اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

فصل في الكلام على الإنفاق (١)

لما أمر أولا بالإيمان وبالإنفاق ، ثم أكّده في الآية المتقدمة بإيجاب الإيمان بالله أتبعه في هذه الآية بتأكيد إيجاد الإنفاق ، والمعنى : أنكم ستموتون فتورثون ، فهلا قدّمتموه في الإنفاق على طاعة الله؟.

وتحقيقه : أن المال لا بد وأن يخرج من اليد ، إما بالموت وإما بالإنفاق في سبيل الله ، فإن خرج بالموت كان أثره اللّعن والمقت والطرد والعقاب ، وإن خرج بالإنفاق في سبيل الله كان أثره المدح والثواب وإذا كان لا بد من خروجه من اليد ، فكل عاقل يعلم أن خروجه عن اليد بحيث يستعقب المدح والثواب أولى منه مما يستعقب اللعن والعقاب ، ثم لما بين تعالى أن الإنفاق في سبيل الله فضيلة بيّن أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة ، فقال : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ).

قوله : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ).

في فاعل «يستوي» وجهان (٢) :

أظهرهما : أنه «من أنفق» وعلى هذا فلا بد من حذف معطوف يتم به الكلام ، فقدره الزمخشري (٣) : لا يستوي منكم من أنفق قبل فتح «مكة» وقوة الإسلام ، ومن أنفق من بعد الفتح ، [فحذف لوضوح الدلالة](٤).

[وقدره أبو البقاء (٥) : «ومن لم ينفق».

قال : ودلّ على المحذوف قوله : (مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ). (٦)

والأول أحسن ؛ لأن السّياق إنما جيء بالآية ليفرق بين النّفقتين في زمانين.

والثاني : أن فاعله ضمير يعود على الإنفاق ، أي : لا يستوي جنس الإنفاق إذ منه ما وقع قبل الفتح ، ومنه ما وقع بعده.

فهذان النّوعان متفاوتان ، وعلى هذا فيكون «من» مبتدأ ، و «أولئك» مبتدأ ثاني ، و «أعظم» خبره ، والجملة خبر «من». وهذا ينبغي ألّا يجوز ألبتة.

وكأن هذا المعرب غفل عن قوله : «منكم» ، فلو أعرب هذا القائل «منكم» خبرا مقدما ، و «من» مبتدأ مؤخرا ، والتقدير : منكم من أنفق من قبل الفتح ، ومنكم من لم ينفق قبله ولم يقاتل ، وحذف هذا لدلالة الكلام عليه لكان سديدا ، ولكنه سها عن لفظة «منكم»(٧).

__________________

(١) التفسير الكبير ١٩ / ١٩٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٣.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٧٤.

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٠٧.

(٦) سقط من أ.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٤.

٤٦١

فصل في المراد بالفتح

أكثر المفسرين (١) على أن المراد بالفتح فتح «مكة».

وقال الشعبي والزهري : فتح «الحديبية» (٢).

قال قتادة : كان قتالان ، أحدهما أفضل من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ؛ لأن القتال والنفقة قبل فتح «مكة» أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك ، وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم ، لأن حاجة النّاس كانت أكثر لضعف الإسلام ، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق ، والأجر على قدر النّصب (٣).

قال مالك رضي الله عنه : ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم لقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ).

قال الكلبي : نزلت في أبي بكر وفيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر وتقديمه ؛ لأنه أوّل من أسلم ، وأول من أنفق في سبيل الله (٤).

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أوّل من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر.

وعن ابن عمر قال : «كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده أبو بكر ، وعليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال ، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : يا نبي الله ، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال؟ قال : «أنفق ماله عليّ قبل الفتح» ، قال : فإن الله تعالى يقول لك : اقرأ على أبي بكر السلام ، وقل له : أنت راض في فقرك أم ساخط؟ فقال أبو بكر : إني عن ربي لراض ، قال : فإن الله ـ تعالى ـ يقول لك : قد رضيت عنك كما أنت عني راض ، فبكى أبو بكر ، فقال جبريل : والذي بعثك يا محمد بالحق لقد تخلّلت حملة العرش بالعبى منذ تخلّل صاحبك هذا بالعباءة» (٥).

ولهذا قدمه الصحابة على أنفسهم وأقرّوا له بالتقدم والسبق.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : سبق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثنى أبو بكر وثلث عمر ، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد [المفتري] ثمانين جلدة وطرح الشهادة (٦).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٦.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٧٤) عن الشعبي وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٩٤).

(٣) ذكره القرطبي (١٧ / ١٥٦) عن قتادة.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٩٤ ـ ٢٩٥) والقرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٥٦) والرازي (٢٩ / ١٩١).

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٥٦).

٤٦٢

فصل في التقدم والتأخر في أحكام الدين

فإن قلت : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا ، فأما في أحكام الدين فقالت عائشة رضي الله عنها : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ننزل النّاس منازلهم. وأعظم المنازل مرتبة الصلاة(١).

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه : «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس».

وقال : «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» (٢).

وقال : «وليؤمكما أكبركما».

وفهم منه العلماء أنه أراد كبر المنزلة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «الولاء للكبر». ولم يعن كبر السن.

وقد قال مالك وغيره : إن للسن حقّا ، وراعاه الشّافعي وأبو حنيفة ، وهو أحق بالمراعاة.

وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين ، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا.

وفي الحديث : «ليس منّا من لم يوقّر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقّه».

وفي الحديث أيضا : «ما أكرم شابّ شيخا لسنّه إلّا قيّض الله له عند سنّه من يكرمه»(٣).

قوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى).

قراءة العامة : بالنّصب على أنّه مفعول مقدم ، وهي مرسومة في مصاحفهم «وكلّا» بألف (٤).

وابن عامر (٥) : برفعه.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٦٧٧) كتاب الأدب ، باب : في تنزيل الناس منازلهم حديث (٤٨٤٢) من طريق ميمون بن أبي شبيب عن عائشة.

(٢) أخرجه مسلم ١ / ٤٦٥ كتاب المساجد ، باب : من أحق بالإمامة (٢٩٠ / ٦٧٣) وأبو داود ١ / ١٥٩ ، كتاب الصلاة ، باب : من أحق بالإمامة (٥٨٢) ، والترمذي ١ / ٤٥٨ أبواب الصلاة ، باب : ما جاء من أحق بالإمامة (٩٨٠) ، والنسائي ٢ / ٧٦ في الإمامة ، باب : من أحق بالإمامة.

(٣) أخرجه الترمذي ٤ / ٣٧٢ كتاب البر ، باب : ما جاء في إجلال الكبير (٢٠٢٢) واللفظ له وقال : «حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ يزيد بن بيان وأبي الرّجال الأنصاري.

وأخرجه ابن عديّ في الكامل ٣ / ٨٩٨ ، ضمن ترجمة خالد بن محمد أبي الرّجال الأنصاري.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٤.

(٥) ينظر : السبعة ٦٢٥ ، والحجة ٦ / ٢٦٦ وإعراب القراءات ٢ / ٣٤٩ ، وحجة القراءات ٦٩٨ ، والعنوان ١٨٦ ، وشرح شعلة ٥٩٧ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣٨ ، وإتحاف فضلاء البشر ٢ / ٥٢٠.

٤٦٣

وفيه وجهان (١) :

أظهرهما : أنه ارتفع على الابتداء ، والجملة بعده خبره ، والعائد محذوف أي : وعده الله.

ومثله : [الرجز]

٤٧١٦ ـ قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع (٢)

برفع «كلّه» أي : لم أصنعه.

والبصريون [رحمة الله عليهم](٣) لا يجيزون هذا إلّا في شعر ، كقوله : [السريع]

٤٧١٧ ـ وخالد يحمد ساداتنا

بالحقّ لا يحمد بالباطل (٤)

ونقل ابن مالك الإجماع من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إن كان المبتدأ «كلّا» وما أشبهها في الافتقار والعموم.

قال شهاب الدين لم أره لغيره وقد تقدم نحو من ذلك في سورة «المائدة» ، عند قوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة : ٥٠] ولم يرو قوله : «كله لم أصنع» إلا بالرفع مع إمكان أن تنصبه ، فتقول : «كله لم أصنع» مفعولا مقدما.

قال أهل البيان (٥) : لأنه قصد عموم السّلب لا سلب العموم ، فإن الأول أبلغ ، وجعلوا من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام «كلّ ذلك لم يكن».

ولو قال : لم يكن كل ذلك ، لكان سلبا للعموم ، والمقصود عموم السّلب.

قال الشيخ عبد القاهر (٦) : المعنى يتفاوت بالرفع والنصب ، فمع الرفع يفيد أنه لم يفعل شيئا من الأشياء ، ومع النّصب يفيد أنه يفعل المجموع ، ولا يلزم أنه لم يفعل البعض ، بل إن قلنا بدليل الخطاب دل على أنه فعل البعض.

والثاني (٧) : أن يكون «كلّ» خبر مبتدأ محذوف ، و (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) صفة لما قبله ، والعائد محذوف ، أي : «وأولئك كل وعد الله الحسنى».

فإن قيل : الحذف موجود أيضا فقد عدتم لما فررتم منه؟.

فالجواب : أن حذف العائد من الصفة كثير بخلاف حذفه من الخبر.

ومن حذفه من الصفة قوله : [الوافر]

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٤.

(٢) تقدم.

(٣) سقط من أ.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٤.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ١٩٢.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٤.

٤٦٤

٤٧١٨ ـ وما أدري أغيّرهم تناء

وطول العهد أم مال أصابوا (١)

أي : أصابوه ، ومثله كثير ، وهي في مصاحف «الشام» مرسومة : «وكلّ» دون ألف فقد وافق كل مصحفه ، و «الحسنى» مفعول ثان ، والأول محذوف على قراءة الرفع.

وأمّا النصب فالأول مقدّم على عامله.

ومعنى الآية (٢) : أن المتقدمين (٣) السّابقين والمتأخرين اللّاحقين وعدهم الله جميعا الجنة مع تفاوت الدرجات.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي : أنه لما وعد السّابقين والمحسنين بالثواب فلا بد وأن يكون عالما بالخيرات ، وبجميع المعلومات حتى يمكنه إيصال الثّواب إلى المستحقين ، إذ لو لم يكن عالما بهم ، وبأفعالهم على سبيل التفصيل لما أمكن الخروج من عهدة الوعد بالتّمام ، فلهذا السّبب أتبع هذا الوعد بقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(٤).

قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ)(١٣)

قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً). وقد تقدم في «البقرة».

ندب إلى الإنفاق في سبيل الله.

وقال ابن عطية (٥) : هنا بالرّفع على العطف ، أو القطع والاستئناف.

وقرأ عاصم (٦) : «فيضاعفه» بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام ، وفي ذلك قلق.

قال أبو علي (٧) : لأن السؤال لم يقع على القرض ، وإنما وقع عن فاعل القرض ، وإنما تنصب الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه ، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى ، كأن قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ) بمنزلة قوله : «أيقرض الله أحد». انتهى.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٧.

(٣) في أ : الفئتين.

(٤) ينظر : الرازي ٢٩ / ١٩٢.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٦٠.

(٦) ينظر : الحجة ٦ / ٢٦٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥٠ ، وحجة القراءات ٦٩٩ ، والعنوان ٧٤ ، وشرح شعلة ٢٩٣ ، وإتحاف ٢ / ٥٢٠.

(٧) الحجة للقراء السبعة ٦ / ٢٦٨.

٤٦٥

وهذا الذي قاله أبو علي ممنوع (١) ، ألا ترى أنه ينصب بعد «الفاء» في جواب الاستفهام بالأسماء ، وإن لم يتقدم فعل نحو : أين بيتك فأزورك ومثل ذلك : من يدعوني فأستجيب له ، ومتى تسير فأرافقك ، وكيف تكون فأصحبك ، فالاستفهام إنما وقع عن ذات الدّاعي ، وعن ظرف الزّمان ، وعن الحال لا عن الفعل.

وقد حكى ابن كيسان عن العرب : «أين ذهب زيد فنتبعه ، ومن أبوك فنكرمه».

فصل في المقصود بالقرض (٢)

ندب الله تعالى إلى الإنفاق في سبيل الله ، والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا : «قد أقرض».

كما قال بعضهم رحمة الله عليه : [الرمل]

٤٧١٩ ـ وإذا جوزيت قرضا فاجزه

إنّما يجزي الفتى ليس الجمل (٣)

وسماه قرضا ؛ لأن القرض أخرج لاسترداد البدل ، أي : من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدله الله بالأضعاف الكثيرة.

قال الكلبي : «قرضا» أي : صدقة.

«حسنا» أي : محتسبا من قلبه لا منّ ولا أدى (٤).

(فَيُضاعِفَهُ لَهُ :) ما بين سبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف.

وقيل القرض الحسن هو أن يقول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.

وقال زيد بن أسلم : هو النّفقة على الأهل.

وقال الحسن : التطوّع بالعبادات (٥).

وقيل : عمل الخير.

وقال القشيري : لا يكون حسنا حتى يجمع أوصافا عشرة :

الأول : أن يكون من الحلال ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول» (٦).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٥.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٧.

(٣) قائل البيت هو لبيد بن ربيعة ، ويروى «أقرضت» مكان «جوزيت». ينظر ديوانه ص ١٧٩ ، والأزهية ص ١٨٢ ، ١٩٦ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٩٦ ، ٢٩٧ ، ٣٠٠ ، ١١ / ١٩٠ ، ١٩١ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٤٠ ، وشرح التصريح ٢ / ١٣٥ ، والكتاب ٢ / ٣٢٣ ، ومجالس ثعلب ص ١٦٩ ، ٥١٥ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٨٧٦ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٥٤ ، والمقتضب ٤ / ٤١٠ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٥ / ١٢٣ ، والقرطبي ١٧ / ١٥٧.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٥٧) عن الكلبي.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) أخرجه مسلم ١ / ٢٠٤ ، كتاب الطهارة ، باب : وجوب الطهارة للصلاة (١ / ٢٢٤) ، والترمذي ١ / ٥ ـ

٤٦٦

الثاني : أن يكون من أكرم ما يمكنه ؛ ولا يخرج الرديء كقوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢٦٧].

الثالث : أن يتصدق به وهو يحبّه ، ويحتاج إليه لقوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] وقوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة : ١٧٧].

وقال عليه الصلاة والسلام «أفضل الصّدقة أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتّى إذا بلغت التّراقي قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا» (١).

الرابع : أن تصرف صدقته إلى الأحوج فالأحوج ، ولذلك خص تعالى أقواما بأخذها ، وهو أهل المبهمات.

الخامس : أن تخفي الصّدقة لقوله تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٧١].

السادس : ألّا يتبعها منّا ولا أذى ، لقوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤].

السابع : أن يقصد بها وجه الله تعالى ، ولا يرائي لقوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ٢٠].

الثامن : أن يستحقر ما يعطي وإن كثر ؛ لأن الدّنيا كلها قليلة ، قال تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦] في أحد التأويلات.

التاسع : أن يكون من أحبّ الأموال إليه ، وأن يكون كثيرا لقوله عليه الصلاة والسلام «أفضل الرّقاب أغلاها وأنفسها عند أهلها» (٢).

العاشر : ألا يرى عزّ نفسه ، وذلّ الفقير ، بل يكون الأمر بالعكس.

(فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يعني الجنّة.

قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ).

فيه أوجه (٣) :

أحدها : أنه معمول للاستقرار العامل في «له أجر» أي : استقر له أجر في ذلك اليوم.

__________________

ـ أبواب الطهارة ، باب : لا تقبل صلاة بغير طهور (١) ، وابن ماجه ١ / ١٠٠ ، كتاب الطهارة ، باب : لا يقبل صلاة بغير طهور (٢٧١) وأبو داود ١ / ١٦ ، كتاب الطهارة ، باب : فرض الوضوء (٥٩).

(١) متفق عليه من حديث أبي هريرة.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٥.

٤٦٧

الثاني : أنه مضمر ، أي : اذكر ، فيكون مفعولا به.

الثالث : أنهم يؤجرون «يوم ترى» فهو ظرف على أصله.

الرابع : أن العامل فيه «يسعى» أي : يسعى نور المؤمنين والمؤمنات يوم تراهم هذا أصله.

الخامس : أن العامل فيه «فيضاعفه». قالهما أبو البقاء.

قوله : (يَسْعى) حال ؛ لأن الرّؤية بصرية ، وهذا إذا لم تجعله عاملا في «يوم» ، و (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ظرف للسعي ، ويجوز أن يكون حالا من «نورهم».

قوله : (وَبِأَيْمانِهِمْ) ، أي : وفي جهة أيمانهم.

وهذه قراءة العامة (١) ، أعني بفتح الهمزة جمع يمين.

وقيل : الباء بمعنى «عن» أي : عن جميع جهاتهم ، وإنما خص الأيمان لأنها أشرف الجهات.

وقرأ (٢) أبو حيوة وسهل بن شعيب : بكسرها.

وهذا المصدر معطوف على الظرف قبله ، والباء سببية ، أي : يسعى كائنا وثابتا بسبب أيمانهم.

وقال أبو البقاء (٣) : تقديره : وبأيمانهم استحقّوه ، أو بأيمانهم يقال لهم : بشراكم.

فصل في المراد بهذا اليوم

المراد من هذا اليوم يوم المحاسبة.

واختلفوا في هذا النور.

فقال الحسن : هو الضياء الذي يمرون فيه (٤)(بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : قدّامهم.

«وبأيمانهم» ، قال الفرّاء : «الباء» بمعنى «في» أي : في أيمانهم ، أو بمعنى : «عن أيمانهم».

وقال الضحاك : النور هداهم ، وبأيمانهم كتبهم ، واختاره الطبري (٥).

أي : يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم ، وفي أيمانهم كتب أعمالهم ، ف «الباء» على هذا بمعنى «في» ، ويجوز على هذا أن يوقف على (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ولا يوقف إذا كانت بمعنى «عن».

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٦١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٥.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٠٧ ، ١٢٠٨.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٥٨).

(٥) ينظر : جامع البيان ١١ / ٦٧٦.

٤٦٨

وعلى قراءة سهل بن شعيب وأبي حيوة : «وبإيمانهم» بكسر الألف ، أراد الإيمان الذي هو ضد الكفر ، وعطف ما ليس بظرف على الظّرف لأن معنى الظرف الحال ، وهو متعلق بمحذوف.

والمعنى : يسعى كائنا بين أيديهم ، وكائنا بأيمانهم.

وقيل : أراد بالنور : القرآن.

وعن ابن مسعود : «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يؤتى نوره كالنّخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم ، وأدناهم نورا من نوره على إبهام رجله ، فيطفأ مرة ويوقد أخرى»(١).

قال الحسن : ليستضيئوا به على الصّراط (٢).

وقال مقاتل : ليكون لهم دليلا إلى الجنّة (٣).

قوله : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ).

«بشراكم» مبتدأ ، و «اليوم» ظرف ، و «جنّات» خبره على حذف مضاف أي : دخول جنّات وهذه الجملة في محل نصب بقول مقدّر ، وهو العامل في الظرف ، يقال لهم : بشراكم اليوم دخول جنّات (٤).

قال القرطبي (٥) : «ولا بدّ من تقدير حذف المضاف ؛ لأن البشرى حدث ، والجنة عين ، فلا تكون هي هي».

وقال مكي (٦) : وأجاز الفراء نصب «جنّات» على الحال ، ويكون «اليوم» خبر «بشراكم» قال : «وكون «جنّات» حالا لا معنى له ؛ إذ ليس فيها معنى فعل ، وأجاز أن يكون «بشراكم» في موضع نصب على «يبشرونهم بالبشرى» ، وينصب «جنات» بالبشرى وكله بعيد ، لأنه يفصل بين الصلة والموصول باليوم». انتهى.

وعجيب من الفرّاء كيف يصدر عنه ما لا يتعقّل ، ولا يجوز صناعة ، كيف تكون جنات حالا ، وماذا صاحب الحال؟ (٧).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٧٦) والحاكم (٢ / ٤٧٨) عن عبد الله بن مسعود موقوفا.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وقال الذهبي : على شرط البخاري.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٠) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٠) وعزاه إلى ابن شيبة وابن المنذر.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٥٨) عن مقاتل.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٥.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٥٨.

(٦) ينظر : المشكل ٢ / ٧١٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٥.

(٧) الدر المصون ٦ / ٢٧٥.

٤٦٩

وقوله : (خالِدِينَ فِيها) حال من الدخول المحذوف ، التقدير : بشراكم اليوم دخول الجنة جنات تجري من تحتها الأنهار مقدرين الخلود فيها.

قال القرطبي (١) : «ولا تكون الحال من «بشراكم» لأن فيه فصلا بين الصلة والموصول ، ويجوز أن تكون مما دلّ عليه البشرى كأنه قال : يبشرون خالدين فيها ، ويجوز أن يكون الظّرف الذي هو «اليوم» خبرا عن «بشراكم» ، و «جنات» بدلا من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم ، و «خالدين» حال حسب ما تقدم».

فصل في العامل في قوله : «خالدين»

قال شهاب الدّين (٢) : «خالدين» نصب على الحال ، والعامل فيها المضاف محذوف ، إذ التقدير : بشراكم دخولكم جنات خالدين فيها ، فحذف الفاعل وهو ضمير المخاطب ، [وأضيف المصدر لمفعوله ، فصار دخول جنات](٣) ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف فيه مقامه في الإعراب ، ولا يجوز أن يكون «بشراكم» هو العامل فيها ؛ لأنه مصدر ، وقد أخبر عنه قبل ذكر متعلقاته ، فيلزم الفصل بأجنبي ، وظاهر كلام مكي أنه عامل في الحال ، فإنه قال : «خالدين» نصب على الحال من الكاف والميم ، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها فيلزم أن يكون «بشراكم» هو العامل ، وفيه ما تقدم من الفصل بين المصدر ومعموله.

فصل في كون الفاسق مؤمنا أم لا

قال ابن الخطيب : تقدم في الكلام البشارة عند قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٢٥]. وهذه الآية تدل على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال يوم القيامة ؛ لأنه تعالى بين أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص (٤).

قال الكعبي : هذه الآية تدلّ على أن الفاسق ليس بمؤمن ؛ لأنه لو كان مؤمنا لدخل تحت هذه البشارة ، ولو كان كذلك لقطع بأنه من أهل الجنّة ؛ [ولما لم يكن كذلك ثبت أنه ليس بمؤمن](٥).

أجاب ابن الخطيب (٦) : [بأنا نقطع بأن الفاسق من أهل الجنة](٧) ، لأنه إما أن يدخل

النار ، أو أنه ممن دخلها ، لكنه سيخرج منها ، وسيدخل الجنة ، ويبقى فيها أبد الآباد ، فإذن يقطع بأنه من أهل الجنة ، فسقط الاستدلال.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٥٨.

(٢) الدر المصون ٦ / ٢٧٥.

(٣) سقط من ب.

(٤) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ١٩٥.

(٥) سقط من أ.

(٦) التفسير الكبير ٢٩ / ١٩٥.

(٧) سقط من أ.

٤٧٠

قوله : «ذلك الفوز» هذه الإشارة عائدة إلى جميع ما تقدم من النور والبشرى بالجنّات المخلدة.

قوله : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ).

العامل في «يوم» (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وقيل : «هو بدل من اليوم الأول».

وقال ابن الخطيب (١) منصوب ب «اذكر» مقدّرا.

واعلم أنه لما شرح حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين ، فقال : يوم يقول.

قوله : (لِلَّذِينَ آمَنُوا). «اللام» للتبليغ.

و (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) قراءة العامة : «انظرونا أمر من النّظر».

وحمزة : «أنظرونا» (٢) بقطع الهمزة ، وكسر الظّاء من الإنظار بمعنى الانتظار.

وبها قرأ الأعمش ، ويحيى بن وثّاب (٣) ، أي : انتظرونا لنلحق بكم ، فنستضيء بنوركم. والقراءة الأولى يجوز أن تكون بمعنى هذه ، إذ يقال (٤) : نظره بمعنى انتظره ، وذلك أنّه يسرع بالخواص على نجب إلى الجنة ، فيقول المنافقون : انتظرونا لأنّا مشاة لا نستطيع لحوقكم ، ويجوز أن يكون من النظر وهو الإبصار ؛ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم ، فيضيء لهم المكان ، وهذا أليق بقوله : (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ). قال معناه الزمخشري (٥).

إلّا أن أبا حيان قال (٦) : إن النّظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه إلا في الشّعر ، إنما يتعدى ب «إلى».

قوله : (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي : نستضيء من نوركم.

و «القبس» : الشعلة من النار أو السّراج.

قال ابن عبّاس وأبو أمامة : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة (٧).

__________________

(١) التفسير الكبير ٢٩ / ١٩٥.

(٢) ينظر : السبعة ٦٢٦ ، والحجة ٦ / ٢٦٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥٠ ، وحجة القراءات ٦٩٩ ، والعنوان ١٨٦ ، وشرح شعلة ٥٩٨ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣٩ ، وإتحاف ٢ / ٥٢١.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٦٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢٠ ، والقرطبي ١٧ / ١٥٩.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٦.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٧٥.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٢٠.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٧٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥١) وزاد نسبته إلى ابن مردويه والبيهقي في «البعث» عن ابن عباس.

٤٧١

قال الماوردي (١) : أظنّها بعد فصل القضاء ، ثم يعطون نورا يمشون فيه.

قال المفسّرون (٢) : يعطي الله كل أحد يوم القيامة نورا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ، ويعطي المنافقين [نورا خديعة لهم ، بدليل قوله تعالى : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢].

وقيل : إنما يعطون النور ؛ لأن جميعهم أهل دعوة](٣) دون الكافر ، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه. قاله ابن عباس.

وقال أبو أمامة : يعطى المؤمن النور ، ويترك الكافر والمنافق بلا نور.

وقال الكلبي : بل يستضيء المنافق بنور المؤمنين ، [فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحا وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين ، فذلك قول المؤمنين](٤) : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) [التحريم : ٨] خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون ، فإذا بقي المنافقون في الظلمة ، فإنهم لا يبصرون مواضع أقدامهم ، قالوا للمؤمنين : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ). قيل : ارجعوا «وراءكم» ، أي : إلى المواضع التي أخذنا منها النور ، فاطلبوا هناك نورا لأنفسكم ، فإنكم لا تقتبسون من نورنا ، فلما رجعوا وانعزلوا في طلب النور (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ)(٥).

وقيل : معناه هلّا طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا؟ (٦).

قوله : «وراءكم» فيه وجهان (٧) :

أظهرهما : أنه منصوب ب «ارجعوا» على معنى ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور ، فالتمسوا هناك ممن يقتبس ، أو ارجعوا إلى الدّنيا فالتمسوا نورا بتحصيل سببه ، وهو الإيمان ، أو يكون معناه : فارجعوا خائبين وتنحّوا عنّا فالتمسوا نورا آخر ، فلا سبيل لكم إلى هذا النور.

والثاني : أن «وراءكم» اسم للفعل فيه ضمير فاعل ، أي : ارجعوا «رجوعا» قاله أبو البقاء (٨).

ومنع أن يكون ظرفا ل «ارجعوا».

قال : لقلّة فائدته ؛ لأن الرّجوع لا يكون إلّا إلى وراء.

قال شهاب الدين (٩) : «وهذا فاسد ؛ لأن الفائدة جليلة كما تقدم شرحها».

__________________

(١) ينظر : النكت والعيون ٥ / ٤٧٤.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٩.

(٣) سقط من أ.

(٤) سقط من أ.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٥٩) عن الكلبي.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٥٩.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٦.

(٨) ينظر البيتان في إعراب القرآن ص ١٢٠٨.

(٩) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٦.

٤٧٢

قوله : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ).

العامة على بنائه للمفعول ، والقائم مقام الفاعل يجوز أن يكون «بسور» وهو الظاهر ، وأن يكون الظرف.

وقال مكي (١) : «الباء» مزيدة ، أي : ضرب سور. ثم قال : «والباء متعلقة بالمصدر أي : ضربا بسور».

وهذا متناقض (٢) ، إلّا أن يكون قد غلط عليه من النساخ ، والأصل : والباء متعلقة بالمصدر ، والقائم مقام الفاعل الظرف ، وعلى الجملة هو ضعيف ، والسور : البناء المحيط وتقدم اشتقاقه في أول البقرة (٣).

قوله : «له باب». مبتدأ وخبر في موضع جرّ صفة ل «سور».

وقوله : (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) هذه الجملة يجوز أن تكون في موضع جر صفة ثانية ل «سور» ، ويجوز أن تكون في موضع رفع صفة ل «باب» ، وهو أولى لقربه ، والضمير إنما يعود إلى الأقرب إلا بقرينة (٤).

وقرأ زيد بن علي (٥) ، وعمرو بن عبيد : «فضرب» مبنيّا للفاعل ، وهو الله أو الملك.

فصل في المراد بالسور

«السور» : حاجز بين الجنة والنار.

قال القرطبي (٦) : «روي أن ذلك السّور ب «بيت المقدس» عند موضع يعرف ب «وادي جهنم» فيه الرّحمة يعني : ما يلي منه المؤمنين ، وظاهره من قبله العذاب يعني : ما يلي المنافقين».

قال كعب الأحبار رضي الله عنه : هو الباب الذي ب «بيت المقدس» المعروف ب «باب الرحمة».

وقال عبد الله بن عمرو : إنه سور ب «بيت المقدس» الشرقي ، باطنه فيه المسجد ، وظاهره من قبله العذاب ، يعني : جهنم ونحوه عن ابن عباس (٧).

__________________

(١) ينظر : المشكل ٢ / ٧١٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٦.

(٣) آية رقم (٢٣).

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٢١ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٦.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٦٠.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٧٨) والحاكم (٤ / ٦٠١) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. ـ

٤٧٣

وقال زياد بن أبي سوادة : قام عبادة بن الصّامت على سور ب «بيت المقدس» الشرقي فبكى ، وقال : من ها هنا أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى جهنم (١).

وقال قتادة : هو حائط بين الجنّة والنار ، (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) يعني : الجنة ، (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) يعني : جهنم (٢).

وقال مجاهد : إنّه حجاب. كما في «الأعراف» وقد مضى القول فيه.

وقد قيل : إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين ، والعذاب الذي هو في ظاهره ظلمة المنافقين.

وقيل : السّور عبارة عن منع المنافقين عن طلب المؤمنين.

قوله تعالى : (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(١٧)

قوله : (يُنادُونَهُمْ) يجوز أن يكون حالا من الضمير في «بينهم». قاله أبو البقاء(٣).

وهو ضعيف (٤) لمجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٢) وعزاه لعبد بن حميد عن عبادة بن الصامت وأخرجه الحاكم (٢ / ٤٧٩) من طريق محمد بن ميمون عن بلال بن عبد الله عن عبادة.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ورده الذهبي فقال : بل منكر وآخره باطل لأنه ما اجتمع عبادة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هناك ثم من هو ابن ميمون وشيخه وفي نسخة أبي مسعر ، عن سعيد عن زياد بن أبي سوادة قال : رئي عبادة بن الصامت ببيت المقدس يبكي وقال : من ها هنا أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى جهنم فهذا المرسل أجود.

والطريق المرسل هو الذي ذكره المؤلف.

قلت : وفي سماع زياد من عبادة كلام وقد توقف أبو حاتم في سماعه منه.

انظر جامع التحصيل ص (١٧٨).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٧٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٢) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٠٨.

(٤) الدر المصون ٦ / ٢٧٧.

٤٧٤

وأن تكون مستأنفة ، وهو الظاهر.

وقوله : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) يجوز أن يكون تفسيرا للنداء ، وأن يكون منصوبا بقول مقدّر.

فصل في معنى الآية (١)

والمعنى : ينادي المنافقون المؤمنين (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) يعني : في الدنيا نصلّي مثل ما تصلّون ، ونغزو مثل ما تغزون ، ونفعل مثل ما تفعلون؟.

(قالُوا : بَلى) ، أي : يقول المؤمنون : بلى ، قد كنتم معنا في الظّاهر ، (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي : استعملتموها في الفتنة.

وقال مجاهد : أهلكتموها بالنّفاق (٢).

وقيل : بالمعاصي. قاله أبو سنان. وقال أبو نمير الهمداني : بالشهوات واللّذّات.

وقوله : (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي : بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموت ، وبالمؤمنين الدّوائر.

وقيل : تربّصتم بالتوبة.

(وَارْتَبْتُمْ) أي : شككتم في التوحيد ، أو النبوة ، أو البعث.

(وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ) أي : الأباطيل.

وقيل : طول الأمل ، وهو ما كانوا يتمنّونه من ضعف المؤمنين ، ونزول الدّوائر بهم.

وقال قتادة : الأماني هنا خدع الشيطان (٣).

وقيل : الدنيا ، قاله عبد الله بن عباس (٤).

وقال أبو سنان : هو قولهم : (سَيُغْفَرُ لَنا).

وقال بلال بن سعد : ذكرك حسناتك ، [ونسيانك](٥) سيئاتك غرّة (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) يعني : الموت.

وقيل : نصرة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦).

وقال قتادة : إلقاؤهم في النّار (٧).

قوله : (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦٠.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٠) عن مجاهد.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٨٠) عن قتادة ومجاهد وابن زيد.

وذكره القرطبي (١٧ / ١٦٠) عن قتادة.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي (١٧ / ١٦٠).

(٥) سقط من أ.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

٤٧٥

قرأ العامة : «الغرور» بفتح الغين ، وهو صفة على «فعول» ، والمراد به : الشّيطان ، أي : خدعكم بالله الشيطان.

وقرأ أبو حيوة ، ومحمد (١) بن السميفع ، وسماك بن حرب : «الغرور» بالضم ، وهو مصدر ، والمراد به الأباطيل.

عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطّ لنا خطوطا ، وخط منها خطّا ناحية ، فقال : «أتدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمنّي ، وتلك الخطوط الآمال ، بينما يتمنّى إذ جاءه الموت»(٢).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : خطّ لنا رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطّا مربّعا وخط في وسطه خطّا ، وجعله خارجا منه ، وخط عن يمينه ويساره خطوطا صغارا ، فقال : «هذا ابن آدم وهذا أجله يحيط به ، وهذا أمله قد جاوز أجله ، وهذه الخطوط الصّغار الأعراض ، فإن أخطأه هذا نهشه هذا» (٣).

قوله : «فاليوم» منصوب ب «يؤخذ» ، ولا يبالى ب «لا» النافية ، وهو قول الجمهور (٤) وقد تقدم آخر «الفاتحة» ثلاثة أقوال. وقرأ ابن عامر (٥) : «تؤخذ» بالتأنيث للفظ الفدية.

والباقون : بالياء من تحت ؛ لأن التأنيث مجازي.

فصل في المراد بالفدية

قوله : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أيها المنافقون ، (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : أيأسهم من النّجاة. والمراد بالفدية قيل : لا يقبل منكم إيمان ، ولا توبة ؛ لأن التكليف قد زال وحصل الإلحاد.

وقيل : لا يقبل منكم فدية تدفعون بها العذاب عن أنفسكم كقوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) [البقرة : ١٢٣] ، والفدية : ما يفتدى به ، فهو يتناول الإيمان والتوبة والمال.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٦٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢١ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٧.

(٢) أخرجه البخاري ١١ / ٢٣٩ كتاب الرقاق ، باب : في «الأمل» وطوله حديث رقم (٦٤١٨) من حديث أنس.

(٣) أخرجه البخاري ١١ / ٢٣٩ كتاب الرقاق ، باب : في الأمل وطوله (٦٤١٧) والترمذي ٤ / ٥٤٨ كتاب صفة القيامة ، باب : (٢٢) (٢٤٥٤) وابن ماجه في المصدر السابق (٤٢٣١) والدارمي ٢ / ٣٠٤.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٧.

(٥) ينظر : إعراب القراءات السبع ٢ / ٣٥٢ ، وحجة القراءات ٧٠٠ ، والعنوان ١٨٦ ، وشرح شعلة ٥٩٨ ، وشرح الطيبة ٦ / ٤٠ ، وإتحاف ٢ / ٥٢١.

٤٧٦

قال ابن الخطيب (١) : وهذا يدلّ على أن قبول التّوبة غير واجب عقلا على ما يقوله المعتزلة ؛ لأنه ـ تعالى ـ بين أنه لا يقبل الفدية أصلا ، والتوبة فدية ، فتكون الآية دالة على أنّ التوبة غير مقبولة أصلا ، وإذا كان كذلك لم تكن التوبة واجبة القبول عقلا.

قوله : (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

عطف الكافر على المنافق ، والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، فيقتضي أن يكون المنافق كافرا؟.

وأجيب بأن المراد منه الذين أظهروا الكفر ، وإلّا فالمنافق كافر.

قوله : (مَأْواكُمُ النَّارُ) أي : هي مصيركم.

وقوله : (هِيَ مَوْلاكُمْ) يجوز أن يكون مصدرا أي : ولايتكم ، أي : ذات ولايتكم.

قال القرطبي (٢) : «تملك أمرهم ، بمعنى أن الله ـ تعالى ـ يركب فيها الحياة والعقل ، فهي تتميز غيظا على الكفّار ، ولهذا خوطبت في قوله تعالى : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق : ٣٠].

ويجوز أن يكون مكانا ، أي : مكان ولايتكم ، وأن يكون بمعنى أولى بكم ، كقوله تعالى : (هِيَ مَوْلاكُمْ) قاله الكلبي ، وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة».

قال ابن الخطيب (٣) : وهذا الذي قالوه معنى ، وليس تفسيرا للفظ ، لأنه لو كان «مولى وأولى» بمعنى واحد في اللغة لصحّ استعمال كل واحد منهما مكان الآخر ، وكان يجب أن يصحّ أن يقال : هذا أولى فلان ، كما يقال : مولى فلان ، ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى ، وليس بتفسير ، وإنما نبّهنا على هذه الدقيقة ؛ لأن الشريف المرتضى لما تمسك في إمامة علي ـ رضي الله عنه ـ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» (٤) قال : أحد معاني «مولى» أنه أولى. واحتج في ذلك بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذه الآية ، بأن «مولى» معناه «أولى» إذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه ؛ لأن ما

__________________

(١) التفسير الكبير ٢٩ / ١٩٨.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٦١.

(٣) التفسير الكبير ٢٩ / ١٩٨.

(٤) أخرجه النسائي في خصائص عليّ (ص ١٥) وأحمد (٣ / ١٠٩) والحاكم (٣ / ١٠٩) وابن حبان (٢٢٠٥ ـ موارد) وابن أبي عاصم في السنة (١٣٦٥) والطبراني (٤٩٦٩ ، ٤٩٧٠) من طرق عن زيد بن أرقم.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وصححه ابن حبان.

وفي الباب عن جماعة من الصحابة تنظر أحاديثهم في مجمع الزوائد (٩ / ١٠٧) وسلسلة الأحاديث الصحيحة (٤ / ٣٣٠).

وقد خرجنا جميع أحاديث هؤلاء في تعليقنا على كتاب الكامل لابن عدي.

٤٧٧

عداه إمّا بيّن الثبوت ككونه ابن العم والنّاصر ، أو بيّن الانتفاء كالمعتق ، والمعتق ، فيكون على التقدير الأول عبثا ، وعلى الثاني كذبا.

قال ابن الخطيب (١) رحمه‌الله : وأما نحن فقد بيّنا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضع معنى لا تفسير ، وحينئذ يسقط الاستدلال به.

وفي الآية وجه آخر ، وهو أن معنى قوله : (هِيَ مَوْلاكُمْ) أي : لا مولى لكم ؛ لأن من كانت النار مولاه ، فلا مولى له ، كما يقال : ناصره الخذلان ومعينه البكاء ، أي : لا ناصر له ولا معين ، وهذا متأكد بقوله تعالى : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] ، ومنه قوله تعالى : (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) [الكهف : ٢٩].

وقوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : هي ، ومعناه (٢) : ساءت مرجعا ومصيرا.

قوله : (أَلَمْ يَأْنِ).

قرأ العامة : «ألم». وقرأ الحسن (٣) وأبو السمال : «ألمّا».

وأصلها «ألم» زيدت عليها «ما» ، فهي نفي كقول القائل : قد كان كذا ، و «لم» نفي ، كقوله : قد كان كذا.

وقوله : (أَنْ تَخْشَعَ). فاعل «يأن» ، أي : ألم يقرب خشوع قلوبهم ويحين (٤) ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٤٧٢٠ ـ ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا

وأن يحدث الشّيب المبين لنا عقلا (٥)

وماضيه «أنى» بالقصر «يأني».

ويقال : «آن لك ـ بالمد ـ أن تفعل كذا ، يئين أينا» أي : مثل «أنى لك» وهو مقلوب منه.

وأنشد ابن السّكّيت : [الطويل]

٤٧٢١ ـ ألمّا يئن لي أن تجلّى عمايتي

وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا (٦)

فجمع بين اللغتين.

وقرأ العامة : «يأن» مضارع «أنى» أي : حان وقرب ، مثل رمى يرمي.

__________________

(١) التفسير الكبير ٢٩ / ١٩٩.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦١.

(٣) وروي عن الحسن أنه قرأ «ألم يين» ، ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٦٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٧ ، والقرطبي ١٧ / ١٦١ ، وإتحاف ٢ / ٥٢٢.

(٤) ينظر : القرطبي (السابق).

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦١.

(٦) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦١.

٤٧٨

والحسن (١) : «يئن» مضارع «آن» بمعنى «حان» أيضا ، مثل : «باع يبيع».

و «اللام» للتبيين. قاله أبو البقاء ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف ، أي : أعني للذين.

فصل في نزول هذه الآية

في «صحيح مسلم» ، عن ابن مسعود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) إلا أربع سنين.

قال الخليل (٢) : العتاب مخاطبة الاذلال ، ومذاكرة الموجدة. تقول : عاتبت معاتبة.

(أَنْ تَخْشَعَ) ، أي : تذل وتلين (قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ).

وروي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ترفهوا ب «المدينة» فنزلت الآية ، ولما نزلت هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله يستبطئكم بالخشوع» فقالوا عند ذلك : خشعنا (٣).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن (٤).

وقيل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة ، وذلك لما سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة ، فنزلت : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) إلى قوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ١ ، ٢ ، ٣] فأخبرهم أن القصص أحسن من غيره ، وأنفع لهم ، فكفّوا عن سلمان ، ثم سألوه مثل الأول ، فنزلت : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الآية ، فعلى هذا التأويل يكون (فَالَّذِينَ آمَنُوا) في العلانية باللسان](٥).

وقال السّدي وغيره : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالظّاهر وأسرّوا الكفر (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ).

وقيل : نزلت في المؤمنين.

قال سعد : قيل : يا رسول الله ، لو قصصت علينا؟ فنزل : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) فقالوا بعد زمان : لو حدثتنا ، فنزل قوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر :

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٦٤ ، والكشاف ٤ / ٤٧٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٧.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ٢٤٨.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٤) وعزاه إلى ابن أبي شيبة في «المصنف» عن عبد العزيز بن أبي رواد أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٤) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٥) سقط من أ.

٤٧٩

٢٣] فقالوا بعد مدة : لو ذكرتنا ، فأنزل الله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآية.

وقيل (١) : هذا خطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لأنه قال عقيبه : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي : ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقرآن ، وألّا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وقوم عيسى ؛ إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم ، فقست قلوبهم.

قوله : (وَما نَزَلَ).

قرأ نافع وحفص : «نزل» مخففا مبنيّا للفاعل.

وباقي السبعة كذلك إلّا (٢) أنها مشددة.

والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية (٣) : «ما نزّل» مشددا مبنيّا للمفعول.

وعبد الله (٤) : «أنزل» مبنيّا للفاعل ، وهو الله تعالى.

و «ما» في قراءة «ما نزل» مخففا ، يتعين أن تكون اسمية ، ولا يجوز أن تكون مصدرية لئلا يخلو الفعل من الفاعل ، وما عداها يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى «الذي».

فإن قلت (٥) : فقراءة الجحدري ومن معه ينبغي أن تكون فيها اسمية لئلّا يخلو الفعل من مرفوع؟ فالجواب : أن الجار وهو قوله : «من الحقّ» يقوم مقام الفاعل.

فصل في معنى الآية

قال ابن الخطيب (٦) : يحتمل أن يكون المراد بذكر الله ، وما نزل من الحق هو القرآن ؛ لأنه جامع للوصفين الذّكر والموعظة ، وأنه حق نازل من السماء ، ويحتمل أن يكون المراد هو ذكر الله مطلقا ، و (ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) هو القرآن ، وإنما قدم الخشوع بالذكر على الخشوع بما نزل من القرآن ؛ لأن الخشوع والخوف والخشية لا تحصل إلا عند ذكر الله تعالى ، فأما حصولها عند سماع القرآن ، فذلك لأجل اشتمال القرآن على ذكر الله.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٦٢.

(٢) ينظر : السبعة ٦٢٦ ، والحجة ٦ / ٢٧٣ ، ٢٧٤ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥١ ، وحجة القراءات ٧٠٠ ، والعنوان ١٨٦ ، وشرح شعلة ٥٩٨ ، وشرح الطيبة ٦ / ٤٠ ، وإتحاف ٢ / ٥٢٢.

(٣) ينظر السابق ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٦٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٧ ، والتخريجات النحوية ٢٧٧.

(٤) السابق.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٧.

(٦) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٠٠.

٤٨٠