اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

قال القرطبي (١) : «وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال».

وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور وسواء كان التناجي في مندوب ، أو مباح ، أو واجب فإن الحزن يقع به.

وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك في أول الإسلام ؛ لأن ذلك كان حال المنافقين ، فيتناجى المنافقون دون المؤمنين ، فلما فشا الإسلام سقط ذلك.

وقال بعضهم : ذلك خاصّ بالسفر ، وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه ، فأما في الحضر وبين العمارة فلا ؛ لأنه يجد من يعينه ، بخلاف السفر فإنه مظنّة الاغتيال وعدم الغوث. والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) الآية.

وجه التعلق : لما نهى المؤمنين عما يكون سببا للتباغض والتنافر ، أمرهم الآن بما يصير سببا لزيادة المحبّة والمودة.

وقال القرطبي (٢) : لما بين أنّ اليهود يحيوه بما لم يحيّه الله ، وذمّهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا يضيقوا عليه المجلس ، وأمر المسلمين بالتّعاطف والتّآلف حتى يفسح بعضهم لبعض حتى يتمكّنوا من الاستماع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنظر إليه.

فصل في نزول الآية

قال قتادة ومجاهد والضحاك رضي الله عنهم : كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض (٣).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب (٤).

وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة ، فنزلت (٥) ، فيكون كقوله تعالى : (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) [آل عمران : ١٢١].

وقال مقاتل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في «الصفة» وكان في المكان ضيق ، وكان يكرم أهل

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٩٢.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٩٢.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨) ، عن مجاهد وقتادة والضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧١) ، عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨).

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٩٢).

٥٤١

«بدر» من المهاجرين والأنصار فجاءنا أناس من أهل «بدر» وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا قبالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يحملهم على القيام ، وشقّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن حوله من غير أهل «بدر» : «قم يا فلان» بعدد القائمين من أهل «بدر» ، فشقّ ذلك على من قام ، وعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكراهة في وجوههم (١). فقال المنافقون : والله ما عدل على هؤلاء أن قوما أخذوا مجالسهم ، وأحبوا القرب منه ، فأقامهم وأجلس من أبطأ ، فنزلت الآية يوم الجمعة.

وروي عن ابن عبّاس قال نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس ، وذلك أنه دخل المسجد ، وقد أخذ القوم مجالسهم ، وكان يريد القرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للوقر الذي كان في أذنيه ، فوسعوا له حتى قرب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ضايقه بعضهم وجرى بينهم وبينه كلام ووصف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم محبته للقرب منه ليسمع كلامه ، وإن فلانا لم يفسح له ، فنزلت هذه الآية (٢).

قوله تعالى : (تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ).

قرأ الحسن ، وداود (٣) بن أبي هند ، وعيسى ، وقتادة : «تفاسحوا» ، والباقون : «تفسّحوا» أي : توسعوا والفسحة : السّعة ، وفسح له : أي وسع له ، ومنه قولهم : «بلد فسيح» ولك في كذا فسحة ، وفسح يفسح ، مثل : «منع يمنع» أي : وسع في المجلس ، و «فسح يفسح فساحة» مثل : «كرم يكرم كرامة» أي : صار واسعا ، ومنه مكان فسيح (٤).

وقرأ عاصم : (فِي الْمَجالِسِ) جمعا اعتبارا بأن لكلّ واحد منهم مجلسا.

والباقون (٥) : بالإفراد إذ المراد مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أحسن من كونه واحدا أريد به الجمع ، وقرىء (٦) : «في المجلس» ـ بفتح اللام ـ وهو المصدر ، أي : تفسحوا في جلوسكم ، ولا تتضايقوا.

فصل في أن الآية عامة في كل مجلس خير

قال القرطبي (٧) : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» ٢٩ / ٢٣٤) ، عن ابن عباس.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٧٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٣٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٩.

(٤) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٩٣.

(٥) ينظر : السبعة ٦٢٩ ، والحجة ٦ / ٢٨٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥٥ ، وحجة القراءات ٧٠٤ ، والعنوان ١٨٧ ، وشرح الطيبة ٦ / ٤٦ ، وشرح شعلة ٦٠٠ ، وإتحاف ٢ / ٥٢٧.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٣٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٩.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٩٣.

٥٤٢

للخير ، والأجر ، سواء كان مجلس حرب أو ذكر ، أو مجلس يوم الجمعة ، وإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سبق إلى ما سبق إليه فهو أحقّ به ولكن يوسّع لأخيه ما لم يتأذّى بذلك فيخرجه الضّيق من موضعه» (١).

روى البخاري ومسلم عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقيم الرّجل الرّجل من مجلسه ثمّ يجلس فيه» (٢).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ، ويجلس فيه آخر ، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا (٣).

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكره أن يقيم الرجل من مجلسه ، ثم يجلس مكانه.

وروى أبو هريرة عن جابر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ثمّ يخالف إلى مقعده ، فيقعد فيه ، ولكن يقول : أفسحوا» (٤).

فصل

إذا قام من مكانه ، فقعد فيه غيره نظرنا ، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام ، لم يكره له ذلك ، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك ؛ لأن فيه تفويت حظه(٥).

فصل

إذا أمر رجل إنسانا أن يبكر إلى الجامع ، فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع ؛ لأن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة ، فيجلس فيه ، فإذا جاء قام له منه ، وعلى هذا من أرسل بساطا أو سجّادة ، فيبسط له في موضع من المسجد أنه لا يزعج منه.

وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قام أحدكم» ـ وفي حديث

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٣٠٧١) ، والبيهقي (١٠ / ١٣٩) ، والطبراني في «الكبير» ، (١ / ٢٥٠).

(٢) أخرجه البخاري ١١ / ٦٢ ، في كتاب الاستئذان ، باب : لا يقيم الرجل من مجلسه (٦٢٦٩) ، ومسلم ٤ / ١٧١٤ ، في السلام ، باب : تحريم إقامة الإنسان من موضعه (٢٧ / ٢١٧٧).

(٣) انظر الحديث السابق.

(٤) أخرجه مسلم (٤ / ١٧١٥) ، كتاب السلام ، باب : تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه حديث (٣٠ / ٢١٧٨).

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن (١٧ / ١٩٣).

٥٤٣

أبي عوانة : «من قام من مجلسه ـ ثمّ رجع إليه فهو أحقّ به» (١) ذكره القرطبي في «تفسيره»(٢).

قوله : (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ).

قال ابن الخطيب (٣) : هذا مطلق فيما يطلب النّاس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة ، قال : ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسّح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه.

قوله : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا).

قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر (٤) بخلاف عنه بضم شين «انشزوا» في الحرفين ، والباقون : بكسرهما ، وهما لغتان بمعنى واحد ، يقال : نشز أي : ارتفع ، ينشز وينشز ك «عرش يعرش ويعرش ؛ وعكف يعكف ويعكف» وتقدم الكلام على هذا في «المائدة».

فصل في معنى انشزوا

قال ابن عباس : معناه إذا قيل لكم : ارتفعوا فارتفعوا (٥).

قال مجاهد والضحاك : إذا نودي للصّلاة فقوموا إليها ، وذلك أن رجالا تثاقلوا (٦) عن الصلاة (٧) ، فنزلت.

وقال الحسن ومجاهد أيضا : أي : انهضوا إلى الحرب (٨).

وقال ابن زيد والزّجّاج (٩) : هذا في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الله تعالى : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فانشزوا» أي ارتفعوا عنه فإن له حوائج فلا تمكثوا (١٠).

__________________

(١) أخرجه مسلم ٤ / ١٧١٥ في كتاب السلام ، باب : تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه (٣١ / ٢١٧٩) ، وابن ماجه (٣٧١٧) ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٨٣ ، والدارمي في السنن ٢ / ٢٨٢ ، وعبد الرزاق في المصنف (١٧٩٢) ، والبخاري في الأدب المفرد (١١٣٨).

(٢) ينظر الجامع لأحكام القرآن (١٧ / ١٩٣).

(٣) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٣٤.

(٤) ينظر : السبعة ٦٢٩ ، والحجة ٦ / ٢٨١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥٦ ، وحجة القراءات ٧٠٥ ، والعنوان ١٨٧ ، وشرح الطيبة ٦ / ٤٦ ، وشرح شعلة ٦٠٠ ، وإتحاف ٢ / ٥٢٧.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٩ / ٢٣٥) ، عن ابن عباس.

(٦) في أ : تغافلوا.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٩) ، عن الضحاك.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٩) ، عن مجاهد والحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧١) ، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد.

(٩) ينظر معاني القرآن للزجاج ٥ / ١٣٩.

(١٠) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٩).

٥٤٤

وقال قتادة : معناه : أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بالمعروف (١).

قال القرطبي (٢) : «وهذا هو الصحيح لأنه يعم ، والنّشز : الارتفاع ، مأخوذ من نشز الأرض ، وهو ارتفاعها».

قوله : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بطاعاتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيامهم في مجالسهم ، وتوسّعهم لإخوانهم.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يجوز أن يكون معطوفا على (الَّذِينَ آمَنُوا) ، فهو من عطف الخاص على العام ؛ لأن الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين منهم ، ويجوز أن يكون (الَّذِينَ أُوتُوا) من عطف الصفات ، أي : تكون الصفتان لذات واحدة ، كأنه قيل : يرفع الله المؤمنين العلماء ، و «درجات» مفعول ثان. وقد تقدم الكلام على نحو ذلك في «الأنعام»(٣).

وقال ابن عباس رضي الله عنه : تم الكلام عند قوله تعالى : «منكم» ، وينصب (الَّذِينَ أُوتُوا) بفعل مضمر ، أي : ويخصّ الذين أوتوا العلم بدرجات ، أو يرفعهم درجات.

فصل في تحرير معنى الآية

قال المفسرون (٤) في هذه الآية : إن الله ـ تعالى ـ رفع المؤمن على من ليس بمؤمن ، والعالم على من ليس بعالم.

قال ابن مسعود رضي الله عنه : مدح الله العلماء في هذه الآية (٥) والمعنى : أن الله ـ تعالى ـ يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به.

وقيل : كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف ، فيسبقون إلى مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالخطاب لهم.

ورأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا من الأغنياء يقبض ثوبه نفورا من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه ، فقال : «يا فلان أخشيت أن يتعدّى غناك إليه أو فقره إليك» (٦).

وبيّن في هذه الآية أن الرّفعة عند الله ـ تعالى ـ بالعلم والإيمان لا بالسّبق إلى صدور المجالس.

وقيل : أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن.

وروى يحيى بن يحيى عن مالك ـ رضي الله عنه ـ (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ)

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٩٤).

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٩٤.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٩.

(٤) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٩٤.

(٥) ينظر المصدر السابق وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧١) ، عن ابن مسعود بمعناه وعزاه إلى ابن المنذر.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٩٤).

٥٤٥

الصحابة ، (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) يرفع الله ـ تعالى ـ بها العالم والطالب.

قال القرطبي (١) : ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة فكلموه في ذلك ، فدعاهم ودعاه ، وسألهم عن تفسير : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : ١] فسكتوا فقال ابن عباس : هو أجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه الله إيّاه ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم (٢).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بين العالم والعابد مائة درجة ، بين كلّ درجتين حضر الجواد المضمّر سبعين سنة» (٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» (٤).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء» (٥).

فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن ابن عباس رضي الله عنه : «خيّر سليمان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطي المال والملك معه» (٦).

__________________

(١) ينظر القرطبي (١٧ / ١٩٤).

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٦٠٦) ، كتاب التفسير ، باب : قوله : «وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً» حديث (٤٩٦٩).

(٣) ذكره الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» (٤ / ٤٩٢) ، وقال : أخرجه أبو يعلى وابن عدي من رواية عبد الله بن محرر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وعبد الله بن محرر ساقط الحديث وذكر ابن عبد البر في «العلم» أن ابن عون رواه عن ابن سيرين عن أبي هريرة وفي الباب عن عمرو بن العاص في «الترغيب» للأصبهاني.

(٤) أخرجه : أحمد في المسند ٥ / ١٩٦ ، والدارمي في السنن ١ / ٩٨ ، المقدمة ، باب : في فضل العلم والعالم. وأبو داود في السنن ٤ / ٥٧ ـ ٥٨ ، كتاب العلم ، باب : الحث على طلب العلم ، الحديث (٣٦٤١) ، والترمذي في السنن ٥ / ٤٨ ـ ٤٩ ، كتاب العلم ، باب : ما جاء في فضل الفقه على العبادة ، الحديث (٢٦٨٢). وابن ماجه في السنن ١ / ٨١ ، المقدمة ، باب : فضل العلماء والحث على طلب العلم ، الحديث (٢٢٣). وصححه ابن حبان ، أورده الهيثمي في موارد الظمآن ، كتاب العلم ، باب : طلب العلم والرحلة فيه ، الحديث (٨٠).

(٥) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٤٤٣) ، كتاب الزهد ، باب : ذكر الشفاعة حديث (٤٣١٣) ، وابن عدي في «الكامل» (٥ / ٢٦٢) ، والعقيلي في «الضعفاء» (٣ / ٣٦٧) ، من حديث عثمان.

قال البوصيري في «الزوائد» (٣ / ٣٢١) : هذا إسناد ضعيف لضعف علاق بن أبي مسلم.

ورواه أبو يعلى في «مسنده الكبير» بإسناد ابن ماجه ومتنه سواء.

وذكره الحافظ في «تخريج الكشاف» (٤ / ٤٩٣) ، وقال : وفيه عنبة بن عبد الرحمن القرشي وهو متروك.

(٦) ذكره الحافظ في «تخريج الكشاف» (٤ / ٤٩٣) ، وقال : ذكره صاحب الفردوس هكذا وذكره قبله ابن عبد البر في «العلم» بلا إسناد.

٥٤٦

ومر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمجلسين في مسجده ، أحد المجلسين يدعون الله عزوجل ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا المجلسين على خير ، وأحدهما أفضل من صاحبه ، أمّا هؤلاء فيدعون الله ـ عزوجل ـ ويرغبون إليه ، وأمّا هؤلاء فيتعلّمون الفقه ويعلمّون الجاهل ، فهؤلاء أفضل ، وإنّما بعثت معلّما» ثم جلس فيهم (١).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) الآية.

قال ابن عباس في سبب النزول (٢) : إن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شقوا عليه فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية فكفّ كثير من الناس.

وقال الحسن : إن قوما من المسلمين كانوا يستخلون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناجونه ، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النّجوى ، فشق ذلك عليهم ، فأمرهم الله ـ تعالى ـ بالصّدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه (٣).

وقال زيد بن أسلم : إن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : إنه أذن يسمع كلّ ما قيل له ، وكان لا يمنع أحدا مناجاته ، فكان ذلك يشقّ على المسلمين ؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) الآية ، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى ؛ لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة ، وشقّ ذلك على أهل الإيمان ، وامتنعوا عن النجوى لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة ، فخفف الله ـ تعالى ـ عنهم بما بعد الآية (٤).

قال ابن العربي (٥) : وهذا الخبر يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح (٦) ، فإن الله ـ تعالى ـ قال : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ثم نسخه مع أنه كونه خيرا وأطهر ، وهذا يرد على المعتزلة في التزام المصالح.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه ١ / ٨٣ ، المقدمة باب : فضل العلماء (٢٢٩) ، وقال صاحب الزوائد : إسناده ضعيف ، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده ١ / ٣٦ ، والدارمي ١ / ٩٩.

(٢) ينظر الجامع لأحكام القرآن (١٧ / ١٩٥).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢١) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧٢) ، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٩٥) ، عن زيد بن أسلم.

(٥) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٧٦٢.

(٦) لا نزاع في بناء الأحكام على المصالح التي قام الدليل الشرعي على رعايتها ، ومثال هذا حفظ العقل الذي دل على رعايته تحريم الخمر وإقامة الحد على شاربها ، فإذا عرض للمجتهد مطعوم لا يسمى خمرا ولكنه يفعل بالعقل ما تفعله الخمر لم يتردد في تحريمه أخذا بالدليل القائم على اعتداد الشارع بمصلحة حفظ العقل وبنائه بعض الأحكام على رعايتها ، وهذا هو أصل القياس في الشريعة ، فإنه ـ

٥٤٧

فصل فيمن اعتبر الصدقة واجبة أو مندوبة (١)

ظاهر الآية يدلّ على أن تقديم الصّدقة كان واجبا ؛ لأن الأمر للوجوب ، ويؤكد ذلك بعده قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه.

وقيل : كان مندوبا بقوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الواجب ، ولأنه لو كان واجبا لما أزيل وجوبه لكلام متصل به وهو قوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا) [إلى آخر الآية](٢).

__________________

ـ مبني على التفقه في بعض الأحكام المنصوصة ومعرفة قصد الشارع فيها إلى مصلحة بعينها ، حتى إذا وجدت هذه المصلحة في واقعة أخرى أخذت حكم الواقعة المصرح بها.

ولا نزاع في عدم الاعتداد بالمصالح التي قام الدليل الشرعي على إلغائها ، والشارع الحكيم لا يلغي مصلحة إلا إذا عارضتها مصلحة أرجح منها ؛ أو استتبعت مفسدة لا يستخف بأمرها ، ومثال هذا الاستسلام للعدو : قد يبدو أن فيه مصلحة حفظ النفوس من القتل ، ولكن الشارع رأى أن هذه المصلحة مغمورة بالمفاسد من كل جانب ، فلم يعتد بها وأذن في دفاع العدو نظرا إلى مصلحة أرجح منها ، وهي احتفاظ الأمة بالعزة والكرامة والتمكن من المسابقة في مضمار الحياة.

ومن هذا الباب تعدد الزوجات : يتبعه من الضرر أن تتألم المرأة من أن تشاركها في صلة الزوجية امرأة أخرى ، ففي ترك التعدد مصلحة هي قطع وسيلة استياء الزوجة ، ولكن الشارع ألغى هذه المصلحة مكتفيا بما اشترطه من العدل بين الزوجات ، وأباح التعدد نظرا إلى ما قد يترتب عليه من المصالح ، كتكثير النسل ، ومساعدة الرجل على تجنب الحرام الذي قد يقع فيه صاحب الزوجة الواحدة إذا عرض مانع من التمتع بها مثل المرض والنفاس.

ويبقى النظر في المصالح التي لم يقم دليل معين على رعايتها أو على إلغائها ، وهذه هي التي تسمى المصالح المرسلة ، وقد اعتد بهذه المصالح كثير من الفقهاء ، وبنوا بعض الفتاوى على رعايتها ، والجاري على بعض الألسنة والأقلام أنها أصل من أصول المذهب المالكي ، والواقع أن لها يدا في سائر المذاهب المعول عليها ، وللمالكية القسط الأوفر في استثمارها ، قال ابن دقيق العيد : الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع ، ويليه أحمد بن حنبل ، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة ، ولكن لهذين ترجيح في استعماله. وقال البغدادي في «جنة الناظر» : لا تظهر مخالفة الشافعي لمالك في المصالح ، فإن مالكا يقول : إن المجتهد إذا استقرأ موارد الشرع ومصادره ، أفضى نظره إلى العلم برعاية المصالح في جزئياته وكلياته ، وأن لا مصلحة إلا وهي معتبرة في جنسها ، لكنه استثنى من هذه القاعدة كل مصلحة صادمها أصل من أصول الشريعة ، وما حكاه أصحاب الشافعي عن الشافعي لا يعدو هذه المقالة.

ولهذه القاعدة أمثلة مسوقة في كتب الأصول من فتاوى السلف وأقضيتهم.

ينظر : البحر المحيط للزركشي ٦ / ٧٦ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٤ / ١٣٩ ، نهاية السول للإسنوي ٤ / ٣٨٥ ، منهاج العقول للبدخشي ٣ / ١٨٤ ، التحصيل من المحصول للأرموي ٢ / ٣٣١ ، المنخول للغزالي ٣٥٣ ، الإبهاج لابن السبكي ٣ / ١٨٨ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ٢ / ٢٨٩ ، إرشاد الفحول للشوكاني ٢٤١.

وينظر المختصر لابن اللحام (١٦٢) ، وتقريب الوصول (١٤٨).

(١) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ٢٣٦.

(٢) سقط من أ.

٥٤٨

وأجيب عن الأول : أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر ، فكذلك أيضا يوصف به الواجب.

وعن الثاني : أنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متّصلتين في النزول كما قيل في الآية الدّالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشرا أنها ناسخة للاعتداد بحول ، وإن كان الناسخ متقدما في التلاوة على المنسوخ. انتهى.

فصل

اختلفوا في مقدار تأخّر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية (١) ، فقال الكلبي رحمه‌الله : ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ (٢).

وقال مقاتل بن حيان : بقي ذلك التكليف عشرة أيام ، ثم نسخ لما روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا عمل بها أحد بعدي كان لي دينار ، فاشتريت به عشرة دراهم ، وكلما ناجيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ، ثم نسخت فلم يعمل بها (٣).

وروي عن ابن جريج ، والكلبي ، وعطاء عن ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ أنّهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا ، فلم يناج أحد إلّا عليّ تصدق بدينار ، ثم نزلت الرخصة (٤).

وقال ابن عمر : لقد كانت لعلي ـ رضي الله عنه ـ ثلاثة ، لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة ـ رضي الله عنها ـ وإعطاؤه الرّاية يوم «خيبر» ، وآية النجوى (٥).

(ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) من إمساكها ، «وأطهر» لقلوبكم من المعاصي (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) يعني : الفقراء (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

روى الترمذي عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٢٩ / ٢٣٦.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٩٥) ، عن زيد بن أسلم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٠) ، والحاكم (٢ / ٤٨٢) ، عن علي بن أبي طالب.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وو افقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧٢) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن راهويه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

وذكره الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٣ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤) ، وعزاه إلى إسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة في مسنديهما.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٠) ، عن مجاهد. وقد تقدم عن ابن عباس.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٦).

٥٤٩

آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ترى دينارا؟» قلت : لا يطيقونه ، قال : «نصف دينار» ، قلت : لا يطيقونه ، قال : «فكم»؟ قلت : شعيرة ، قال : «إنّك لزهيد» فنزلت (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا) الآية(١).

ومعنى قوله : «شعيرة» من ذهب ، ومعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّك لزهيد» أي : لقليل المال فقدّرت على حسب حالك.

قال ابن العربي (٢) : «وهذا يدلّ على نسخ العبادة قبل فعلها ، وعلى النّظر في المقدّرات بالقياس».

قال القرطبي (٣) : «والظّاهر أنّ النسخ إنما وقع بعد فعل الصّدقة كما تقدم».

فصل فيمن استدل بالآية على عدم وقوع النسخ (٤)

أنكر أبو مسلم وقوع النسخ ، وقال : إنّ المنافقين كانوا يمتنعون عن بذل الصدقات ، وإن قوما من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيّا ، فأراد الله أن يميزهم عن المنافقين ، فأمر بتقديم الصّدقة على النّجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا على من بقي على نفاقه الأصلي ، فلما كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت ، لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت.

قال ابن الخطيب (٥) : وحاصل قول أبي مسلم : أن ذلك التكليف مقدر بغاية مخصوصة ، ووجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى تلك الغاية المخصوصة ، ولا يكون هذا نسخا ، وهذا كلام حسن ، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله : (أَأَشْفَقْتُمْ).

وقيل : منسوخ بوجوب الزكاة.

قوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ).

هذا استفهام معناه التقرير (٦).

قال ابن عباس رضي الله عنهما : (أَأَشْفَقْتُمْ) أي : أبخلتم بالصدقة (٧).

وقيل : خفتم.

و «الاشفاق» : الخوف من المكروه ، أي : خفتم بالصدقة ، وشقّ عليكم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٧٩) ، رقم (٣٣٠٠) ، عن علي.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

(٢) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٧٦١.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٩٦.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٣٧.

(٥) ينظر السابق.

(٦) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٩٦.

(٧) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣١١) ، والقرطبي (١٧ / ١٩٦).

٥٥٠

قوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا). في «إذ» هذه ثلاثة أقوال (١) :

أحدها : أنها على بابها من المعنى : أنكم تركتم ذلك فيما مضى ، فتداركوه بإقامة الصّلاة. قاله أبو البقاء (٢).

الثاني : أنها بمعنى «إذا» كقوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) [غافر : ٧١] وتقدم الكلام فيه (٣).

الثالث : أنها بمعنى «إن» الشرطية ، وهو قريب مما قبله ؛ إلا أن الفرق بين «إن» ، و «إذا» معروف.

فصل في معنى الآية

المعنى : فإن لم تفعلوا ما أمرتم به ، (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي : ونسخ الله ذلك الحكم ، ورخص بكم في ألّا تفرطوا في الصّلاة والزكاة ، وسائر الطاعات ، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل.

قال القرطبي (٤) : وما روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ ضعيف ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) وهذا يدلّ على أن أحدا لم يتصدق بشيء.

فصل في أنّ الآية لا تدل على تقصير المؤمنين

فإن قيل : ظاهر الآية يدل على تقصير المؤمنين في ذلك التكليف ، وبيانه من وجوه :

الأول : قوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا) يدل على تقصيرهم.

الثاني : قوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا).

الثالث : قوله عزوجل : (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ).

فالجواب : قال ابن الخطيب (٥) : ليس الأمر كما قلتم ؛ لأن القوم لم يكلفوا بأن يقدموا على الصّدقة ، ويشتغلوا بالمناجاة ، بل أمروا أنهم لو أرادوا المناجاة ، فلا بد من تقديم الصّدقة فمن ترك المناجاة ، فلا يمكن أن يكون مقصرا ، فأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة ، فهذا أيضا غير جائز ؛ لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المناجاة فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة ، فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٩.

(٢) ينظر التبيان ص ١٢١٣.

(٣) تفسير سورة غافر. آية (٧١).

(٤) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٩٦.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٣٧.

٥٥١

فأما قوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ) فلا يمنع من أنه ـ تعالى ـ علم ضيق صدور كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب. فقال هذا القول.

وأما قوله عزوجل : (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) فليس في الآية أنه تاب عليهم من هذا التقصير ، بل يحتمل أنكم إن كنتم تائبين راجعين إلى الله تعالى ، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ، فقد [كفاكم](١) هذا التّكليف.

قوله تعالى (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

روي عن أبي (٢) عمرو : «خبير بما يعملون» بالياء من تحت ، والمشهور عنه كالجماعة بتاء الخطاب.

والمعنى : يحيط بأعمالكم ونيّاتكم.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ).

قال قتادة : هم المنافقون تولّوا اليهود (٣).

وقال السدي ومقاتل : هم اليهود. (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ)(٤) يعني : المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاء ، ولا من اليهود والكافرين ، كما قال جل ذكره : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) [النساء : ١٤٣].

(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

قال السدي ومقاتل رضي الله عنهما : نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتل المنافقين ، كان أحدهما يجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجره من حجره ، إذ قال : «يدخل الآن عليكم رجل قلبه قلب جبّار ، وينظر بعيني شيطان» ، فدخل عبد الله بن نبتل ، وكان أزرق ، أسمر قصيرا ، خفيف اللحية ، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «علام تشتمني أنت وأصحابك»؟ فحلف بالله ما فعل ، وجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما شتموه ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية فقال عزوجل : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كذبة (٥).

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٣٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٩.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٣) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧٣) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٩٧).

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧٣) ، عن السدي مختصرا وعزاه إلى ابن أبي حاتم. وذكره بتمامه البغوي (٤ / ٣١١) ، والقرطبي (١٧ / ١٩٧) ، والرازي ٢٩ / ٢٣٨).

٥٥٢

قال ابن الخطيب (١) رحمه‌الله : والمراد من هذا الكذب ، إما ادّعاؤهم كونهم مسلمين ، وإما أنهم كانوا يسبّون الله ـ تعالى ـ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكيدون المسلمين ، وإذا قيل : إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل ، فيحلفون أنهم ما قالوا ذلك وما فعلوه ، فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه ، وهذه الآية تدلّ على فساد قول الجاحظ : إن الكذب هو الخبر المخالف لاعتقاد المخبر.

قوله : (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) يجوز في هذه الجملة ثلاثة أوجه (٢) :

أحدها : أنها مستأنفة ، لا موضع لها من الإعراب ، أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخلّص ، بل كقوله تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) [النساء : ١٤٣] فالضمير في «ما هم» عائد على (الَّذِينَ تَوَلَّوْا) ، وهم المنافقون ، وفي «منهم» عائد على اليهود ، وهم الكافرون الخلص.

والثاني : أنها حال من فاعل «تولوا» والمعنى على ما تقدم أيضا.

والثالث : أنها صفة ثانية ل «قوما» فعلى هذا يكون الضمير في «ما هم» عائدا على «قوما» وهم اليهود ، والضمير في «منهم» عائد على (الَّذِينَ تَوَلَّوْا) يعني اليهود ليسوا منكم أيها المؤمنون ، ولا من المنافقين ، ومع ذلك تولّاهم المنافقون. قاله ابن عطية (٣).

إلا أن فيه تنافر الضمائر ، فالضمير في (وَيَحْلِفُونَ) عائد على (الَّذِينَ تَوَلَّوْا) فعلى الوجهين الأولين تتحد الضمائر لعودها على (الَّذِينَ تَوَلَّوْا) وعلى الثالث : تختلف كما عرفت.

وقوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة حالية ، أي : يعلمون أنه كذب ، فيمينهم يمين غموس ولا عذر لهم فيها (٤).

قوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أي : لهؤلاء المنافقين عذابا شديدا في جهنم ، وهو الدّرك الأسفل من النّار.

وقيل : عذاب القبر.

قال ابن الخطيب (٥) : لأنا إذا حملنا هذا على عذاب القبر ، وحملنا قوله جل ذكره : (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) على عذاب الآخرة لا يلزم منه تكرار. (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : بئست الأعمال أعمالهم.

قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ

__________________

(١) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ٢٣٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٩.

(٣) المحرر الوجيز ٥ / ٢٨٠.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٠.

(٥) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٣٩.

٥٥٣

عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢)

قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً).

قرأ العامة : «أيمانهم» ـ بفتح الهمزة ـ جمع «يمين».

والحسن (١) وأبو العالية ـ بكسرها ـ مصدرا هنا ، وفي «المنافقين» ، أي : إقرارهم اتخذوه جنّة يستجنّون بها من القتل.

قال ابن جني (٢) : «هذا على حذف مضاف ، أي : اتخذوا إظهار أيمانهم جنّة من ظهور نفاقهم».

وقوله تعالى : (أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) مفعولان ل «اتّخذوا» (٣).

قوله : (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.

وقيل : المراد من الكل عذاب الآخرة ، كقوله عزوجل : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) [النحل : ٨٨]. الصّد عن سبيل الله : المنع عن الإسلام.

وقيل : إلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد.

قوله تعالى : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) تقدم الكلام عليه في آل عمران (٤).

قال مقاتل رحمه‌الله : قال المنافقون : إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٨١ ، والفخر الرازي ٢٩ / ٢٣٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٣٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٩٠.

(٢) ينظر : المحتسب ٢ / ٣١٣.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٠.

(٤) آية رقم (١٠).

٥٥٤

شقينا إذا ، فو الله لننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة ، فنزلت الآية (١).

قوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي : لهم عذاب مهين يوم يبعثهم الله ، فيحلفون له كما يحلفون لكم اليوم.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : يحلفون لله ـ تعالى ـ يوم القيامة كذبا كما حلفوا لأوليائه في الدنيا ، وهو قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)(٢) [الأنعام : ٢٣] ويحسبون أنهم على شيء ، بإنكارهم وحلفهم.

قال ابن زيد : ظنوا أنه ينفعهم في الآخرة (٣).

وقيل : يحسبون في الدنيا أنهم على شيء ؛ لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار ، والأول أظهر.

والمعنى (٤) : أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنّوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨].

قال القاضي والجبّائي (٥) : إن أهل الآخرة لا يكذبون ، فالمراد من الآية أنهم يحلفون في الآخرة : إنا ما كنا كافرين عند أنفسنا ، وعلى هذا الوجه لا يكون الحلف كذبا ، وقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي : في الدنيا.

قال ابن الخطيب : «وتفسير هذه الآية على هذا الوجه يقتضي ركاكة عظيمة في النّظم».

روى ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينادي مناد يوم القيامة: أين خصماء الله تعالى؟ فتقوم القدريّة مسودّة وجوههم ، مزرقّة أعينهم ، مائل شدقهم يسيل لعابهم ، فيقولون : والله ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ، ولا اتّخذنا من دونك إلها» (٦).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : صدقوا ولله ، أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ، ثم تلا : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) ، هم والله القدرية ثلاثا (٧).

قوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ). جاء به على الأصل ، وهو فصيح استعمالا ، وإن شذ قياسا(٨).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٩٧.

(٢) ذكره القرطبي (١٧ / ١٩٨).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٣٩.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر القرطبي (١٧ / ١٩٨).

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٠.

٥٥٥

وقد أخرجه عمر ـ رضي الله عنه ـ على القياس ، فقرأ (١) : «استحاذ» ك «استبان».

وتقدم هذه المادة في «النساء» في قوله تعالى : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) [النساء : ١٤١].

قال الزجاج (٢) : «استحوذ» في اللغة استولى ، يقال : حذت الإبل ، إذا استوليت عليها وجمعتها.

وقال المبرد : «استحوذ على الشيء : حواه وأحاط به».

قيل (٣) : المعنى غلب عليهم الشيطان بوسوسته في الدنيا.

وقيل : قوي عليهم فأنساهم ذكر الله ، أي : أوامره في العمل بطاعته.

وقيل : زواجره في النهي عن معصيته ، والنّسيان قد يكون بمعنى الغفلة ، ويكون بمعنى الترك ، والوجهان محتملان ها هنا ، (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) : طائفته ورهطه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) في بيعهم ؛ لأنهم باعوا الجنة بجهنم ، وباعوا الهدى بالضلالة.

فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأعمال

احتجّ القاضي (٤) بهذه الآية في خلق الأعمال من وجهين :

الأول : أن ذلك النسيان لو حصل بخلق الله ـ تعالى ـ لكان إضافتها إلى الشيطان كذبا.

الثاني : لو حصل ذلك بخلق الله لكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) تقدم أول السورة.

(أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ). أي : من جملة الأذلاء لا أذلّ منهم ؛ لأن ذل أحد الخصمين يدلّ على عز الخصم الثاني ، فلما كانت عزة الله ـ تعالى ـ غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية أيضا (٥).

قوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).

يجوز أن يكون «كتب» جرى مجرى القسم ، فأجيب بما يجاب به (٦).

وقال أبو البقاء (٧) : وقيل : هي جواب «كتب» ؛ لأنه بمعنى «قال».

وهذا ليس بشيء ؛ لأن «قال» لا يقتضي جوابا ، فصوابه ما تقدم.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٨١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٣٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٩٠.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٥ / ١٤٠.

(٣) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٩٨.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٣٩.

(٥) السابق.

(٦) الدر المصون ٦ / ٢٩٠.

(٧) ينظر التبيان ص ١٢١٣.

٥٥٦

ويجوز أن يكون «لأغلبن» جواب قسم مقدر ، وليس بظاهر.

فصل في تفسير الآية

قال المفسرون (١) : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ) أي : قضى الله ذلك.

وقيل : كتب في اللوح المحفوظ قاله قتادة (٢).

وقال الفراء : «كتب» بمعنى «قال».

وقوله : «أنا» توكيد ، «ورسلي» من بعث منهم بالحرب ، فإن الرسول بالحرب غالب ، ومن بعث منهم بالحجّة غالب أيضا ، فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى.

قال مقاتل : قال المؤمنون : لئن فتح الله لنا «مكة» و «الطائف» و «خيبر» وما حولهن رجونا أن يظهرنا الله ـ تعالى ـ على «فارس» و «الروم» ، فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول : أتظنون «الروم» و «فارس» كبعض القرى التي غلبتم عليها ، والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك ، فنزلت : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)(٣).

ونظيره : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣].

قوله : (وَرُسُلِي).

قرأ نافع وابن عامر (٤) بفتح «الياء».

والباقون : لا يحركون.

قال أبو علي (٥) : «التّحريك والإسكان جميعا حسنان».

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) قوي على نصرة أنبيائه «عزيز» غالب لا يدفعه أحد عن مراده (٦).

قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ).

«يوادّون» هو المفعول الثاني ل «تجد» ، ويجوز أن تكون المتعدية لواحد بمعنى

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٩٨.

(٢) أخرجه الطبري بمعناه (١٢ / ٢٥) ، ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧٤) ، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٩٨).

(٤) ينظر : السبعة ٦٢٩ ، والحجة ٦ / ٢٨٢ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥٦ ، والعنوان ١٨٧ ، وشرح الطيبة ٦ / ٤٦ ، وشرح شعلة ٦٠٠ ، وإتحاف ٢ / ٥٢٧.

(٥) الحجة للقراء السبعة ٦ / ٢٨٢.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٤٠.

٥٥٧

«صادق ولقي» ، فيكون «يوادّون» حالا ، أو صفة ل «قوما» (١).

ومعنى «يوادّون» أي : يحبون ويوالون (مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ). وقد تقدم الكلام على المحادّة.

والمعنى : أنه لا يجتمع الإيمان مع ودادة أعداء الله.

فصل في المراد بهذه الموادّة

فإن قيل (٢) : أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالطتهم ومعاملتهم ومعاشرتهم فما هذه الموادة المحرمة؟.

فالجواب أن الموادّة المحرمة هي إرادة منافعه دينا ودنيا مع كونه كافرا ، فأما سوى ذلك فلا حظر فيه.

قوله تعالى : (وَلَوْ كانُوا) هذه «واو» الحال.

وقدّم أولا الآباء ؛ لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم ، ثم ثنّى بالأبناء ؛ لأنهم أعلق بالقلوب وهم حياتها (٣) ، قال الحماسي في معنى ذلك ، رحمة الله عليه رحمة واسعة : [السريع]

٤٧٣٣ ـ وإنّما أولادنا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض (٤)

ثم ثلّث بالإخوان ؛ لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضد من الذّراع.

قال رحمه‌الله : [الطويل]

٤٧٣٤ ـ أخاك أخاك إنّ من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

وإنّ ابن عمّ المرء ـ فاعلم ـ جناحه

وهل ينهض البازي بغير جناح (٥)

ثم ربع بالعشيرة ؛ لأن بها يستعان وعليها يعتمد.

قال بعضهم ، رحمة الله عليه : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٠.

(٢) ينظر : الرازي ٢٩ / ٢٤٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩١.

(٤) قائله حطان بن المعلى ينظر ديوان الحماسة ١ / ١٠٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٩١.

(٥) قائل البيتين هو مسكين الدارمي ، ونسب إلى قيس بن عاصم وكذلك لابن هرمة ينظر ديوان مسكين ص ٢٩ ، والكتاب ١ / ١٢٩ ، والخزانة ٦٥١٣ ، ٦٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٢٧ ، وشرح التصريح ٢ / ١٩٥ ، والدر ٣ / ١١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٠٥ ، وأرضح المسالك ٤ / ٧٩ ، وتخليص الشواهد ص ٦٢ ، والخصائص ٢ / ٤٨٠ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٨٨ ، وشرح قطر الندى ص ١٣٤ ، وحماسة البحتري ص ٢٤٥ ، والحماسة البصرية ٢ / ٦٠ ، وفصل المقال ص ٢٦٩ والجمل في النحو للخليل بن أحمد ص ٥٦ ، والعقد الفريد ٢ / ٣٠٤.

٥٥٨

٤٧٣٤ ـ لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النّائبات على ما قال برهانا (١)

وقرأ أبو رجاء : «عشيراتهم» ، بالجمع (٢) ، كما قرأها أبو بكر في «التوبة» كذلك.

فصل في مناسبة الآية

لما بالغ في المنع من هذه الموادة في الآية الأولى من حيث أن الموادة مع الإيمان لا يجتمعان ، بالغ ها هنا أيضا من وجوه ، وهي قوله تعالى : (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) والمعنى : أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة ، ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطرحا بسبب الدين (٣).

قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم «أحد» ، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم «بدر» ، وأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قال ابن جريح : حدثت أن أبا قحافة سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصكّه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ صكّة سقط منها على وجهه ثم أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ، فقال : «أو فعلته لا تعد إليه» ، فقال : والذي بعثك بالحق نبيّا لو كان السيف منّي قريبا لقتلته (٤) ، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير ، وعلي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة ـ رضي الله عنهم ـ قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يوم «بدر» أخبر أن هؤلاء لم يوادّوا أقاربهم وعشائرهم غضبا لله تعالى ودينه.

فصل في الاستدلال بالآية على معاداة القدرية

قال القرطبي (٥) : استدل مالك ـ رحمه‌الله ـ بهذه الآية على معاداة القدرية ، وترك مجالستهم.

قال أشهب عن مالك : لا تجالسوا القدرية ، وعادوهم في الله ، لقول الله عزوجل : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ).

قال القرطبي (٦) : وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظّلم والعدوان.

وعن الثوري ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان.

__________________

(١) قائله قريط بن أنيف. ينظر ديوان الحماسة ١ / ١٣ ، والبحر ٨ / ٢٣٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٩١.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٣٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٩١.

(٣) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٤٠.

(٤) ذكره الحافظ في «تخريج الكشاف» (٤ / ٤٩٧) ، وعزاه إلى الثعلبي في «تفسيره» وذكره السيوطي في «الدر» (٦ / ٢٧٤) ، وعزاه إلى ابن المنذر عن ابن جريج.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن (١٧ / ١٩٩).

(٦) ينظر السابق.

٥٥٩

وعن عبد العزيز بن أبي رواد : أنه لقي المنصور في الطّواف فلما عرفه هرب منه ، وتلا هذه الآية.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول : اللهمّ لا تجعل لفاجر عندي نعمة ، فإنّي وجدت فيما أوحيت إليّ : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية (١).

قوله : (أُولئِكَ كَتَبَ).

قرأ العامّة : «كتب» مبنيّا للفاعل ، وهو الله ـ سبحانه وتعالى ـ «الإيمان» نصبا ، وأبو حيوة (٢) في رواية المفضل : «كتب» مبنيّا للمفعول «الإيمان» رفع به.

والضمير في «منه» لله تعالى.

وقيل : يعود على «الإيمان» ؛ لأنه روح يحيا به المؤمنون في الدارين. قاله السدي ، أي : أيديهم بروح من الإيمان (٣) ، يدل عليه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢].

فصل في معنى كتب الإيمان (٤)

معنى «كتب الإيمان» أي : خلق في قلوبهم التصديق ، يعني من لم يوال من حاد الله.

وقيل : «كتب» : أثبت. قاله الربيع بن أنس.

وقيل : جعل كقوله تعالى : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران : ٥٣] أي : اجعلنا ، وقوله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [الأعراف : ١٥٦].

وقيل «كتب» أي : جمع ، ومنه الكتيبة ، أي : لم يكونوا ممن يقول : نؤمن ببعض ، ونكفر ببعض.

وقيل : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي : على قلوبهم الإيمان ، كقوله تعالى : (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١].

وخص القلوب بالذكر ، لأنها موضع الإيمان.

قوله : (وَأَيَّدَهُمْ) ، أي : قوّاهم ونصرهم بروح منه.

قال الحسن : بنصر منه.

قال ابن عباس : نصرهم على عدوهم ، وسمى تلك النصرة روحا ؛ لأنه به يحيا أمرهم.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧٤) ، وعزاه إلى ابن مردويه عن كثير بن عطية عن رجل.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٨٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٠٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٩١ ، والقرطبي ١٧ / ٢٠٠ ، والسبعة ٦٣٠ ، والحجة ٦ / ٢٨٢ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥٦.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣١٣).

(٤) ينظر : القرطبي (١٧ / ١٩٩ ـ ٢٠٠).

٥٦٠