اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

فما معنى أنه جعله منكرا من القول وزورا. والزّور : الكذب ، وهذا ليس بكذب؟.

فالجواب (١) : أنّ قوله إن كان خبرا فهو كذب ، وإن كان إنشاء فكذلك ؛ لأنه جعله سببا للتّحريم ، والشّرع لم يجعله سببا لذلك.

وأيضا فإنما وصف بذلك ، لأن الأم مؤبدة التحريم ، والزّوجة لا يتأبّد تحريمها بالظّهار ، وهذا ضعيف ؛ لأنّ المشبه لا يلزم أن يساوي المشبه به من كلّ وجه.

فإن قيل : قوله : (إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) يقتضي أن لا أم إلا الوالدة ، وهذا مشكل لقوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) [النساء : ٢٣].

وقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦].

والحمل على حرمة النكاح لا يفيد ؛ إذ لا يلزم من عدم كون الزّوجة أمّا عدم الحرمة ، فظاهر الآية الاستدلال بعدم الأمومة على عدم الحرمة؟.

فالجواب (٢) : أنا نقول : هذه الزّوجة ليست بأم حتى تحصل الحرمة بسبب الأمومة ، ولم يرد الشرع بجعل هذه اللفظة سببا للحرمة ، فإذن لا تحصل الحرمة هناك ألبتّة فكان وصفهم لها بالحرمة كذبا وزورا.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٦)

قوله : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ) مبتدأ.

وقوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) مبتدأ ثان وخبره مقدم ، أي : فعليهم ، أو فاعل بفعل مقدر ، أي : فيلزمهم تحرير ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي : فالواجب عليهم تحرير (٣).

فصل

ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك ، ولا يلزم عند غيره (٤) لقوله تعالى : (مِنْ نِسائِهِمْ).

__________________

(١) ينظر : السابق.

(٢) السابق.

(٣) الدر المصون ٦ / ٢٨٥.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٧٩.

٥٢١

وإذا ظاهر صح ظهاره كما يصح طلاقه. وقال مالك : لا يلزم ظهاره ؛ لأنه لا يصح تكفيره بالصّيام ، وهذا منقوض بظهار العبد ، وهو لا يكفر بالعتق والإطعام.

فصل في عدم صحة ظهار المرأة من زوجها

لا يصح ظهار المرأة من زوجها ، وعليها كفّارة يمين ، إنما الظهار على الرجال ؛ لأن الحل والعقد في النكاح بيد الرجال ليس بيد المرأة منه شيء.

وقال الحسن بن زياد : هي مظاهرة.

وقال الزهري : أرى أن تكفر كفّارة الظهار.

وقال محمد بن الحسن : لا شيء عليها.

فصل في المظاهرة حال الغضب والسكر

وإذا ظاهر حال غضبه لزمه حكم الظّهار ، للحديث ، ويصح ظهار السكران وطلاقه ، وإذا ظاهر من نسائه بكلمة واحدة فكفّارة واحدة ، وإن ظاهر منهنّ بكلمات فعليه لكل واحدة كفّارة ظهار ، وإذا قال لأربع نسوة : إن تزوجتكنّ فأنتن عليّ كظهر أمي ، فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفّر ، ثم قد سقط اليمين فيه في سائرهن.

وقيل : لا يطأ البواقي منهن حتى يكفر فإن قال لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، وأنت طالق ألبتة ، لزمه الطلاق والظّهار معا ، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج ولا يطؤها إذا نكحها حتى يكفر ، فإن قال لها : أنت طالق ألبتّة ، وأنت عليّ كظهر أمي لزمه الطّلاق ، ولم يلزمه الظّهار ؛ لأن المبتوتة لا يلحقها طلاق ولا ظهار (١) ، ويصح الظهار المؤقّت كما لو قال : أنت اليوم عليّ كظهر أمي فإنّه يصحّ ويبطل بمضيّ اليوم.

وقال مالك : يتأبّد.

قوله : «منكم» توبيخ للعرب ، وتهجين لعادتهم (٢) في الظّهار ؛ لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة ، دون سائر الأمم.

وقوله : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) أي : ما نساؤهم بأمهاتهم ، (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي إلا الوالدات.

وعلى التقادير الثلاثة ، فالجملة خبر المبتدأ ، ودخلت «الفاء» لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط.

قوله : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا). في هذه «اللام» أوجه :

أحدها : أنها متعلقة ب «يعودون».

__________________

(١) ينظر : القرطبي (١٧ / ١٧٩ ، ١٨٠).

(٢) الفخر الرازي ٢٩ / ٢٢١.

٥٢٢

وفيه معان :

أحدها : والذين من عادتهم أنهم كانوا يقولون هذا القول في الجاهلية ، ثمّ يعودون لمثله في الإسلام.

الثاني : ثم يتداركون ما قالوا ؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه ، ومنه : «عاد غيث على ما أفسد» أي تداركه بالإصلاح ، والمعنى : أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظّهار.

الثالث : أن يراد بما قالوا ما حرّموه على أنفسهم بلفظ الظّهار تنزيلا للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ)(١) ، والمعنى : ثم يريد العود للتّماسّ. قاله الزمخشري (٢).

وهذا الثالث هو معنى ما روي عن مالك ، والحسن ، والزهري : ثم يعودون للوطء ، أي : يعودون لما قالوا : إنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهر ثمّ وطىء لزمت الكفّارة عند هؤلاء.

الرابع : (لِما قالُوا) ، أي : يقولونه ثانيا ، فلو قال : أنت عليّ كظهر أمي مرّة واحدة لم يلزمه كفارة ؛ لأنه لم يعد لما قال ، وهذا منقول عن بكير بن عبد الله الأشجّ ، وأبي حنيفة ، وأبي العالية ، والفراء في آخرين ، وهو مذهب أهل الظّاهر.

قال ابن العربي (٣) : وهذا القول باطل قطعا ؛ لأن قصص المتظاهرين قد رويت ، وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم ، والمعنى أيضا ينقضه ؛ لأن الله ـ تعالى ـ وصفه بأنه منكر من القول وزور ، فكيف يقال : إذا أعدت القول المحرّم ، والسّبب المحظور وجبت عليك الكفّارة ، وهذا لا يعقل ألا ترى أنّ كل سبب يوجب الكفّارة لا يشترط فيه الإعادة من قتل ووطء في صوم؟.

الخامس : أن المعنى أن يعزم على إمساكها فلا يطلقها بعد الظّهار حتى يمضي زمن يمكن أن يطلقها فيه ، فهذا هو العود لما قال ، وهو مذهب الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة أيضا.

وقال : العود هنا ليس بتكرير القول ، بل بمعنى العزم على الوطء.

قال القرطبي (٤) : وهذا ينتقض بثلاثة أمور :

أحدها : أنه قال : «ثمّ» وهي للتراخي.

الثاني : قوله : (ثُمَّ يَعُودُونَ) يقتضي وجود فعل من جهته ، ومرور الزمان ليس بفعل منه.

__________________

(١) الآية ٨ من سورة مريم.

(٢) الكشاف ٤ / ٤٨٧.

(٣) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٧٥٣.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٨٢.

٥٢٣

الثالث : أن الطلاق الرّجعي لا ينافي البقاء على الملك ، فلم يسقط حكم الظّهار كالإيلاء.

وقال مكي (١) : «واللام متعلقة ب «يعودون» أي : يعودون لوطء المقول فيه الظهار ، وهن الأزواج ف «ما» والفعل مصدر ، أي : لقولهم ، والمصدر في موضع المفعول به ، نحو : «هذا درهم ضرب الأمير» أي : مضروبه ، فيصير المعنى ، كقولهم للمقول فيه الظّهار ، أي : لوطئه».

وهذا معنى قول الزمخشري في الوجه الثالث الذي تقدم تقريره عن الحسن ، والزهري ، ومالك إلّا أن مكيّا قيد ذلك بكون «ما» مصدرية حتى يقع المصدر المؤول موضع اسم المفعول ، وفيه نظر ؛ إذ يجوز ذلك وإن كانت «ما» غير مصدرية لكونها بمعنى «الذي» ونكرة موصوفة ، بل جعلها غير مصدرية أولى ؛ لأن المصدر المؤول فرع المصدر الصريح ، إذ الصريح أصل للمؤول به ، ووضع المصدر موضع اسم المفعول خلاف الأصل ، فيلزم الخروج عن الأصل بشيئين : بالمصدر المؤول ، ثم وقوعه موقع اسم المفعول ، والمحفوظ من لسانهم إنما هو وضع المصدر الصّريح موضع المفعول لا المصدر المؤول فاعرفه.

لا يقال : إن جعلها غير مصدرية يحوج إلى تقدير حذف مضاف ليصحّ المعنى ، أي : يعودون لوطء الذي ظاهر منها ، أو امرأة ظاهر منها ، أو يعودون لإمساكها.

والأصل : عدم الحذف ؛ لأن هذا مشترك الإلزام لنا ولكم ، فإنكم تقولون أيضا : لا بد من تقدير مضاف ، أي : يعودون لوطء أو لإمساك المقول فيه الظهار ، ويدل على جواز كون «ما» في هذا الوجه غير مصدرية ما أشار إليه أبو البقاء ، فإنه قال (٢) : يتعلق ب «يعودون» بمعنى يعودون للقول فيه ، هذا إن جعلت «ما» مصدرية ، ويجوز أن تجعلها بمعنى «الذي» ونكرة موصوفة.

الثاني : أن «اللام» تتعلق ب «تحرير» ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : والذين يظاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما نطقوا به من الظّهار ، ثم يعودون للوطء بعد ذلك. وهذه ما نقله مكي وغيره عن الأخفش.

قال أبو حيّان (٣) : «وليس بشيء ؛ لأنه يفسد نظم الآية».

وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم فساد النظم مع دلالة المعنى على التقديم والتأخير ، ولكن وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم فساد النظم مع دلالة المعنى على التقديم والتأخير ، ولكن

__________________

(١) ينظر المشكل ٢ / ٧٢١.

(٢) ينظر : التبيان ص ١٢١٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٦.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٢٣٢.

٥٢٤

نسلم أن ادّعاء التقديم والتأخير لا حاجة إليه ؛ لأنه خلاف الأصل.

الثالث : أن «اللام» بمعنى «إلى» ، و «اللام» و «إلى» يتعاقبان ، قال تعالى : (هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣] ، وقال : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٣] وقال : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٥] وقال : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ) [هود : ٣٦] قاله الأخفش.

الرابع : أنها بمعنى «في» ، نقلها أبو البقاء ، ومع ذلك فهي متعلقة ب «يعودون».

الخامس : أنها متعلقة ب «يقولون».

[قال مكي (١) : وقال قتادة : ثم يعودون لما قالوا من التحريم فيحلونه (٢) ، فاللام على هذا تتعلق ب «يقولون»](٣).

قال شهاب الدين (٤) : «ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي ، وكيف فهم تعلقها ب «يقولون» على تفسير قتادة ، بل تفسير قتادة نص في تعلقها ب «يعودون» ، وليس لتعلقها ب «يقولون» وجه».

ونقل القرطبي (٥) عن الفرّاء قال : اللام بمعنى «عن» والمعنى : ثم يرجعون عما قالوا ، ويريدون الوطء.

وقال أبو مسلم (٦) : العود هو أن يحلف أولا على ما قال من لفظ الظهار ، فلو لم يحلف لم تلزمه كفارة كما لو قال في المأكول : هو عليّ حرام كلحم الآدمي فلا كفّارة عليه ، فإذا حلف عليه لزمته كفارة يمين.

وهذا ضعيف ؛ لأن الكفّارة قد تجب بالجماع في الحجّ ، وفي رمضان ، وفي قتل الخطأ ، ولا يمين هناك.

قوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي : فعلية إعتاق رقبة (٧) ، يقال : حرّرته ، أي : جعلته حرّا ، ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سالمة من كل عيب ، ومن كمالها إسلامها كالرّقبة في كفّارة القتل ، فإذا أعتق نصفي عبدين لم يجزه.

وقال الشافعي : يجزيه لأنّ النّصفين في معنى العبد الواحد ؛ ولأن الكفّارة في العتق طريقها المال ، فجاز أن يدخلها التّبعيض كالإطعام ، ودليل الأول قوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد ، وبعض الرقبة ليس رقبة ؛ ولأنه لو أوصى رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحجّ واحد منهما نصفها ، ولو أوصى أن يشتري رقبة فيعتق

__________________

(١) ينظر : المشكل ٢ / ٧٢٢.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٠٥).

(٣) سقط من : أ.

(٤) الدر المصون ٦ / ٢٨٧.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٨٣.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٢٥.

(٧) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٨٣.

٥٢٥

عنه لم يجز أن يعتق نصف عبدين ، كذا ها هنا.

وروي عن أحمد ـ رضي الله عنه ـ إن كان باقيهما حرا صح وأجزأ ، وإلّا فلا ؛ لأن المقصود تكميل الحرية وقد كملت ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : «ليس لله شريك فإن أعتق مكاتب عن الكفّارة لم يجزه» (١).

وقال أبو حنيفة : إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئا أجزأه ، وإن أعتق بعد أن أدى شيئا لم يجزه ، فإن أعتق ذا رحمه المحرم عن كفارته عتق ، ولم يجزه عن الكفارة.

قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ، أي : من قبل أن يجامعها ، فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير فإن جامعها قبل التّكفير عصى ، ولا يسقط عنه التكفير (٢).

وحكي عن مجاهد : أنه إذا وطىء قبل أن يشرع في التكفير لزمه كفّارة أخرى (٣) ، وعن غيره أن الكفّارة الواجبة بالظّهار تسقط عنه ، ولا يلزمه شيء أصلا ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أوجب الكفّارة ، وأمر بها قبل المسيس ، فإذا أخّرها حتى مسّ فقد فات وقتها ، والصحيح ثبوت الكفّارة ؛ لأنه بوطئه ارتكب إثما ، وذلك ليس بمسقط للكفّارة ، ويأتي بها قضاء كما لو أخّر الصلاة عن وقتها ، وسواء كانت الكفّارة بالعتق ، أو الصوم ، أو الإطعام.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن كانت بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم ، فأما غير الوطء من القبلة والمباشرة والتلذّذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء.

فصل فيمن ظاهر من امرأته مرارا

إذا ظاهر مرارا من امرأته ولم يكفر ، فكفّارة واحدة إلا أن يكون قد كفّر عن الأول ، فعليه للثاني كفّارة.

قال : وينبغي للمرأة ألا تدعه يقربها حتى يكفّر ، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينها وبينه ، ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع.

قال الفقهاء : ولا شيء من الكفارة يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظّهار وحدها ؛ لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة ، وامتناع من إيفاء حقّها (٤).

قوله تعالى : (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) أي : تؤمرون به.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) من التّكفير وغيره.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٣٩٣٣) ، وأحمد (٥ / ٧٤ ، ٧٥) ، والبيهقي (١٠ / ٢٧٣) ، من حديث أبي الوليد عن أبيه.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٨٣ ، ١٨٤.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٨٣).

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٢٦.

٥٢٦

قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ).

وقوله تعالى : (فَإِطْعامُ) كقوله في الأوجه الثلاثة المتقدمة من قبل ، متعلق بالفعل أو الاستقرار المتقدم ، أي : فيلزم تحرير ، أو صيام ، أو فعليه كذا من قبل تماسهما.

والضمير في «يتماسّا» للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم عليها (١).

فصل إذا لم يجد الرقبة (٢)

من لم يجد الرقبة ولا ثمنها ، وكان مالكا لها إلّا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته ، أو كان مالكا لثمنها إلّا أنه يحتاج إليه لنفقته ، أو كان له مسكن ليس له غيره ، ولا يجد شيئا سواه فله أن يصوم.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يصوم وعليه العتق ، ولو كان محتاجا إلى ذلك.

والصيام الواجب في هذه الكفّارة أن يصوم شهرين متتابعين ، فإن أفطر في أثنائها بغير عذر استأنفهما وإن أفطر بعذر من سفر أو مرض ، فقال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي : يبني على ما مضى ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي.

فإن ابتدأ الصيام ، ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه ؛ لأنه أمر به حين دخل فيه.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يعتق قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدّم قبل انقضاء عدّتها ، فإنها تستأنف الحيض إجماعا ، فإن وطىء المظاهر في خلال الشهرين نهارا بطل التتابع ، وإن وطىء ليلا لم يبطل ؛ لأنه ليس محلّا للصّوم.

وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ ومالك : يبطل بكل حال ، ويجب عليه ابتداء الكفّارة لقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وهذا شرط عائد إلى جملة الشهرين.

ومن طال مرضه طولا لا يرجى برؤه (٣) ، وكان بمنزلة العاجز من كبر ، فيجوز له العدول عن الصيام إلى الإطعام.

فإن كان يرجى برؤه ، واشتدت حاجته إلى وطء امرأته فالاختيار له أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام ، فإذا كفّر بالإطعام ، ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه.

فإن ظاهر وهو موسر ، ثم أعسر قبل أن يكفر صام ، وإنما ينظر إلى حاله يوم يكفر ، ولو جامعها في عدمه وعسره ، فلم يكفر حتى أيسر لزمه العتق.

ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر ، قال القرطبي رحمه‌الله (٤) : فإن كان مضى من صومه صدر صالح كالجمعة وشبهها تمادى ، وإن كان يوما أو يومين ترك الصوم ، وعاد إلى

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٢٨٧.

(٢) ينظر القرطبي ١٧ / ١٨٤.

(٣) القرطبي ١٧ / ١٨٤ ، ١٨٥.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٨٥.

٥٢٧

العتق ، وليس ذلك بواجب عليه.

ولو ظاهر عن امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما لا بعينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر الكفّارة الأخرى ، ولو عين الكفّارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفّارة عن الأخرى.

قال القرطبي (١) : «ولو ظاهر من أربع نسوة ، فأعتق عنهن ثلاث رقاب ، وصام شهرين لم يجزه العتق ولا الصيام ؛ لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوما ، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتي مسكين ، فإن لم يقدر فرّق بخلاف العتق والصيام ؛ لأن صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق».

[قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) الآية كقوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) في الأوجه الثلاثة المتقدمة ، و (مِنْ قَبْلِ) متعلق بالفعل ، أو الاستقرار المتقدم ، أي : فيلزمه تحرير ، أو صيام أو فعليه كذا من قبل تماسهما ، والضمير في «يتماسّا» للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم](٢).

فصل في الترتيب في كفّارة الظهار (٣)

اعلم أن الله ـ تعالى ـ أمر بكفّارة الظهار مرتبة ، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الإعتاق ، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام ، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد من طعام بمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن عبد البرّ (٤) : والأفضل مدّان بمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يجزىء عند مالك ، والشافعي ـ رضي الله عنهما ـ أن يطعم أقل من ستين مسكينا.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لو أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه.

وعن أحمد ـ رضي الله عنه ـ إذا لم يجد إلّا مسكينا واحدا ردد عليه بعدد الأيام.

فصل في نسخ الظهار لما كانوا عليه (٥)

حكم الظّهار ناسخ لما كانوا عليه من كون الظّهار طلاقا في الجاهلية ، روي ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما.

قوله : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا).

__________________

(١) السابق.

(٢) تقدم بتمامه.

(٣) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٨٥.

(٤) الاستذكار : ١٠ / ١٠٤ ، ١٠٥.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٨٦.

٥٢٨

قال الزّجّاج (١) : «ذلك» فيه وجهان :

الأول : أنه في محل رفع ، أي : الغرض ذلك الذي وصفنا من التّغليظ في الكفّارة ، «لتؤمنوا» أي : لتصدقوا أن الله أمر به.

الثاني : فعلنا ذلك للبيان والتعظيم للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعمل بشرائعه ، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطّلاق.

فصل في أن الكفارة إيمان بالله تعالى (٢)

استدلّ بعض العلماء على أنّ هذه الكفّارة إيمان بالله تعالى ؛ لأنه لما ذكرها وأوجبها ، قال جل ذكره : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، أي : ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدّوها ، فسمى التكفير إيمانا ؛ لأنه طاعة ، ومراعاة للحد ، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان.

فصل في معنى الآية (٣)

معنى قوله تعالى : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : لئلا تعودوا للظّهار الذي هو منكر من القول وزور.

قيل له : قد يجوز أن يكون كلاهما مقصودا ، فيكون المعنى : ذلك لئلا تعودوا ، فتقولوا المنكر والزور ، بل تدعونهما طاعة لله ـ سبحانه وتعالى ـ إذ كان قد حرمهما ، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا إذا كان الله منع من مسيسها وتكفروا إذا كان الله ـ عزوجل ـ أمر بالكفّارة ، وألزم إخراجها منكم ، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها حدود تحفظونها وطاعات تؤدّونها ، والطّاعة لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمان بالله ورسوله.

فصل في إدخال العمل تحت مسمى الإيمان

قال ابن الخطيب (٤) : استدل من أدخل العمل في مسمى الإيمان بهذه الآية ، فقال : إن الله ـ تعالى ـ أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين ، فدل على أن العمل من الإيمان ، ومن أنكر ذلك قال : إنه ـ تعالى ـ لم يقل : ذلك لتؤمنوا بالله بعمل هذه الأشياء ، ونحن نقول : المعنى (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ) والإقرار بهذه الأحكام.

فصل فيمن استدل بهذه الآية على أن أفعال الله معللة بالأغراض (٥)

استدلت المعتزلة في قوله تعالى «لتؤمنوا» على أن فعل الله معلل بالغرض ، وعلى

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ٥ / ١٣٦ ، والفخر الرازي ٢٩ / ٢٢٨ ، والقرطبي ١٧ / ١٨٦.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٨٧.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٢٨.

(٥) السابق.

٥٢٩

أن غرضه أن تؤمنوا ، ولا تستمروا على ما كانوا عليه من الكفر ، وهذا يدلّ على أنه ـ تعالى ـ أراد منهم الإيمان وعدم الكفر.

قوله : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي بيّن معصيته وطاعته ، فمعصيته الظّهار ، وطاعته الكفارة.

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : لمن جحد هذا وكذاب به ، ولم يصدق بأحكام الله تعالى له عذاب جهنم (١).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية.

قال المبرد : أصل «المحادّة» الممانعة ، ومنه يقال للبواب : حداد ، وللممنوع الرزق : محدود (٢).

وقال أبو مسلم الأصفهاني : «المحادّة» : مفاعلة من لفظ الحديد ، والمراد المقاتلة بالحديد ، سواء كان ذلك في الحقيقة ، أو كان منازعة شديدة شبيهة للخصومة بالحديد.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها (٣)

لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادّين المخالفين لها ، قال المفسرون : المحادة : المعاداة والمخالفة في الحدود ، وهو كقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال : ١٣].

وقيل : يحادون الله ، أي : أولياء الله كما جاء في الخبر : «من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة» (٤).

قال الزجاج (٥) : المحادّة : أن تكون في حد يخالف حد صاحبك.

والضمير في قوله «يحادّون» يمكن أن يرجع إلى المنافقين (٦) ، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين ، ويظاهرونهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأذلهم الله سبحانه وتعالى ، ويحتمل أن يرجع

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٨٧.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٢٨.

(٣) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٨٧.

(٤) أخرجه بهذا اللفظ القضاعي في «مسند الشهاب» (١٤٥٦) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٨ / ٣١٨ ـ ٣١٩) ، وابن أبي الدنيا في «كتاب الأولياء» رقم (١).

والحديث أصله في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ... الخ». أخرجه البخاري في «صحيحه» رقم (٦٥٠٢) ، وله شاهد من حديث عائشة أخرجه أحمد (٦ / ٢٥٦) ، والبزار (٣٦٢١ ـ كشف) ، وأبو نعيم في «الحلية» (١ / ٥) ، والبيهقي في «الزهد» رقم (٦٩٣) ، من طريق عبد الواحد بن ميمون عن عروة عنها.

وعبد الواحد بن ميمون قال البخاري : منكر الحديث.

(٥) ينظر : معاني القرآن ٥ / ١٣٦.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٢٨ ، ٢٢٩.

٥٣٠

لجميع الكفّار ، فأعلم الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم كبتوا ، أي خذلوا.

قال المبرد رحمه‌الله تعالى : كبت الله فلانا ، أي : أذلّه ، والمردود بالذل يقال له مكبوت.

وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا.

وقال قتادة : خزوا كما خزي الذين من قبلهم (١).

وقال ابن زيد : عذبوا (٢).

وقال السدي : لعنوا (٣) ، وقال الفراء : غيظوا يوم الخندق.

وقيل : يوم «بدر».

وقيل معنى كبتوا : أي سيكبتون ، وهو بشارة من الله للمؤمنين بالنصر ، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريبا (٤) للمخبر عنه.

وقيل : لغة مذحج (٥).

ويحتمل أن يكون لتحقق وقوعه ، والمراد بالذين من قبلهم أعداء الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم (وَلِلْكافِرِينَ) بهذه الآيات (عَذابٌ مُهِينٌ) يذهب بعزّهم وكبرهم ، فبين تعالى أن عذاب المحاربين في الدنيا الذّل والهوان ، وفي الآخرة العذاب الشديد (٦).

قوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً).

فيه أوجه (٧) :

أحدها : أنه منصوب ب (عَذابٌ مُهِينٌ).

الثاني : أنه منصوب بفعل مقدر ، فقدره أبو البقاء (٨) : يهانون أو يعذبون ، أو استقر ذلك يوم يبعثهم ، وقدره الزمخشري (٩) ب «اذكر» قال : تعظيما لليوم.

الثالث : أنه منصوب ب «لهم». قاله الزمخشري (١٠) ، أي : بالاستقرار الذي تضمنه لوقوعه خبرا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٢) ، عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٦٩) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٨٧) ، عن ابن زيد.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) في أ : تقريعا.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٨٧.

(٦) الفخر الرازي ٢٩ / ٢٢٩.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٧.

(٨) ينظر التبيان ص ١٢١٢.

(٩) الكشاف ٤ / ٤٨٩.

(١٠) السابق.

٥٣١

الرابع : أنه منصوب ب «أحصاه» ، قاله أبو البقاء (١) ، وفيه قلق ؛ لأن الضمير في «أحصاه» يعود على «ما عملوا». قوله : «جميعا» أي : الرجال والنساء ، أي : كلهم لا يترك منهم واحدا.

وقيل : مجتمعين في حال واحدة (فَيُنَبِّئُهُمْ) أي : يخبرهم بما عملوا في الدنيا تخجيلا لهم وتوبيخا (٢).

(أَحْصاهُ اللهُ) عليهم في صحائف أعمالهم «ونسوه» حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم (٣).

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي شاهد مطلع وناظر لا يخفى عليه شيء.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٩)

ثم إنه ـ تعالى ـ أكد بيان كونه عالما بكل المعلومات ، فقال جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يخفى عليه سرّ ولا علانية.

قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى).

«يكون» تامة ، و «من نجوى» فاعلها ، و «من» مزيدة فيه ، و «نجوى» في الأصل مصدر ، فيجوز أن يكون باقيا على أصله ، ويكون مضافا لفاعله ، أي : ما يوجد من تناجي ثلاثة ، ويجوز أن يكون على حذف ، أي : من ذي نجوى ، ويجوز أن يكون أطلق على الأشخاص المتناجين مبالغة.

فعلى هذين الوجهين ينخفض «ثلاثة» على أحد وجهين (٤) :

إما البدل من «ذوي» المحذوفة ، وإما الوصف لها على التقدير الثاني ، وإما البدل ، أو الصفة ل «نجوى» على التقدير الثالث.

__________________

(١) ينظر التبيان ص ١٢١٢.

(٢) ينظر : الرازي ٢٩ / ٢٢٩.

(٣) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٨٧.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٧.

٥٣٢

وقرأ ابن (١) أبي عبلة : «ثلاثة» ، و «خمسة» نصبا على الحال ، وفي صاحبها وجهان(٢) :

أحدهما : أنه محذوف مع رافعه تقديره : يتناجون ثلاثة ، وحذف لدلالة «نجوى».

والثاني : أنه الضمير المستكن في «نجوى» إذا جعلناها بمعنى المتناجين [قاله الزمخشري(٣)،رحمه‌الله.

قال مكي (٤) : «ويجوز في الكلام رفع «ثلاثة» على البدل من موضع «نجوى» ؛ لأن موضعها رفع و «من» زائدة ، ولو نصبت «ثلاثة» على الحال من الضمير المرفوع إذا جعلت «نجوى» بمعنى المتناجين جاز في الكلام»](٥).

قال شهاب الدين (٦) : «ولا يقرأ به فيما علمت ، وهو جائز في غير القرآن كما قال ، وأما النصب فقد قرىء به ، وكأنه لم يطلع عليه».

قوله : (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) ، إلا هو خامسهم ، (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) كل هذه الجمل بعد «إلا» في موضع نصب على الحال أي : ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال ، فالاستثناء مفرغ من الأحوال العامة.

وقرأ أبو جعفر (٧) : «ما تكون» بتاء التأنيث لتأنيث النجوى.

قال أبو الفضل : إلا أنّ الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في قراءة العامة ؛ لأنه مسند إلى «من نجوى» وهو اسم جنس مذكر.

قال ابن جني (٨) : التذكير الذي عليه العامة هو الوجه ؛ لوقوع الفاصل بين الفعل والفاعل ، وهو كلمة «من» ، ولأن تأنيث النجوى غير حقيقي.

قوله : (وَلا أَكْثَرَ).

العامة على الجر عطفا على لفظ «نجوى».

وقرأ الحسن (٩) ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ويعقوب : «ولا أكثر» بالرفع ، وفيه وجهان (١٠) :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٨٩. والبحر المحيط ٨ / ٢٣٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٧ ، والقرطبي ١٧ / ١٨٨ ، والرازي ٢٩ / ٢٣٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٧.

(٣) الكشاف ٤ / ٤٩٠.

(٤) ينظر المشكل ٢ / ٧٢٣.

(٥) سقط من ب.

(٦) الدر المصون ٦ / ٢٨٧.

(٧) وهي قراءة أبي حيوة كما في المحرر الوجيز ٥ / ٢٧٦ ، وقراءة الأعرج وعيسى كما في القرطبي ١٧ / ١٨٨ ، وينظر : الرازي ٢٩ / ٢٣٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٨.

(٨) ينظر : المحتسب ٢ / ٣١٥.

(٩) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٧٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٣٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٨ ، والقرطبي ١٧ / ١٨٨ ، وزاد : «سلام ، وأبو العالية ، ونصر ، وعيسى».

(١٠) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٨.

٥٣٣

أحدهما : أنه معطوف على موضع «نجوى» لأنه مرفوع ، و «من» مزيدة ، فإن كان مصدرا كان على حذف مضاف كما تقدم ، أي : من ذوي نجوى ، وإن كان بمعنى متناجين ، فلا حاجة إلى ذلك.

الثاني : «أدنى» مبتدأ ، و «إلّا هو معهم» خبره ، فيكون «ولا أكثر» عطفا على المبتدأ ، وحينئذ يكون «ولا أدنى» من باب عطف الجمل لا المفردات.

وقرأ الحسن ويعقوب (١) أيضا ومجاهد والخليل : «ولا أكبر» بالباء الموحدة والرفع على ما تقدم.

وزيد بن علي (٢) : «ينبيهم» ـ بسكون النون ـ من أنبأ إلّا أنه حذف الهمزة وكسر الهاء.

وقرىء كذلك إلا أنه بإثبات (٣) الهمزة وضم الهاء ، والعامة بالتشديد من «نبأ».

فصل في النجوى

«النّجوى» : التناجي ، وهو السرار وهو مصدر يوصف به ، يقال : قوم نجوى ، وذوو نجوى.

قال تعالى : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى).

قال الزجاج (٤) : «النجوى» مشتقة من النجوة وهي ما ارتفع وتنجى ، فالكلام المذكور سرّا ، لما خلا عن استماع الغير صار كالأرض المرتفعة ، فإنها لارتفاعها خلت عن اتصال الغير ، والسرار ما كان بين اثنين.

قوله : (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) أي : يعلم ، ويسمع نجواهم بدليل افتتاح الآية بالعلم (٥).

فإن قلت : ما الحكمة في ذكره ـ سبحانه وتعالى ـ الثلاثة والخمسة ، وأهمل الأربعة؟.

فالجواب من وجوه (٦) :

الأول : أن ذلك إشارة إلى كمال الرحمة ؛ لأن الثلاثة إذا اجتمعوا ، فإذا تناجى اثنان

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٧٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٣٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٨ ، والقرطبي ١٧ / ١٨٨ ، وقال : وقرأ الزهري وعكرمة «أكبر» بالباء.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٣٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٨.

(٣) السابق.

(٤) ينظر : معاني القرآن ٥ / ١٣٧ ، والفخر الرازي ٢٩ / ٢٣٠.

(٥) القرطبي ١٧ / ١٨٨.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٣٠ ، ٢٣١.

٥٣٤

منهم بقي الثالث ضائعا وحيدا ، فيضيق عليه ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثّالث إلّا بإذنه فإنّ ذلك يحزنه» (١).

فكأنه ـ تعالى ـ يقول : أنا جليسك وأنيسك ، وكذا الخمسة إذا اجتمعوا بقي الخامس وحيدا فريدا.

الثاني : أن العدد الفرد أشرف من الزوج ؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ وتر يحب الوتر ، فخص أعداد الفرد بالذكر تنبيها على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور.

الثالث : أن أقل ما لا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة حتى يكون الاثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات ، والثالث كالحاكم بينهما ، فحينئذ تكمل المشورة ، ويتم ذلك الغرض ، فلهذا السبب لا بد وأن يكون أرباب المشورة عددهم فردا ، فذكر الله ـ تعالى ـ الفردين الأولين ، واكتفى بذكرهما تنبيها على الباقي.

الرابع : أن الآية نزلت في قوم منافقين اجتمعوا على التناجي ، وكانوا على هذين العددين.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في ربيعة ، وحبيب بن أبي عمرو ، وصفوان بن أمية كانوا يتحدّثون ، فقال أحدهم : هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثالث : يعلم البعض.

الخامس : أنه في مصحف عبد الله بن مسعود : «ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم إذا أخذوا في التناجي».

قوله : (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يحاسب على ذلك ، ويجازي عليه.

(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وهذا تحذير من المعاصي ، وترغيب في الطاعات.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) الآية.

قيل : هم اليهود.

وقيل : هم المنافقون.

وقيل : فريق من الكفار.

وقيل : فريق من المسلمين ، لما روى أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا ذات ليلة نتحدّث إذ خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ما هذه النّجوى»؟ فقلنا : تبنا إلى الله يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنا كنّا في ذكر المسيخ ، يعني : الدجال فرقا منه ، فقال رسول الله

__________________

(١) أخرجه البخاري ١١ / ٨٢ ، كتاب الاستئذان ، باب : إذا كانوا أكثر من ثلاثة (٦٢٩٠) ، ومسلم (٣٧ ـ ٢١٨٤).

٥٣٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه؟» قلنا : بلى ، يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «الشّرك الخفيّ أن يقوم الرّجل يعمل لمكان رجل» (١). ذكره الماوردي.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ، وينظرون للمؤمنين ، ويتغامزون بأعينهم ، فقال المؤمنون : لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل ، أو مصيبة ، أو هزيمة ؛ ويسوؤهم ذلك ، وكثرت شكواهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا (٢) ، فنزلت الآية.

وقال مقاتل : كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين اليهود موادعة ، فإذا مرّ بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظنّ المؤمن شرّا ، فيعرج عن طريقه فنهاهم الله ـ سبحانه ـ فلم ينتهوا فنزلت (٣).

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسأله الحاجة ويناجيه ، والأرض يومئذ خرب فيتوهّموا أنه يناجيه في حرب أو بليّة أو أمر فيفزعون لذلك فنزلت (٤).

قال ابن الخطيب (٥) رحمه‌الله : والأولى أن تكون نزلت في اليهود ؛ لأنه ـ عزوجل ـ حكى عنهم ، فقال : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) وهذا إنما وقع من اليهود ، كانوا إذا سلموا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : السّام عليكم ، يعنون الموت.

قوله : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) أي : يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها.

قوله : (وَيَتَناجَوْنَ). قرأ (٦) حمزة : «وينتجون» بغير ألف من «الانتجاء» من «النجوى» على وزن «يفتعلون».

والباقون : «ويتناجون» من «التّناجي» من «النجوى» أيضا.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٤٠٦) ، كتاب الزهد ، باب : الرياء والسمعة حديث (٤٢٠٤) ، وأحمد (٣ / ٣٠) ، والحاكم (٤ / ٣٢٩) ، من طريق كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن أبي سعيد به.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وقال البوصيري في «الزوائد» (٣ / ٢٩٦) ، رقم (١٤٩٨) : هذا إسناد حسن كثير بن زيد وربيح بن عبد الرحمن مختلف فيهما.

وذكره الماوردي في النكت والعيون ٥ / ٤٩١ ، والقرطبي ١٧ / ١٨٩.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٨٩).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٦٩) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٨٩).

(٥) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٣١.

(٦) ينظر : السبعة ٦٢٨ ، والحجة ٦ / ٢٧٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥٥ ، وحجة القراءات ٧٠٤ ، والعنوان ١٨٧ ، وشرح الطيبة ٦ / ٤٥ ، وشرح شعلة ٥٩٩ ، وإتحاف ٢ / ٥٢٦.

٥٣٦

قال أبو علي (١) : والافتعال ، والتفاعل يجريان مجرى واحدا ، ومن ثمّ صححوا «ازدجوا واعتوروا» لما كانا في معنى تزاوجوا وتعاوروا ، وجاء (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) [الأعراف : ٢٨] وادّركوا.

قال شهاب الدين (٢) : ويؤيد قراءة العامة الإجماع على تناجيهم ، و (فَلا تَتَناجَوْا) و «تناجوا» ، فهذا من «التفاعل» لا غير ، إلّا ما روي عن عبد الله ، أنه قرأ (٣) «إذا انتجيتم فلا تنتجوا».

ونقل أبو حيان (٤) عن الكوفيين والأعمش : «فلا تنتجوا» كقراءة عبد الله.

وأصل : «تنتجون» «تنتجيون» و «تناجون» فاستثقلت الضّمّة على الياء ، فحذفت فالتقى ساكنان فحذفت لالتقائهما ، أو تقول : تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله ، فقلبت ألفا فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما وبقيت الفتحة دالة على الألف (٥).

قوله : (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ).

قرأ أبو حيوة (٦) : «بالعدوان» بكسر العين.

والمراد (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) : الكذب والظلم ، (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخالفته.

وقرأ الضّحاك (٧) : «ومعصيات الرّسول» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ).

قال القرطبي (٨) : لا خلاف بين أهل النقل أن المراد به اليهود ، وكانوا إذا سلموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : السّام عليك يعنون الموت. كما روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن اليهود أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : السّام عليك ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم» فقالت عائشة رضي الله عنها : السّام عليكم ، ولعنة الله ، وغضبه عليكم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مهلا يا عائشة ، عليك بالرّفق وإيّاك والعنف والفحش» ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك «أو لم تسمعي ما قلت ورددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في؟»(٩).

__________________

(١) ينظر : الحجة ٦ / ٢٨٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٨.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٩١.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٣٤.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٨.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٧٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٣٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٨.

(٧) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٩١ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٧٧ ، والرازي ٢٩ / ٢٣٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٣٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٨.

(٨) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٨٩.

(٩) أخرجه البخاري ١١ / ٤٤ ، في كتاب الاستئذان ، باب : كيف الرد على أهل الذمة بالسلام (٦٢٥٦) ، ـ

٥٣٧

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك : «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب ، فقولوا : عليك ما قلت» ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ)(١).

وروى أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم» (٢) بالواو.

فقال بعض العلماء رضي الله عنهم : إن الواو العاطفة تقتضي التشريك ، فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت ، أو من سآمة ديننا وهو الهلاك ، يقال : سئم يسأم سآمة وسآما.

وقال بعضهم «الواو» زائدة كما زيدت في قول الشاعر : [الطويل]

٤٧٣٢ ـ فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

 .......... (٣)

أي : لما أجزنا انتحى ، فزاد «الواو».

وقال آخرون : هي للاستئناف ، كأنه قال : والسام عليكم ، وقال آخرون : هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك ؛ لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدم في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ل «عائشة» رضي الله عنها.

فصل في رد السّلام على أهل الذمة

اختلفوا في ردّ السّلام على أهل الذّمة (٤) ، فقال ابن عباس والشعبي وقتادة : هو واجب لظاهر الأمر بذلك.

وقال مالك رضي الله عنه : ليس بواجب ، فإن رددت فقل : عليك.

وقال بعضهم : نقول في الرد : علاك السّلام ، أي : ارتفع عنك.

وقال بعض المالكية : تقول في الرد : السلام عليك ـ بكسر السين ـ يعني الحجارة.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا).

هذه الجملة التحضيضية في موضع نصب بالقول (٥) ، ومعنى الآية : أن اليهود ـ لعنهم الله ـ لما كانوا يقولون : السام عليك ، ويوهمون أنهم يسلمون ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرد عليهم بقوله : «عليكم» فإذا خرجوا قالوا : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ) أي : هلا يعذبنا بما نقول ، أي : لو كان نبيّا لعذبنا الله بما نقول.

__________________

ـ ومسلم ٤ / ١٧٠٦ ، في كتاب السلام ، باب : النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (١٠ / ٢١٦٥).

(١) أخرجه ابن أبي شيبة (٨ / ٤٤٢) ، والترمذي (٥ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠) ، رقم (٣٣٠١) ، وابن ماجه (٢ / ١٢١٩) ، رقم (٣٦٩٧) ، من حديث أنس وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) ينظر الحديث السابق.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٩٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٨.

٥٣٨

وقيل : قالوا : إنه يرد علينا ، ويقول : وعليكم السّام ، فلو كان نبيّا لا تسجيب له فينا ومتنا ، وهذا موضع تعجب منهم ، فإنهم كانوا أهل الكتاب ، وكانوا يعلمون أنّ الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ قد يغضبون ، فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب (١).

قوله : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) أي : كافيهم جهنم عقابا غدا (يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ).

أي : كفعل المنافقين واليهود.

قال مقاتل : أراد بقوله : «آمنوا» المنافقين آمنوا بلسانهم.

وقال عطاء : يريد الذين آمنوا بزعمهم قال لهم : لا تتناجوا بالإثم والعدوان ، ومعصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقيل : يا أيها الذين آمنوا بموسى صلوات الله وسلامه عليه.

قوله : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) والمراد بالبر : الطاعة ، وبالتقوى : العفاف عما نهى الله عنه.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [أي] : تجمعون في الآخرة (٣).

قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٥)

قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا). تقدم قراءتنا «ليحزن» بالضم والفتح في «آل عمران» [آل عمران ١٧٦].

وقرىء (٤) : «بفتح الياء والزاي» على أنه مسند إلى الموصول بعده ، فيكون فاعلا.

__________________

(١) ينظر القرطبي ١٧ / ١٩١.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٠٨).

(٣) ينظر القرطبي ١٧ / ١٩١.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٩١ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٧٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٣٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٩.

٥٣٩

فصل في تحرير معنى الآية

قال ابن الخطيب (١) : الألف واللام في لفظ «النجوى» لا يمكن أن يكون للاستغراق ؛ لأن في «النجوى» ما يكون من الله ولله ، بل المراد منه : المعهود السابق ، وهو النجوى بالإثم ليحزن المؤمنين إذا رأوهم متناجين.

قال المفسرون (٢) : معنى قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) وتوهموا أن المسلمين أصيبوا في السّرايا ، أو إذا رأو اجتماعهم على مكايدة المسلمين ، وربما كانوا يناجون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ) أي : التناجي (شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بمشيئته.

وقيل : بعلمه.

وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ بأمره.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : يكلون أمرهم إليه ، ويفوضون [جميع](٣) شئونهم إلى عونه.

فصل في النهي عن التناجي

روى ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد»(٤).

وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتّى يختلطوا بالنّاس من أجل أن يحزنه» (٥).

فبين في هذا الحديث غاية المنع ، وهو أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر ، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل ، فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعا ، فقال له وللأول : تأخّرا وناجى الرجل الطّالب للمناجاة. خرجه في «الموطأ» (٦) ونبه فيه على العلة بقوله: «من أجل أن يحزنه» أي : يقع في نفسه ما يحزن لأجله ، وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره ، أو أنهم لم يروه أهلا بأن يشركوه في حديثهم ، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان ، وأحاديث النفس ، ويحصل ذلك كله من بقائه وحده ، فإذا كان معه غيره أمن ذلك ، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد ، فلا يتناجى أربعة دون واحد ، ولا عشرة ولا ألف مثلا ، لوجود ذلك المعنى في حقه ، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع ، فيكون بالمنع أولى ، وإنما خص الثلاثة بالذكر ؛ لأنه أول عدد يتأتى ذلك فيه.

__________________

(١) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٣٣.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٩١.

(٣) سقط من : أ.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : موطأ الإمام مالك ٢ / ٩٨٨.

٥٤٠