اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

قوله : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ).

قيل : الضّمير يعود (على) (١) الحور العين ، أي : خلقناهن من غير ولادة.

وقيل : المراد نساء بني آدم خلقناهنّ خلقا جديدا ، وهو الإعادة ، أي أعدناهنّ إلى حال الشّباب ، وكمال الجمال ، ويرجحه قوله : (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) لأن المخلوقة ابتداء معلوم أنها بكر.

والمعنى أنشأنا العجوز والصّبية إنشاء ، وأخرن ، ولم يتقدم ذكرهنّ ؛ لأنّهن قد دخلن في أصحاب اليمين ، ولأن الفرش كناية عن النساء كما تقدم (٢).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قال : «منهنّ البكر والثّيّب» (٣).

وروى النحاس بإسناده عن أم سلمة سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً) ، فقال : «يا أمّ سلمة ، هنّ اللّواتي قبضن في الدّنيا عجائز ، شمطا ، عمشا ، رمصا ، جعلهنّ الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء»(٤).

وروى أنس بن مالك ، يرفعه في قوله : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قال : «هنّ العجائز العمش ، الرّمص ، كنّ في الدّنيا عمشا رمصا» (٥).

وعن المسيب بن شريك : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً) ، قال : «هنّ عجائز الدّنيا ، أنشأهنّ الله تعالى خلقا جديدا ، كلّما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا» فلما سمعت عائشة بذلك قالت : واوجعاه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس هناك وجع» (٦).

__________________

ـ وقال الترمذي : هذا حديث غريب.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٤) وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» وابن أبي حاتم والروياني وأبي الشيخ في «العظمة».

(١) في ب : إلى.

(٢) ينظر ؛ القرطبي ١٧ / ١٣٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٤٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٤) وزاد نسبته إلى الطيالسي وابن أبي الدنيا والطبراني وابن مردويه وابن قانع والبيهقي في «البعث» من حديث سلمة بن يزيد الجعفي.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٤١).

(٥) أخرجه الترمذي (٣٢٩٦) والطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٤٠) من طريق موسى بن عبيدة عن يزيد بن أبان عن أنس مرفوعا.

وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث موسى بن عبيدة وموسى بن عبيدة ويزيد بن أبان الرقاشي يضعفان في الحديث.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٤) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وهناد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «البعث».

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٣) عن المسيب بن شريك.

٤٠١

وعن الحسن قال : أتت عجوز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : «يا أم فلان ، الجنّة لا يدخلها عجوز» ، قال : فولّت تبكي ، فقال : أخبروها أنّها لا تدخلها وهي عجوز ، إنّ الله تعالى يقول : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً)(١).

قوله : (عُرُباً).

جمع «عروب» ك «صبور ، وصبر» ، والعروب : المحببة إلى بعلها ، واشتقاقه من «أعرب» إذا بين.

فالعروب : تبين محبتها لزوجها بشكل وغنج وحسن كلام. قاله عكرمة وقتادة (٢).

وقيل : الحسناء.

وقيل : المحسّنة لكلامها (٣).

وقرأ حمزة (٤) ، وأبو بكر : بسكون الراء. وهذا ك «رسل ورسل ، وفرش وفرش». وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هنّ العواشق (٥).

وأنشد للبيد : [البسيط]

٤٦٩٠ ـ وفي الخدور عروب غير فاحشة

ريّا الرّوادف يغشى دونها البصر (٦)

ويروى : [البسيط]

__________________

(١) أخرجه الترمذي في «الشمائل» رقم (٢٤١) والبيهقي في «البعث» (٢٤١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٤) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن مرسلا. وللحديث شاهد من حديث عائشة ، أخرجه الطبري (١١ / ٦٤٢) والبيهقي في «البعث» رقم (٣٧٩) من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة.

وله طريق آخر عنها ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٤١٩) وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه مسعدة بن اليسع وهو ضعيف.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٤٢) عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٥) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٧.

(٤) ينظر : السبعة ٦٢٢ ، والحجة للقراء السبعة ٦ / ٢٥٧ ، ٢٥٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٤٣ ، ٣٤٤ ، وحجة القراءات ٦٩٦ ، والعنوان ١٨٥ ، وشرح شعلة ٥٩٦ ، وإتحاف ٢ / ٥١٥.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٤٢) عن ابن عباس والحسن ومجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٥) : عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر والبيهقي من طريق علي بن أبي طلحة عنه.

وله طريق آخر عن الضحاك عن ابن عباس ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٥) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٦) ينظر ديوانه ص ٥٦ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٥١ ، والطبري ٢٧ / ١٠٧ ، والقرطبي ١٧ / ١٣٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٠.

٤٠٢

٤٦٩١ ـ وفي الجنان عروب غير فاحشة

ريّا الرّوادف يغشى ضوؤها البصرا (١)

وعن ابن عباس ومجاهد وغيرهما : العرب ، العواشق لأزواجهن (٢).

وعن عكرمة : العروبة : الغنجة (٣).

قال ابن زيد : بلغة أهل «المدينة» ، وأنشد بيت لبيد ، وهي الشّكلة بلغة أهل «مكّة»(٤).

وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : «عربا» قال : «كلامهنّ عربيّ» (٥).

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما : «العروب» الملقة (٦).

قوله : (أَتْراباً) جمع «ترب» ، وهو المساوي لك في سنّك لأنه يمسّ جلدها التراب في وقت واحد ، وهو آكد في الائتلاف ، وهو من الأسماء التي لا تتعرف بالإضافة ؛ لأنه في معنى الصفة ؛ إذ معناه «مساويك» ، ومثله : «خدنك» لأنه في معنى صاحبك (٧).

قال القرطبي (٨) : «سنّ واحد ، وهو ثلاث وثلاثون سنة ، يقال في النساء : أتراب ، وفي الرجال : أقران ، وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حدّ الصّبا من النساء ، وانحطّت عن الكبر».

وقال مجاهد : الأتراب : الأمثال والأشكال.

وقال السّدي : أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد (٩).

وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يدخل أهل الجنّة جردا مردا ، جعادا ، مكحّلين ، أبناء ثلاثين على خلق آدم طوله ستّون ذراعا في سبعة أذرع» (١٠).

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٤٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٦) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٤٣) من طريق عكرمة عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٠.

(٨) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٣٧.

(٩) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٣٧).

(١٠) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٨٩) رقم (٢٥٤٥) من طريق قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ مرفوعا.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وبعض أصحاب قتادة رووا هذا عن قتادة مرسلا ولم يسندوه. ـ

٤٠٣

وعنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «من مات من أهل الجنّة من صغير وكبير دون بني ثلاثين سنة في الجنّة ، لا يزيدون عليها أبدا ، وكذلك أهل النّار» (١).

قوله : (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ).

في هذه «اللام» وجهان :

أحدهما : أنها متعلقة ب «أنشأناهنّ» أي لأجل أصحاب اليمين.

والثاني : أنها متعلقة ب «أترابا» كقولك : هذا ترب لهذا ، أي : مساو له.

وقيل : الحور العين : للسّابقين ، والأتراب العرب : لأصحاب اليمين.

قوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ).

رجع الكلام إلى قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي هم ثلة من الأولين ، وثلة من الآخرين ، وقد مضى الكلام في معناه.

وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وعطاء بن أبي رباح والضحاك : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) يعني : من سابقي هذه الأمة ، (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) من هذه الأمة من آخرها (٢).

بدليل ما روي عن ابن عباس في هذه الآية : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جميعا من أمّتي» (٣).

وقال الواحدي : «أصحاب الجنة نصفان : نصف من الأمم الماضية ، ونصف من هذه الأمة». ويرد هذا ما روى ابن ماجه في «سننه» والترمذي في «جامعه» عن بريدة بن الحصيب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أهل الجنّة عشرون ومائة صنف ، ثمانون منها من هذه الأمّة ، وأربعون من سائر الأمم» (٤).

قال الترمذي : هذا حديث حسن.

و «ثلّة» رفع على الابتداء ، أو على حذف خبر حرف الصفة ، ومجازه : لأصحاب اليمين ثلّتان : ثلّة من هؤلاء ، وثلّة من هؤلاء.

__________________

ـ وأخرجه أحمد (٢ / ٢٩٥) من حديث أبي هريرة. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٨) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والطبراني في الكبير.

(١) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (٢ / ١٢٨) ومن طريقه البغوي في «تفسيره» (٤١ / ٢٨٤) من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد. وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٣٩٣٤٤) وعزاه إلى الترمذي.

(٢) ينظر تفسير القرطبي (١٧ / ١٣٧).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٤٦) وابن عدي في «الكامل» (١ / ٣٧١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٧) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس بسند ضعيف.

(٤) أخرجه الترمذي (٢٥٤٦) وابن ماجه (٤٢٨٩) وأحمد (٥ / ٣٤٧) والدارمي (٢ / ٣٣٧) والحاكم (١ / ٨٢) وابن المبارك في الزهد (٥٨٤) من حديث بريدة بن الحصيب.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

٤٠٤

فالأوّلون : الأمم الماضية ، والآخرون : هذه الأمة على قول الواحدي.

قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)

قوله : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ).

لما ذكر منازل أهل الجنة وسمّاهم أصحاب اليمين ، ذكر منازل أهل النّار ، وسمّاهم أصحاب الشمال ؛ لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم ، ثم عظم ذكرهم في البلاء والعذاب ، فقال : (ما أَصْحابُ الشِّمالِ ، فِي سَمُومٍ) وهي الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن ، والمراد بها حر النار ولهيبها.

وقيل : ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل ، وأصله من السم كسمّ الحية والعقرب وغيرهما.

قال ابن الخطيب (١) : «ويحتمل أن يكون هو السّم ، والسّم يقال في خرم الإبرة ، قال تعالى : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] ؛ لأن سم الأفعى ينفذ في مسام البدن».

وقيل : السموم يختص بما يهبّ ليلا ، وعلى هذا فقوله : «سموم» إشارة إلى ظلمة ما هم فيه.

و «الحميم» : هو الماء الحارّ الذي قد انتهى حره ، فهو «فعيل» بمعنى «فاعل» من حمم الماء ، أو بمعنى «مفعول» من حم الماء إذا سخنه.

وقوله : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ).

«اليحموم» وزنه «يفعول».

قال أبو البقاء (٢) : «من الحمم ، أو الحميم».

قال القرطبي (٣) : «هو» يفعول ، من الحم ، وهو الشحم المسود باحتراق النار ، وقيل : مأخوذ من الحمم وهو الفحم.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ١٤٧.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٠٥.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٣٨.

٤٠٥

و «اليحموم» : قيل : هو الدّخان الأسود البهيم.

وقيل : هو واد في جهنم.

وقيل : اسم من أسمائها. والأول أظهر.

وقيل : إنه الظّلمة ، وأصله من الحمم ، وهو الفحم ، فكأنه لسواده فحم ، فسمي باسم مشتق منه ، وزيادة الحرف فيه لزيادة ذلك المعنى فيه ، وربما تكون الزيادة فيه جامعة بين الزيادة في سواده ، والزيادة في حرارته.

قال ابن الخطيب (١) : وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائما ؛ لأنهم إن تعرّضوا لمهبّ الهواء أصابهم السّموم ، وإن استكنّوا كما يفعله الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان في الكنّ يكون في ظل من يحموم ، وإن أراد التبرّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم ، فلا انفكاك له من العذاب ، أو يقال : إنّ السموم يعذبه فيعطش ، وتلتهب نار السّموم في أحشائه ، فيشرب الماء ، فيقطع أمعاءه ، فيريد الاستظلال بظلّ ، فيكون ذلك الظلّ ظل اليحموم.

وذكر السموم دون الحميم دون النّار تنبيها بالأدنى على الأعلى ، كأنه قيل : أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرها.

قال الضّحاك : النار سوداء ، وأهلها سود ، وكل ما فيها أسود (٢).

قوله : (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) صفتان للظلّ ، كقوله : (مِنْ يَحْمُومٍ).

وفيه أنه قدم غير الصريحة على الصريحة ، فالأولى أن تجعل صفة ل «يحموم» ، وإن كان السياق يرشد إلى الأول.

وقرأ ابن أبي (٣) عبلة : «لا بارد ولا كريم» برفعهما ، أي : «هو لا بارد».

كقوله : [الكامل]

٤٦٩٢ ـ ..........

فأبيت لا حرج ولا محروم (٤)

قال الضّحاك : «لا بارد» بل حار ؛ لأنه من دخان سعير جهنم ، «ولا كريم» عذب.

وقال سعيد بن المسيّب : ولا حسن منظره ، وكل ما لا خير فيه ، فليس بكريم (٥).

وقيل : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أي : من النّار يعذبون بها كقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦].

__________________

(١) الفخر الرازي ٢٩ / ١٤٧.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٦).

(٣) ينظر الكشاف ٤ / ٤٦٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٩ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٠.

(٤) تقدم.

(٥) ذكر البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٦).

٤٠٦

قال الزمخشري (١) : «كرم الظل نفع الملهوف ، ودفع أذى الحرّ عنه».

قال ابن الخطيب (٢) : ولو كان كذلك لكان البارد والكريم بمعنى واحد ، والأقوى أن يقال: فائدة الظل أمران :

أحدهما : دفع الحر.

والآخر : كون الإنسان فيه مكرما ؛ لأن الإنسان في البرد يقصد الشمس ليدفأ بحرّها إذا كان قليل الثّياب ، وفي الحرّ يطلب الظّل لبرده ، فإذا كان من المكرمين يكون أبدا في مكان يدفع الحر والبرد عن نفسه ، فيحتمل أن يكون المراد هذا.

ويحتمل أن يقال : الظل يطلب لأمر حسّي ، وهو يرده ، ولأمر عقلي وهو التّكرمة ، وهذا معنى ما نقله الواحدي عن الفرّاء بنفي كل شيء مستحسن ، فيقولون : «الدار لا واسعة ولا كريمة».

قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ).

أي : إنما استحسنوا هذه العقوبة ؛ لأنهم كانوا في الدنيا متنعّمين بالحرام.

و «المترف» : المنعم (٣).

قاله ابن عباس وغيره.

وقال السّدي : «مترفين» أي : مشركين (٤).

قوله : (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ).

الحنث في أصل كلامهم : العدل الثقيل ، وسمي به الذنب والإثم لثقلهما ، قاله الخطابي(٥).

وفلان حنث في يمينه ، أي لم يف به ؛ لأنه يأثم غالبا ، ويعبر بالحنث عن البلوغ ، ومنه قوله : «لم يبلغوا الحنث» (٦).

وإنما قيل ذلك ؛ لأن الإنسان عند بلوغه إيّاه يؤاخذ بالحنث ، أي : بالذنب ، وتحنّث فلان ، أي جانب الحنث.

وفي الحديث : «كان يتحنّث بغار حراء» (٧) ، أي : يتعبّد لمجانبته الإثم ، نحو : «تحرّج» فتفعّل في هذه كلّها للسّلب (٨).

__________________

(١) ينظر بتصرف الكشاف ٤ / ٤٦٣.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ١٤٧ ، ١٤٨.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٤٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٣٨) عن السدي.

(٥) ينظر الدر المصون ٦ / ٢٦٠.

(٦) تقدم.

(٧) تقدم.

(٨) ينظر الدر المصون ٦ / ٢٦٠.

٤٠٧

فصل في تفسير الآية (١)

قال الحسن ، والضحاك ، وابن زيد : (يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أي : يقيمون على الشرك (٢).

وقال قتادة ومجاهد : الذّنب العظيم الذي لا يتوبون منه (٣).

وقال الشّعبي : هو اليمين الغموس ، وهي من الكبائر ، يقال : حنث في يمينه ، أي : لم يبرّها ورجع فيها ، وكانوا يقسمون أن لا بعث ، وأن الأصنام أنداد الله فذلك حنثهم.

فصل في الحكمة من ذكر عذاب هذه الطائفة

قال ابن الخطيب (٤) : والحكمة في ذكره سبب عذابهم ، ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم ، فلم يقل : إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين ، وذلك تنبيه على أن ذلك الثواب منه فضل ، والعقاب منه عدل ، والفضل سواء ذكر سببه ، أو لم يذكره لا يتوهّم بالمتفضل نقص وظلم.

وأمّا العدل إن لم يعلم سبب العقاب ، يظن أن هناك ظلما ، ويدلّ على أنه تعالى لم يقل في أصحاب اليمين : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) كما قاله في السّابقين ؛ لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل ، بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه.

واعلم أن المترف هو المنعم ، وذلك لا يوجب ذمّا ، وإنما حصل لهم الذم بقوله : (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) ، فإن صدور المعاصي ممن كثرت النّعم عليه [من] أقبح القبائح، فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) ، ولم يشكروا نعم الله ، بل أصروا على الذنب العظيم.

وفي الآية مبالغة (٥) ؛ لأن قوله : (وَكانُوا يُصِرُّونَ) يقتضي أن ذلك عادتهم ، والإصرار على مداومة المعصية والحنث أبلغ من الذنب ؛ لأن الذنب يطلق على الصغيرة ، ويدل على ذلك قولهم : «بلغ الحنث» أي : بلغ مبلغا تلحقه فيه الكبيرة.

وأما الصغيرة فتلحق الصغير ، فإن وليّه يعاقبه على إساءة الأدب ، وترك الصلاة ، ولأن وصفه بالعظيم مبالغة. قاله ابن الخطيب (٦).

قوله تعالى : (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا) الآية.

__________________

(١) ينظر القرطبي ١٧ / ١٣٨.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (١١ / ٦٤٨) عن الضحاك وابن زيد.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ١٤٨.

(٥) الفخر الرازي ٢٩ / ١٤٩.

(٦) السابق ٢٩ / ١٥٠.

٤٠٨

هذا استبعاد منهم للبعث وتكذيب له ، وقد تقدّم الكلام على ذلك في «والصّافات» ، وتقدم الكلام على الاستفهامين في سورة «الرّعد».

فإن قيل : كيف أتى ب «اللام» المؤكدة في قوله تعالى : (لَمَبْعُوثُونَ) ، مع أن المراد هو النفي ، وفي النفي لا تدخل «اللام» في خبر «إنّ» ، تقول : «إنّ زيدا ليجيء ، وإنّ زيدا لا يجيء» فلا تذكر «اللام» ، ومرادهم بالاستفهام : الإنكار ، بمعنى إنا لا نبعث؟.

فالجواب من وجهين :

أحدهما : عند التصريح بالنفي وصيغته ، يجب التصريح بالنفي وصيغته.

والثاني : أنهم أرادوا تكذيب من يخبر عن البعث ، فذكروا أن المخبر عنه يبالغ في الإخبار ، ونحن ننكر مبالغته وتأكيده ، فحكوا (١) كلام المخبر على طريقة الاستفهام والإنكار ، ثم إنهم أشاروا في الإنكار إلى أمور اعتقدوها مقررة لصحة إنكارهم ، فقالوا : (أَإِذا مِتْنا) ثم لم يقتصروا عليه ، بل قالوا بعده : (وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) أي : وطال عهدنا بعد كوننا أمواتا حتى صارت اللحوم ترابا ، والعظام رفاتا ثم زادوا وقالوا : مع هذا يقال لنا : إنكم لمبعوثون بطريق التأكيد من ثلاثة أوجه :

أحدها : استعمال «إنّ».

ثانيها : إثبات «اللام» في خبرها.

ثالثها : ترك صيغة الاستقبال ، والإتيان بالمفعول كأنه كائن ، ثم زادوا وقالوا : (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) فقال الله تعالى لهم : «قل» يا محمد (إِنَّ الْأَوَّلِينَ) من آبائكم ، و (الْآخِرِينَ) منكم (لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يعني : يوم القيامة.

ومعنى الكلام : القسم ودخول «اللام» في قوله تعالى : (لَمَجْمُوعُونَ) هو دليل القسم في المعنى ، أي : إنكم لمجموعون قسما حقّا ، بخلاف قسمكم الباطل (٢).

قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن الهدى (الْمُكَذِّبُونَ) بالبعث (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) ، وهو شجر كريه المنظر كريه الطعم ، وهو المذكور في سورة «والصّافّات».

وهذا الخطاب عامّ ، وقيل : لأهل «مكة» ، وهو من تمام كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقدم هنا الضّالين على المكذبين في آخر السورة ، قال : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) ، فقدم المكذبين على الضّالين ؛ لأنهم هنا أصرّوا على الحنث العظيم فضلوا عن السبيل ، ثم كذبوا الرسول ، وقالوا : (أَإِذا مِتْنا).

وفي آخر السورة قدم المكذبين بالحشر على الضالين عن طريق الخلاص ، أو

__________________

(١) في أ : فحملوا.

(٢) ينظر : الرازي ٢٩ / ١٥٠ ، والقرطبي ١٧ / ١٣٨.

٤٠٩

يقال : إنّ الكلام هنا مع الكفّار وهم ضلوا أولا ، وكذبوا ثانيا ، وفي آخر السورة الكلام مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدم التكذيب به إظهارا للعناية به صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

قوله : (مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ). فيه أوجه (٢) :

أحدها : أن تكون «من» الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للبيان ، أي : مبتدئون الأكل من شجر هو زقوم.

الثاني : أن تكون «من» الثّانية صفة ل «شجر» فيتعلق بمحذوف أي : مستقر.

الثالث : أن تكون الأولى مزيدة ، أي : لآكلون شجرا ، و «من» الثانية على ما تقدم من الوجهين.

الرابع : عكس هذا ، وهو أن تكون الثانية مزيدة ، أي : لآكلون زقّوما ، و «من» الأولى للابتداء في محل نصب على الحال من «زقّوم» أي : كائنا من شجر ، ولو تأخّر لكان صفة.

الخامس : أن «من شجر» صفة لمفعول محذوف ، أي : لآكلون شيئا من شجر ، و «من زقّوم» على هذا نعت ل «شجر» أو لشيء محذوف.

السادس : أن الأولى للتبعيض ، والثانية بدل منها.

قوله : (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ).

الضمير في «منها» عائد على الشجر ، وفي «عليه» للشجر أيضا.

وأنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه ، وأنهما لغتان.

وقيل : الضمير في «عليه» عائد على «الزّقّوم».

وقال أبو البقاء : للمأكول.

وقال ابن عطية : «للمأكول أو الأكل» انتهى (٣).

وفي قوله : «الأكل» بعد.

وقال الزمخشري (٤) : «وأنّث ضمير الشجر على المعنى ، وذكره على اللفظ في «منها» و «عليه» ، ومن قرأ (٥) : من شجرة من زقوم فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم ؛ لأنه تفسيرها».

فصل في تحرير معنى الزقوم

قال ابن الخطيب (٦) : «اختلفت أقوال الناس في «الزقوم» ، وحاصل الأقوال يرجع

__________________

(١) ينظر : الرازي ٢٩ / ١٥١ ، ١٥٢.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦١.

(٣) السابق ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٤٧.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٦٣.

(٥) وهي قراءة عبد الله كما في البحر المحيط ٨ / ٢٠٩ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٤٧.

(٦) التفسير الكبير ٢٩ / ١٥٢.

٤١٠

إلى كون ذلك في الطّعم مرّا ، وفي اللمس حارّا ، وفي الرائحة منتنا ، وفي المنظر أسود لا يكاد آكله يسيغه.

والتحقيق اللغوي فيه أن الزّقوم لغة عربية ، ودلنا تركيبه على قبحه ؛ لأن «ز ق م» لم يجتمع إلا في مهمل ، أو في مكروه.

يقال منه : مزق يمزق ، ومنه : زمق شعره إذا نتفه ، ومنه «القزم» للدّناءة واللؤم.

وأقوى من هذا أن «القاف» مع كل حرف من الحرفين الباقيين يدل في أكثر الأمر على مكروه ، فالقاف مع «الميم» ك «القمامة والتّقمقم والقمقمة» ، وبالعكس «المقامق» لتغليظ الصوت ، و «المقمقة» هو الشق.

وأما القاف مع الزاي ف «الزق» رمي الطائر بذرقه ، والزّقزقة : للخفة ، وبالعكس ـ القزنوب ـ فينفر الطّبع من تركيب الكلمة من حروف اجتماعها دليل الكراهة والقبح ، ثم قرن بالأكل ، فدلّ على أنه طعام ذو غصّة.

وأما ما يقال : بأن العرب تقول : «زقمتني» بمعنى : أطعمتني الزّبد والعسل واللّبن ، فذلك للمجانة ، كما يقال : ارشقني بثوب حسن ، وارجمني بكيس من ذهب».

وقد تقدم الكلام على الزّقوم في «والصّافات».

وقوله : (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ).

بيان لزيادة العذاب ، أي : لا يكتفى منكم بنفس الأكل ، كما يكتفى ممن يأكل الشّيء لتحلّة القسم ، بل يلزمون منها بأن يملئوا منها البطون.

وقوله : (الْبُطُونَ) إما مقابلة الجمع بالجمع ، أي : يملأ كل واحد منكم بطنه.

وإما أن يكون لكل واحد بطون ، ويكون المراد منه ما في بطن الإنسان ، وهم سبعة أمعاء فيملئون بطون الأمعاء ، والأول أظهر ، والثاني أدخل في التعذيب (١).

قوله : (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) أي : على الأكل ، أو على الزّقوم لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار.

قوله : (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ).

وهذا أيضا بيان لزيادة العذاب ، أي : لا يكون شربكم كمن شرب ماء حارّا منتنا ، فيمسك عنه ، بل يلزمون أن يشربوا منه مثل ما يشرب الأهيم ، وهو الجمل العطشان ، فيشرب ولا يروى (٢).

وقرأ نافع وعاصم وحمزة : بضم الشين من «شرب».

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ١٥٢.

٤١١

وباقي (١) السبعة بفتحها.

ومجاهد وأبو عثمان (٢) النهدي : بكسرها.

فقيل : الثلاث لغات في مصدر «شرب» ، والمقيس منها إنما هو المفتوح ، والمضموم والمكسور اسمان لما يشرب ك «الرّعي» و «الطّحن».

قال القرطبي (٣) : «تقول العرب : «شربت شربا وشربا وشربا وشربا» بضمتين».

قال أبو زيد : سمعت العرب تقول : بضم الشّين وفتحها وكسرها.

والفتح هو المصدر الصحيح ؛ لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله «فعل» ؛ ألا ترى أنك تردّه إلى المرة الواحدة ، فتقول : «فعلة» نحو «شربة».

وقال الكسائي يقال : «شربت شربا وشربا».

ويروى قول جعفر : «أيّام منى أيّام أكل وشرب».

ويقال : بفتح الشين ، والشرب في غير هذا اسم للجماعة الشّاربين (٤).

قال : [البسيط]

٤٦٩٣ ـ كأنّه خارجا من جنب صفحته

سفّود شرب نسوه عند مفتأد (٥)

و «الهيم» فيه أوجه (٦) :

أحدها : أنه جمع «أهيم أو هيماء» ، وهو الجمل والنّاقة التي أصابها الهيام ، وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت ، أو تسقم سقما شديدا. والأصل : «هيم» ـ بضم «الهاء» ـ ك «أحمر وحمر ، وحمراء وحمر» فقلبت الضمة كسرة لتصح «الياء» ، وذلك نحو «بيض» في «أبيض».

وأنشد لذي الرّمة : [الطويل]

٤٦٩٤ ـ فأصبحت كالهيماء ، لا الماء مبرد

صداها ، ولا يقضي عليها هيامها (٧)

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٢٣ ، والحجة ٦ / ٢٦٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٤٥ ، وحجة القراءات ٦٩٦ ، والعنوان ١٨٥ ، وشرح شعلة ٥٩٦ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣٦ ، وإتحاف ٢ / ٥١٦.

(٢) وحكاها الكسائي لغة. ينظر : إكمال الإعلام لابن مالك ٢ / ٣٣٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٤٥ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٤٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٩ ، والدر المصون ٦ / ٢٦١.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٣٩.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦١.

(٥) البيت للنابغة الذبياني ينظر ديوانه ص ١٩ ، والأشباه والنظائر ٦ / ٢٤٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ١٨٥ ، والخصائص ٢ / ٢٧٥ ، ورصف المباني ص ٢١١ ، ٢٩٥ واللسان (فأد) وابن الشجري ١ / ١٥٦ ، وشرح الكافية ١ / ٢٠٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٦١.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦١.

(٧) ينظر ديوانه ٧١٤ ، والكشاف ٤ / ٥٦ ، وشرح شواهده ص ٥٤٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٦١.

٤١٢

الثاني : أنّه جمع «هائم وهائمة» من «الهيام» أيضا ، إلا أن جمع «فاعل وفاعلة» على «فعل» قليل ، نحو : «نازل ونزل ، وعائذ وعوذ».

ومنه : [الطويل]

٤٦٩٥ ـ ..........

عوذ مطافل (١)

وقوله : «العوذ المطافيل».

وقيل : هو من «الهيام» وهو الذهاب ؛ لأن الجمل إذا أصابه ذلك هام على وجهه.

الثالث : أنه جمع «هيام» بفتح الهاء ، وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلا ، فيكون مثل «سحاب وسحب» ـ بضمتين ـ ثم خفف بإسكان عينه ثم (٢) كسرت فاؤه لتصحّ «الياء» كما فعل بالذي قبله.

[الرابع : أنه جمع «هيام» ـ بضم الهاء ـ وهو الرمل المتماسك ، مبالغة في «الهيام» بالفتح. حكاها ثعلب.

إلا أن المشهور الفتح ، ثم جمع على «فعل» نحو : «قراد وقرد» ، ثم خفف وكسرت فاؤه](٣) [لتصح «الياء»](٤).

وفي «الصحاح» (٥) : «والهيام ـ بالضّم ـ أشدّ العطش ، و «الهيام» كالجنون من العشق ، و «الهيماء» أيضا : المفازة لا ماء بها ، و «الهيام» ـ بالكسر ـ العطاش».

والمعنى : أنّهم يصيبهم من الجوع ما يلجئهم إلى أكل الزّقّوم ، ومن العطش ما يضطرهم إلى شرب الهيم.

وقال الزمخشري (٦) : «فإن قلت : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات واحدة ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفا للشيء على نفسه؟.

قلت : ليستا متفقتين من حيث إن كونهم شاربين على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كما تشرب الماء أمر عجيب أيضا ، فكانتا صفتين مختلفتين». انتهى.

__________________

(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي ، وتمامه :

وإن حديثا منك لو تعلمينه

جنى النحل في لبان عوذ مطافل

ينظر الدرر ٥ / ٧ ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ١٤١ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٨٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٤٤ ، وشافية ابن الحاجب ٢ / ١٨٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ٤٦ ، واللسان (بكر) ، و (طفل) ، والخصائص ٣ / ١٢٣.

(٢) زاد في ب : ثم خفف و.

(٣) سقط من ب.

(٤) سقط من ب.

(٥) الصحاح ٥ / ٢٠٦٣.

(٦) الكشاف ٤ / ٤٦٤.

٤١٣

يعني قوله : (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ، فَشارِبُونَ).

وهو سؤال حسن ، وجوابه مثله.

وأجاب بعضهم عنه بجواب آخر ، وهو أن قوله : (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) تفسير للشرب قبله.

ألا ترى أنّ ما قبله يصلح أن يكون [مثل](١) شرب الهيم ، ومثل شرب غيرها ، ففسره بأنه مثل شرب هؤلاء البهائم أو الرمال ، وفي ذلك فائدتان (٢) :

إحداهما : التنبيه على كثرة شربهم منه.

والثانية : عدم جدوى الشرب ، وأن المشروب لا ينجع فيهم كما لا ينجع في الهيم على التفسيرين.

وقال أبو حيّان (٣) : ««والفاء» تقتضي التعقيب في الشربين ، وأنهم أولا لما عطشوا شربوا من الحميم ظنّا منهم أنه ليسكن عطشهم ، فازدادوا عطشا بحرارة الحميم ، فشربوا بعده شربا لا يقع بعده ريّ أبدا ، وهو مثل شرب الهيم ، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد اختلفت صفتاه فعطف ، والمقصود : الصفة ، والمشروب منه في (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) محذوف لفهم المعنى ، تقديره : فشاربون منه» انتهى.

قال شهاب الدين (٤) : «والظّاهر أنه شرب واحد ، بل الذي يعتقد هذا فقط ، وكيف يناسب أن يكون زيادتهم العطش بشربة مقتضية لشربهم منه ثانيا».

قوله : (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ).

قرأ العامة : «نزلهم» بضمتين.

وروي عن أبي عمرو من طرق.

وعن نافع وابن (٥) محيصن : بضمة وسكون ، وهو تخفيف.

و «النّزل» : ما يعدّ للضيف.

وقيل : هو أول ما يأكله ، فسمي به هذا تهكّما بمن أعد له.

وهو في المعنى كقول أبي الشعر الضّبي : [الطويل]

٤٦٩٦ ـ وكنّا إذا الجبّار أنزل جيشه

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا (٦)

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٢.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٢١٠.

(٤) الدر المصون ٦ / ٢٦٢.

(٥) ينظر : السبعة ٦٢٣ ، والحجة ٦ / ٢٦٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٢٤٧ ، وينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٤٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٢.

(٦) تقدم.

٤١٤

ومعنى الآية : هذا أول ما يلقونه من العذاب يوم القيامة كالنّزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم ، [وفيه](١) تهكم (٢) ، كقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [التوبة : ٩].

قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ)(٦٢)

قوله : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ).

تحضيض ، أي : فهلا تصدقون بالبعث ؛ لأن الإعادة كالابتداء. وقيل : المعنى نحن خلقنا رزقكم ، فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا ، أو متعلق التصديق محذوف ، تقديره : فلو لا تصدقون بخلقنا (٣).

قوله : (أَفَرَأَيْتُمْ).

[هي](٤) بمعنى : «أخبروني» ومفعولها الأول «ما تمنون».

والثاني الجملة الاستفهامية. وقد تقدم تقريره (٥).

والمعنى : ما تصبّونه من المنيّ في أرحام النّساء (٦).

وقرأ العامّة : «تمنون» بضم التّاء ، من «أمنى يمني».

وابن عبّاس وأبو السّمال (٧) : بفتحها من «منى يمني».

قال الزمخشري (٨) : يقال : أمنى النّطفة ومناها ، قال الله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) [النجم : ٤٦].

فظاهر هذا أنه استشهاد للثلاثي ، وليس فيه دليل له ، إذ يقال من الرباعي أيضا : تمني ، كقولك : «أنت تكرم» وهو من «أكرم» (٩).

وقال القرطبي (١٠) : ويحتمل أن يختلف معناهما عندي ، فيكون «أمنى» إذا أنزل عند جماع ، و «منى» إذا أنزل عند احتلام ، وفي تسمية المنيّ منيّا وجهان :

أحدهما : لإمنائه ، وهو إراقته.

__________________

(١) في ب : وهذا.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٣٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٣.

(٤) سقط من ب.

(٥) سورة الكهف آية ٦٣.

(٦) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٠.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٤٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٣.

(٨) الكشاف ٤ / ٤٦٥.

(٩) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٣.

(١٠) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٤٠ ، وقد نقلها القرطبي عن الماوردي في النكت والعيون ٥ / ٤٥٨.

٤١٥

الثاني : لتقديره ، وهو المنّ الذي يوزن به ؛ لأنه مقدار لذلك ، فكذلك المنيّ مقدار صحيح لتصوير الخلقة.

قوله : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ). يجوز فيه وجهان (١) :

أحدهما : أنه فاعل فعل مقدر ، أي : «أتخلقونه» فلما حذف الفعل لدلالة ما بعده عليه انفصل الضّمير ، وهذا من باب الاشتغال.

والثاني : أن «أنتم» مبتدأ ، والجملة بعده خبر.

والأول أرجح لأجل أداة الاستفهام.

وقوله : «أم» يجوز فيها وجهان (٢) :

أحدهما : أنها منقطعة ؛ لأنّ ما بعدها جملة ، وهي إنما تعطف المفردات.

والثاني : أنها متّصلة.

وأجابوا عن وقوع الجملة بعدها بأن مجيء الخبر بعد «نحن» أتي به على سبيل التّوكيد ؛ إذ لو قال : «أم نحن» لاكتفي به دون الخبر ، ونظير ذلك جواب من قال : «من في الدّار»؟ زيد في الدار ، «أو زيد فيها» ، ولو اقتصر على «زيد» لكان كافيا.

ويؤيد كونها متصلة أن الكلام يقتضي تأويله ، أي : الأمرين واقع ، وإذا صلح كانت متصلة ، إذ الجملة بتأويل المفرد.

ومفعول «الخالقون» محذوف لفهم المعنى أي : «الخالقوه».

فصل في تحرير معنى الآية

والمعنى : أنتم تصورون منه الإنسان (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) المقدّرون المصورون ، وهذا احتجاج عليهم ، وبيان للآية الأولى ، أي : إذا أقررتم بأنا خالقوه لا غير ، فاعترفوا بالبعث.

قال مقاتل : نحن خلقناكم ولم تكونوا شيئا ، وأنتم تعلمون ذلك ، فهلّا تصدقون بالبعث(٣).

قوله : (نَحْنُ قَدَّرْنا).

قرأ ابن كثير (٤) : «قدرنا» بتخفيف الدال.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٣.

(٢) السابق.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٧).

(٤) ينظر : السبعة ٦٢٣ ، والحجة ٦ / ٢٦١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٤٧ ، وحجة القراءات ٦٩٦ ، والعنوان ١٨٥ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣٨ ، وشرح شعلة ٥٩٦ ، وإتحاف ٢ / ٥١٦.

٤١٦

والباقون : بتشديدها.

وهما لغتان بمعنى واحد في التقدير الذي هو القضاء ، وهذا أيضا احتجاج ، أي : الذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق وإذا قدر على الخلق قدر على البعث (١).

قال الضحاك : معناه أي : سوّينا بين أهل السماء وأهل الأرض.

وقيل : قضينا.

وقيل : كتبنا.

قال مقاتل : فمنكم من يبلغ الهرم ، ومنكم من يموت صبيّا وشابّا (٢).

(وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي : مغلوبين عاجزين.

قوله : (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ).

يجوز أن يتعلق (بِمَسْبُوقِينَ) ، وهو الظّاهر ، أي : لم يسبقنا أحد على تبديلنا أمثالكم ، أي : يعجزنا ، يقال : سبقه إلى كذا ، أي : أعجزه عنه ، وغلبه عليه.

الثاني : أنه متعلق بقوله : «قدّرنا» أي : قدرنا بينكم الموت ، «على أن نبدّل» أي : تموت طائفة ، وتخلفها طائفة أخرى. قال معناه الطبري (٣).

وعلى هذا يكون قوله : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) معترضا ، وهو اعتراض حسن.

ويجوز في «أمثالكم» وجهان (٤) :

أحدهما : أنه جمع «مثل» ـ بكسر الميم وسكون الثاء ـ أي : نحن قادرون على أن نعدمكم ، ونخلق قوما آخرين أمثالكم ، ويؤيده : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) [النساء : ١٣٣].

والثاني : أنه جمع «مثل» ـ بفتحتين ـ وهو الصفة ، أي : نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقا وخلقا ، و «ننشئكم» في صفات غيرها.

وتقدم قراءتا النّشأة في «العنكبوت» (٥).

فصل في تفسير معنى الآية

قال الطبري (٦) : معنى الآية : نحن قدّرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم ، (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) في آجالكم ، أي : لا يتقدم متأخر ، ولا يتأخر متقدم ، (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) من الصّور والهيئات.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٠.

(٢) ينظر البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٧).

(٣) جامع البيان ١١ / ٦٥١.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٦٣.

(٥) سورة العنكبوت آية (٢٠).

(٦) ينظر : جامع البيان ١١ / ٦٥١ ، والقرطبي ١٧ / ١٤٠.

٤١٧

قال الحسن : أي : نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم (١).

وقيل : المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا ، فيجمّل المؤمن ببياض وجهه ، ويقبح الكافر بسواد وجهه.

وقال سعيد بن المسيب : قوله : (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) يعني في حواصل طير سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف ، و «برهوت» : واد في «اليمن» (٢).

وقال مجاهد : (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي : في أي خلق شئنا (٣).

وقيل : ننشئكم في عالم فيما لا تعلمون ، وفي مكان لا تعلمون.

قال ها هنا : (قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ).

وقال في سورة «الملك» : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] بلفظ الخلق ؛ لأن المراد هناك بيان كون الموت والحياة مخلوقين ، وها هنا ذكر حياتهم ومماتهم (٤).

قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى).

أي : إذ خلقتم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ولم تكونوا شيئا (٥). قاله مجاهد وغيره.

وهذا تقرير للنشأة الثّانية (٦).

وقال قتادة والضحاك : يعني خلق آدم عليه الصلاة والسلام (٧).

(فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ). أي : فهلا تذكرون.

قرأ طلحة (٨) : «تذكرون» بسكون «الذال» ، وضم «الكاف».

وفي الخبر : «عجبا كل العجب للمكذّب بالنّشأة الآخرة ، وهو يرى النّشأة الأولى ، وعجبا للمصدّق بالنّشأة الآخرة ، وهو يسعى لدار الغرور».

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)(٦٧)

قوله : (أَفَرَأَيْتُمْ) وما بعده تقدم نظيره ، وهذه حجة أخرى ، أي : أخبروني عما

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٧).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥١).

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ١٥٥.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤٠.

(٦) ينظر تفسير القرطبي (١٧ / ١٤٠).

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٢) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٠) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٤٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١١ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٤.

٤١٨

تحرثون من أرضكم ، فتطرحون فيها البذر ، أأنتم تنشئونه ، وتجعلونه زرعا ، فيكون فيه السّنبل والحب ، أم نحن نفعل ذلك وإنما منكم البذر وشقّ الأرض؟ فإذا أقررتم بأن إخراج السّنبلة من الحبّة ليس إليكم ، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟.

وأضاف الحرث إليهم ، والزّرع إليه تعالى ؛ لأنّ الحرث فعلهم ، ويجري على اختيارهم ، والزرع من فعل الله ـ تعالى ـ وينبت على اختياره لا على اختيارهم (١).

وكذلك ما روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يقولنّ أحدكم : زرعت ، وليقل حرثت ، فإنّ الزّارع هو الله».

قال أبو هريرة : ألم تسمعوا قول الله تعالى : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)(٢).

قال القرطبي (٣) : «والمستحبّ لكل من زرع أن يقرأ بعد الاستعاذة : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) الآية ، ثم تقول : بل الله هو الزارع ، والمنبت والمبلغ ، اللهم صل على محمد ، وارزقنا ثمره ، وجنّبنا ضرره ، واجعلنا لأنعمك من الشّاكرين ، ويقال : إنّ هذا القول أمان لذلك الزّرع من جميع الآفات : الدّود والجراد وغير ذلك ، سمعناه من ثقة وجرّبناه فوجدناه كذلك».

فإن قيل : إذا كان الزّارع هو الله ، فكيف قال تعالى : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) [الفتح : ٢٩].

وقال عليه الصلاة والسلام : «الزّرع للزّارع»؟ (٤).

فالجواب (٥) : أن الحرث أوائل الزّرع ، والزرع أواخر الحرث ، فيجوز إطلاق أحدهما على الآخر لاتّصاله به.

ومعنى : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) ، تجعلونه ، وقد يقال : فلان زرّاع كما يقال : حرّاث أي : يفعل ما يؤول إلى أن يصير زرعا ، وقد يطلق لفظ الزّرع على بذر الأرض وتكريبها تجوزا.

قال القرطبي (٦) : «وهذا نهي إرشاد وأدب ، لا حظر وإيجاب».

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٤١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٥٢) والبيهقي في «شعب الإيمان» (٤ / ٣١١ ـ ٣١٢) رقم (٥٢١٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣٠) وزاد نسبته إلى البزار وابن مردويه وأبي نعيم من حديث أبي هريرة.

(٣) ينظر : القرطبي ٢٧ / ١٤١.

(٤) ذكره الصنعاني في «سبل السلام» (٣ / ٦٠) وقال : لم يخرجه أحد وكذلك الشوكاني في «نيل الأوطار» (٥ / ٢٧٢) وقال ولم أقف عليه.

(٥) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ١٥٧.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٤١.

٤١٩

ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «لا يقولنّ أحدكم : عبدي وأمتي ، وليقل : غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي» (١).

قوله : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً).

أتى هنا بجواب «لو» مقرونا ب «اللام» ، وهو الأكثر ؛ لأنه مثبت ، وحذف في قوله: (جَعَلْناهُ أُجاجاً) [الواقعة : ٧٠] ؛ لأن المنّة بالمأكول أعظم منها بالمشروب. قاله الزمخشري (٢).

وهذا منقوض (٣) بقوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا) [يس : ٦٦] و (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) [يس : ٦٧] ، وذلك أن أمر الطّمس أهون من أمر المسخ ، وأدخل فيهما «اللام».

وأجاب الزمخشري (٤) بجواب آخر فقال : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) كان أقرب الذكر ، فاستغنى باللام فيه عن ذكرها ثانيا.

قال ابن الخطيب (٥) : وهذا ضعيف ؛ لأن قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) [يس : ٦٦] مع قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) [يس : ٦٧] أقرب من قوله : (لَجَعَلْناهُ حُطاماً) ، و (جَعَلْناهُ أُجاجاً) اللهم إلّا أن تقول هناك : أحدهما قريب من الآخر ذكرا لا معنى ؛ لأن الطّمس لا يلزمه المسخ ولا بالعكس ، وأما المأكول يكون معه المشروب في الدهر فالأمران متقاربان لفظا ومعنى.

فصل في الكلام على هذه الآية

قال الماوردي (٦) : هذه الآية تتضمن أمرين :

أحدهما : الامتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم.

الثاني : البرهان الموجب للاعتبار ؛ لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذره ، وانتقاله إلى استواء حاله من العفن والتّتريب حتى صار زرعا أخضر ، ثم قوي مشتدّا أضعاف ما كان عليه ، فهو بإعادة من أمات أحق عليه وأقدر ، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السّليمة ، ثم قال : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي : متكسّرا ، يعني : الزّرع والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء ، فنبّه بذلك على أمرين :

__________________

(١) أخرجه مسلم ٤ / ١٧٦٤ في كتاب الألفاظ من الأدب ، باب : إطلاق لفظة العبد (١٣ ـ ١٤ / ٢٢٤٩).

(٢) ينظر الكشاف ٤ / ٤٦٦.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ١٥٨.

(٤) الكشاف ٤ / ٤٦٦.

(٥) التفسير الكبير ٢٩ / ١٥٨.

(٦) ينظر : النكت والعيون ٥ / ٤٦٠.

٤٢٠