الموت وسكراته. انظر الكشاف ٤ / ١٣.

٥٥

سورة الذاريات

مكية (١) وهي ستون آية ، وثلاثمائة وستون كلمة ، وألف ومائتان وتسعة وثمانون (٢) حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ)(٦)

قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) أول هذه السورة مناسب لآخرها قبلها ، لأنه تعالى لما بين الحشر بدلائله ، وقال : ذلك حشر علينا يسير وقال : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) تجبرهم على الإيمان ، إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان ، وتلاوة القرآن عليهم ، لم يبق إلا اليمين فقال : (وَالذَّارِياتِ .. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) وقال في آخرها (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ).

فصل

وفي الحكمة في القسم ههنا وجوه :

أحدها : أن الكفار كانوا ينسبون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للجدال ، ومعرفة طرقه ، وأنه عالم بفساد قولهم ، وأنه يغلبهم بمعرفته بالجدال ، وحينئذ لا يمكن أن يقابلهم بالأدلة ، كما أن من أقام خصمه عليه الدليل ولم يبق له حجة ، يقول : إنه غلبني ، لعلمه بالجدل وعجزي عن ذلك ، وهو يعلم في نفسه أن الحق تبعي (٣) ولا يبقى للمتكلم المبرهن غير اليمين ، ليقول : والله إن الأمر كما أقول ولا أجادلك بالباطل لأنه لو استدل بطريق آخر يقول خصمه فيه كقوله الأول ، فلا يبقى إلا السكوت ، أو التمسك بالأيمان ، وترك إقامة البرهان.

__________________

(١) في قول الجميع.

(٢) في البغوي وثلاثون وانظر : القرطبي ١٧ / ٢٩ والبغوي ٦ / ٢٤.

(٣) كذا في أوفي ب وفي الرازي : بيدي.

٥٦

الثاني : أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة ، وتعتقد أنها تخرب المنازل ، فكان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ـ يكثر الإقسام ، دلالة على أنه صادق ولذلك كان أمره يتزايد ويعلموا (٢) أنه لا يحلف بها كاذبا.

الثالث : أن الأيمان التي أقسم بها كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان لينبّه بها على كمال القدرة ، كقول القائل للمنعم : وحقّ نعمتك الكثيرة إنّي لا أزال أشكرك. فذكر النعم التي هي سبب مفيد لدوام الشكر ، وإنما أخرجها مخرج الأيمان ، إيذانا بأنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم فيصغي إليه السامع أكثر ما يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر (٣) فبدأ بالحلف (٤).

فصل

أورد القسم على أمور منها الوحدانية ، ولظهور أمرها واعترافهم بها حيث يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] وقولهم : (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] لم يقسم عليها إلا في سورة الصافات (٥) ومنها الرسالة وهو في سورتين «والنّجم» (٦) «والضّحى» (٧) ، وبالحروف في «يس» (٨) ومنها الحشر ، والجزاء وما يتعلق به ، فلكثرة إنكارهم له كرر القسم عليه (٩).

فصل

أقسم الله بجمع السلامة المؤنث في سور خمس (١٠) ، ولم يقسم بجمع السلامة المذكر في سورة أصلا ، فلم يقل : والصّالحين من عبادي ، ولا المقربين إلى غير ذلك مع أن المذكر أشرف ؛ لأن جموع السلامة بالواو والنون في الغالب لمن يعقل (١١).

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) كذا في أوب والأصح نحويا : يعلمون رفعا ، ولعله سهو من الناسخ ، على أن عبارة الرازي : وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذبا.

(٣) كذا في أوالرازي ، وفي ب معتبرا.

(٤) وانظر : الرازي ٢٨ / ١٩٤ و ١٩٣.

(٥) حيث قال : إنّ إلهكم لواحد. الآية ٤.

(٦) قال : «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» الآيتان ١ و ٢ منها.

(٧) قال : «وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» الآيات من (١) إلى (٣).

(٨) قال : «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» ١ و ٢ منها.

(٩) وانظر : الرازي معنى المرجع السابق.

(١٠) هي الأولى من «الصافات» والأولى من «النازعات» والأولى من «المرسلات» والأولى من «العاديات» وتلك الآية وهي الأولى من الذاريات.

(١١) المرجع السابق.

٥٧

فصل

روي عن علي ـ (رضي الله عنه) (١) ـ في قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ) قال هي الرياح التي تذرو التّراب يقال : ذرت الرّيح التّراب وأذرت (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) يعني السحاب تحمل ثقلا من الماء (فَالْجارِياتِ يُسْراً) هي السفن تجري في الماء جريا سهلا (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) هي الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به ، أقسم بهذه الأشياء ، لما فيها من الدلالة على صنعته وقدرته (٢).

قال ابن الخطيب : والأقرب أن هذه صفات للرياح ، فالذاريات هي التي تنشىء السحاب أولا ، والحاملات هي التي تحمل السحب التي هي بحار (٣) المياه التي إذا سحّت جرت السيول العظيمة ، وهي أوقار أثقل من جبال. والجاريات هي التي تجري السحب عند حملها ، والمقسّمات هي الرياح التي تقسم الأمطار وتفرقها على الأقطار ، ويحتمل أن يقال : هذه أمور أربعة ذكرت لأمور أربعة بها تتم الإعادة ، لأن الأجزاء المتفرقة بعضها في تخوم الأرض ، وبعضها في قعر (٤) البحار ، وبعضها في جوّ الهواء ، وفي الأجزاء البخارية اللطيفة المنفصلة عن الأبدان فالذاريات هي التي تجمع الذرات من الأرض ، وتذرو التّراب من وجه الأرض والحاملات هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملا ، فإن التراب لا ترفعه الرياح حملا مستقلّا بل تنقله من موضع إلى موضع ، بخلاف السحاب فإنه يحمله في الجو حملا لا يقع منه شيء ، والجاريات هي الجامعة من الماء ، فإن من يجري السفن الثقيلة في تيّار البحار قادر على نقل الأجزاء من البحر إلى البرّ ، فإذن تبين أن الجمع من الأرض وجو الهواء ووسط البحار ممكن ، وإذا اجتمع ذلك كله بقي (٥) نفخ الروح ، وهي من أمر الله ، فقال : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) يعني الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأمر الله (٦).

قوله : (ذَرْواً) منصوب على المصدر المؤكد العامل فيه فرعه وهو اسم الفاعل (٧) ، والمفعول محذوف اختصارا (٨) إذ لا نظير لما تذروه هنا.

وأدغم أبو عمرو وحمزة تاء (الذَّارِياتِ) في ذال (ذَرْواً)(٩) وأما (وِقْراً) فهو

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) قاله الإمامان البغوي والخازن في تفسيريهما ٦ / ٢٤١ وانظر أيضا القرطبي ١٧ / ٢٩ ، ومعاني الفراء ٣ / ٨٢ والزجاج ٥ / ٥١.

(٣) كذا في النسختين بالحاء جمع بحر ، وفي الرازي : بخار بالخاء.

(٤) في ب قعور وكذا في الرازي.

(٥) في الرازي : يبقى بالمضارعة.

(٦) وانظر : تفسير الإمام فخر الدين ٢٨ / ١٩٥.

(٧) وهو ذارية ـ بزنة فاعلة ـ.

(٨) والتقدير : والذاريات الأشياء ذروا.

(٩) وانظر : الإتحاف ٣٩٩.

٥٨

مفعول (١) به بالحاملات ، كما يقال : حمل فلان عدلا ثقيلا (٢).

قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون اسما أقيم مقام المصدر (٣) ، كقوله : ضربه سوطا (٤). ويؤيده قراءة من قرأ بفتح الواو.

والوقر ـ بالكسر ـ اسم ما يوقر أي يحلّ. وقرىء بالفتح (٥) ، وذلك على تسمية المفعول(٦) بالمصدر. ويجوز أن يكون مصدرا على حاله والعامل فيه معنى الفعل قبله ، لأن الحمل والوقر بمعنى واحد ، وإن كان بينهما عموم وخصوص (٧).

قوله : (يُسْراً) يجوز أن يكون مصدرا من معنى ما قبله أي جريا يسرا (٨) وأن يكون حالا ، أي ذات يسر أو ميسرة أو جعلت نفس اليسر مبالغة (٩).

قوله : (أَمْراً) يجوز أن يكون مفعولا به ، وهو الظاهر ، كقولك : فلان قسّم الرّزق أو المال ، وأن تكون حالا أي مأمورة (١٠). وعلى هذا فيحتاج إلى حذف مفعول (فَالْمُقَسِّماتِ). وقد يقال : لا حاجة لتقديره كما في الذاريات. وهل هذه أشياء مختلفة فتكون الفاء على بابها من عطف المتغايرات ، والفاء للترتيب في القسم لا في المقسم به؟

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد الرياح وحدها ، لأنها تنشىء السحاب وتقلّه ، وتصرفه ، وتجري في الجو جريا سهلا (١١) وعلى هذا يكون من عطف الصفات ، والمراد واحد ، كقوله (ـ رحمه‌الله (١٢) ـ) :

٤٥١٧ ـ يا لهف زيّابة للحارث

الصّابح فالغانم فالآيب (١٣)

وقوله :

__________________

(١) التبيان ١١٧٨ والرازي ٢٨ / ١٩٦.

(٢) المرجع الأخير السابق.

(٣) فتكون مما ناب عن المفعول المطلق.

(٤) انظر : الرازي المرجع السابق.

(٥) ولم يحدد الزمخشري في الكشاف ٤ / ١٣ وأبو حيان في البحر ٨ / ١٣٣ من قرأ بها وسكت عنها ابن خالويه في المختصر ١٤٥ ، وابن جني في المحتسب ٢ / ٢٨٦. وهي شاذة غير متواترة.

(٦) كذا في النسختين والأقرب كما في الفخر الرازي والكشاف والبحر : «المحمول». وانظر : الرازي ٢٨ / ٩٦ والكشاف ٤ / ١٣ والبحر ٨ / ١٣٣.

(٧) الكشاف المرجع السابق.

(٨) البحر والكشاف والرازي السابقان.

(٩) قال أبو حيان : «فيسرا مصدر وصف به على تقدير محذوف فهو على رأي سيبويه في موضع الحال» وانظر : البحر ٨ / ١٣٣.

(١٠) البحر المرجع السابق والرازي ٢٨ / ١٩٦.

(١١) الكشاف ٤ / ١٣.

(١٢) زيادة من أ.

(١٣) سبق هذا البيت ، وشاهده هنا عطف صفات الغانم والآيب على الصابح عطف صفات وانظر : البحر ٨ / ١٣٤ و ١٣٣.

٥٩

٤٥١٨ ـ إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم (١)

فتكون الفاء على هذا الترتيب (٢) الأمور في الوجود.

فإن قيل : إن كان (وِقْراً) مفعولا فلم لم يجمع وما قيل : أوقارا؟.

فالجواب : لأن جماعة من الرياح قد تحمل وقرا واحدا ، وكذا القول في المقسّمات أمرا إذا قيل : إنه مفعول به ، لأنه قد تجمع جماعة من الملائكة على أمر واحد (٣).

قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ) هذا جواب القسم ، و «ما» يجوز أن تكون اسمية (٤) ، وعائدها محذوف ، أي توعدونه وأن تكون مصدرية فلا عائد على المشهور ، وحينئذ يحتمل أن يكون توعدون مبنيّا من الوعد ، وأن يكون مبنيا من الوعيد (٥) ، لأنه يصلح أن يقال : أوعدته فهو يوعد ، ووعدته فهو يوعد لا يختلف ، فالتقدير : إن وعدكم أو إن وعيدكم (٦). ولا حاجة إلى قول من قال : إنه قوله : (لَصادِقٌ) وقع فيه اسم الفاعل موقع المصدر أي لصدق لأن لفظ اسم الفاعل أبلغ إذا جعل الوعد أو الوعيد صادقا مبالغة وإن كان الوصف إنما يقوم بمن يعد أو يوعد (٧).

قال ابن الخطيب : وبناؤه من «أوعد» هو الحق ؛ لأن اليمين مع المنكر بوعيد (٨) لا بوعد ، و «الصادق» معناه ذو صدق «ك (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ، ووصف به الفاعل كوصف الفاعل بالمصدر في إفادة المبالغة (٩).

قوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) أي الحشر والجزاء كائن.

قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)(٩)

ثم ابتدأ قسما آخر وهو قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) العامة على الحبك ـ بضمتين ـ قال ابن عباس وقتادة وعكرمة : ذات الخلق الحسن المستوي ، يقال للنساج إذا نسج الثوب فأجاد : ما أحسن حبكه. وقال سعيد بن جبير : ذات الزّينة أي المزينة بزينة

__________________

(١) سبق كسابقه ، وشاهده مثله من عطف الصفات بعضها على بعض فقد عطف «ليث الكتيبة» على ابن الهمام وابن الهمام على القرم.

(٢) كذا في النسختين والأصح : لترتيب باللام الجارة.

(٣) بالمعنى من تفسيره السابق.

(٤) أي موصولة اسمية.

(٥) قال أبو حيان : لقوله : «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ».

(٦) بالمعنى من البحر ٨ / ١٣٤ ، وانظر أيضا ٢٨ / ١٩٧ وفي الإعراب الكشاف ٤ / ١٤.

(٧) البحر المرجع السابق.

(٨) في الرازي بوعيد وفي النسختين : موعد وقد حققت الكلمة كما في الرازي.

(٩) عبارة الرازي : ووصف المصدر بما يوصف به الفاعل بالمصدر ففيه إفادة مبالغة ، انظر : الرازي المرجع السابق ٢٨ / ١٩٦ و ١٩٧.

٦٠