اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

ومعنى الآية : أنكم مكذبون بالرّزق ، أي ؛ تضعون الكذب مكان الشّكر ، كقوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ١٥] ، أي : لم يكونوا يصلون ، ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصّلاة.

قال القرطبي (١) : وفيه بيان أن ما أصاب العباد من خير ، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابا ، بل ينبغي أن يروه من قبل الله ـ تعالى ـ ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة ، أو صبر إن كان مكروها تعبدا له وتذلّلا.

وروى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون» خفيفة (٢).

وعن ابن عباس أيضا : أن المراد به الاستسقاء بالأنواء ، وهو قول العرب : مطرنا بنوء كذا ، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي «صحيح مسلم» عن ابن عبّاس قال : مطر النّاس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصبح من النّاس شاكر ومنهم كافر».

فقال بعضهم : هذه رحمة الله ؛ وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا ، قال : فنزلت هذه الآية : (* فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) حتى بلغ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(٣).

وعنه أيضا : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في سفر فعطشوا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرأيتم إن دعوت الله لكم فسقيتم لعلّكم تقولون : هذا المطر بنوء كذا» ، فقالوا : يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. فصلّى ركعتين ، ودعا ربه ، فهاجت ريح ، ثم هاجت سحابة فمطروا ، فمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له ، وهو يقول : سقينا بنوء كذا ، ولم يقل هذا من رزق الله ، فنزلت : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(٤).

أي : شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة ، وتقولون : سقينا بنوء كذا ، كقولك : جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ ، وجعلت إنعامي إليك أن اتّخذتني عدوّا.

قال الشّافعي : لا أحب لأحد أن يقول : مطرنا بنوء كذا ، وإن كان النّوء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ، ولا ينفع ، ولا يمطر ، ولا يحبس شيئا من المطر ، والذي أحبّ

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٤٨.

(٢) انظر : القراءة السابقة.

(٣) أخرجه مسلم (١ / ٨٤) كتاب الإيمان ، باب : بيان كفر من قال مطرنا بالنوء حديث (١٢٧ / ٧٣) من حديث ابن عباس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٤) وعزاه إلى ابن مردويه.

٤٤١

أن يقول : مطرنا وقت كذا ، كما تقول : مطرنا شهر كذا ، ومن قال : مطرنا بنوء كذا ، وهو يريد أن النّوء أنزل الماء كما يقول بعض أهل الشّرك فهو كافر ، حلال دمه إن لم يتب.

وقيل (١) : معنى قوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي : معاشكم وتكسبكم تكذيب محمد ، كما يقال : فلان جعل قطع الطريق معاشه ، فعلى هذا التّكذيب عام ، وعلى الأول التكذيب خاص والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق ، كما يقال للمأكول : رزق ، وللمقدور : قدرة وللمخلوق : خلق.

قوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٩٦)

قوله : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ).

ترتيب الآية الكريمة : فلو لا ترجعونها ـ أي النّفس ـ إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين.

و «لو لا» الثانية مكررة للتوكيد (٢) قاله الزمخشري (٣).

قال شهاب الدين (٤) : فيكون التقدير : فلو لا فلو لا ترجعونها من باب التوكيد اللفظي ، ويكون «إذا بلغت» ظرفا ل «ترجعونها» مقدما عليه ؛ إذ لا مانع منه ، أي فلو لا ترجعون النّفس في وقت بلوغها الحلقوم.

وقوله : (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ).

جملة حالية من فاعل «بلغت».

والتنوين في «حينئذ» عوض من الجملة المضاف إليها أي : إذا بلغت الحلقوم ، خلافا للأخفش ، حيث زعم أن التنوين للصّرف ، والكسر للإعراب (٥). وقد مضى تحقيقه.

وقرأ العامة : بفتح نون «حينئذ» لأنه منصوب على الظرف ، ناصبه «تنظرون» وعيسى (٦) : بكسرها.

__________________

(١) ينظر الرازي ١٧ / ١٧٢.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٩.

(٣) الكشاف ٤ / ٤٧٠.

(٤) الدر المصون ٦ / ٢٦٩.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٩.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٥٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٩.

٤٤٢

وهي مشكلة لا تبعد عن الغلط عليه ، وخرجت على الإتباع لحركة الهمزة.

ولا عرف في ذلك ، فليس بأبعد من قرأ : «الحمد لله» بكسر الدال لتلازم المتضايفين ، ولكثرة دورهما على الخصوص (١).

فصل في تحرير معنى الآية

قال المفسرون (٢) : معنى الآية فهلا إذا بلغت النفس ، أو الروح الحلقوم ، ولم يتقدم لها ذكر؛ لأن ذلك معروف.

قال حاتم : [الطويل]

٤٧١٤ ـ أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر (٣)

وفي الحديث : «إنّ ملك الموت له أعوان يقطعون العروق ، ويجمعون الرّوح شيئا فشيئا حتّى ينتهي بها إلى الحلقوم ، فيتوفّاها ملك الموت» (٤).

(وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) أمري وسلطاني.

وقيل : تنظرون إلى الميت لا تقدرون له على شيء.

قال ابن عباس : يريد من حضر من أهل الميّت ينتظرون متى تخرج نفسه (٥).

ثم قيل : هو رد عليهم في قولهم لإخوانهم : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) [آل عمران : ١٥٦] ، فهلّا ردوا روح الواحد منهم إذا بلغت الحلقوم.

وقيل : المعنى فهلّا إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النّزع ، وأنتم حضور أمسكتم روحه في جسده مع حرصكم على امتداد عمره ، وحبكم لبقائه ، وهذا رد لقولهم : (نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤].

قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ).

يجوز أن يكون حالا ، أي : تنظرون في هذه الحال التي تخفى عنكم.

وأن تكون مستأنفة ، فيكون اعتراضا ، والاستدراك ظاهر (٦).

والبصر يجوز أن يكون من البصيرة ، والمعنى (٧) : ونحن أقرب إليه منكم بالقدرة والعلم والرّؤية.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٩.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٩.

(٣) تقدم.

(٤) له شاهد من حديث تميم الداري ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٨) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في «ذكر الموت» وأبي يعلى.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٤٩).

(٦) الدر المصون ٦ / ٢٦٩.

(٧) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٩.

٤٤٣

قال عامر بن عبد قيس : ما نظرت إلى شيء إلّا رأيت الله ـ تعالى ـ أقرب إليّ منه.

وأن يكون من البصر ، أي لا تنظرون أعوان ملك الموت ، والمعنى : أن رسلنا الذين يتولون قبض روحه أقرب إليه منكم لكن لا ترونهم.

قوله : (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ).

«إن كنتم» شرط ، جوابه محذوف عند البصريين لدلالة «فلو لا» عليه ، أو مقدم عند من يرى ذلك كما تقدم تقريره (١).

والمعنى (٢) : فهلا كنتم غير محاسبين ، ولا مجزيين بأعمالكم ، ومنه قوله تعالى : (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) [الصافات : ٥٣] ، أي : مجزيّون أو محاسبون. وقد تقدم.

وقيل : غير مملوكين ، ولا مقهورين.

قال الفراء وغيره : دنته ، ملكته.

قال الحطيئة : [الوافر]

٤٧١٥ ـ لقد ديّنت أمر بنيك حتّى

تركتهم أدقّ من الطّحين (٣)

يعنى : ملّكت.

ودانه : أي أذله واستعبده ، يقال : دنته فدان.

ومنه دانت له البلاد والعباد ، وقد تقدم في «الفاتحة» عند قوله (يَوْمِ الدِّينِ).

قوله : (تَرْجِعُونَها).

قال أبو البقاء (٤) : «ترجعونها» جواب «لو لا» الأولى ، وأغنى ذلك عن جواب الثانية.

وقيل : بعكس ذلك.

وقال الزمخشري : «إنّ «لو لا» الثانية تكرير». انتهى.

قال شهاب الدين (٥) : وتسمية مثل هذا جوابا ليس بصحيح ألبتة ؛ لأن هذه تحضيضية لا جواب لها ، إنما الجواب للامتناعية لوجود ، نحو : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النور : ٢١].

وقال ابن عطية (٦) : وقوله : «ترجعونها» سدّ مسدّ الأجوبة والبيانات التي تقتضيها التحضيضيات ، وإذا في قوله (فَلَوْ لا إِذا) ، وإن المتكررة ، وحمل بعض القول بعضا إيجازا واختصارا. انتهى.

__________________

(١) تفسير سورة البقرة آية (٢٣) ، وانظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٩.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٠.

(٣) ينظر ديوانه ص ٢٦ ، واللسان (دين) ، والقرطبي ١٧ / ١٥٠. ويروى : «لقد سوّست» وعليها فلا شاهد.

(٤) ينظر الإملاء ٢ / ١٢٠٦.

(٥) الدر المصون ٦ / ٢٦٩.

(٦) المحرر الوجيز ٥ / ٢٥٣.

٤٤٤

فجعل «إذا» شرطية ، وقوله بالأجوبة يعني ل «إذا» ، ول «إن» في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

والبيانات : يعني الأفعال التي حضض عليها ، وهي عبارة قلقة (١).

قال أبو حيان (٢) : «و «إذا» ليست شرطا ، بل ظرفا يعمل فيها «ترجعونها» المحذوف بعد «فلو لا» لدلالة «ترجعونها» في التحضيض الثاني عليه ، فجاء التحضيض الأول مقيدا بوقت بلوغ الحلقوم ، وجاء التّحضيض الثاني معلقا على انتفاء مربوبيتهم ، وهم لا يقدرون على رجوعها ، إذ مربوبيتهم موجودة فهم مقهورون ، لا قدرة لهم». انتهى.

فجعل «ترجعونها» المذكور ل «لو لا» الثانية ، وهو دال على محذوف بعد الأولى ، وهو أحد الأقوال التي نقلها أبو البقاء فيما تقدم (٣).

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

شرط آخر ، وليس هذا من اعتراض الشرط على الشرط نحو : «إن ركبت إن لبست فأنت طالق» حتى يجيء فيه ما تقدم في هذه المسألة ؛ لأن المراد هنا : إن وجد الشرطان كيف كانا فهل رجعتم بنفس الميت (٤)؟.

[وقال القرطبي (٥) : (تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يرجع الروح إلى الجسد إن كنتم صادقين ، أي : ولن ترجعونها فبطل](٦) زعمكم أنكم غير مملوكين ، ولا محاسبين ، و «ترجعونها» جواب لقوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) ، ولقوله : (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) وأجيبا بجواب واحد. قاله الفرّاء (٧) ، وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد ، ومنه قوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٣٨] ، أجيبا بجواب واحد ، وهما شرطان.

والمعنى : إن كان الأمر كما تقولون : إنه لا بعث ، ولا حساب ، ولا إله يجازي ، فهلّا تردون نفس من يعزّ عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ وإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إلى غيركم وهو الله عزوجل. قاله البغوي (٨).

وقيل : حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه.

وقيل : فيها تقديم وتأخير ، مجازها : «فلو لا وهلا إن كنتم غير مدينين ترجعونها تردّون نفس الميت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم» (٩).

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٢٧٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢١٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٠.

(٤) ينظر السابق.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٥٠.

(٦) سقط من ب.

(٧) ينظر : معاني القرآن له (٣ / ١٣٠).

(٨) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٢٩١.

(٩) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٠.

٤٤٥

ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم ، فقال : (فَأَمَّا إِنْ كانَ).

قد تقدّم الكلام في «أمّا» أول الكتاب.

وهنا أمر زائد ، وهو وقوع شرط آخر بعدها.

واختلف النحاة في الجواب المذكور بعدها ، هل هو ل «أما» أو ل «إن» وجواب الأخرى محذوف لدلالة المنطوق عليه والجواب لهما معا؟ ثلاثة أقوال (١) :

الأول : لسيبويه (٢).

والثاني : للفارسي في أحد قوليه ، وله قول آخر لسيبويه.

والثالث : للأخفش.

وهذا كما تقدم في الجواب بعد الشرطين المتواردين.

وقال مكي (٣) : «ومعنى «أما» عند أبي إسحاق الخروج من شيء إلى شيء ، أي : دع ما كنّا فيه ، وخذ في غيره».

وعلى هذا فيكون الجواب ل «إن» فقط ، لأن «أما» ليست شرطا ، ورجح بعضهم أن الجواب ل «أمّا» لأن «إن» كثر حذف جوابها منفردة فادعاء ذلك مع شرط آخر أولى.

قوله : (فَأَمَّا إِنْ كانَ).

الضمير في «كان» و «كان» و «كان» للمتوفى ، لدلالة «فلو لا ترجعونها» ، والمراد بالمقربين : السابقين لقوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ).

قوله : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ).

قرأ العامة : «فروح» بفتح الراء.

وقرأ ابن عباس ، وعائشة ، والحسن ، وقتادة ، ونصر بن عاصم (٤) ، والجحدري ورويس وزيد عن يعقوب وجماعة : بضم الراء.

وتروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥).

فمن قرأ بالفتح ، فمعناه : فله روح ، وهو الرّاحة. وهو قول مجاهد.

وقال سعيد بن جبير : فرج (٦).

وقال الضحاك : مغفرة ورحمة «وريحان» : استراحة (٧).

وقال مجاهد وسعيد بن جبير : رزق (٨).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٠.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ٤٤٢.

(٣) ينظر : المشكل ٢ / ٧١٤.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٥٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٠ ، وإتحاف ٢ / ٥١٧.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٠.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٦٦).

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ينظر المصدر السابق.

٤٤٦

قال مقاتل : [هو الرزق بلغة](١) «حمير». يقال : خرجنا نطلب ريحان الله ، أي : رزقه.

وقيل : هو الريحان الذي يشم.

قال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة (٢) فيشمه ثم تقبض روحه.

وقال أبو بكر الورّاق : الرّوح : النّجاة من النار والرّيحان : دخول دار القرار.

وقد تقدّم الكلام على «ريحان» وكيفية تعريفه في السورة قبلها.

وقوله : «فروح» مبتدأ ، خبره مقدر قبله ، أي : فله روح ، ويجوز أن يقدر بعده لاعتماده على فاء الجزاء.

قوله : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ).

«فسلام لك» مبتدأ وخبر (٣).

و «من أصحاب». قال الزمخشري (٤) : «فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي : يسلمون عليك».

وقال ابن جرير (٥) : «فسلام لك أنت من أصحاب اليمين».

وهذا يحتمل أن يكون كقول الزمخشري ، ويكون «أنت» تأكيدا للكاف في لك ، ويحتمل أن يكون أراد أن «أنت» مبتدأ ، و «من أصحاب» خبره ، ويؤيد هذا ما حكاه قوم من أن المعنى فيقال لهم : سلام عليكم لك إنك من أصحاب اليمين.

وأول هذه الأقوال هو الواضح البين ؛ ولذلك لم يعرج أبو القاسم على غيره (٦).

فصل في المقصود بهذا السلام

قال القرطبي (٧) : (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي : لست ترى منهم إلّا ما تحب من السلامة فلا تهتمّ ، فإنهم يسلمون من عذاب الله.

وقيل : المعنى : سلام لك منهم ، أي : أنت سالم من الاهتمام لهم ، والمعنى واحد.

وقيل : إن أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم.

__________________

(١) في ب : هو بلسان.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٥١).

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٠.

(٤) الكشاف ٤ / ٤٧٠.

(٥) ينظر : جامع البيان ١١ / ٦٦٧.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧١.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٥١.

٤٤٧

وقيل : معناه : سلمت أيها العبد ممّا تكره ، فإنك من أصحاب اليمين فحذف إنك.

وقيل : إنه يحيّا بالسلام إكراما.

فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل :

أحدها : عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت. قاله الضحاك.

قال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن ، قال : ربك يقرئك السلام.

الثاني : عند مساءلته في القبر يسلّم عليه منكر ونكير.

الثالث : عند بعثه في القيامة يسلم عليه الملك قبل وصوله إليها.

قال القرطبي (١) : «ويحتمل أن يسلم عليه في المواطن الثلاثة ، ويكون ذلك إكراما بعد إكرام».

قوله : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) بالبعث «الضّالين» عن الهدى ، وطريق الحق (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) كما قال : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ) إلى أن قال : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) [الصافات : ٦٧].

قوله : (وَتَصْلِيَةُ).

قرأ أبو عمرو في (٢) رواية الؤلؤي عنه ، وأحمد بن موسى ، والمنقري : بجر التاء عطفا على «حميم» ، أي : ونزل من تصلية جحيم.

والمعنى : إدخال في النّار.

وقيل : إقامة في الجحيم ، ومقاساة لأنواع عذابها.

يقال : أصلاه النّار وصلاه ، أي : جعله يصلاها.

والمصدر هنا أضيف إلى المفعول ، كما يقال : لفلان إعطاء مال ، أي : يعطي المال.

قوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ).

أي : هذا الذي قصصناه محض اليقين وخالصه (٣).

وجاز إضافة الحق إلى اليقين ، وهما واحد لاختلاف لفظهما ، وذلك من باب إضافة المترادفين على سبيل المبالغة.

قال المبرد : هو كقولك : عين اليقين وحق اليقين.

__________________

(١) السابق.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٧٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٧١.

(٣) ينظر : القرطبي ١٧ / ٢٦١.

٤٤٨

فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين ، وإن كانوا فعلوا ذلك في اللفظ الواحد ، فقالوا : صواب الصواب ، ونفس النفس مبالغة ، فلأن يفعلوا عند اختلاف اللفظ أولى(١).

وعند البصريين بمعنى : حق الأمر اليقين ، أو الخبر اليقين.

وقيل : هو توكيد ، كقولك : حق الحق ، وصواب الصواب. قاله ابن عطية.

وقيل : أصل اليقين أن يكون نعتا للحق فأضيف المنعوت إلى النّعت على الاتّساع والمجاز ، كقوله تعالى : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) [النحل : ٣٠].

قال ابن الخطيب (٢) : «هذه الإضافة كقولك : ثوب كتان ، وباب ساج بمعنى ثوب من

كتان ، وباب من ساج ، أي : لهو الحق من اليقين».

ويحتمل أن يكون المعنى : أنه الحق الذي يستحقه اليقين ، كقوله عليه الصلاة والسلام : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا : لا إله إلّا الله ، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها» (٣).

فالضمير يرجع إلى الكلمة ، أي : إلا بحق الكلمة ، ومن حق الكلمة أداء الزكاة والصلاة ، فكذلك حق اليقين ، بالاعتراف ، أي : بحق اليقين.

والمعنى : أنه يعترف بما قال الله ـ تعالى ـ في سورة «الواقعة» ، وفي حق الأزواج الثلاثة ، وعلى هذا المعنى إن اليقين لا يحق إلّا إذا صدق بما قاله ، فالتصديق حق اليقين الذي يستحقه.

قوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ).

أي : نزّه الله ـ تعالى ـ عن السّوء (٤).

و «الباء» يجوز أن تكون للحال ، أي : فسبّح ملتبسا باسم ربّك على سبيل التبرك كقوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) [البقرة : ٣٠] ، وأن تكون للتعدية على أن «سبح» يتعدى بنفسه تارة ، كقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) [من سورة الأعلى : ١] وبحرف الجر تارة كهذه الآية (٥).

وقال القرطبي (٦) : «والباء زائدة ، أي : سبح اسم ربك».

وادعاء زيادتها خلاف الأصل.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧١ ، والقرطبي ١٧ / ١٥١ ، ١٥٢.

(٢) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ١٧٧.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٢.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧١.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٥٢.

٤٤٩

و «العظيم» يجوز أن يكون صفة للاسم ، وأن يكون صفة ل «ربك» ؛ لأن كلّا منهما مجرور ، وقد وصف كل منهما في قوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٧٨] و «ذي الجلال».

ولتقارب المتضايفين ظهر الفرق في الوصف (١).

فصل في تحرير معنى الآية (٢)

قيل : معنى «فسبح» أي فصل بذكر ربك وبأمره.

وقيل : فاذكر اسم ربك العظيم وسبحه.

وعن عقبة بن عامر قال : لمّا نزلت : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال النبي عليه الصلاة والسلام : «اجعلوها في ركوعكم». ولما نزلت : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في سجودكم».

أخرجه أبو داود (٣).

وروى أبو طيبة عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [يقول] : «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» وكان أبو هريرة لا يدعها أبدا (٤).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧١.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٢.

(٣) أخرجه أحمد (٤ / ٥٥) وأبو داود (٨٦٩) وابن ماجه (٨٨٧) والدارمي (١ / ٢٩٩) والطيالسي (١ / ٩٨) رقم (٤٣١) والحاكم (٢ / ٤٧٧) وابن خزيمة (٦٠٠ ، ٦٠١ ، ٦٧٠) وأبو يعلى (٣ / ٢٧٩) وابن حبان (٥٠٦ ـ موارد) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١ / ٢٣٥) والبيهقي (٢ / ٨٦) والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (٢ / ٥٠٢) وابن حزم في «المحلى» (٣ / ٢٥٩) من طرق عن إياس بن عامر عن عقبة بن عامر به.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٤) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (٦٧٤) والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٤٩٢) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (١ / ١١٣) والحارث بن أبي أسامة كما في «المطالب» (٣ / ٣٨٣) رقم (٣٧٦٥) من طريق أبي شجاع عن أبي ظبية عن ابن مسعود مرفوعا.

وقال ابن الجوزي : قال أحمد : هذا حديث منكر.

والحديث ذكره ابن حجر في «تخريج أحاديث الكشاف» (٤ / ٤٧١) وقال : أخرجه ابن وهب في جامعه حدثني السري بن يحيى أن شجاعا حدثه عن أبي ظبية عن عبد الله بن مسعود تابعه يزيد بن أبي حكيم وعباس بن الفضل البصري كلاهما عن السري. أخرجه البيهقي في الشعب من طريقهما وكذا رواه أبو يعلى من رواية محمد بن حبيب عن السري ورواه البيهقي في الشعب من رواية حجاج بن منهال عن السري فقال : عن شجاع عن أبي فاطمة عن ابن مسعود. وكذا رواه أبو عبيد في فضائل القرآن من رواية السري فقال : عن أبي ظبية ، فاختلف أصحاب السري ، هل شيخه شجاع أو أبو شجاع. وكذا اختلفوا في شيخ شجاع هل هو أبو فاطمة أو أبو ظيبة. ثم اختلفوا في ضبط أبي ـ

٤٥٠

وعن مسروق قال : «من أراد أن يتعلم نبأ الأولين والآخرين ، ونبأ أهل الجنة ، ونبأ الدنيا ، ونبأ الآخرة ، فليقرأ سورة الواقعة» (١).

والله تعالى أعلم.

__________________

ـ ظبية فعند الدار قطني بالطاء المهملة بعدها تحتانية ثم موحدة وأنه عيسى بن سليمان الجرجاني ، وأن روايته عن ابن مسعود منقطعة. ويؤيده أن الثعلبي أخرجه من طريق أبي بكر العطاردي عن السري عن شجاع عن أبي ظبية الجرجاني وعند البيهقي أنه بالمعجمة بعدها موحدة ، ثم تحتانية ، وأنه مجهول وقال أحمد بن حنبل : هذا حديث منكر ، وشجاع لا أعرفه.

(١) ذكره القرطبي في تفسيره ١٧ / ١٢٦.

٤٥١

سورة الحديد

[مدنية](١) ، وهي تسع وعشرون آية.

عن العرياض بن سارية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ ب «المسبحات» قبل أن يرقد ، ويقول : «إنّ فيهنّ آية أفضل من ألف آية» (٢).

يعني ب «المسبحات» : الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٨)

قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

__________________

(١) في ب : مكية.

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ٧٣٤) كتاب الأدب ، باب : كيف يتوجه عند النوم حديث (٥٠٥٧) والترمذي (٥ / ١٦٦) كتاب فضائل القرآن ، باب : (٢١) حديث (٢٩٢١) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ١٧٦) وأحمد (٤ / ١٢٨) والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٤٩٣) من طريق خالد بن معدان عن ابن أبي بلال عن العرباض بن سارية به.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٤٥) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

٤٥٢

أي : مجّد الله ونزّهه عن السوء (١).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : صلى الله ما في السموات من خلق من الملائكة والأرض من شيء فيه روح ، أو لا روح (٢) فيه.

وقيل : هو تسبيح الدلالة.

وأنكر الزجّاج هذا وقال : لو كان هذا تسبيح الدلالة ، وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة ، فلم قال : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤].

وإنما التسبيح مقال ، واستدل بقوله تعالى : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) [الأنبياء : ٧٩] ، ولو كان هذا التسبيح تسبيح دلالة ، فأي تخصيص لداود (٣)؟.

وقال القرطبي (٤) : هذا هو الصحيح.

فصل في الكلام على الفعل سبح (٥)

هذا الفعل عدي باللام تارة كهذه السورة ، وأخرى بنفسه كقوله تعالى : (وَسَبِّحُوهُ) [الأحزاب : ٤٢] ، وأصله التعدي بنفسه ، لأن معنى «سبحته» : بعدته عن السوء ، فاللام إما أن تكون مزيدة كهي في نصحت لزيد ، ونصحته ، وشكرته ، وشكرت له ؛ إذ يقال : سبحت الله تعالى ، قال : (وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [الأعراف : ٢٠٦]. وإما أن تكون للتعليل ، أي : أحدث التسبيح لأجل الله تعالى (٦).

وجاء في بعض الفواتح «سبّح» بلفظ الماضي ، وفي [بعضها](٧) بلفظ المضارع ، وذلك إشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات ، لا يختص بوقت دون وقت ، بل هي مسبحة أبدا في الماضي ، وستكون مسبحة أبدا في المستقبل (٨).

قوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

«العزيز» : الغالب القادر الذي لا ينازعه شيء ، وذلك إشارة إلى كمال القدرة.

«الحكيم» : الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب (٩).

قوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب (١٠).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٣.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٥٣).

(٣) ينظر : معاني القرآن له ٥ / ١٢١.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٥٣.

(٥) ينظر : الرازي ٢٩ / ١٨٠.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٢.

(٧) في أ : هذا.

(٨) الفخر الرازي ٢٩ / ١٧٩ ، ١٨٠.

(٩) السابق ٢٩ / ١٨١.

(١٠) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٢.

٤٥٣

وحقيقة «الملك» عبارة عن نفوذ الأمر ، فهو سبحانه وتعالى المالك القادر القاهر.

وقيل : أراد خزائن المطر والنبات والرّزق (١).

قوله : (يُحْيِي وَيُمِيتُ).

يجوز في هذه الجملة ثلاثة أوجه (٢) :

أحدها : أنها لا محل [لها] كالتي قبلها.

والثاني : أنها خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو له ملك.

الثالث : أنه الحال من الضمير في «له» فالعامل فيها الاستقرار.

ولم يذكر مفعول الإحياء والإماتة ؛ إذ الغرض ذكر الفعلين [فقط ، والمعنى ليميت](٣) الأحياء في الدنيا ، ويحيي الأموات للبعث.

وقيل : هو يحيي النّطف ، وهي أموات ، ويميت الأحياء (٤).

قال ابن الخطيب (٥) : «وعندي فيه وجه ثالث ، وهو أنه ليس المراد منه تخصيص الإحياء والإماتة بزمان معين ، وبأشخاص معينين ، بل معناه : أنّه القادر على خلق الحياة والموت ، كقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] ، [والمقصود منه](٦) كونه ـ تعالى ـ هو المنفرد بإيجاد هاتين الماهيتين على الإطلاق لا يمنعه عنهما مانع.

قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء (٧).

قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) الآية.

قال الزمخشري (٨) : فإن قلت : [فما معنى «الواو»؟].

قلت : «الواو» الأولى معناها الدلالة على [أنه الجامع بين الصفتين الأولية] ، والآخرية.

والثالثة على الجامع بين الظّهور والخفاء.

وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ، ومجموع الصفتين الأخريين.

فصل في تفسير الآية

قال القرطبي رحمه‌الله (٩) : اختلف في معاني هذه الأسماء وقد شرحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرحا يغني عن قول كل قائل.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٣.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٢.

(٣) في أ : وهو الله تعالى القادر.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٥٣.

(٥) التفسير الكبير ٢٩ / ١٨٢.

(٦) سقط من أ.

(٧) القرطبي ١٧ / ١٥٤.

(٨) الكشاف ٤ / ٤٧٢.

(٩) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٥٤.

٤٥٤

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظّاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنّا الدّين ، وأغننا من الفقر» (١) ، عنى بالظاهر الغالب ، وبالباطن العالم ، والله أعلم.

قوله : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

مما كان أو يكون لا يخفى عليه شيء ، وهذا معنى قول ابن عباس.

قال ابن الخطيب (٢) : الظّاهر بحسب الدلائل ، والباطن بحسب الحواس.

والقول بأن الباطن هو العالم ضعيف ؛ لأنه يلزم منه التكرار في قوله : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بما كان أو يكون».

فصل في إثبات وحدانية الله

قال ابن الخطيب : احتج كثير من العلماء في إثبات أنّ الإله واحد بقوله : (هُوَ الْأَوَّلُ) ، قالوا : الأول هو الفرد السّابق ، ولهذا لو قال : أول مملوك اشتريته فهو حر ، ثم اشترى عبدين لم يعتقا ؛ لأن شرط كونه أولا حصول الفردية ، وهنا لم تحصل ، فلو اشترى بعد ذلك عبدا واحدا لم يعتق ؛ لأن شرط الأولية كونه سابقا ، وها هنا لم يحصل ، فثبت أن الشّرط في كونه أولا أن يكون فردا ، فكانت الآية دالة على أنّ صانع العالم فرد (٣).

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ).

تقدم [في «الأعراف»](٤) ، والمقصود منه دلائل القدرة (٥).

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي : يدخل فيها من مطر وغيره.

(وَما يَخْرُجُ مِنْها) من نبات وغيره.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من رزق ومطر وملك.

(وَما يَعْرُجُ فِيها) يصعد فيها من الملائكة ، وأعمال العباد (وَهُوَ مَعَكُمْ) يعني : بقدرته وسلطانه وعلمه.

(أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ينظر أعمالكم ويراها ، ولا يخفى عليه شيء منها (٦).

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٨٤) كتاب الذكر والدعاء ، باب : ما يقول عند النوم حديث (٦١ / ٢٧١٣) وأحمد (٢ / ٥٣٦) من حديث أبي هريرة.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ١٨٦.

(٣) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ١٨٦.

(٤) في أ : إعرابه.

(٥) الرازي ٢٩ / ١٨٧.

(٦) القرطبي ١٧ / ١٥٤.

٤٥٥

فصل في الكلام على الآية

قال القرطبي (١) : وقد جمع في هذه الآية بين (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وبين (وَهُوَ مَعَكُمْ) ، والأخذ بالظّاهر تناقض فدل على أنه لا بد من التأويل ، والإعراض عن التأويل اعتراف بالتناقض.

وقد قال أبو المعالي : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء لم يكن بأقرب إلى الله ـ عزوجل ـ من يونس بن متّى حين كان في بطن الحوت. وقد تقدم.

فصل في تفسير المعية

ذكر ابن الخطيب (٢) عن المتكلمين أنهم قالوا : هذه المعية إما بالعلم ، وإما بالحفظ والحراسة ، وعلى التقديرين فالإجماع منعقد على أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ ليس معنا بالمكان والحيز والجهة ، فإذن قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ) لا بد فيه من التأويل ، فإذا جوّزنا التأويل في موضع وجب تأويله في سائر المواضع.

قوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

هذا التكرير للتأكيد ، أي : هو المعبود على الحقيقة.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي : أمور الخلائق في الآخرة (٣).

وقد تقدم في «البقرة» (٤) : أن الأخوين وابن عامر يقرءون : «ترجع» بفتح التاء وكسر الجيم مبنيّا للفاعل ، والباقون : مبنيّا للمفعول في جميع القرآن.

وقال أبو حيان هنا (٥) : وقرأ الجمهور : «ترجع» مبنيّا للمفعول ، والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج مبنيّا للفاعل.

وهذا عجيب منه وقد وقع له مثل ذلك كما تقدم (٦).

قوله : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ).

أي : ما ينتقص من النهار فيزيد في الليل ، وما ينتقص من الليل فيزيد في النهار.

(وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). أي : لا تخفى عليه الضمائر ، ومن كان بهذه الصفة ، فلا يجوز أن يعبد سواه (٧).

قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

__________________

(١) السابق.

(٢) التفسير الكبير ٢٩ / ١٨٧.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٥٤.

(٤) آية (٢١٠).

(٥) البحر المحيط ٨ / ٢١٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٣ ، وينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٥٨.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٣.

(٧) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٤.

٤٥٦

أي : صدقوا أن الله واحد ، وأن محمدا عبده ورسوله.

«وأنفقوا» : تصدقوا وقيل : أنفقوا في سبيل الله.

وقيل : المراد : الزكاة المفروضة.

وقيل : غيرها من وجوه الطاعات ، وما يتقرب به.

وقوله تعالى : (مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) دليل على أن أصل الملك لله سبحانه وتعالى ، وأن العبد ليس له فيه إلّا التصرف الذي يرضي الله تعالى ، فيثيبه على ذلك بالجنة ، فمن أنفق منها في حقوق الله ، وهان عليه الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره ، إذا أذن له فيه ، كان له الثواب الجزيل (١).

وقال الحسن : (مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم ، وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة ، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النّواب والوكلاء ، فاغتنموا الفوز ، فإنها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم.

«فالذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم ، وأنفقوا في سبيل الله لهم أجر كبير» وهو الجنة.

فصل في الكلام على الآية

قال القاضي : هذه الآية تدل على أن هذا الأجر لا يحصل بالمال وحده حتى يضاف إليه هذا الإنفاق ، فمن أخل بالواجب من زكاة وغيرها فلا أجر له (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : وهذا استدلال ضعيف ؛ لأنه لا يلزم من نفي الأجر الكبير نفي أصل الأجر ، فلم قلتم : إنها [تدل على أنه](٤) لا أجر له أصلا؟.

فإن قيل (٥) : قوله «آمنوا بالله» خطاب مع من عرف الله أو مع من لم يعرف الله ، فإن كان الأول كان ذلك أمرا بأن يعرف من عرفه ، وذلك أمر بتحصيل الحاصل ، وهو محال.

وإن كان الثاني كذلك كان ذلك الخطاب متوجّها على من لم يكن عارفا به ، ومن لم يكن عارفا يستحيل أن يكون عارفا بأمره ، فيكون الأمر متوجّها على من يستحيل أن يعرف كونه مأمورا بذلك الأمر ، وهو تكليف ما لا يطاق.

قال ابن الخطيب (٦) : والجواب من النّاس من قال : معرفة وجود الصّانع حاصلة للكل ، وإنما المقصود من هذا الأمر معرفة الصفات.

__________________

(١) السابق.

(٢) التفسير الكبير ٢٩ / ١٨٩.

(٣) السابق.

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ١٨٨.

(٦) السابق.

٤٥٧

قوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ).

مبتدأ وخبر وحال ، أي : أي شيء استقر لكم غير مؤمنين (١).

قال القرطبي (٢) : «هذا استفهام يراد به التوبيخ ، أي : أي عذر لكم في ألا تؤمنوا وقد أزيحت العلل». (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ).

فقوله : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) جملة حالية من ضمير «تؤمنون» (٣).

قال الزمخشري (٤) : «فهما حالان متداخلان».

و «لتؤمنوا» متعلق ب «يدعو» أي : يدعوكم للإيمان ، كقولك : «دعوته لكذا».

ويجوز أن تكون «اللام» للعلة ، أي : يدعوكم إلى الجنة وغفران الله لأجل الإيمان.

وفيه بعد.

وهذه الآية تدل على أنه لا حكم قبل ورود الشرع.

قوله : (وَقَدْ أَخَذَ). حال أيضا (٥).

وقرأ العامة : «أخذ» مبنيّا للفاعل ، وهو الله ـ تعالى ـ لتقدّم ذكره.

وقرأ أبو عمرو (٦) «أخذ» مبنيّا للمفعول ، حذف الفاعل للعلم به.

و «ميثاقكم» منصوب في قراءة العامة ، ومرفوع في قراءة أبي عمرو.

و «إن كنتم» جوابه محذوف ، تقديره : فما يمنعكم من الإيمان.

وقيل : تقديره : إن كنتم مؤمنين لموجب ما رتبه ، فهذا هو الموجب (٧).

وقدره ابن عطية (٨) : إن كنتم مؤمنين فأنتم في رتبة شريفة.

فصل في المراد بهذا الميثاق (٩)

قال مجاهد : المراد بالميثاق هو المأخوذ عليهم حين أخرجهم من ظهر آدم ، وقال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢].

قال ابن الخطيب (١٠) : وهذا ضعيف ؛ لأنه ـ تعالى ـ إنما ذكر أخذ الميثاق ليكون

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٣.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٥٥.

(٣) الدر المصون ٦ / ٢٧٣.

(٤) الكشاف ٤ / ٤٧٣.

(٥) الدر المصون ٦ / ٢٧٣.

(٦) ينظر : السبعة ٦٢٥ ، والحجة ٦ / ٢٦٦ ، وإعراب القراءات ٢ / ٢٤٩ ، وحجة القراءات ٦٩٧ ، والعنوان ١٨٦ ، وشرح شعلة ٥٩٧ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣٨ ، واتحاف ٢ / ٥١٩.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٣.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٥٨.

(٩) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٥.

(١٠) التفسير الكبير ٢٩ / ١٨٩.

٤٥٨

ذلك سببا في أنه لم يبق لهم عذر في ترك الإيمان بعد ذلك ، وأخذ الميثاق وقت إخراجهم من ظهر آدم غير معلوم للقوم إلّا بقول الرسول.

فقبل معرفة تصديق الرسول لا يكون ذلك سببا في وجوب تصديق الرسول بل المراد بأخذ الميثاق نصب الدلائل والبينات ، بأن ركب فيهم العقول ، وأقام عليهم الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرّسول ، وهذا معلوم لكل أحد ، فيكون سببا لوجوب الإيمان بالرسول.

فصل في حصول الإيمان بالعبد

قال القاضي (١) : قوله : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ) يدل على قدرتهم على الإيمان ، إذ لا يجوز أن يقال ذلك لمن لا يتمكن من الفعل كما لا يقال : ما لك لا تطول ولا تبيض ، فيدل هذا على أن الاستطاعة قبل الفعل ، وعلى أن القدرة صالحة للضدين ، وعلى أن الايمان حصل بالعبد لا بخلق الله.

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : إذ كنتم مؤمنين.

وقيل : إن كنتم مؤمنين بالحجج والدليل.

وقيل : إن كنتم مؤمنين بحق يوما من الأيام ، فالآن فقد صحت براهينه.

وقيل : إن كنتم مؤمنين بأن الله خلقكم كانوا يعترفون بهذا.

وقيل : هذا خطاب لقوم آمنوا ، وأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميثاقهم فارتدوا (٢).

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : كنتم تقرّون بشرائط الإيمان.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٠)

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ).

تقدمت قراءتا «ينزل» تخفيفا وتشديدا في «البقرة» (٣).

وزيد بن علي (٤) : «أنزل» ماضيا.

__________________

(١) السابق.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٥.

(٣) آية (٩٠).

(٤) وهي قراءة الأعمش كما في المحرر الوجيز ٥ / ٢٥٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٨ ، وينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٣ ، والتخريجات النحوية والصرفية لقراءة الأعمش ٢٦٥.

٤٥٩

وقوله : (آياتٍ بَيِّناتٍ) يعني القرآن.

وقيل (١) : المعجزات ، أي : لزمكم الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما معه من المعجزات والقرآن أكبرها وأعظمها.

(لِيُخْرِجَكُمْ) أي : بالقرآن.

وقيل : بالرسول.

وقيل : بالدعوة ، (مِنَ الظُّلُماتِ) ، وهو الشرك والكفر.

(إِلَى النُّورِ) وهو الإيمان (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

فصل في إرادة الله للإيمان

قال القاضي (٢) : هذه الآية تدل على إرادته للإيمان ، أكد ذلك بقوله : (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

فإن قيل : أليس يدل ظاهرها على أنه يخرج من الظلمات إلى النور ، فيجب أن يكون الإيمان من فعله؟.

قلنا : إذا كان الإيمان بخلقه لا يبقى لقوله : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ) [الحديد : ٩] معنى ؛ لأن ما يخلقه لا يتغير ، بل المراد أنه يلطف بهم.

قال ابن الخطيب (٣) : وهذا على حسنه معارض بالعلم ؛ لأنه بالعلم ؛ لأنه علم أن إيمانهم لا يوجد فقد كلفهم بما لا يوجد ، فكيف يعقل مع هذا أنه أراد منهم الخير والإحسان ، وحمل بعضهم قوله : (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) على بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا وجه لهذا التخصيص.

قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا).

الكلام فيه كالكلام في قوله : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) [البقرة : ٢٤٦] ، فالأصل : «في ألا تنفقوا».

فلما حذف حرف الجر جرى الخلاف المشهور ، وأبو الحسن يرى زيادتها (٤) كما تقدم تقريره في البقرة.

قوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ) جملة حالية من فاعل الاستقرار أو مفعوله ، أي : وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله ، والحال أن ميراث السموات والأرض له ، فهذه حال منافية.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٥٥.

(٢) ينظر : الرازي ٢٩ / ١٩٠.

(٣) السابق.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٣.

٤٦٠