اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

أحدهما : ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاما ليشكروه.

الثاني : ليعتبروا بذلك في أنفسهم كما أنه يجعل الزّرع حطاما إذا شاء ، وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتّعظوا فينزجروا (١).

قوله : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ).

قرأ العامة : بفتح الظّاء ، بلام واحدة وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في «طه» (٢).

وأبو حيوة وأبو بكر (٣) في رواية : بكسر الظاء.

وعبد الله الجحدري (٤) : «فظللتم» على الأصل بلامين ، أولاهما مكسورة.

وروي عن الجحدري : فتحها ، وهي لغة أيضا.

والعامة : «تفكّهون» بالهاء.

ومعناه : تندمون ، وحقيقته : تلقون الفكاهة من أنفسكم ، (ولا تلقى) (٥) الفكاهة إلّا من الحزن ، فهو من باب «تحرّج وتأثّم وتحوب» (٦).

وقيل : «تفكّهون». تتعجبون بذهابها ما نزل بكم في زرعكم. قاله عطاء والكلبي ومقاتل.

وقيل : تتندمون مما حلّ بكم. قاله الحسن وقتادة وغيرهما.

وقيل : تلاومون.

وقيل : تتفجّعون ، وهذا تفسير باللازم.

وقرأ أبو حزام (٧) العكلي : «تفكّنون» بالنون ، أي : تندّمون.

قال ابن خالويه : «تفكّه» تعجّب ، و «تفكّن» تندّم.

وفي الحديث : «مثل العالم كمثل الحمّة ، يأتيها البعداء ويتركها القرباء ، فبينا هم إذ غار ماؤها فانتفع به قوم ، وبقي قوم يتفكّنون» ، أي : يتندّمون (٨).

قال الفرّاء (٩) : والنون ، لغة عكل.

وفي الصحاح (١٠) : «التّفكّن» التندّم على ما فات.

وقيل : التفكّه : التكلّم فيما لا يعنيك.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٢.

(٢) آية ٩٧.

(٣) وقرأ بها عبد الله كما في المحرر الوجيز ٥ / ٢٤٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١١ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٤.

(٤) السابق.

(٥) سقط من ب.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٤.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢١١ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٤.

(٨) ينظر الكشاف ٤ / ٤٦٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٤.

(٩) ذكر القرطبي ١٧ / ٢١٩.

(١٠) ينظر المعجم الوسيط ٢ / ٦٩٩.

٤٢١

ومنه قيل للمزاح : فكاهة بالضّم.

فأما الفكاهة ـ بالفتح ـ فمصدر «فكه الرّجل» بالكسر ، فهو فكه إذا كان طيّب النفس مزّاحا (١).

قوله : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ).

قرأ أبو بكر (٢) : «أئنّا» بالاستفهام ، وهو على أصله في تحقيق الهمزتين ، وعدم إدخال ألف بينهما.

والباقون : بهمزة واحدة على الخبر.

وقيل : هذه الجملة قول مقدر على كلتا القراءتين ، وذلك في محل نصب على الحال ، تقديره : فظلتم تفكهون قائلين ، أو تقولون : إنا لمغرمون ؛ أي : لملزمون غرامة ما أنفقنا ، أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك (٣). قاله الزمخشري (٤).

ومن مجيء الغرام بمعنى الهلاك قوله : [الخفيف]

٤٦٩٧ ـ إن يعذّب يكن غراما وإن يع

ط جزيلا فإنّه لا يبالي (٥)

قال ابن عبّاس وقتادة : الغرام : العذاب (٦).

ومنه قول ابن المحلّم : [الطويل]

٤٦٩٨ ـ وثقت بأنّ الحلم منّي سجيّة

وأنّ فؤادي مبتل بك مغرم (٧)

وقال مجاهد وعكرمة : لمولع بنا (٨).

يقال : أغرم فلان بفلانة أي أولع بها ، ومنه الغرام ، وهو الشر اللازم.

وقال مجاهد أيضا : لملقون شرّا (٩).

وقال النحاس : «لمغرمون» مأخوذون من الغرام ، وهو الهلاك.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٢.

(٢) وقرأ بها الأعمش كما في المحرر الوجيز ٥ / ٢٤٩ ، والمفضل وزر بن حبيش كما في القرطبي ١٧ / ١٤٢ ، وينظر : البحر المحيط ٨ / ٢١١ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٤ ، والسبعة ٦٢٤ ، والحجة ٦ / ٢٦٢ ، وإتحاف ٢ / ٥١٧.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٤.

(٤) الكشاف ٤ / ٤٦٦.

(٥) تقدم.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٤) عن قتادة.

(٧) يروى الحفظ مكان الحلم.

ينظر السراج المنير ٤ / ١٩٣ ، والقرطبي ١٧ / ١٤٢.

(٨) ينظر المصدر السابق.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٠) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.

٤٢٢

وقال الضحاك وابن كيسان : هو من الغرم (١).

و «المغرم» : الذي ذهب ماله بغير عوض ، أي : غرمنا الحبّ الذي بذرناه.

وقال مرة الهمداني : محاسبون.

قوله : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ).

أي : حرمنا ما طلبنا من الريع ، والمحروم المحدود الممنوع من الرّزق ، والمحروم ضد المرزوق. قاله قتادة (٢).

وعن أنس أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بأرض الأنصار ، فقال : «ما يمنعكم الحرث»؟ قالوا : الجدوبة ، فقال : «لا تفعلوا ، فإنّ الله ـ تعالى ـ يقول : أنا الزّارع ، إن شئت زرعت بالماء ، وإن شئت زرعت بالرّيح ، وإن شئت زرعت بالبذر» ، ثم تلا : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)(٣).

قال القرطبي (٤) : «وفي هذا الحديث والذي قبله ما يصحح قول من أدخل الزّارع في أسماء الله ـ تعالى ـ» وأباه جمهور العلماء.

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ)(٧٠)

قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ).

لتحيوا به أنفسكم ، وتسكنوا به عطشكم (٥).

(أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ).

أي : السحاب ، وهو اسم جنس ، واحده : مزنة.

قال : [المتقارب]

٤٦٩٩ ـ فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (٦)

وعن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أيضا والثوري : المزن : السّماء والسّحاب (٧).

وقال أبو زيد : المزنة : السحابة البيضاء ، والجمع مزن.

والمزنة : المطرة.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٨).

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٢.

(٣) ينظر تفسير القرطبي (١٧ / ١٤٢.

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٣.

(٦) تقدم.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٥).

٤٢٣

قال : [الطويل]

٤٧٠٠ ـ ألم تر أنّ الله أنزل مزنة

وعفر الظّباء في الكناس تقمّع (١)

وقوله : (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ).

أي : إذا عرفتم بأني أنزلته فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي ، ولم تنكروا قدرتي على الإعادة (٢)؟.

وقوله : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً).

وقد تقدم عدم دخول «اللام» في جواب «لو» هذه.

وقال الزمخشري (٣) : «فإن قلت : لم دخلت «اللام» في جواب «لو» في قوله : (لَجَعَلْناهُ حُطاماً) ، ونزعت منه ها هنا؟.

قلت : إن «لو» لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشّرط ، ولم تكن مخلصة للشرط ك «إن» و «لا» عاملة مثلها ، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضمون جملتين أن الثّاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق فزيدت هذه «اللام» لتكون علما على ذلك ، فإذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه ، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه ، وصار مألوفا ومأنوسا به لم يبال بإسقاطه عن اللفظ استغناء بمعرفة السّامع.

ألا ترى ما يحكى عن رؤبة ، أنّه كان يقول : خير ، لمن قال له : كيف أصبحت؟

فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه ، وتساوي حال إثباته وحذفه لشهرة أمره ، وناهيك بقول أوس : [السريع]

٤٧٠١ ـ حتّى إذا الكلّاب قال لها

كاليوم مطلوبا ولا طلبا (٤)

وحذفه : «لم أر» فإذا حذفها اختصار لفظي ، وهي ثابتة في المعنى ، فاستوى الموضعان بلا فرق بينهما ، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة ، مغن عن ذكرها ثانيا ، ويجوز أن يقال : إن هذه «اللام» مفيدة معنى التّوكيد لا محالة ، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أنّ أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب ، وأنّ الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم.

__________________

(١) البيت «لأوس بن حجر».

ينظر ديوانه ص (٥٧) ، وإصلاح المنطق ص ٤٩ ، واللسان (مزن) والقرطبي ١٧ / ١٤٣.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٣.

(٣) الكشاف ٤ / ٤٦٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١١ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٤.

(٤) تقدم.

٤٢٤

ألا ترى أنك إنما تسقي ضيفك بعد ما تطعمه ، ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء: [الوافر]

٤٧٠٢ ـ إذا سقيت ضيوف النّاس محضا

سقوا أضيافهم شبما زلالا (١)

وسقي بعض العرب فقال : أنا لا أشرب إلا على ثميلة ، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب». انتهى.

وقد تقدم جواب ابن الخطيب له عن ذلك.

فصل في تفسير الآية (٢)

قال ابن عبّاس : «الأجاج» : المالح الشديد الملوحة.

وقال الحسن : مرّا لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما (٣).

«فلو لا» أي : فهلا «تشكرون» الذي صنع ذلك بكم.

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤)

قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ).

أي : أخبروني عن النّار التي تظهرونها بالقدح من الشجر الرطب (٤).

و «تورون» : من أوريت الزند ، أي : قدحته فاستخرجت ناره ، وورى الزند يري أي : خرجت ناره ، وأصل «تورون» توريون.

والشّجرة التي يكون منها الزناد هي المرخ والعفار.

ومنه قولهم : «في كلّ شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار».

أي : استكثروا منها ، كأنهما أخذا من النّار ما حسبهما.

وقيل : إنهما يسرعان الوري.

قوله تعالى : (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ).

أي : المخترعون الخالقون ، أي : فإذا عرفتم قدرتي ، فاشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث (٥).

قوله : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً).

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٥٧ وشرح شواهده ٥٠٤ ، والقرطبي ١٧ / ١٤٣ والدر المصون ٦ / ٢٦٥.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٣.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٨) عن الحسن.

(٤) ينظر القرطبي ١٧ / ١٤٣.

(٥) السابق.

٤٢٥

يعني : نار الدنيا موعظة للنار الكبرى. قاله قتادة (١).

وقال مجاهد : تبصرة للناس من الظّلام (٢).

قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ ناركم هذه الّتي توقدونها يا بني آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم» ، فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ، قال : «فإنّها فضّلت عليها بتسعة وستين جزءا ، كلّهن مثل حرّها» (٣).

قوله : (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ).

يقال : أقوى الرّجل إذا حلّ في الأرض القواء ، وهي القفر ، ك «أصحر» : دخل في الصحراء ، وأقوت الدّار : خلت من ذلك ؛ لأنها تصير قفرا (٤).

قال النابغة : [البسيط]

٤٧٠٣ ـ يا دار ميّة بالعلياء فالسّند

أقوت ، فطال عليها سالف الأمد

قال الضحاك : (مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) أي منفعة للمسافرين ، سموا بذلك لنزولهم القوى ، وهي القفر التي لا شيء فيها (٥) ، وكذلك القوى والقواء ـ بالمد والقصر ـ.

ومنزل قواء : لا أنيس به ، يقال : أقوت الدار ، وقويت أيضا ، أي خلت من سكانها. قال : [الكامل]

٤٧٠٤ ـ حيّيت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم (٦)

وقال مجاهد : «للمقوين» أي المنتفعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة ، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها (٧).

وقال ابن زيد : للجائعين في إصلاح طعامهم (٨).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٦٥٦) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٠) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٤٢).

(٣) أخرجه البخاري (٦ / ٣٨٠ ـ ٣٨١) كتاب بدء الخلق ، باب : صفة النار وأنها مخلوقة حديث (٣٢٦٥) ومسلم (٤ / ٢١٨٤) كتاب الجنة ، باب : في شدة حر نار جهنم حديث (٣٠ / ٢٨٤٣) من حديث أبي هريرة.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٥ ، ٢٦٦.

(٥) ذكره البغوي في تفسيره (٤ / ٢٨٨).

(٦) البيت لعنترة بن شداد.

ينظر شرح ديوانه ص ١١٩ ، وإعراب القرآن ٤ / ٣٤٣ ، واللسان (طلل) ، والقرطبي ١٧ / ١٤٤.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٠) بمعناه عن مجاهد وزاد نسبته إلى هناد وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٧).

٤٢٦

يقال : أقويت منذ كذا وكذا ، أي ما أكلت شيئا ، وبات فلان القواء وبات القفر ، إذا بات جائعا على غير طعم.

قال الشاعر : [الطويل]

٤٧٠٥ ـ وإنّي لأختار القوى ، طاوي الحشا

محافظة من أن يقال : لئيم (١)

وقال قطرب : المقوي من الأضداد ، يكون بمعنى الفقير ، ويكون بمعنى الغني.

يقال : أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد ، ويقال للفقير : مقو إذا لم [يكن] معه مال.

وتقول العرب : أقويت منذ كذا ، أي : ما أكلت شيئا ، وأقوى : إذا قويت دوابه ، وكثر ماله ليقويه على ما يريد.

وقال المهدوي : والآية تصلح للجميع ؛ لأن النّار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير.

وقال القشيري : وخصّ المسافر بالانتفاع بها ؛ لأنّ انتفاعه أكثر من انتفاع المقيم ؛ لأنّ أهل البادية لا بدّ لهم من النّار يوقدونها ليلا لتهرب منهم السّباع ، وفي كثير من حوائجهم.

قوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ).

أي : فنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد والعجز عن البعث (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : والمشهور أن الاسم مقحم ، والأحسن أنه من باب الأولى ، وأنّ تعظيم المسمى آكد ، وقد تقدم أن تعلّق الفعل إن كان ظاهرا استغنى عن الحرف ك «ضرب» ، وإن كان خفيّا قوي بالحرف ك «ذهب» ، وإن كان بينهما جاز الوجهان ك «شكر ونصح».

و «سبّح» متعد بنفسه إلّا أنه لما دخل على الاسم ـ والمراد الذّات ـ خفي التعليق من هذا الوجه ، فأتي بالحرف.

وأما قوله (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) [من سورة الأعلى]. فيحتمل أن ذلك لأنهم كانوا

__________________

(١) البيت لحاتم الطائي.

ورواية الشطر الأول في الديوان :

لقد كنت أطوي البطن والزاد أشتهي

 ..........

ينظر ديوانه ص ٨٦ ، والاقتضاب ص ٣٤٧ ، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي ٢ / ٣٣٣ ، واللسان (قوا) ، والقرطبي ١٧ / ١٤٤.

(٢) ينظر القرطبي ١٧ / ١٤٤.

(٣) التفسير الكبير ٢٩ / ١٦١.

٤٢٧

يعترفون بالله ، ويقولون : «نحن لا نشرك» في المعنى ، وإنما سمي الأصنام آلهة باللفظ ، فقيل لم : نزّهوا الاسم كما نزهتم الحقيقة ، وعلى هذا فالخطاب ليس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل هو كقول الواعظ : يا مسكين ، أفنيت عمرك وما أصلحت عملك ، ويريد السّامع.

والمعنى مع الباء : فسبّح مبتدئا باسم ربك ، فلا تكون «الباء» زائدة.

ومعنى العظيم : القريب من الكل ، فإن الصّغير إذا قرب من شيء بعد عن غيره.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(٨٢)

قوله : (فَلا أُقْسِمُ).

قرأ العامة : «فلا» لام ألف.

وفيه أوجه (١) :

أحدها : أنها حرف نفي ، وأنّ النفي بها محذوف ، وهو كلام الكافر الجاحد ، تقديره : فلا حجة لما يقول الكفّار ، ثم ذكر ابتداء قسما بما ذكر.

وإليه ذهب كثير من المفسّرين والنحويين.

قال الفرّاء (٢) : «هي نفي ، والمعنى : ليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف [القسم](٣) ، كما تقول : «لا والله ما كان كذا» ولا يريد به نفي اليمين ، بل يريد به نفي كلام تقدم ، أي : ليس الأمر كما ذكر ، بل هو كذا».

وضعّف هذا بأن فيه حذف اسم «لا» وخبرها.

قال أبو حيّان (٤) : «ولا يجوز ولا ينبغي ، فإنّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ خبر القرآن وبحره عبد الله بن عباس.

ويبعد أن يقوله سعيد إلا بتوقيف».

الثاني : أنّها زائدة للتأكيد. والمعنى : فأقسم ، بدليل قوله : وإنه لقسم ، ومثله في قوله تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) [الحديد : ٢٩] ، والتقدير : ليعلم.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٦.

(٢) القرطبي ١٧ / ١٤٤ ، ١٤٥.

(٣) سقط من ب.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٢١٢ ، وقد عقب عليه السمين الحلبي بقوله : ولا ينبغي .. الخ ، والدليل على أن بقية المنقول عن أبي حيان أنه من قول السمين ، ما رأيناه في كلام أبي حيان حيث قال : ثم ابتدأ «أقسم». قاله سعيد بن جبير وبعض النحاة ، ولا يجوز .. فنقل المصنف هنا كلام السمين ، وظنه بقية كلام أبي حيان.

٤٢٨

وكقوله : [الطويل]

٤٧٠٦ ـ فلا وأبي أعدائها لا أخونها (١)

الثالث : أنها لام الابتداء ، والأصل : فلأقسم ، فأشبعت الفتحة ، فتولّد منها ألف.

كقوله : [الرجز]

٤٧٠٧ ـ أعوذ بالله من العقراب (٢)

قاله أبو حيّان (٣).

واستشهد بقراءة هشام : «أفئيدة» (٤).

قال شهاب الدين (٥) : «وهذا ضعيف جدّا».

واستند أيضا لقراءة (٦) الحسن وعيسى : «فلأقسم» بلام واحدة.

وفي هذه القراءة تخريجان (٧) :

أحدهما : أن «اللام» لام الابتداء ، وبعدها مبتدأ محذوف ، والفعل خبره ، فلما حذف المبتدأ اتصلت «اللام» بخبره ، وتقديره : «فلأنا أقسم» نحو : «لزيد منطلق».

قاله الزمخشري (٨) وابن جني (٩).

والثاني : أنها لام القسم دخلت على الفعل الحالي ، ويجوز أن يكون القسم جوابا للقسم ، كقوله : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا) [التوبة : ١٠٧] ، وهو جواب لقسم مقدر ويجوز أن يكون القسم كذلك وهذا هو قول الكوفيين ، يجيزون أن يقسم على فعل الحال. والبصريون يأبونه ، ويخرجون ما يوهم ذلك على إضمار مبتدأ ، فيعود القسم على جملة اسمية.

ومنع الزمخشري أن تكون لام القسم.

قال (١٠) : لأمرين :

أحدهما : أن حقها أن تقرن بالنون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح.

والثاني : أن «لأفعلن» في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال.

يعني أن فعل القسم إنشاء ، والإنشاء حال.

__________________

(١) عجز بيت لأحمد بن أبي فنن وصدره :

فإن تك ليلى استودعتني أمانة

 ..........

ينظر سمط اللالىء للبكري ١ / ٢٤٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٢ والدر المصون ٦ / ٢٦٦.

(٢) تقدم.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٢١٢.

(٤) سورة إبراهيم. آية (٣٧).

(٥) الدر المصون ٦ / ٢٦٦.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٥٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٢ ، والكشاف ٤ / ٤٦٨.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٦.

(٨) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٦٨.

(٩) ينظر : المحتسب ٢ / ٣٠٩.

(١٠) الكشاف ٤ / ٤٦٨.

٤٢٩

وأمّا قوله (١) : «إنّ حقّها أن تقرن بها النون» ، هذا مذهب البصريين أيضا. وأمّا الكوفيون فيجيزون التّعاقب بين اللام والنون ، نحو : «والله لأضرب زيدا» كقوله : [الطويل]

٤٧٠٨ ـ لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم

ليعلم ربّي أنّ بيتي واسع (٢)

و «الله اضربن زيدا».

كقوله : [الكامل]

٤٧٠٩ ـ وقتيل مرّة أثأرنّ

 .......... (٣)

وقد تقدم قريب من هذه الآية في قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) [النساء : ٦٥] ، ولكن هناك ما لا يمكن القول به هنا ، كما أن هنا ما لا يمكن القول به هناك ، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ قريب منه في «القيامة» في قراءة ابن كثير : لأقسم بيوم القيامة [القيامة : ١].

قال القرطبي (٤) : «وقيل : «لا» بمعنى «ألا» للتنبيه ، كقوله : [الطويل]

٤٧١٠ ـ ألا عم صباحا أيّها الطّلل البالي

 ..........(٥)

ونبّه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه ، فإنه ليس بشعر ، ولا سحر ، ولا كهانة كما زعموا.

وقرأ العامة : «بمواقع» جمعا.

والأخوان (٦) : «بموقع» مفردا بمعنى الجمع ؛ لأنه مصدر فوحّد.

ومواقعها : مساقطها ومغاربها. قاله قتادة وغيره (٧).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٦.

(٢) تقدم.

(٣) البيت لعامر بن الطفيل وتمامه :

 ... فإنه

فرغ وإن أخاكم لم يثأر

ويروى لم يقعد مكانه لم يثأر.

(٤) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٤٥.

(٥) ينظر ديوانه ص ٥٦ ، وخزانه الأدب ١ / ٦ ، ٦٥ ، والدرر ٤ / ٢٢٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٧١ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٤٥ ، ورصف المباني ص ٢٤٠ ، والهمع ٢ / ٤٢ ، والمفضليات ٣٦٤ ، والأصمعيات ٢٥٢ ، وابن الشجري ١ / ٢٦٩ ، ٢ / ٢٢١ ، والضرائر لابن عصفور ص ١٥٧ ، والإيضاح الشعري للفارسي ص ٦٥ ، وهو صدر بيت لامرىء القيس وعجزه

 ..........

وهل يعمن من كان في العصر الخالي

(٦) ينظر : السبعة ٦٢٤ ، والحجة ٦ / ٢٦٢ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٤٧ ، وحجة القراءات ٦٩٧ ، والعنوان ١٨٥ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣٧ ، وشرح شعلة ٥٩٧ ، وإتحاف ٢ / ٥١٧.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٨) عن مجاهد وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣١) عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

٤٣٠

وقال الحسن : انكدارها وانتثارها يوم القيامة (١).

وقيل : المراد نجوم القرآن. قاله ابن عباس والسدي ، ويؤيده : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) و (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ).

وقال عطاء بن أبي رباح : منازلها (٢).

وقال الضحاك : هي الأنواء التي كانت أهل الجاهلية ، تقول إذا مطروا : مطرنا بنوء كذا(٣).

وقال الماوردي : ويكون قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ) مستعملا على الحقيقة من نفي القسم.

وقال القشيري : هو قسم ، ولله أن يقسم بما يريد ، وليس لنا أن نقسم بغير الله ـ تعالى ـ وصفاته القديمة.

قال القرطبي (٤) : «ويدلّ على هذا قراءة الحسن : فلأقسم».

قوله : «وإنه قسم ـ لو تعلمون ـ عظيم».

الضمير عائد على القسم الذي تضمنه قوله : (فَلا أُقْسِمُ) ؛ لأن «أقسم» يتضمن ذكر المصدر ، ولهذا توصف المصادر التي لم تظهر بعد الفعل فيقال : «ضربته قويّا».

فإن قيل : جواب «لو تعلمون» ماذا؟.

قال ابن الخطيب (٥) : ربما يقول بعض من لا يعلم بأن جوابه ما تقدم ، وهو فاسد في جميع المواضع ؛ لأن جواب الشرط لا يتقدم ؛ لأن عمل الحروف في معمولاتها لا يكون قبل وجودها ، فلا يقال : زيدا إن قام.

فالجواب يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يقال : الجواب محذوف بالكلية بحيث لا يقصد لذلك جواب ، وإنما يراد نفي ما دخلت «لو» فكأنه قال : وإنه لقسم عظيم لو تعلمون.

وتحقيقه : أن «لو» تذكر لامتناع الشيء لامتناع غيره ، فلا بدّ فيه من انتفاء الأول ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٨) وزاد نسبته السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣١) إلى عبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٨) عن قتادة مثله وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣١) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٩) عن عطاء.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٤٥).

(٤) ١٧ / ١٤٥ ، وقد تقدمت القراءة.

(٥) التفسير الكبير ٢٩ / ١٦٤.

٤٣١

فإدخال «لو» على «تعلمون» أفاد أن علمهم منتف ، سواء علمنا الجزاء أم لم نعلم.

وهذا كقولهم في الفعل المتعدّي : فلان يعطي ويمنع ، حيث لا يقصد منه مفعولا ، وإنما يراد إثبات القدرة.

الثاني : أنّ جوابه مقدر ، تقديره : لو تعلمون لعظّمتموه ، لكنكم ما عظّمتموه ، فعلم أنكم لا تعلمون ، إذ لو تعلمون لعظم في أعينكم ، ولا تعظيم فلا تعلمون.

قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ).

هذا هو القسم عليه ، وعلى هذا فيكون في هذا الكلام اعتراضان (١) :

أحدهما : الاعتراض بقوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) بين القسم والمقسم عليه.

والثاني : الاعتراض بقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) بين الصفة والموصوف.

ومنع ابن عطية (٢) أن يجعل قوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) اعتراضا.

فقال : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) تأكيد للأمر ، وتنبيه من المقسم به ، وليس هذا باعتراض بين الكلامين ، بل هذا معنى قصد التهكّم به ، وإنما الاعتراض قوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ).

قال شهاب الدين (٣) : «وكونه تأكيدا ومنبّها على تعظيم المقسم به لا ينافي الاعتراض ، بل هذا معنى الاعتراض وفائدته».

«والهاء» في «إنه لقرآن» تعود على القرآن ، أي : إن القرآن لقسم عظيم.

قاله ابن عبّاس وغيره (٤).

وقيل (٥) : أي ما أقسم الله به عظيم (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ذكر المقسم عليه ، أي : أقسم بمواقع النجوم أن هذا القرآن قرآن ليس بسحر ولا كهانة ولا بمفترى ، بل هو قرآن كريم ، محمود جعله الله معجزة نبيه ، وهو كريم على المؤمنين ؛ لأنّه كلام ربهم وشفاء صدورهم ، كريم على أهل السماء والأرض ؛ لأنه تنزيل ربهم ووحيه.

وقيل : «كريم» أي : غير مخلوق.

وقيل : «كريم» لما فيه من كرم الأخلاق ، ومعالي الأمور.

وقيل : لأنه يكرم حافظه ، ويعظم قدره.

فصل في تحرير معنى الآية

قال ابن الخطيب (٦) : «كريم» أي : لا يهون بكثرة التلاوة ؛ لأن الكلام متى أعيد

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٧.

(٢) المحرر الوجيز ٥ / ٢٥١.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٧.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٤٥).

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٥.

(٦) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ١٦٦.

٤٣٢

وكرر استهين به ، والقرآن يكون إلى آخر الدهر ، ولا يزداد إلّا عزا. والقرآن إما ك «الغفران» ، والمراد به المفعول ، وهو المقروء ، كقوله : [هذا خلق الله](١) وإما اسم لما يقرأ ك «القربان» لما يتقرب به ، والحلوان لما يحلى به فم الكاهن ، وعلى هذا يظهر فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزّكاة : يعطي شيئا أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو شيئا دونه ، ويعطي الجبران لأن الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى ، فيقال له : هو كالقرآن بمعنى المقروء.

فمعنى «كريم» أي : مقروء ، قرىء : ويقرأ بالفتح ، فإن معنى «كريم» أي : لا يهون بكثرة التلاوة ، ويبقى أبد الدّهر كالكلام الغضّ ، والحديث الطّري.

وهو هنا يقع في وصف القرآن بالحديث ، مع أنه قديم يستمد من هذا مددا ، فهو قديم يسمعه السّامعون كأنه كلام [الساعة](٢).

فصل

قوله : (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ). مصون عند الله.

وقيل : «مكنون» محفوظ عن الباطل ، والكتاب هنا : كتاب في السّماء (٣).

قاله ابن عبّاس (٤).

وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضا : هو اللوح المحفوظ (٥).

وقال عكرمة : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن (٦).

وقال السدي : الزّبور (٧).

وقال قتادة ومجاهد : هو المصحف الذي في أيدينا (٨).

فصل في تفسير معنى الآية

قال ابن الخطيب (٩) : قوله تعالى : (فِي كِتابٍ) يستدعي شيئا مظروفا للكتاب وفيه وجهان :

أحدهما : أنه القرآن ، أي : هو قرآن في كتاب ، كقولك : «فلان رجل كريم في

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : الجماعة.

(٣) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٦.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٩).

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٤٦).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٢) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٤٦).

(٨) ينظر المصدر السابق.

(٩) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ١٦٧.

٤٣٣

نفسه» لا يشك السامع بأن المراد منه أن في الدّار قاعد ، وأنه لا يريد به أنه رجل إذا كان في الدّار غير رجل إذا كان خارجا ، ولا يشك أيضا أنه لا يريد أنه كريم وهو في البيت ، فكذلك ها هنا معناه : أنه كريم في كتاب.

فإذا قيل : «فلان رجل كريم في نفسه» يعلم كل أحد أن القائل لم يجعله رجلا مظروفا ، وأن القائل لم يرد أنه رجل في نفسه قاعد أو قائم ، وإنما أراد أن كرمه في نفسه ، وكذا قوله : (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي لَوْحٍ) أي : أنه لم يكن كريما عند الكفّار.

الثاني : أن المظروف هو مجموع قوله تعالى : (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي : هو كذا في كتاب كقوله تعالى (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) [المطففين : ١٩] ، كتاب أي : في كتاب الله تعالى.

والمعنى : أن في اللوح المحفوظ مكتوب : إنه قرآن كريم.

فصل في معنى الكتاب

قال ابن الخطيب (١) : فإن قيل : كيف سمي الكتاب كتابا ، والكتاب «فعال» وهو إما مصدر كالحساب والقيام ونحوهما ، أو لما يكتب كاللّباس ونحوه ، وكيفما كان ، فالقرآن لا يكون في القرطاس ؛ لأنه بمعنى المصدر ، ولا يكون في مكتوب ، وإنما يكون مكتوبا في لوح ، أو ورق ، فالمكتوب لا يكون في الكتاب ، وإنما يكون في القرطاس؟.

وأجاب بأن اللوح لما لم يكن إلّا لأن يكتب فيه صح تسميته كتابا.

وقوله : (فِي كِتابٍ) إما خبر بعد خبر ، وإما صفة ل «كريم» ، وإما معمول ل «كريم».

والأصح أنّ الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ ، لقوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١ ، ٢٢].

قوله : (لا يَمَسُّهُ).

في «لا» هذه وجهان (٢) :

أحدهما : أنها نافية ، فالضمة في «لا يمسّه» ضمة إعراب.

وعلى هذا القول ففي الجملة وجهان :

أحدهما : أن محلها الجر صفة ل «كتاب» ، والمراد به : إما اللوح المحفوظ ، و «المطهّرون» حينئذ : الملائكة ، أو المراد به المصاحف ، والمراد ب «المطهرين» : المكلفون كلهم.

والثاني : أن محلها الرفع صفة ل «قرآن». والمراد ب «المطهرين» : الملائكة فقط ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ١٦٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٧.

٤٣٤

أي : لا يطلع عليه ، أو لا يمسّ لوحه ، لا بد من هذين التجوزين ؛ لأن نسبة المسّ إلى المعاني حقيقة متعذّر.

ويؤيد كون هذه نفيا (١) قراءة عبد الله : «ما يمسّه» ب «ما» النافية.

الوجه الثاني : أنها ناهية ، والفعل بعدها مجزوم ؛ لأنه لو فكّ عن الإدغام لظهر ذلك فيه ، كقوله تعالى : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران : ١٧٤] ولكنه أدغم ، ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب.

ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا إلا الضم (٢).

وفي الحديث : «إنّا لم نردّه عليك إلّا أنّنا حرم» (٣).

وإن كان القياس يقتضي جواز فتحه تخفيفا ، وبهذا يظهر فساد من ردّ بأن هذا لو كان نهيا لكان يقال : «لا يمسّه» بالفتح ؛ لأنه خفي عليه جواز ضم ما قبل «الهاء» في هذا النحو ، لا سيما على رأي سيبويه ، فإنه لا يجيز غيره.

وقد ضعف ابن عطيّة (٤) كونها نهيا بأنه إذا كان خبرا فهو في موضع الصفة ، وقوله بعد ذلك : «تنزيل» صفة ، فإذا جعلناه نهيا كان أجنبيّا معترضا بين الصّفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره ، وفي حرف ابن مسعود : «ما يمسه». انتهى.

وليس فيما ذكره ما يقتضي تضعيف هذا القول ؛ لأنا لا نسلّم أن «تنزيل» صفة ، بل هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : «هو تنزيل» فلا يلزم ما ذكره من الاعتراض.

ولئن سلّمنا أنه صفة ف «لا يمسّه» صفة أيضا ، فإن اعترض علينا بأنه طلب فيجاب بأنه على إضمار القول ، أي : نقول فيه : «لا يمسّه» كما قالوا ذلك في قوله : (فِتْنَةً لا تُصِيبَنَ) [الأنفال : ٢٥] على أن «لا تصيبن» نهي.

وهو كقوله (٥) : [مشطور الرجز]

٤٧١١ ـ جاءوا بمذق هل رأيت الذّئب قط (٦)؟

وقد تقدم تحقيقه في «الأنفال».

وهذه الآية يتعلق بها خلاف العلماء في مس المحدث المصحف ، وهو مبني على هذا.

وقرأ العامة : «المطهّرون» بتخفيف الطّاء ، وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٥٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٧.

(٢) ينظر : الكتاب ٢ / ١٥٩.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٥٢.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٨.

(٦) تقدم.

٤٣٥

وعن سلمان الفارسي (١) كذلك إلا أنه يكسر الهاء ، اسم فاعل ، أي : المطهرون أنفسهم ، فحذف مفعوله.

ونافع وأبو عمرو في رواية (٢) عنهما ، وعيسى بسكون الطاء ، وفتح الهاء خفيفة اسم مفعول من «أطهر زيد».

والحسن وعبد الله بن عوف وسلمان أيضا (٣) : «المطّهّرون» بتشديد الطّاء والهاء المكسورة ، وأصله : «المتطهرون» فأدغم.

وقد قرىء بهذا على الأصل أيضا.

فصل في تحرير المسّ المذكور في الآية (٤)

اختلفوا في المسّ المذكور في الآية ، هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلفوا في المطهرون من هم؟.

فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمسّ ذلك إلّا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة (٥).

وقال أبو العالية وابن زيد : هم الذين طهروا من الذنوب كالرّسل من الملائكة ، والرسل من بني آدم (٦).

وقال الكلبي : هم السّفرة ، الكرام البررة (٧) ، وهذا كله قول واحد ، وهو اختيار مالك.

وقال الحسن : هم الملائكة الموصوفون في (٨) سورة «عبس» في قوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) [عبس : ١٣ ـ ١٦].

وقيل : معنى (لا يَمَسُّهُ) لا ينزل به إلا المطهرون ، يعني : الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ، ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلّا الملائكة المطهرون.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٥٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٨.

(٢) ينظر السابق.

(٣) السابق.

(٤) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٦.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٩ ـ ٦٦) عن سعيد بن جبير.

(٦) ينظر المصدر السابق وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٢) عن الربيع بن أنس مثله وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٧) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٩) والقرطبي (١٧ / ١٤٦).

(٨) ذكره القرطبي (١٧ / ١٤٦).

٤٣٦

ولو كان المراد طهر الحدث لقال : المتطهرون أو المطهرون بتشديد «الطاء».

والصحيح أن المراد بالكتاب : المصحف الذي بأيدينا ؛ لما روى مالك وغيره : أن في كتاب عمرو بن حزم : «لا يمسّ القرآن إلّا طاهر».

وقال ابن عمر : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تمسّ القرآن إلّا وأنت طاهر» (١).

وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه ، وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) فقام واغتسل ، وأسلم.

وعلى هذا قال قتادة وغيره : معناه : لا يمسه إلا المطهّرون من الأحداث والأنجاس.

وقال الكلبي : من الشّرك (٢).

وقال الربيع بن أنس : من الذنوب والخطايا (٣).

وقال محمد بن فضيل وعبدة : لا يقرؤه إلا المطهرون ، أي : إلّا الموحدون.

قال عكرمة : وكان ابن عباس ينهى أن يمكن اليهود والنصارى من قراءته (٤).

وقال الفراء (٥) : لا يجد نفعه وطعمه وبركته إلا المطهرون ، أي : المؤمنون بالقرآن ، وقال الحسين بن الفضل : معناه : لا يعرف تفسيره وتأويله إلّا من طهّره الله من الشّرك والنفاق.

وقال أبو بكر الورّاق : لا يوفق للعمل به إلا السّعداء.

وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المعنى : لا يمسّ ثوابه إلا المؤمنون (٦).

فصل في مس المصحف لغير المتوضىء

اختلف العلماء في مسّ المصحف على غير وضوء (٧).

فالجمهور على المنع من مسّه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم ، وهو مذهب علي ، وابن مسعود ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وعطاء ، والزهري ، والنخعي والحكم وحماد ، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشّافعي.

واختلفت الرواية عن أبي حنيفة.

فروي عنه أنه يمسّه المحدث ، وهذا مروي عن ابن عباس والشعبي وغيرهما ، وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه ، وما ليس بمكتوب.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ذكره القرطبي (١٧ / ١٤٦) عن الكلبي.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٢) وعزاه إلى ابن المنذر وعبد بن حميد.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٤٦).

(٥) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ١٣٠.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٤٦).

(٧) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٧.

٤٣٧

وأمّا [الكتاب](١) فلا يمسّه إلّا طاهر.

قال ابن العربي (٢) : وهذا يقوي الحجة عليه ؛ لأن جرم الممنوع ممنوع ، وكتاب عمرو بن حزم أقوى دليل عليه.

وقال مالك : لا يحمله غير طاهر بعلامة ، ولا على وسادة.

وقال أبو حنيفة : لا بأس بذلك.

وروي عن الحكم وحماد وداود بن علي : أنه لا بأس بحمله ومسّه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا ، إلّا أن داود قال : لا يجوز للمشرك حمله ، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى «قصير» ، ولا حجة فيه لأنه موضع ضرورة.

والمراد بالقرآن : المصحف ، سمي قرآنا لقرب الجوار على الاتّساع ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. أراد به المصحف.

قوله : (تَنْزِيلٌ).

قرأ العامة : بالرفع.

وقرأ بعضهم (٣) : «تنزيلا» بالنصب ، على أنه حال من النكرة ، وجاز ذلك لتخصصها بالصفة.

وأن يكون مصدرا لعامل مقدر ، أي : نزل تنزيلا. ط

وغلب التنزيل على القرآن.

وقوله : (مِنْ رَبِّ) يجوز أن يتعلق به على الأول لا الثاني ، لأن المؤكد لا يعمل ، فيتعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة له.

وأما على قراءة (تَنْزِيلٌ) بالرفع ، فيجوز الوجهان (٤).

قال القرطبي (٥) : «تنزيل» أي : منزل ، كقولهم : «ضرب الأمير ، ونسج اليمن».

وقيل : «تنزيل» صفة لقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ).

وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو «تنزيل».

قال ابن الخطيب (٦) : قوله «تنزيل» مصدر ، والقرآن الذي في كتاب ليس بتنزيل ، إنما هو منزل لقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء : ١٩٣] ، فنقول : ذكر المصدر ،

__________________

(١) في ب : كتابه.

(٢) ينظر : أحكام القرآن ص ١٧٣٩.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٦٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٨.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٨.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٧.

(٦) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ١٧٠.

٤٣٨

وإرادة المفعول كثير ، كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١] وأوثر المصدر ؛ لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر.

قوله : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) متعلق بالخبر ، وجاز تقديمه على المبتدأ ؛ لأن عامله يجوز فيه ذلك ، والأصل : أفأنتم مدهنون بهذا الحديث ، وهو القرآن.

ومعنى (مُدْهِنُونَ) أي : متهاونون كمن يدهن في الأمر ، أي : يلين جانبه ، ولا يتصلب فيه تهاونا به ، يقال : أدهن فلان ، أي : لاين وهاود فيما لا يجمل عنه المدهن (١).

قال أبو قيس بن الأسلت : [السريع]

٤٧١٢ ـ الحزم والقوّة خير من ال

إدهان والفهّة والهاع (٢)

وقال الراغب (٣) : والإدهان في الأصل مثل التدهين ، لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجدّ ، كما جعل التّقريد وهو نزع القراد عبارة عن ذلك.

قال القرطبي (٤) : «وأدهن وداهن واحد ، وقال قوم : داهنت بمعنى واريت ، وأدهنت بمعنى غششت».

قال ابن عبّاس : «مدهنون» أي : مكذبون. وهو قول عطاء وغيره (٥).

والمدهن : الذي ظاهره خلاف باطنه ، كأنه شبّه بالدهن في سهولة ظاهره.

وقال مقاتل بن سليمان وقتادة : «مدهنون» كافرون ، نظيره : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)(٦) [القلم : ٩].

وقال المؤرّج : المدهن : المنافق الذي يلين جانبه ليخفي كفره.

والإدهان والمداهنة : التكذيب والكفر والنّفاق.

وقال الضحاك : «مدهنون» معرضون (٧).

وقال مجاهد : ممالئون الكفّار على الكفر به (٨).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٨.

(٢) ينظر ديوانه ص ٧٩ ، وسمط اللالىء ص ٨٣٧ ، والأمالي للقالي ٢ / ٢١٥ ، والمخصص لابن سيده ٣ / ٦٥ ، والمفردات في غريب القرآن ص ٧٤ ، والتاج ٩ / ٢٠٥ (رهن) ، والقرطبي ١٧ / ١٤٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٨.

(٣) ينظر : المفردات.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٤٧.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٦١) عن ابن عباس والضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٣) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٤٧).

(٧) ينظر تفسير القرطبي (١٧ / ١٤٧).

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٦١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٣) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

٤٣٩

وقال ابن كيسان : المدهن : الذي لا يعقل ما حق الله عليه ، ويدفعه بالعلل.

وقال بعض اللغويين : «مدهنون» : تاركون للجزم في قبول القرآن.

قوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ).

فيه أوجه :

أحدها : أنه على التهكم بهم ، لأنهم وضعوا الشيء غير موضعه ، كقولك : شتمني حيث أحسنت إليه ، أي : عكس قضية الإحسان.

ومنه : [الرجز]

٤٧١٣ ـ كأنّ شكر القوم عند المنن

كيّ الصّحيحات ، وفقء الأعين (١)

أي : شكر رزقكم تكذيبكم.

الثاني : أن ثمّ مضافين محذوفين ، أي : بدل شكر رزقكم ، ليصح المعنى.

قاله ابن مالك.

وقد تقدم في قوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) [النجم : ٩] أكثر من هذا.

الثالث : أنّ الرزق هو الشكر في لغة «أزد شنوءة» يقولون : ما رزق فلان فلانا ، أي : ما شكره ، فعلى هذا لا حذف ألبتة.

ويؤيده قراءة علي بن أبي طالب (٢) ـ رضي الله عنه ـ وتلميذه عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «وتجعلون شكركم» مكان رزقكم.

قال القرطبي (٣) : «وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان الشّكر لأنّ شكر الرّزق يقتضي الزيادة فيه ، فيكون الشكر رزقا لهذا المعنى».

قوله : (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).

قرأ العامة : «تكذّبون» من التكذيب.

وعلي ـ رضي الله عنه ـ وعاصم في رواية المفضل عنه : «تكذبون» (٤) مخففا من الكذب.

__________________

(١) ينظر البحر ٨ / ٢١٤ وروح المعاني ٢٧ / ١٥٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٩.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٦٩ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٥٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٩.

(٣) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٤٨.

(٤) ينظر : الحجة ٦ / ٢٦٤ ، والمحتسب ٢ / ٣١٠ ، ونسبها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينظر : إعراب القراءات ٢ / ٣٤٨ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٥٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٩.

٤٤٠