اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

وأنشد : [الطويل]

٤٦٧٢ ـ وجاءت إليهم ثلّة خندفيّة

بجيش كتيّار من البحر مزبد (١)

ولم يقيدها غيره ، بل صرح بأنها الجماعة قلّت أو كثرت.

وقال الرّاغب (٢) : الثلّة : قطعة مجتمعة من الصّوف ؛ ولذلك قيل للمقيم : «ثلّة» يعني بفتح الثّاء.

ومنه قوله : [الرجز]

٤٦٧٣ ـ أمرعت الأرض لو أنّ مالا

لو أنّ نوقا لك أو جمالا

أو ثلّة من غنم إمّا لا (٣)

انتهى.

ثم قال : «ولاعتبار الاجتماع ، قيل : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي جماعة ، وثللت كذا : تناولت ثلّة منه ، وثلّ عرشه : أسقط ثلّة منه والثّلل : قصر الأسنان لسقوط ثلّة منها ، وأثل فمه : سقطت ، وتثلّلت الرّكبة : تهدّمت» انتهى.

فقد أطلق أنها الجماعة من غير قيد بقلّة ولا بكثرة. والكثرة التي فهمها الزمخشري قد تكون من السياق.

وقال الزجاج (٤) : الثلّة : الفرقة.

و «من الأوّلين» صفة ل «ثلّة» ، وكذلك «من الآخرين» صفة ل «قليل».

فصل في المراد بقوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ)

قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ). أي جماعة من الأمم الماضية.

(وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي : ممن آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الحسن : «ثلّة» ممن قد مضى قبل هذه الأمة ، «وقليل» من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥) اللهم اجعلنا منهم بكرمك.

وسموا قليلا بالإضافة إلى من كان قبلهم ؛ لأن الأنبياء المتقدمين كثروا ، فكثر السابقون إلى الإيمان بهم ، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا.

__________________

(١) يروى لهم مكان إليهم ، ومن السيل مكان (من البحر) ينظر الكشاف ٤ / ٥٣ ، وشرح شواهده ص ٣٨٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠١ وروح المعاني ٢٧ / ١٣٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٥.

(٢) ينظر المفردات ١٠٩.

(٣) ينظر تخليص الشواهد ص ٣٨١ ، والدرر ٢ / ٩٤ ، وشرح الأشموني ١ / ١٢٠ ، وهمع الهوامع ١ / ١٢٢ ، واللسان (مرع) والدر المصون ٢ / ٢٥٥.

(٤) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٥ / ١٠٩.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٣٠).

٣٨١

(قيل : لما نزلت هذه الآية شقّ على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (١) فنزلت (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة ، بل نصف أهل الجنّة ، وتقاسمونهم في النّصف الثاني». رواه أبو هريرة ذكره الماوردي وغيره ، ومعناه ثابت في «صحيح مسلم» ، من حديث عبد الله بن مسعود (٢) ، وكأنه أراد أنها منسوخة.

قال ابن الخطيب (٣) : وهذا في غاية الضعف من وجوه :

أحدها : أن عدد أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في ذلك الزمان ، بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة ، فالمراد بالأولين : الأنبياء وكبار أصحابهم ، وهم إذا جمعوا أكثر من السّابقين من هذه الأمة.

الثاني : أن هذا خبر ، والخبر لا ينسخ.

الثالث : أن هذه الآية في السّابقين ، والتي بعدها في أصحاب اليمين.

الرابع : أنه إذا جعل قليل منهم مع الأنبياء والرسل المتقدمين كانوا في درجة واحدة ، وذلك يوجب الفرح ؛ لأنه إنعام عظيم ، ولعلّ الإشارة إليه بقوله عليه الصلاة والسلام : «علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل» (٤).

قال القرطبي : «والأشبه أنها محكمة ؛ لأنها خبر ، والخبر لا ينسخ ؛ لأن ذلك في جماعتين مختلفتين».

قال الحسن : سابقو من مضى أكثر من سابقينا (٥) ، فلذلك قال : (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ، وقال في أصحاب اليمين ، وهم سوى السابقين : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ).

ولذلك [قال عليه الصلاة والسلام : «إنّي لأرجو أن تكون أمّتي شطر أهل الجنّة» ، ثم تلا : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ)(٦)](٧).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ١٣٠.

(٤) ذكره السخاوي في «المقاصد الحسنة ص (٢٨٦) رقم (٧٠٢) وقال : حديث : علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.

قال شيخنا ومن قبله الدميري والزركشي : إنه لا أصل له ، زاد بعضهم ولا يعرف في كتاب معتبر ، وقد مضى في : أكرموا حملة القرآن كاد حملة القرآن أن يكونوا أنبياء ، إلا أنهم لا يوحى إليهم ، ولأبي نعيم في فضل العالم العفيف بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه : أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٢٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢١٧) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٦) تقدم.

(٧) سقط من ب.

٣٨٢

وقال أبو بكر رضي الله عنه : كلا الثّلتين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمنهم من هو في أول أمته ، ومنهم من هو في آخرها (١).

وهو مثل قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) [فاطر : ٣٢].

وقيل : المراد (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، فإن أكثرهم لهم الدّرجة العليا ، كما قال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ) [الحديد : ١٠].

(وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) لحقوهم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «خيركم قرني ثم الذين يلونهم» (٢) ثم سوى في أصحاب اليمين بين الأولين والآخرين.

قال ابن الخطيب (٣) : وعلى هذا فقوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) يكون خطابا مع الموجودين وقت التنزيل ، ولا يكون فيه بيان الأولين الذين كانوا قبل نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهذا ظاهر ؛ لأن الخطاب لا يتعلق إلّا بالموجودين من حيث اللفظ ، ويدخل فيه غيره بالدليل.

ووجه آخر : أن المراد بالأولين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وبالآخرين ، أي : ذرياتهم الملحقون بهم في قوله تعالى : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور : ٢١].

وقال الزّجّاج (٤) : الذين عاينوا جميع النبيين من لدن آدم وصدقوهم أكثر مما عاين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ).

أي : السّابقون في الجنة على سرر ، أي : مجالسهم على سرر ، جمع سرير (٥).

وقرأ زيد (٦) بن علي ، وأبو السمال : «سرر» بفتح الراء الأولى وقد تقدم أنها لغة لبعض بني «كلب» و «تميم».

و «الموضونة» : قال ابن عباس : منسوجة بالذهب (٧).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٣٠).

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ١٣٠.

(٤) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٥ / ١٠٩.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٣١.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٤١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٥.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٢٨ ، ٦٢٩) عن ابن عباس بمعناه وعن ابن زيد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦١٩) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «البعث».

٣٨٣

وقال عكرمة : مشبكة بالدّر والياقوت (١).

وعن ابن عباس أيضا : «موضونة» أي : مصفوفة ، لقوله تعالى في موضع : (عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ)(٢) [الطور : ٢٠].

وعنه ، وعن مجاهد أيضا : مرمولة بالذهب.

وقيل : «موضونة» : منسوجة بقضبان الذهب مشبّكة بالدّر والياقوت.

و «الموضونة» : المنسوجة ، وأصله من وضنت الشّيء ، أي ركبته بعضه على بعض.

ومنه قيل للدّرع : «موضونة» ؛ لتراكب حلقها.

قال الأعشى : [المتقارب]

٤٦٧٤ ـ ومن نسج داود موضونة

تسير مع الحيّ عيرا فعيرا (٣)

وعنه أيضا : وضين الناقة ، وهو حزامها لتراكب طاقاته ؛ قال : [الرجز]

٤٦٧٥ ـ إليك تعدو قلقا وضينها

معترضا في بطنها جنينها

مخالفا دين النّصارى دينها (٤)

وقال الرّاغب (٥) : «الوضن : نسج الدّرع ، ويستعار لكلّ نسج محكم».

فجعله أصلا في نسيج الدروع.

وقال الآخر : [الوافر]

٤٦٧٦ ـ أقول وقد درأت لها وضيني

أهذا دينه أبدا وديني؟ (٦)

أي حزامي.

و «الوضين» : هو الحبل العريض الذي يكون منه الحزم لقوّة سداه ولحمته ، والسرير الموضون الذي سطحه بمنزلة المنسوج.

قال القرطبي «ومنه الوضين بطان من سيور ينسج ، فيدخل بعضه في بعض».

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٣١).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٢٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢١٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر والبيهقي في «البعث والنثور».

(٣) ينظر ديوانه (٧١) ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٤٨ ، والطبري ٢٧ / ٩٩ ، والكشاف ٤ / ٥٣ ، والبحر ٨ / ٢٠١ والدر المصون ٦ / ٢٥٥.

(٤) تنظر الأبيات في مجاز القرآن ٢ / ٢٤٩ ، والقرطبي ١٧ / ١٣١ والبحر ٨ / ٢٠١ والدر المصون ٦ / ٢٥٥.

(٥) ينظر : المفردات ٧٢٥.

(٦) تقدم.

٣٨٤

قوله : (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ).

حالان من الضمير في (عَلى سُرُرٍ).

ويجوز أن تكون حالا متداخلة ، فيكون «متقابلين» حالا من ضمير «متّكئين».

فصل في معنى الآية

«متّكئين» على السّرر ، «متقابلين» لا يرى بعضهم قفا بعض ، بل تدور بهم الأسرّة.

والمعنى : أنهم كائنون على سرر متكئين على غيرها كحال من يكون على كرسي ، فيوضع تحته شيء آخر للاتّكاء عليه.

قال مجاهد وغيره : هذا في المؤمن وزوجته وأهله ، أي : يتكئون متقابلين (١).

قال الكلبي : طول كل سرير ثلاثمائة ذراع ، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت ، فإذا جلس عليها ارتفعت (٢).

قوله : (يَطُوفُ).

يجوز أن يكون حالا ، وأن يكون استئنافا.

(وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي : غلمان لا يموتون. قاله مجاهد.

والمعنى : لا موت لهم ولا فناء ، أو بمعنى لا يتغير حالهم ، ويبقون صغارا دائما.

وقال الحسن والكلبي : لا يهرمون ولا يتغيرون (٣).

ومنه قول امرىء القيس : [الطويل]

٤٦٧٧ ـ وهل ينعمن إلّا سعيد مخلّد

قليل الهموم ما يبيت بأوجال (٤)

وقال سعيد بن جبير : «مخلّدون» مقرّطون (٥).

يقال للقرط : الخلدة ، ولجماعة الحليّ : الخلدة.

وقيل : مسوّرون ، ونحوه عن الفراء.

قال الشاعر : [الكامل]

٤٦٧٨ ـ ومخلّدات باللّجين كأنّما

أعجازهنّ أقاوز الكثبان (٦)

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٣١).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨١) وينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر ديوانه ص (٢٧) ، المحتسب ٢ / ١٣٠ ، والسراج المنير ٤ / ١٨٣ ، واللسان (وجل) ، والقرطبي ١٧ / ١٣١.

(٥) ذكره الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٢٩) والبغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨١).

(٦) ينظر اللسان (خلد) ، والتاج ٢ / ٣٤٥ (خلد) ، والقرطبي ١٧ / ١٣١.

٣٨٥

وقيل : مقرطون ، يعني : ممنطقون من المناطق.

وقال عكرمة : «مخلّدون» منعمون (١).

وقيل : على سنّ واحدة ، أنشأهم الله لأهل الجنة يطوفون عليهم ، كما شاء من غير ولادة ؛ لأن الجنة لا ولادة فيها.

وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ والحسن البصري : «الولدان» ها هنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ، ولا حسنة لهم ولا سيّئة (٢).

وقال سلمان الفارسي : أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة (٣).

قال الحسن : لم يكن لهم حسنات يجازون بها ، ولا سيئات يعاقبون عليها ، فوضعوا هذا الموضع ، والمقصود أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة (٤).

قوله : (بِأَكْوابٍ) متعلق ب «يطوف».

و «الأكواب» : جمع كوب ، وهي الآنية التي لا عرى لها ولا خراطيم ، وقد مضت في «الزخرف» و «الأباريق» : جمع إبريق ، وهي التي لها عرى وخراطيم ، واحدها : إبريق ، وهو من آنية الخمر ، سمّي بذلك لبريق لونه من صفائه.

قال الشاعر : [البسيط]

٤٦٧٩ ـ أفنى تلادي وما جمّعت من نشب

قرع القوارير أفواه الأباريق (٥)

وقال عديّ بن زيد : [الخفيف]

٤٦٨٠ ـ وتداعوا إلى الصّبوح فقامت

قينة في يمينها إبريق (٦)

وقال آخر : [البسيط]

٤٦٨١ ـ كأنّ إبريقهم ظبي على شرف

مقدّم بسبا الكتّان ملثوم (٧)

ووزنه «إفعيل» لاشتقاقه من البريق.

قوله : (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) تقدم في «الصافات».

و «المعين» : الجاري من ماء أو خمر ، غير أن المراد هنا الخمر الجارية من العيون.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٣٢).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢١٩) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر اللسان (برق) والبحر المحيط ٨ / ٢٠٢ والدر المصون ٦ / ٢٥٦.

(٧) ينظر المخصص لابن سيده ١٥ / ١٦٧ ، وسمط اللآلي ١ / ١٣ واللسان (برق) ، والبحر ٨ / ٢٠٢ والدر المصون ٦ / ٢٥٦.

٣٨٦

وقيل : الظاهرة ، فيكون «معين» مفعول من المعاينة.

وقيل : هو «فعيل» من المعن ، وهو الكثرة.

قال ابن الخطيب (١) : هو مأخوذ من معن الماء إذا جرى.

وقيل : بمعنى «مفعول» ، فيكون من «عانه» إذا شخصه بعينه وميزه.

قال : والأول أظهر ؛ لأن المعيون يوهم بأنه معيوب.

يقال : ضربني بعينه أي : أصابني بعينه ؛ ولأن الوصف [بالمفعول](٢) لا فائدة فيه.

وأما الجريان في المشروب فإن كان في الماء فهو صفة مدح ، وإن كان في غيره ، فهو أمر عجيب لا يوجد في الدنيا ، فيكون كقوله تعالى : (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [محمد : ١٥] وبين أنها ليست كخمر الدّنيا يستخرج بتكلف ومعالجة.

فإن قيل : كيف جمع الأكواب والأباريق ، وأفرد الكأس؟.

فالجواب : أن ذلك على عادة أهل الشرب فإنهم يعدون الخمر في أوان كبيرة ، ويشربون بكأس واحدة ، وفيها مباهاتهم لأهل الدنيا من حيث إنهم يطوفون بالأكواب والأباريق ، ولا ينتقل عليهم ، بخلاف الدنيا ، أو يقال : إنما أفردت الكأس لأنها إنما تسمّى كأسا إذا كانت مملوءة ، فالمراد اتخاذ المشروب الذي فيها ، وأخر الكأس مناسبة لاتصاله بالشّرب.

قوله : (لا يُصَدَّعُونَ).

يجوز أن تكون مستأنفة ، أخبر عنهم بذلك.

وأن تكون حالا من الضمير في «عليهم».

ومعنى (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي : بسببها.

قال الزمخشري (٣) : وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها.

والصّداع ؛ هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه ، والخمر تؤثر فيه.

قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر : [البسيط]

٤٦٨٢ ـ تشفي الصّداع ولا يؤذيك حالبها

ولا يخالطها في الرّأس تدويم (٤)

قال أبو حيان (٥) : هذه صفة خمر أهل الجنة ، كذا قال الشيخ أبو جعفر بن الزبير لما قرأت هذا الدّيوان عليه.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ١٣٢.

(٢) في ب : بالذي.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٦٠.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٠٥.

٣٨٧

والمعنى لا يتصدع رءوسهم من شربها ، أي : أنها لذة بلا أذى ، بخلاف شراب الدنيا.

وقيل : (لا يُصَدَّعُونَ) لا يتفرّقون كما يتفرق الشرب من الشراب للعوارض الدنيوية ، ومن مجيء «تصدع» بمعنى : تفرق ، قوله : فتصدع السحاب عن المدينة ، أي : تفرق.

ويرجحه قراءة مجاهد (١) : «لا يصّدعون» بفتح الياء وتشديد الصاد.

والأصل : «لا يتصدعون» أي : لا يتفرقون ، كقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣].

وحكى الزمخشري (٢) قراءة ، وهي : «لا يصّدعون» بضم الياء ، وتخفيف الصّاد ، وكسر الدّال مشددة.

قال : «أي لا يصدع بعضهم بعضا ، لا يفرقونهم».

قوله : (وَلا يُنْزِفُونَ).

تقدم الخلاف بين السبعة في «ينزفون» ، وتفسيره في «والصّافات».

وقرأ ابن (٣) إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي من نزف البئر ، إذا استقى ما فيها.

والمعنى لا ينفد خمرهم.

ومنه قول الشاعر : [الطويل]

٤٦٨٣ ـ لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم

لبئس النّدامى كنتم آل أبجرا (٤)

وقال أبو حيان (٥) : «وابن أبي إسحاق وعبد الله والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى : بضم الياء وكسر الزاي ، أي : لا يقيء شرابهم».

قال شهاب الدين (٦) : وهذا عجيب منه فإنه قد تقدم في «الصّافات» أنّ الكوفيين يقرءون في «الواقعة» بكسر الزاي ، وقد نقل هو هذه القراءة في قصيدته.

وروى الضحاك عن ابن عباس قال : في الخمر أربع خصال : السّكر ، والصّداع ، والقيء ، والبول ، وقد نزّه الله ـ تعالى ـ خمر الجنة عن هذه الخصال (٧).

قوله : (وَفاكِهَةٍ).

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٤٦٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٦.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٦٠.

(٣) ينظر المحرر الوجيز ٥ / ٢٤٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٦.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٠٥ ، ٢٠٦.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٦.

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٣٢) من طريق الضحاك عن ابن عباس.

٣٨٨

العامة على جر «فاكهة ولحم» عطفا على «أكواب».

أي : يطوفون عليهم بهذه الأشياء المأكول والمشروب والمتفكه به ، وهذا كقوله : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١].

فإن قيل : الفاكهة لا يطوف بها الولدان ، والعطف يقتضي ذلك؟.

فالجواب : أن الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حال الشرب فجاز أن يطوف بهما الولدان [هنا] فيناولونهم الفواكه الغريبة ، واللحوم العجيبة لا للأكل ، بل للإكرام ، كما يصنع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده ، أو يكون معطوفا على المعنى في قوله : (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي: مقربون في جنّات ، وفاكهة ، ولحم ، وحور ، أي : في هذه النّعم يتقلّبون [عليهم بهذه الأشياء : المأكول ، والمشروب ، والمتفكه](١).

وقرأ زيد بن علي (٢) ، وأبو عبد الرحمن ـ رضي الله عنهم ـ ، برفعهما على الابتداء ، والخبر مقدر ، أي : ولهم كذا.

والمعنى يتخيّرون ما شاءوا من الفواكه لكثرتها.

وقيل : المعنى : وفاكهة متخيرة مرضية ، والتخير : الاختيار.

وقوله : (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ).

قال ابن عبّاس : يخطر على قلبه لحم الطّير ، فيصير ممتثلا بين يديه على ما اشتهى ، ثم يطير فيذهب (٣).

قوله : (وَحُورٌ عِينٌ).

قرأ الأخوان (٤) : بجرّ «حور عين».

والباقون : برفعهما.

والنخعي (٥) : «وحير عين» بقلب الواو ياء وجرهما.

وأبيّ وعبد (٦) الله قال القرطبي والأشهب العقيلي وعيسى بن عمر الثقفي ، وهو كذلك في مصحف أبيّ : «وحورا عينا» بنصبهما.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر البحر المحيط ٨ / ٢٠٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٧.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨١).

(٤) ينظر : السبعة ٦٢٢ ، والحجة ٦ / ٢٥٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٤٢ ، وحجة القراءات ٦٩٥ ، والعنوان ١٨٥ ، وشرح شعلة ٥٩٦ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣٥ ، وإتحاف ٢ / ٥١٥.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٧.

(٦) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ١٢٤ ، وإعراب القرآن للنحاس ٣ / ٣٢٤ ، والمحتسب ٢ / ٣٠٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٤٢ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٤٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٧.

٣٨٩

فأما الجر فمن أوجه (١) :

أحدها : أنه عطف على (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) كأنه قيل : هم في جنات وفاكهة ولحم وحور ؛ قاله الزمخشري (٢).

قال أبو حيان (٣) : «وهذا فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض ، وهو فهم (٤) أعجمي».

قال شهاب الدين (٥) : «والذي ذهب إليه الزمخشري معنى حسن جدّا ، وهو على حذف مضاف أي : وفي مقارنة حور ، وهو الذي عناه الزمخشري ، وقد صرح غيره بتقدير هذا المضاف».

وقال الفرّاء (٦) : الجر على الإتباع في اللفظ ، وإن اختلفا في المعنى ؛ لأن الحور لا يطاف بهنّ.

قال الشاعر : [الوافر]

٤٦٨٤ ـ إذا ما الغانيات برزن يوما

وزجّجن الحواجب والعيونا (٧)

والعين لا تزجّج ، وإنّما تكحّل.

وقال آخر : [مجزوء الكامل]

٤٦٨٥ ـ ورأيت زوجك في الوغى

متقلّدا سيفا ورمحا (٨)

الثاني : أنه معطوف على «بأكواب» ، وذلك بتجوّز في قوله : «يطوف» ؛ إذ معناه ينعمون فيها بأكواب ، وبكذا ، وبحور. قاله الزمخشري.

الثالث : أنه معطوف عليه حقيقة ، وأن الولدان يطوفون عليهم بالحور أيضا فإن فيه لذة لهم إذا طافوا عليهم بالمأكول ؛ والمشروب ، والمتفكه به ، والمنكوح ، وإلى هذا ذهب أبو عمرو بن العلاء وقطرب.

ولا التفات إلى قول أبي البقاء : عطفا على «أكواب» في اللّفظ دون المعنى ؛ لأن الحور لا يطاف بها.

وأما الرّفع فمن أوجه :

أحدها : عطفا على «ولدان».

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٧.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٦٠.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٢٠٦.

(٤) في أ : كلام.

(٥) الدر المصون ٦ / ٢٥٧.

(٦) ينظر : معاني القرآن ٥ / ١١١.

(٧) تقدم.

(٨) تقدم.

٣٩٠

أي : أن الحور يطفن عليهم بذلك كالولائد في الدّنيا.

وقال أبو البقاء (١) : «أي يطفن عليهم للتّنعيم لا للخدمة».

قال شهاب الدين (٢) : «وهو للخدمة أبلغ ؛ لأنهم إذا خدمهم مثل أولئك ، فما الظّن بالموطوءات».

الثاني : أن يعطف على الضمير المستكنّ في «متكئين» ، وسوغ ذلك الفصل بما بينهما.

الثالث : أن يعطف على مبتدأ وخبر حذفا معا ، تقديره : «لهم هذا كله وحور عين» قاله أبو حيّان (٣).

وفيه نظر ؛ لأنه إنما يعطف على المبتدأ وحده ، وذلك الخبر له ، ولما عطف هو عليه.

الرابع : أن يكون مبتدأ خبره مضمر ، تقديره : ولهم ، أو فيها ، أو ثمّ حور (٤).

وقال الزمخشري (٥) : «عطف على وفيها حور عين ، كبيت الكتاب».

يريد : كتاب سيبويه ، والمراد بالبيت قوله : [الكامل]

          ٤٦٨٦ ـ بادت وغيّر آيهنّ مع البلى

إلّا رواكد جمرهنّ هباء

ومشجّج أمّا سواء قذاله

فبدا وغيّر ساره المعزاء (٦)

عطف «مشجج» وهو مرفوع على «رواكد» ، وهو منصوب.

الخامس : أن يكون خبرا لمبتدأ مضمر ، أي : نساؤهم حور. قاله أبو البقاء (٧).

قال الكسائي : ومن قال : (وَحُورٌ عِينٌ) بالرّفع ، وعلل بأنه لا يطاف بهن يلزمه ذلك في «فاكهة ولحم» ؛ لأن ذلك لا يطاف به ، وليس يطاف إلّا بالخمر وحدها.

وأما النصب ففيه وجهان :

__________________

(١) الإملاء ١٢٠٤.

(٢) الدر المصون ٦ / ٢٥٧.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٢٠٦.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٧.

(٥) الكشاف ٤ / ٤٦٠.

(٦) نسب البيتان لذي الرمة ، وللشماخ.

ينظر ملحق ديوان ذي الرمة ص ١٨٤٠ ، ١٨٤١ ، وملحقات ديوان الشماخ ص ٤٢٧ ، ٤٢٨ ، والكتاب ١ / ٢٧٣ ، ١٧٤ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٩٦ ، والإيضاح الشعري لأبي علي الفارسي ص ٥٧٨ ، وأساس البلاغة ص ٢٢٩ (شجج) ، وص ٤٣٣ (معز) واللسان (شجج) ، وتاج العروس ٦ / ٥٦ (شجج) وخزانة الأدب ٥ / ١٤٧ ، والكشاف ٤ / ٥٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٧.

(٧) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٠٤.

٣٩١

أحدهما : أنه منصوب بإضمار فعل ، أي : يعطون ، أو يؤتون حورا.

والثاني : أن يكون محمولا على معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) ؛ لأن معناه : يعطون كذا وكذا ، فعطف هذا عليه.

وقال مكي (١) : «ويجوز النّصب على أن يحمل أيضا على المعنى ؛ لأن معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) بكذا وكذا ، أي : يعطون كذا وكذا ، ثم عطف «حورا» على معناه» ، فكأنه لم يطلع [على أنها](٢) قراءة.

وأمّا قراءة : «وحير» فلمجاورتها «عين» ، ولأن الياء أخف من الواو ، ونظيره في التّعبير للمجاورة قولهم : «أخذه ما قدم وما حدث» ـ بضم دال ـ «حدث» لأجل «قدم» ، وإذا أفرد منه فتحت داله فقط.

وقوله عليه الصلاة والسلام : وربّ السّموات وما أظللن ، وربّ الشّياطين ومن أضللن»(٣).

[وقوله : «أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب ، ينبحها كلاب الحوأب» (٤) ، فكّ الأدبب لأجل الحوأب](٥).

وقرأ قتادة (٦) : «وحور عين» بالرفع والإضافة ل «عين».

وابن مقسم (٧) : بالنّصب والإضافة.

وقد تقدم توجيه الرفع والنّصب.

وأما بالإضافة : فمن إضافة الموصوف لصفته مؤولا (٨).

وقرأ عكرمة (٩) : [«وحوراء عيناء» بإفرادهما على إرادة الجنس](١٠).

__________________

(١) ينظر : المشكل ٢ / ٧١٢.

(٢) في ب : عليها.

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٥٠٣) كتاب الدعوات ، باب : (٩١) حديث (٣٥٢٣) من حديث بريدة.

وقال الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بالقوي ويروى هذا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا من غير هذا الوجه.

(٤) أخرجه البزار (٣٢٧٣ ـ كشف) من حديث ابن عباس والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٢٣٧) وقال : رواه البزار ورجاله ثقات ، وينظر : النهاية في غريب الحديث ١ / ٤٥٦ ، وغريب الحديث لابن الجوزي ١ / ٢٥٠.

(٥) سقط من ب.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٨.

(٧) السابق.

(٨) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٨.

(٩) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٨.

(١٠) سقط من ب.

٣٩٢

وهذه القراءة تحتمل وجهين (١) :

أحدهما : أن يكون نصبا كقراءة عبد الله وأبيّ.

وأن يكون جرّا كقراءة الأخوين ؛ لأن هذين الاسمين لا يتصرّفان ، فهما محتملان للوجهين.

وتقدم الكلام في اشتقاق العين.

«كأمثال» : صفة ، أو حال.

و «جزاء» : مفعول من أجله ، أو مصدر ، أي : يحزون جزاء.

فصل في تفسير الآة

قال المفسرون : «حور» بيض ، «عين» ضخام الأعين ، (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي المخزون في الصدف لم تمسّه الأيدي ، ولم يقع عليه الغبار ، فهو أشدّ ما يكون صفاء.

وقوله : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

قالت المعتزلة : هذا يدلّ على أن يقال : الثواب واجب على الله ـ تعالى ـ لأن الجزاء لا يجوز الإخلال به.

وأجيبوا بأنه لو صح ما ذكروا لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة ؛ لأن العقل إذا حكم بأن ترك الجزاء قبيح ، وعلم بالعقل أن القبيح من الله تعالى لا يوجد ، علم أن الله تعالى يعطي هذه الأشياء ، لأنها أجزية ، وإيصال الثّواب واجب ، وأيضا فكان لا يصح التمدّح به.

قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً).

قال ابن عبّاس : باطلا وكذبا (٢).

و «اللّغو» : ما يلغى من الكلام.

و «التأثيم» : مصدر أثمته ، أي : قلت له : أثمت.

قال محمد بن كعب : (وَلا تَأْثِيماً) ، أي : لا يؤثم بعضهم بعضا (٣).

وقال مجاهد : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) : شتما ولا مأثما (٤).

قوله : (إِلَّا قِيلاً) ، فيه قولان :

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٢٥٨.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢١) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٣٤).

(٤) ينظر المصدر السابق.

٣٩٣

أحدهما : أنه استثناء منقطع ، وهذا واضح ؛ لأنه لم يندرج تحت اللغو والتأثيم.

والثاني : أنه متصل.

وفيه بعد ، وكأن هذا رأى أن الأصل : لا يسمعون فيها كلاما ، فاندرج عنده فيه.

وقال مكّي (١) : وقيل : منصوب ب «يسمعون». وكأنه أراد هذا القول.

قوله : (سَلاماً سَلاماً). فيه أوجه :

أحدها : أنه بدل من «قيلا» أي : لا يسمعون فيها إلا سلاما سلاما.

الثاني : أنه نعت ل «قيلا».

الثالث : أنه منصوب بنفس «قيلا» ، أي : إلّا أن يقولوا : سلاما سلاما ، وهو قول الزّجّاج (٢).

الرابع : أن يكون منصوبا بفعل مقدّر ، ذلك الفعل محكيّ ب «قيلا» تقديره : إلا قيلا سلموا سلاما.

وقرىء (٣) : «سلام» بالرفع.

قال الزمخشري (٤) : «على الحكاية».

قال مكي (٥) : «ويجوز أن يكون في الكلام الرفع على معنى «سلام عليكم» ابتداء وخبر» وكأنه لم يعرفها قراءة (٦).

فصل في معنى الآية

معنى (قِيلاً سَلاماً) أي : قولا سلاما.

وقال عطاء : يحيّي بعضهم بعضا بالسّلام.

قال القرطبي (٧) : «والسّلام الثاني بدل من الأول ، والمعنى : إلا قيلا يسلم فيه من اللغو ، وقيل : تحييهم الملائكة ، أو يحييهم ربهم عزوجل».

وكرّر السّلام إشارة إلى كثرة السلام عليهم ، ولهذا لم يكرر قوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨].

و «القيل» مصدر كالقول.

__________________

(١) ينظر : المشكل ٢ / ٧١٢.

(٢) ينظر معاني القرآن للزجاج ٥ / ١١٢.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٦٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٩.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٦٠.

(٥) ينظر : المشكل ٢ / ٧١٢.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٩.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٣٤.

٣٩٤

قال ابن الخطيب (١) : فيكون «قيلا» مصدرا ، لكن لا نظير له في «باب» فعل يفعل من الأجوف.

وقيل : إنه اسم ، والقول مصدر.

قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ)(٤٠)

قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ).

رجع إلى ذكر أصحاب الميمنة ، والتكرير لتعظيم شأن النّعيم (٢).

فإن قيل (٣) : ما الحكمة في ذكرهم بلفظ (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) عند تقسيم الأزواج الثلاثة؟ فلفظ أصحاب الميمنة» «مفعلة» إمّا بمعنى موضع اليمين [كالحكمة موضع الحكم ، أي : الأرض التي فيها «اليمن» ، وإمّا بمعنى موضع اليمين](٤) كالمنارة موضع النار ، والمجمرة موضع الجمرة ، وكيفما كان ، فالميمنة فيها دلالة على الموضع ، لكن الأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميزون بعضهم عن بعض ويتفرّقون ، لقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم : ١٤] ، وقال: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣] فيتفرقون بالمكان ، فأشار إليهم في الأول بلفظ يدلّ على المكان ، ثم عند الثواب وقع تفرقهم بأمر منهم لا بأمر هم فيه وهو المكان ، فقال : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ) أي الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم.

وقيل : أصحاب القوة.

وقيل : أصحاب النور.

قوله : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ).

قال ابن عبّاس وغيره : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) أي : في نبق قد خضد شوكه (٥).

وذكر ابن المبارك قال : أخبرنا صفوان عن سليم بن عامر عن أبي أمامة ، قال : كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم ، قال : أقبل أعرابي يوما ، فقال : يا رسول الله : لقد ذكر الله شجرة في القرآن مؤذية ، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟.

__________________

(١) التفسير الكبير ١٧ / ١٤٠.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٣٤.

(٣) الفخر الرازي ٢٩ / ١٤٢.

(٤) سقط من ب.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٣٤).

٣٩٥

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما هي؟.

قال : السّدر ، فإن له شوكا مؤذيا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو ليس يقول : «سدر مخضود» خضد الله شوكه ، فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها تنبت ثمرا ، يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ، ما فيه لون يشبه الآخر» (١).

وقال أبو العالية والضحاك : نظر المسلمون إلى «وجّ» ـ وهو واد ب «الطائف» مخصب ـ فأعجبهم سدره ، فقالوا : يا ليت لنا مثل هذه ، فنزلت.

قال أمية بن أبي الصّلت رضي الله عنه يصف الجنّة : [الكامل]

٤٦٨٧ ـ إنّ الحدائق في الجنان ظليلة

فيها الكواعب سدرها مخضود (٢)

وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) هو الموقر حملا (٣).

وقال سعيد بن جبير : ثمرها أعظم من القلال (٤).

قوله : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ).

و «الطّلح» : جمع الطّلحة. قال علي وابن عباس وأكثر المفسرين : الطّلح : شجر الموز ، واحده طلحة (٥).

وقال الحسن : ليس موزا ، ولكنه شجر له ظل بارد رطب (٦).

وقال الفرّاء وأبو عبيدة : شجر عظام له شوك.

قال الجعديّ : [الرجز]

٤٦٨٨ ـ بشّرها دليلها وقالا

غدا ترين الطّلح والحبالا (٧)

ف «الطّلح» : كل شجر عظيم كثير الشوك.

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٧٦) من حديث أبي أمامة وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٢) وزاد نسبته إلى البيهقي في «البعث».

(٢) ينظر اللسان (سدر) ، و (خضد) ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٢ وفتح القدير ٥ / ١٥٢ ، والسراج المنير ٤ / ١٨٥.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٣٥) عن مجاهد والضحاك.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٣٥) عن سعيد بن جبير.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٣٦) عن أبي سعيد وعلي بن أبي طالب وابن عباس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٢) عن أبي سعيد وزاد نسبته إلى الفريابي وهناد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

وذكره أيضا عن علي وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وهناد وعبد بن حميد وابن مردويه.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٢).

(٧) يروى : الأحبالا مكان الحبالا.

ينظر مجاز القرآن ٢ / ٢٥٠ ، والطبري ٢٧ / ١٠٤ ، والقرطبي ١٧ / ١٣٥.

٣٩٦

وقال الزجاج (١) : هو شجر أم غيلان.

وقال مجاهد : ولكن ثمرها أحلى من العسل (٢).

وقال الزجاج : لها نور طيب جدّا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله إلّا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا.

وقال السّدي : طلح الجنة يشبه طلح الدنيا ، لكن له ثمر أحلى من العسل (٣).

وقوله : «منضود». أي متراكب.

قال المفسرون : موقور من الحمل حتى لا يبين ساقه من كثرة ثمره ، وتثني أغصانه.

وقرأ علي ـ رضي الله عنه ـ وعبد الله ، وجعفر بن محمد : «وطلع» بالعين ، لقوله تعالى : (طَلْعُها هَضِيمٌ) [الشعراء : ١٤٨].

ولما قرأ عليّ ـ رضي الله عنه ـ قال : «وما شأن الطّلح» واستدل بقوله (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) [ق : ١٠] ، فقيل : أنحولها؟ فقال : لا ينبغي أن يهاج القرآن اليوم ولا يحوّل (٤).

فقد اختار هذه القراءة ، ويروى عن ابن عباس مثله.

قال القرطبي (٥) : «فلم ير إثباتها في المصحف لمخالفة ما رسمه مجمع عليه ، قاله القشيري وأسنده أبو بكر بن الأنباري بسنده إلى عليّ رضي الله عنه».

فصل في المراد بالآية

قال ابن الخطيب (٦) : المخضود : المأخوذ الشوك.

وقيل : المتعطف إلى أسفل ، فإن رءوس أغصان السّدر في الدنيا تميل إلى فوق لعدم ما يثقله بخلاف أشجار الجنة فإن رءوسها تتدلّى.

والظاهر : أن الطّلح شجر الموز ، وذكر طرفين ليندرج ما بينهما ، فإن ورق السّدر صغير ، وورق الطلح وهو الموز كبير ، وبينهما أنواع من الأوراق متوسطة كما ذكر في النخل والرمان ، كقولهم : فلان يرضي الصغير والكبير ، فيدخل ما بينهما.

و «المنضود» : المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره بالحمل ، ليست له سوق بارزة ، بل هو مرصوص.

__________________

(١) ينظر معاني القرآن للزجاج ٥ / ١١٢.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٣٥).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٣٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣) وزاد نسبته إلى ابن الأنباري في «المصاحف».

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٣٥.

(٦) ينظر تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ١٤٢.

٣٩٧

و «النّضد» : هو الرّص ، و «المنضود» : المرصوص.

قال مسروق : أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ، ثمر (١) كله كلما أكلت ثمرة عاد مكانها أحسن منها.

قوله : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ).

أي : دائم باق لا يزول ، ولا تنسخه الشمس (٢) ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥].

وذلك بالغداة ، وهي ما بين الإسفار إلى طلوع الشمس ، والجنة كلها ظل لا شمس معه.

قال ابن الخطيب (٣) : إنّ الشمس إذا كانت تحت الأرض يقع ظلها في الجو ، فيتراكم الظل فيسودّ وجه الأرض ، وإذا كانت الشمس في أحد جانبي الأرض من الأفق ، فينبسط الظل على وجه الأرض ، فيضيء الجو ولا يسود وجه الأرض ، فيكون في غاية الطيبة ، فقوله : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي : كالظل بالليل ، وعلى هذا فالظل ليس ظل الأشجار ، بل ظل يخلقه الله تعالى.

وقال الربيع بن أنس : يعني ظل العرش (٤).

وقال عمرو بن ميمون : مسيرة سبعين ألف سنة (٥).

وقال أبو عبيدة : تقول العرب للدهر الطويل [والعمر الطويل](٦) والشيء الذي لا ينقطع: ممدود.

قال الشاعر : [الكامل]

٤٦٨٩ ـ غلب العزاء وكنت غير مغلّب

دهر طويل دائم ممدود (٧)

وفي «صحيح الترمذي» وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : في الجنّة شجرة يسير الرّاكب في ظلّها مائة عام ، لا يقطعها ، اقرءوا إن شئتم : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)(٨).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٣٥) عن مسروق.

(٢) ينظر : القرطبي (١٧ / ١٣٥).

(٣) ينظر تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ١٤٣.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٣٥) عن مسروق.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٣٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٣) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر. ووقع في «تفسير الطبري» خمسمائة ألف سنة.

(٦) سقط من ب.

(٧) البيت «للبيد بن ربيعة» ويروى «غلب البقاء» مكان «غلب العزاء» ينظر ديوانه ص ٤٧ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٥٠ ، والطبري ٢٧ / ١٠٤ ، والقرطبي ١٧ / ١٣٥ وفتح القدير ٥ / ١٥٢.

(٨) أخرجه البخاري (٦ / ٣٦٧) كتاب بدء الخلق ، باب : ما جاء في صفة الجنة حديث (٣٢٥١) ومسلم (٤ / ٢١٧٥) كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب : إن في الجنة شجرة (٨ / ٢٨٢٧) والترمذي (٤ / ٥٧٩) ـ

٣٩٨

وهذا الحديث يرد قول ابن الخطيب من أنه ليس ظل الأشجار.

قوله : (وَماءٍ مَسْكُوبٍ).

أي : مصبوب بكثرة.

وقيل : جار لا ينقطع (١).

وأصل السّكب : الصّب ، يقال : سكبه سكبا ، والسكوب : انصبابه ، يقال : سكب سكوبا.

وانصب انسكب انسكابا.

ومعنى الآية : وماء مصبوب يجري في غير أخدود لا ينقطع عنهم (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : معناه : مسكوب من فوق ؛ لأن أكثر ماء العرب من الآبار والبرك فلا ينسكب.

وقيل : جار في غير أخدود [بأبحر](٤) الهواء.

وكانت العرب أصحاب بادية ، [وبلادها](٥) حارة ، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدّلو والرّشاء ، فوعدوا في الجنة خلاف ذلك.

قوله : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ).

قرىء (٦) : برفع «فاكهة».

أي : وهناك ، أو ولهم ، أو وفيها ، أو وثمّ فاكهة.

قال ابن الخطيب (٧) : لما ذكر الأشجار التي يطلب منها ورقها ، وذكر بعدها الأشجار التي يقصد بها ثمرها ، ذكر الفاكهة بعد ذكر الأشجار انتقالا من نعمة إلى نعمة ، ووصفت بالكثرة دون الطيب واللذة ؛ لأن الفاكهة تدل عليها.

قوله : (لا مَقْطُوعَةٍ). فيه وجهان (٨) :

أظهرهما : أنه نعت ل «فاكهة» ، و «لا» للنّفي ، كقولك : «مررت برجل لا طويل ولا قصير» ولذلك لزم تكرارها.

__________________

ـ كتاب صفة الجنة ، باب : ما جاء في صفة شجر الجنة (٢٥٢٣) وابن ماجه (٤٣٣٥) وأحمد (٢ / ٤١٨ ، ٤٣٨ ، ٤٦٢ ، ٤٦٩) ، والطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٣٨).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٢٣) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وهناد بن السري وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٣٦.

(٢) السابق.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ١٤٣.

(٤) في ب : بل يجري في.

(٥) في ب : وبلاد.

(٦) ينظر : الكشاف ٤٠ / ٤٦١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٩.

(٧) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ١٤٤.

(٨) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٩.

٣٩٩

والثاني : هو معطوف على «فاكهة» ، و «لا» عاطفة. قاله أبو البقاء (١).

وحينئذ لا بد من حذف موصوف ، أي : لا فاكهة مقطوعة ، لئلّا تعطف الصفة على موصوفها.

والمعنى (٢) : ليست كفواكه الدّنيا تنقطع في أوقات كثيرة ، وفي كثير من المواضع ، (وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي : لا تمنع من الناس لغلوّ أثمانها.

وقيل : لا يحظر عليها كثمار الدنيا.

وقيل : لا تمنع من أرادها بشوك ، ولا بعد ولا حائط ، بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها ، قال تعالى : (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً).

قوله : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ).

العامة : على ضم الراء ، جمع : «فراش».

وأبو حيوة (٣) : بسكونها ، وهي مخففة من المشهورة.

و «الفرش» : قيل : هي الفراش المعهودة ، مرفوعة على الأسرة.

وقيل : هي كناية عن النساء كما كنى عنهن باللّباس ، أي : ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن ، والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا ، قاله أبو عبيدة وغيره.

قالوا : ولذلك أعاد الضمير عليهن [في قوله](٤) : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ).

وأجاب غيرهم بأنه عائد على النساء الدّال عليهن الفراش.

وقيل : يعود على الحور المتقدمة (٥).

وعن الأخفش : «هنّ» ضمير لمن لم يجر له ذكر ، بل يدل عليه السياق.

وقيل : مرفوعة القدر ، يقال : ثوب رفيع أي : [عزيز](٦) مرتفع القدر والثمن ، بدليل قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) فكيف ظهائرها؟ وقيل : مرفوعة بعضها فوق بعض (٧).

وروى التّرمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قال : «ارتفاعها كما بين السّماء والأرض مسيرة خمسمائة عام» قال : حديث غريب (٨).

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٠٤.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٣٦.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٦١ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٤٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٩.

(٤) في ب : لذلك قال.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٩.

(٦) في ب : رفيع.

(٧) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ١٤٥.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٤٠) وابن حبان (٢٦٢٨ ـ موارد) والترمذي (٢٥٤٣) وأحمد (٣ / ٧٥) والبيهقي في «البعث» رقم (٣١١) وأبو نعيم في «صفة الجنة» رقم (٣٥٧) من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا. ـ

٤٠٠