اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

ومنها الزينة وإن لم يكن نافعا كاللؤلؤ والمرجان ، كقوله تعالى : (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) [النحل : ١٤] ، فالله تعالى ذكر أنواع النعم الأربعة ، وصدرها بالنعمة العظيمة التي هي الروح وهو العلم بقوله : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ، أو يقال : بأن المقصود منه عجائب الله لا بيان النعم ؛ لأن النعم سبق ذكرها فذكر خلق الإنسان من صلصال ، وخلق الجان من مارج من نار ، وهذان من العجائب الدّالة على القدرة ، لا من النعم.

واعلم أن الأركان أربعة : التراب والماء والهواء والنار ، فالله تعالى بيّن بقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) ، أن التراب أصل لمخلوق عجيب ، وبين بقوله : (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) ، أن النار أيضا أصل لمخلوق عجيب ، وبين بقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) أن الماء أصل لمخلوق آخر كالحيوان عجيب ، بقي الهواء لكنه غير محسوس ، فلم يذكر أنه أصل مخلوق ، لكن بين كونه منشئا للجواري التي في البحر كالأعلام.

فقال : (وَلَهُ الْجَوارِ).

العامة على كسر «الراء» ؛ لأنه منقوص على «مفاعل» (١) والياء محذوفة لفظا لالتقاء الساكنين (٢).

وقرأ عبد الله والحسن (٣) ، ويروى عن أبي عمرو : «برفع الراء تناسيا للمحذوف». ومنه: [الرجز]

٤٦٣٦ ـ لها بنات أربع حسان

وأربع فثغرها ثمان (٤)

وهذا كما قالوا : هذا شاك وقد تقدم تقرير هذا في الأعراف عند قوله : (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ).

قوله : (الْمُنْشَآتُ).

قرأ حمزة (٥) ، وأبو بكر بخلاف عنه بكسر الشّين ، بمعنى أنها تنشىء الموج بجريها ، أو تنشىء السير إقبالا وإدبارا ، أو التي رفعت شراعها ، والشّراع : القلاع.

وعن مجاهد : كل ما رفعت قلعها فهي من المنشآت ، وإلا فليست منها ونسبة الرّفع

__________________

(١) كذا هي في الأصل كما في الدر المصون ٦ / ٢٤١ والصواب «فواعل».

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤١.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٤٦ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩١ ، والدر المصون ٦ / ٢٤١ ، وإتحاف فضلاء البشر ٢ / ٥١٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٣٧.

(٤) يروى البيت «ثنايا» مكان «بنات».

ينظر الخزانة ٧ / ٣٦٥ ، وشرح الكافية ٢ / ١٥٢ ، والأشموني ٣ / ٥٢٧ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٧٤ ، والمقتصد في شرح الإيضاح لعبد القاهر الجرجاني ٢ / ١٠٣٠ ، واللسان (ثغر) ، والكشاف (٤ / ٤٦).

(٥) ينظر : السبعة ٦٢٠ ، والحجة ٦ / ٢٤٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٣٧ ، والعنوان ١٨٤ ، وحجة القراءات ٦٩١ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣٠ ، وشرح شعلة ٥٩٣ ، وإتحاف ٢ / ٥١٠.

٣٢١

إليها مجاز (١) ، كما يقال : أنشأت السّحابة المطر.

والباقون : بالفتح ، وهو اسم مفعول ، أي أنشأها الله ، أو الناس ، أو رفعوا شراعها (٢).

وقرأ ابن أبي عبلة (٣) : «المنشّآت» بتشديد الشين مبالغة.

والحسن : «المنشّأة» بالإفراد وإبدال الهمزة ألفا وتاء محذوفة خطا ، فأفرد الصفة ثقة بإفهام الموصوف الجمعية ، كقوله : (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) [آل عمران : ١٥].

وأما إبداله الهمزة ألفا وإن كان قياسها بين بين ، فمبالغة في التخفيف.

كقوله : [البسيط]

٤٦٣٧ ـ إنّ السّباع لتهدا في مرابضها

 .......... (٤)

أي : «لتهدأ» وأما كتابتها بإلقاء المحذوفة ، فاتباعا للفظها في الوصل.

و «في البحر» متعلق ب «المنشآت» أو «المنشأة» ، ورسمه بالتاء بعد الشين في مصاحف «العراق» يقوي قراءة الكسر ، ورسمه بدونها يقوي قراءة الفتح ، وحذفوا الألف كما تحذف في سائر جمع المؤنث السالم.

و «كالأعلام» حال ، إما من الضمير المستكنّ في «المنشآت» ، وإما من «الجواري» وكلاهما بمعنى واحد (٥).

فصل في المراد بالجواري (٦)

«الجواري» جمع جارية. وهي اسم أو صفة للسفينة ، وخصها بالذكر ؛ لأن جريها في البحر لا صنع للبشر فيه ، وهم معترفون بذلك ، فيقولون : «لك الفلك ، ولك الملك».

وإذا خافوا الغرق دعوا الله خاصة ، وسميت السفينة جارية ؛ لأن شأنها ذلك وإن كانت واقفة في السّاحل كما سماها في موضع آخر ب «الجارية» ، فقال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٦) وزاد نسبته إلى الفرياني وعبد بن حميد.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩١ ، والدر المصون ٦ / ٢٤١.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) صدر بيت لإبراهيم بن هرمة وعجزه :

 ..........

والناس ليس بهاد شرهم أبدا

ينظر الخصائص ٣ / ١٥٢ ، والضرائر لابن عصفور ٢٢٩ ، واللسان هدأ. وديوان ابن هرمة ص ٩٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٤١.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤١.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ٢٩ / ٩١.

٣٢٢

وسماها بالفلك قبل أن تكون كذلك ، فقال لنوح عليه الصلاة والسلام : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) [هود : ٣٧] ثم بعد ما عملها سمّاها سفينة ، فقال : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) [العنكبوت : ١٥].

واعلم أن المرأة المملوكة تسمى أيضا جارية ؛ لأن شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها ، بخلاف الزّوجة ، فهو من الصفات الغالبة.

و «السفينة» : «فعيلة» بمعنى «فاعلة» عند ابن دريد ، أي : تسفن الماء و «فعيلة» بمعنى «مفعولة» عند غيره بمعنى منحوتة ، قال ابن الخطيب (١) : فالفلك أولا ، ثم السفينة ، ثم الجارية.

والأعلام : الجبال ، والعلم : الطويل ، قال : [الرجز]

٤٦٣٨ ـ إذا قطعن علما بدا علم (٢)

وقالت الخنساء في صخر : [البسيط]

٤٦٣٩ ـ وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار (٣)

أي «جبل» ، فالسفن في البحر كالجبال في البر.

وجمع «الجواري» ووحد «البحر» ، وجمع «الأعلام» إشارة إلى عظمة البحر.

قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) صدر بيت لجرير بن عطية وعجزه :

 ..........

فهن بحثا كمضلات الخدم

ينظر مجاز القرآن ٢ / ٢٤٤ ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٥ / ١٠١ ، وشرح ديوان جرير ص ٦٢٢ ، والطبراني ٢٧ / ٧٨ ، والقرطبي ١٧ / ١٠٧ ، واللسان (علم).

(٣) تقدم.

٣٢٣

يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٤٥)

قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) غلب من يعقل على غيره ، وجميعهم مراد.

والضمير في «عليها» للأرض.

قال بعضهم : وإن لم يجر لها ذكر ، كقوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٦].

ورد هذا بأنه قد تقدم ذكرها في قوله : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها).

وقيل : الضمير عائد إلى الجارية.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة : هلك أهل الأرض. فنزلت (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] فأيقنت الملائكة بالهلاك (١). وقاله مقاتل.

ووجه النعمة في فناء الخلق : التسوية بينهم في الموت.

وقيل : وجه النّعمة أن الموت سبب النّقل إلى دار الجزاء والثواب.

قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أي ويبقى الله ، فالوجه عبارة عن وجود ذاته سبحانه وتعالى.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : الوجه عبارة عنه ، كما قال (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

ويقال : هذا وجه الأمر ، ووجه الصواب ، وعين الصواب ، ومعنى (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي : هو أهل لأن يكرم ، وهذا خطاب مع كل سامع.

وقيل : خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

فإن قيل : كيف خاطب الاثنين بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما).

وخاطب ها هنا الواحد فقال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ، ولم يقل : «وجه ربّكما»؟.

فالجواب (٣) : أن الإشارة ها هنا وقعت إلى فناء كل أحد ، فقال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أيها السامع ليعلم كل أحد أن غيره فان ، فلو قال : ويبقى وجه ربكما ، لكان كل أحد يخرج نفسه ، ورفيقه المخاطب عن الفناء.

فإن قيل : فلو قال : «ويبقى وجه الرّب» من غير خطاب ، كان أدلّ على فناء الكل؟.

فالجواب : إن كان الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف ، والإبقاء إشارة إلى القهر ، والموضع موضع بيان اللطف ، وتعديد النعم ، فلهذا قال : بلفظ الرب وكاف الخطاب (٤).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٢٦٧) وعزاه إلى ابن أبي حاتم في «تفسيره» عن مقاتل.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩١.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ٢٩ / ٩٤.

(٤) ينظر : الرازي ٢٩ / ٩٥.

٣٢٤

قوله تعالى : (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

العامة على «ذو» بالواو صفة للوجه ، وأبي (١) ، وعبد الله : «ذي» بالياء صفة ل «ربّك». وسيأتي خلاف القراء في آخر السورة إن شاء الله تعالى.

و «الجلال» : العظمة والكبرياء.

و «الإكرام» : يكرم أنبياء وأولياءه بلطفه مع جلاله وعظمته.

قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيه وجهان (٢) :

أحدهما : أنه مستأنف.

والثاني : أنه حال من «وجه» ، والعامل فيه «يبقى» أي يبقى مسئولا من أهل السموات والأرض.

وفيه إشكال ؛ لأنه لما قال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) كان إشارة إلى بقائه بعد فناء من على الأرض ، فكيف يكون في ذلك الوقت مسئولا لمن في الأرض؟.

قال ابن الخطيب (٣) : والجواب من وجوه.

الأول : أنهم يفنون بالنظر إليه ، لكنهم يبقون بإبقاء الله ، فيصح أن يكون الله مسئولا.

الثاني : أن يكون مسئولا معنى لا حقيقة ؛ لأنهم إذا فنوا فهم يسألونه بلسان الحال.

الثالث : أن قوله : «ويبقى» للاستمرار فهو يبقى ويعيد من كان في الأرض ، ويكون مسئولا.

الرابع : أنّ السّائلين هم الملائكة الذين هم في الأرض فإنهم فيها ، وليسوا عليها ، ولا يضرّهم زلزلتها ، فعندما يفنى من عليها يبقى الله تعالى ، ولا يفنى في تلك الحال الملائكة ، فيسألونه ماذا نفعل؟ فيأمرهم بما يريد.

فصل في تحرير السؤال المقصود

وهذا السّؤال إما استعطاف ، وإما استعطاء ، فيسأله كل أحد ما يحتاج إليه (٤).

قال ابن عباس وأبو صالح : أهل السموات يسألونه المغفرة ، ولا يسألونه الرزق (٥) ، وأهل الأرض يسألونهما جميعا.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٢٩ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩١ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٢

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٢.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٩٥.

(٤) ينظر : السابق ٢٩ / ٩٦.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٢) عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٦) عن أبي صالح وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

٣٢٥

قال ابن جريج : تسأله الملائكة الرزق لأهل الأرض ، فكانت المسألتان جميعا من أهل السماء ، وأهل الأرض لأهل الأرض (١).

قال القرطبي (٢) : «وفي الحديث : إنّ من الملائكة ملكا له أربعة أوجه ، وجه كوجه الإنسان وهو يسأل الله الرّزق لبني آدم ، ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله الرّزق للسّباع ، ووجه كوجه الثّور وهو يسأل الله الرّزق للبهائم ، ووجه كوجه النّسر وهو يسأل الله الرّزق للطّير» (٣).

وقال ابن عطاء : إنهم يسألونه القوة على العباد.

قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ) منصوب بالاستقرار الذي تضمنه الخبر ، وهو قوله : (فِي شَأْنٍ).

والشأن : الأمر.

فصل في تفسير هذه الآية

روى أبو الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال : «من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربة ، ويرفع أقواما ، ويضع آخرين» (٤)

وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله عزوجل : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال : يغفر ذنبا ، ويكشف كربا ويجيب داعيا (٥).

وقيل : من شأنه أنه يحيي ويميت ، ويعزّ ويذلّ ، ويرزق ويمنع.

وقال ابن بحر : الدّهر كله يومان :

أحدهما : مدة أيام الدنيا.

والآخر : يوم القيامة ، فشأنه ـ سبحانه وتعالى ـ في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، وشأنه يوم القيامة : الجزاء والحساب والثواب والعقاب.

والظّاهر أن المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا.

__________________

(١) ذكره السيوطي «الدر المنثور» (٦ / ١٩٦) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠٩.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٠٩).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٢) وابن حيان (١٧٦٣ ـ موارد) وابن ماجه (٢٠٢) والبزار (٣ / ٧٣) رقم (٢٢٦٧) من حديث أبي الدرداء وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٧) وزاد نسبته إلى الحسن بن سفيان في «مسنده» والطبراني وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان وابن عساكر.

وعلقه البخاري (٨ / ٤٩٠) عنه موقوفا في «صحيحه».

(٥) أخرجه البزار (٣ / ٧٤) رقم (٢٢٦٨ ـ كشف) من حديث ابن عمر.

٣٢٦

وقال عمرو بن ميمون : في قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) من شأنه أن يميت حيّا ، ويحيي ميّتا ويقرّ في الأرحام ، ويعز ذليلا ، ويذلّ عزيزا.

وقيل : من شأنه أن يولج الليل في النهار ، ويولج النّهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ويعافي مبتلى ، ويعز ذليلا ، ويذل عزيزا ، ويفقر غنيّا ، ويغني فقيرا.

وقال الكلبي : هو سوق المقادير المواقيت (١).

وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا الحسين بن الفضل ، وقال له : أشكلت عليّ ثلاث آيات ، دعوتك لتكشفها لي قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) [المائدة : ٣١] وقد صح أن الندم توبة.

وقوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) وصح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] فما بال الإضعاف؟.

فقال الحسين : يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة ، ويكون توبة في هذه الأمة ؛ لأن الله خصّ هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم.

وقيل : إن ندم «قابيل» لم يكن على قتل هابيل ، ولكن على حمله.

وأما قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] ، فمعناه : ليس له إلّا ما سعى عدلا ، ولي أن أجزيه بواحدة ألفا.

وأما قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فإنها شئون يبديها ولا يبتديها ، فقام عبد الله بن طاهر وقبّل رأسه ، وسوغ خراجه (٢).

قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ).

قرأ (٣) : «سيفرع» ـ بالياء ـ الأخوان ، أي سيفرغ الله تعالى. والباقون من السبعة : بنون العظمة ، والرّاء مضمومة في القراءتين ، وهي اللغة الفصحى لغة «الحجاز».

وقرأها مفتوحة الراء مع النون الأعرج (٤) ، ويحتمل وجهين (٥) :

أحدهما : أن يكون من «فرغ» بفتح الراء في الماضي ، وفتحت في المضارع لأجل حرف الحلق.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٠).

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠٩.

(٣) ينظر : السبعة ٦٢٠ ، والحجة ٦ / ٢٤٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٣٥ ، والعنوان ١٨٤ ، وحجة القراءات ٦٩٢ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣١ ، وشرح شعلة ٥٩٣ ، وإتحاف ٢ / ٥١١.

(٤) وقرأ بها قتادة ، ورويت عن عاصم كما في المحرر الوجيز ٥ / ٢٣٠ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٢.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٢.

٣٢٧

والثاني : أنه سمع فيه «فرغ» ـ بكسر العين ـ فيكون هذا مضارعه ، وهذه لغة «تميم» وقرأ عيسى (١) بن عمر وأبو السمال : «سنفرغ» ـ بكسر حرف المضارعة وفتح الراء. وتوجيهها واضح مما تقدم في «الفاتحة».

قال أبو حاتم : هذه لغة سفلى «مضر».

والأعمش وأبو حيوة وإبراهيم : «سيفرغ» ـ بضم الياء ـ من تحت مبنيّا للمفعول.

وعيسى ـ أيضا ـ بفتح نون العظمة ، وكسر الراء.

والأعرج ـ أيضا ـ بفتح الياء ، ويروى عن أبي عمرو.

فصل في الكلام على فرغ

قال القرطبي (٢) : «يقال : فرغت من الشغل أفرغ فروغا وفراغا ، وتفرّغت لكذا ، واستفرغت مجهودي في كذا ، أي : بذلته ، وليس لله ـ تعالى ـ شغل يفرغ منه ، وإنما المعنى : سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم ، فهو وعيد لهم وتهديد قاله ابن عباس والضحاك (٣) ، كقول القائل لمن يريد تهديده : إذن أتفرغ لك ، أي : أقصد قصدك».

وأنشد ابن الأنباري لجرير : [الوافر]

٤٦٤٠ ـ ألان وقد فرغت إلى نمير

فهذا حين كنت لهم عذابا (٤)

وأنشد الزجاج والنحاس : [الطويل]

٤٦٤١ ـ فرغت إلى العبد المقيّد في الحجل (٥)

ويدل (٦) عليه قراءة أبيّ رضي الله عنه : «سنفرغ إليكم» أي سنقصد إليكم.

__________________

(١) الذي نقله ابن عطية (٥ / ٢٣٠) عن عيسى بن عمر أنه قرأ بفتح النون وكسر الراء ، والثابت هنا هو ما ذكره أبو حيان ٨ / ١٩٢ ، والسمين الحلبي ٦ / ٢٤٢ ، فيكون هناك روايتان عن عيسى أثبتهما أبو حيان والسمين الحلبي ، في حين أهمل بن عطية إحداهما ، وهي التي معنا.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١١٠.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٤) تقدم.

(٥) عجز بيت لجرير بن عطية وصدره :

ولما اتقى القين العراقي باسته

 ..........

ورواية الديوان : إلى العين مكان إلى العبد.

ينظر : شرح ديوان جرير ص ٥٥ ، والكامل للمبرد ١ / ٢٤ ، والاقتضاب ص ٣٠١ ، واللسان (فرغ) ، والقرطبي ١٧ / ١١٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٢.

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٤٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٢ ، والقرطبي ١٧ / ١١٠.

٣٢٨

وفي حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لما بايع الأنصار ليلة «العقبة» ، صاح الشيطان : يا أهل الجباجب هذا مذمّم يبايع بني «قيلة» على حربكم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا أزبّ العقبة ، أما والله لأتفرّغن لك» (١). أي : أقصد إلى إبطال أمرك.

وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما.

قال ابن الأثير : الأزبّ في اللغة : الكثير الشعر ، وهو ها هنا شيطان اسمه «أزب العقبة» وهو الحيّة.

وقيل : إن الله ـ تعالى ـ وعد على التقوى ، وأوعد على الفجور ، ثم قال : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) أي : مما وعدناكم ، ونوصل كلّا إلى ما وعدناه ، أقسم ذلك وأتفرغ منه. قاله الحسن ، ومقاتل ، وابن زيد.

قوله تعالى : (أَيُّهَ الثَّقَلانِ). تقدم الكلام في قراءة «أيّها» في «النور» [النور : ٣١] وهو منادى ، والحكمة في نداء المبهم هي تنبيه كل سامع ، ثم يخصص المقصود بعد ذلك ، فيكون فيه اهتمام بالمنادى.

وأيضا يجعل المبهم وصلة لنداء المعرف باللام ، وزيد معه هاء التي للتّنبيه عوضا عن الإضافة ؛ لأن المبهم يضاف.

و «الثّقلان» الجنّ والإنس ، سمّيا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف.

وقيل : سمّوا بذلك ؛ لأنهما ثقلا الأرض أحياء وأمواتا.

قال تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ٢].

ومنه قولهم : أعطه ثقله أي وزنه.

وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ، ومنه قيل لبيض النعام : ثقل ، لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به.

وقال جعفر الصادق : سميا ثقلين ؛ لأنهما مثقلان بالذنوب.

وقيل : الثّقل الإنس لشرفهم ، وسمّي الجن بذلك مجازا للمجاورة والتغليب كالعمرين والقمرين والثّقل : العظيم الشريف.

قال عليه الصلاة والسلام : «إنّي تارك فيكم ثقلين : كتاب الله وعترتي» (٢).

__________________

(١) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (٢ / ٤٤٨). وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦ / ٤٨) وقال : رواه أحمد والطبراني بنحوه ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ١٨٧٤) عن زيد بن أرقم وأخرجه الحاكم (٣ / ١٤٨) من حديثه أيضا وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وأخرجه أحمد (٣ / ١٧) والطبراني في ـ

٣٢٩

فصل في سبب التثنية بعد الجمع

جمع في قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) ثم قال : (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) ؛ لأنهما فريقان ، وكل فريق جمع ، وهذا كقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) ، ولم يقل «إن استطعتما» ؛ لأنهما فريقان في حال الجمع ، كقوله تعالى : (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) [النمل : ٤٥].

وقوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٩] ، ولو قال : سنفرغ لكما ، أو قال : استطعتما ، لجاز.

وقرأ (١) أهل «الشّام» : «أيّه الثّقلان» بضم الهاء ، والباقون : بفتحها.

فصل في أن الجن مكلفون

هذه الآيات التي في «الأحقاف» (٢) ، و (قُلْ أُوحِيَ) [الجن : ١] دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيّون مثابون معاقبون كالإنس سواء ، مؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم.

قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) [الرحمن : ٣٣] الآية. لما بين أن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن ، كأن قائلا قال : فلم أخر عذابهم؟.

فأجيب (٣) : بأن الجميع في قبضته ، وأن الذي يستعجل إنما يخاف الفوت ، والجميع في قبضة الله ـ تعالى ـ فلا يفوتونه.

و «المعشر» : الجماعة العظيمة ؛ لأن المعشر هو العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلّا بابتداء فيه حيث يعيد الآحاد ، تقول : أحد عشر ، واثنا عشر وعشرون ، وثلاثون ، أي ثلاث عشرات ، فالمعشر كأنه في محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة.

فإن قيل : ما الحكمة في تقديم الجنّ على الإنس ها هنا ، وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٨٨]؟.

فالجواب (٤) : أن النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن ، والإتيان

__________________

ـ «الصغير» (١ / ١٣١) وفي «الكبير» (٥ / ١٩٠ ، ٢٠٥) والعقيلي (٢ / ٢٥٠) والعقيلي (٢ / ٢٥٠) من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد.

(١) ينظر : الحجة ٦ / ٢٤٩ ، والعنوان ١٣٨ ، ١٨٤ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٣٧ ، وإتحاف ٢ / ٥١١ ، والقرطبي ١٧ / ١١١.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١١١.

(٣) ينظر : الرازي ٢٩ / ٩٩.

(٤) ينظر : السابق ٢٩ / ١٠٠.

٣٣٠

بمثل هذا القرآن بالإنس أليق إن أمكن الإتيان ، فقدم في كل موضع ما يليق به.

فصل في المراد بالآية

معنى الآية : إن استطعتم أن تنفذوا : تجوزوا وتخرجوا بسرعة.

والنفوذ : الخروج وقد تقدم في أول «البقرة» أن ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على الخروج كنفق ونفر ، قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) فاهربوا واخرجوا منها ، وهذا أمر تعجيز ، والمعنى : حيث ما كنتم أدرككم الموت ، كما قال تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨] وهو قول الضحاك.

وروى جويبر عن الضحاك أيضا قال : يقال لهم هذا يوم القيامة ، يعني : إن استطعتم أن تجوزوا أقطار السموات والأرض ، فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم (١) ، فجوزوا يعني لا مهرب لكم ولا خروج لكم عن ملك الله سبحانه وتعالى ، وأينما تولوا فثمّ ملك الله.

وقال ابن عباس إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان أي يبينه من الله عزوجل (٢) وعنه أيضا لا تنفذون إلا بسلطان لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم (٣) وقال قتادة : لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك (٤) وقيل : الباء بمعنى إلى أي إلا إلى سلطان كقوله تعالى وقد أحسن بي أي إليّ.

وقيل معناه : لا تنفذوا إلا ومعكم سلطان الله وقيل معناه : لا تتخلصون من عذاب الله إلا بسلطان يجيركم وإلا فلا مجير لكم.

قوله تعالى : (إِلَّا بِسُلْطانٍ). حال أو متعلق بالفعل قبله.

والسلطان : القوة التي يتسلّط بها على الأمر والملك والقدرة والحجة كلها سلطان ، يريد : حيث ما توجهتم كنتم في ملكي.

قوله تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ).

قرأ ابن كثير (٥) : بكسر الشين والباقون : بضمها ، وهما لغتان بمعنى واحد مثل : «صوار» من البقر ، و «صوار» وهو القطيع من البقر.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٤) عن الضحاك بمعناه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٤) وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧١).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٨) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

(٥) ينظر : السبعة ٦٢٠ ، والحجة ٦ / ٢٤٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٣٧ ، وحجة القراءات ٦٩٣ ، والعنوان ١٨٤ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣٢ ، وشرح شعلة ٥٩٣ ، وإتحاف ٢ / ٥١١.

٣٣١

و «الشّواظ» : قيل : اللهب معه دخان.

وقال ابن عباس وغيره : هو اللهب الخالص الذي لا دخان له (١).

وقيل : اللهب الأحمر.

وقيل : هو الدخان الخارج من اللهب.

وقال رؤبة رحمه‌الله : [الرجز]

٤٦٤٢ ـ ..........

ونار حرب تسعر الشّواظا (٢)

وقال حسّان رضي الله عنه : [الوافر]

٤٦٤٣ ـ هجوتك فاختضعت لها بذلّ

بقافية تأجّج كالشّواظ (٣)

وقال مجاهد : «الشّواظ» : اللهب الأخضر المنقطع من النّار (٤).

وقال الضحاك : هو الدخان الذي يخرج من دخان اللهب ليس بدخان الحطب (٥)(٦). وقاله سعيد بن جبير.

وقيل : «الشّواظ» : النّار والدخان جميعا. قاله ابن عمر ، وحكاه الأخفش عن بعض العرب.

و «يرسل» مبني للمفعول وهي قراءة العامة ، وزيد بن علي «نرسل» بالنون شواظا ونحاسا بالنصب ، و «من نار» صفة ل «شواظ» أو متعلق ب «يرسل».

قوله : (وَنُحاسٌ).

قرأ ابن (٧) كثير وأبو عمرو : بجره عطفا على «نار».

والباقون : برفعه عطفا على «شواظ».

و «النّحاس» : قيل : هو الصفر المعروف يذيبه الله ـ تعالى ـ ويعذبهم به.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) قبله : إن لهم من وقعنا أقياظا.

ينظر : مجاز القرآن ٢ / ٢٤٤ ، والطبري ٢٧ / ٨١ ، ومجمع البيان ٩ / ٣٠٩ ، واللسان (شوظ) ، والقرطبي ١٧ / ١١٢ والدر المصون ٦ / ٢٤٣.

(٣) رواية الديوان هي :

مجللة تعممه شنارا

مضرمة تأجّج كالشواظ

ينظر ديوانه ١٤٨ ، والقرطبي ١٧ / ١١٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٣.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٦) عن مجاهد.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٣.

(٧) ينظر : السبعة ٦٢١ ، والحجة ٦ / ٢٥٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٣٩ ، وحجة القراءات ٦٩٣ ، والعنوان ١٨٤ ، وشرح شعلة ٥٩٤ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣٢ ، وإتحاف ٢ / ٥١١.

٣٣٢

وقيل : الدخان الذي لا لهب معه.

قال الخليل : وهو معروف في كلام العرب.

وأنشد للأعشى : [المتقارب]

٤٦٤٤ ـ يضيء كضوء السّراج السّلي

ط لم يجعل الله فيه نحاسا (١)

قال المهدوي : من قال : إن الشواظ النار والدخان جميعا ، فالجر في «نحاس» على هذا بين.

فأما الجر على قول من قال : إن الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف كأنه قال : «يرسل عليكما شواظ من نار ، وشيء من نحاس» ف «شيء» معطوف على شواظ ، و «من نحاس» جملة هي صفة لشيء ، وحذف «شيء» وحذفت «من» لتقدم ذكرها في «من نار» كما حذفت «على» من قولهم : على من تنزل أنزل أي : وعليه ، فيكون «نحاس» على هذا مجرورا ب «من» المحذوفة ، وتضم نونه وتكسر ، وبالكسر قرأ مجاهد (٢) ، وطلحة والكلبي ، ونقله القرطبي عن حميد أيضا ، وعكرمة ، وأبي العالية(٣).

وقرأ (٤) ابن جندب : «ونحس» ، كقوله تعالى : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) [القمر : ١٩] وابن أبي (٥) بكرة ، وابن أبي إسحاق : «ونحس» بضم الحاء والسين مشددة من قوله تعالى : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) [آل عمران : ١٥٢] أي : ونقتل بالعذاب ، وقرأ ابن أبي (٦) إسحاق أيضا : «ونحس» بضم الحاء وفتحها وكسرها وجر السين ، والحسن والقاضي (٧) : «ونحس» بضمتين وجر السين.

وتقدمت قرأة زيد : «ونحاسا» (٨) بالنّصب لعطفه على «شواظا» في قراءته.

و «النّحاس» أيضا بالكسر : الطبيعة والأصل.

يقال : فلان كريم النحاس و «النّحاس» أيضا بالضم ، أي : كريم النّجار (٩).

__________________

(١) البيت ليس في ديوان الأعشى ، وإنما هو للنابغة الجعدي. ينظر ديوانه (٨١) ، وغريب القرآن لابن قتيبة (٤٣٨) ، ومعاني الفراء ٣ / ١٣٧ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٤٥ ، والاقتضاب ص ٤٠٧ ، واللسان (سلط) ، والتاج (سلط) ومجمع البيان ٩ / ٣٠٨ ، والكشاف ٤ / ٤٧ ، وشرح شواهده ص ٤٠٧ ، والقرطبي ١٧ / ١١٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٣١ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٣.

(٣) ينظر : القرطبي ١٧ / ١١٢.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٣١ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٣.

(٥) ينظر السابق.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٣.

(٧) السابق.

(٨) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٤.

(٩) ينظر : القرطبي ١٧ / ١١٢.

٣٣٣

قال ابن مسعود : النحاس : المهل (١) وقال الضحاك : هو درديّ الزّيت المغلي (٢).

وقال الكسائي : هو النار التي لها ريح شديدة.

قوله تعالى : (فَلا تَنْتَصِرانِ) أي : لا ينصر بعضكم بعضا ، يعني الجن والإنس.

وثنّى الضمير في «عليكما» ؛ لأن المراد النوعان ، وجمع في قوله : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) ؛ لأنه خطاب للمعشر ، وكذا قوله تعالى : (فَلا تَنْتَصِرانِ) خطاب للحاضرين ، وهم نوعان.

قوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) جوابه مقدر ، أي : رأيت هولا عظيما ، أو كان ما كان.

وقوله : (فَكانَتْ وَرْدَةً) أي : مثل وردة.

فقيل : هي الزهرة المعروفة التي تشمّ شبهها بها في الحمرة.

وأنشد قول الشاعر : [الطويل]

٤٦٤٥ ـ فلو كنت وردا لونه لعشقتني

ولكنّ ربّي شانني بسواديا (٣)

وقيل : هي من لون الفرس الورد يكون في الربيع إلى الصّفرة ، وفي الشتاء إلى الحمرة ، وفي شدة البرد إلى الغبرة ، فشبه تلوّن السماء بتلون الوردة من الخيل (٤).

وقرأ عمرو بن عبيد (٥) : «وردة» بالرفع.

قال الزمخشري (٦) : فحصلت سماء وردة ، وهو من الكلام الذي يسمى التّجريد ؛ كقوله : [الكامل]

٤٦٤٦ ـ فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة

تحوي الغنائم أو يموت كريم (٧)

قوله : (كَالدِّهانِ) يجوز أن يكون خبرا ثانيا ، وأن يكون نعتا ل «وردة» ، وأن يكون حالا من اسم «كانت».

وفي «الدّهان» قولان :

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٢).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) قائل البيت هو سحيم عبد بني الحسحاس ، وقيل : نصيب ينظر : سر صناعة الإعراب ١ / ٢٠٣ ، والممتع لابن عصفور ص ٤١٠ ، واللسان (عشق) ، والتاج ٧ / ١٢ (عشق) ، وديوان سحيم ص ٢٦ والبحر ٨ / ١٩٣ والدر المصون ٦ / ٢٤٤.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٣ ، ١٩٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٤ والقرطبي ١٧ / ١١٣.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٥٠ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٤.

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٥٠.

(٧) البيت لقتادة بن مسلمة الحنفي.

ينظر شرح ديوان الحماسة للتبريزي ١ / ٢٢ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٥٣ ، والكشاف ٤ / ٤٨ ، وشرح شواهده ص ٥٤٢ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٤.

٣٣٤

أنه جمع «دهن» نحو : قرط وقراط ، ورمح ورماح ، وهو في معنى قوله تعالى : (تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) [المعارج : ٨] وهو : دردي الزيت.

والثاني : أنه اسم مفرد.

فقال الزمخشري : «اسم ما يدهن به كالحزام والإدام» ؛ وأنشد : [الطويل]

٤٦٤٧ ـ كأنّهما مزادتا متعجّل

فريّان لمّا تدهنا بدهان (١)

وقال غيره : هو الأديم الأحمر ؛ وأنشد للأعشى : [الوافر]

٤٦٤٨ ـ وأجرد من كرام النّخل طرف

كأنّ على شواكله دهانا (٢)

أي : أديما أحمر ، وهذا يحتمل أن يكون جمعا ، ويؤيده ما أنشده منذر بن سعيد : [الطويل]

٤٦٤٩ ـ تبعن الدّهان الحمر كلّ عشيّة

بموسم بدر أو بسوق عكاظ (٣)

فقوله : «الحمر» يحتمل أن يكون جمعا ، وقد يقال : هو كقولهم : أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض ، إلّا أنه خلاف الأصل.

وقيل : شبهت بالدهان وهو الزيت لذوبها ودورانها.

وقيل : لبريقها.

فصل في معنى الآية

قال المفسرون : قوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) انصدعت يوم القيامة ، (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ).

قال مجاهد والضحاك ، وغيرهما : «الدهان» : الدهن (٤) ، والمعنى : صارت في صفاء الدّهن ، والدهان على هذا جمع دهن.

__________________

(١) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه (١٦٧) واللسان (عجل) ، والتاج ٨ / ٧ (عجل) ، والكشاف ٤ / ٤٨ وشرح شواهده ص ٥٥٩ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٤ والدر المصون ٦ / ٢٤٤.

(٢) رواية الديوان :

وأجرد من فحول الخيل طرف

 ..........

ينظر ديوانه (١٩٧) ، وسمط اللآلي ٢ / ٨٧٥ ، واللسان (دهن) ، والتاج ٩ / ٢٠٦ (دهن). والبحر ٨ / ١٩٤ والدر المصون ٦ / ٢٤٤.

(٣) ينظر البحر ٨ / ١٨٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٤.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٩) عن مجاهد والضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٩) عن مجاهد وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

وذكره أيضا عن الضحاك وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

٣٣٥

وقال سعيد بن جبير وقتادة : المعنى تصير في حمرة الورد ، وجريان الدهن (١) ، أي : تذوب مع جريان الدهن حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم ، وتصير مثل الدهن لرقّتها وذوبانها.

وقيل : الدهان : الجلد الأحمر الصرف. ذكره أبو عبيدة والفراء. أي : تصير السماء كالأديم لشدّة حر نار جهنم.

وعن ابن عباس : المعنى : فكانت كالفرس الورد في الربيع كميت أصفر ، وفي الشتاء كميت أحمر ، فإذا اشتد الشتاء كان كميتا أغبر.

وقال الفراء : أراد الفرس الوردة ، تكون في الربيع وردة إلى الصّفرة ، فإذا اشتد البرد كانت وردة ؛ فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة ، فشبه تلوّن السماء بتلوّن الورد من الخيل.

وقال الحسن : «كالدّهان» أي : كصبّ الدهن ، فإنك إذا صببته ترى فيه ألوانا.

وقال زيد بن أسلم : المعنى : أنها تصير كعكر الزيت.

وقيل : المعنى أنها تمر وتجيء.

قال الزجاج : أصل الواو والراء والدال للمجيء والإتيان.

وهذا قريب مما تقدم من أن الفرس الوردة تتغير ألوانها ، والورد أيضا : يطلق على الأسد.

وقال قتادة : إنها اليوم خضراء ، وسيكون لها لون أحمر (٢). حكاه الثعلبي.

قال الماوردي : وزعم المتقدمون أن أصل لون السّماء الحمرة ، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة يرى لونها أزرق ، وشبهوا ذلك بعروق البدن ، وهي حمراء حمرة الدم ، وترى بالحائل زرقاء ، فإن كان هذا صحيحا ، فإنّ السماء لقربها من النّواظر يوم القيامة ، وارتفاع الحواجز ترى حمراء ؛ لأنها أصل لونها. والله أعلم.

قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ) التنوين عوض من الجملة ، أي : فيومئذ انشقّت السّماء ، والفاء في «فيومئذ» جواب الشرط.

وقيل : هو محذوف ، أي : فإذا انشقت السّماء رأيت أمرا مهولا ونحو ذلك.

والهاء في «ذنبه» تعود على أحد المذكورين ، وضمير الآخر مقدر ، أي : ولا يسأل عن ذنبه جانّ أيضا ؛ وناصب الظرف «لا يسأل» و «لا» غير مانعة.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٩) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وعبد بن حميد.

٣٣٦

وقد تقدم الخلاف فيها في الفاتحة وتقدمت قراءة «جأنّ» بالهمزة فيها أيضا.

فصل في الكلام على هذه الآية

قال المفسرون : هذه الآية مثل قوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص : ٧٨].

وأن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم ، فيسأل في بعض ، ولا يسأل في بعض. وهذا قول عكرمة.

وقيل : المعنى لا يسألون إذا استقرّوا في النّار. وقال الحسن وقتادة : لا يسألون عن ذنوبهم ؛ لأن الله ـ تعالى ـ حفظها عليهم ، وكتبتها الملائكة (١). رواه العوفي عن ابن عباس.

وعن الحسن ومجاهد أيضا : لا تسأل الملائكة عنهم ؛ لأنهم يعرفونهم بسيماهم (٢).

دليله قوله تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) ، رواه مجاهد عنه أيضا في قوله تعالى: (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٩٢] ، وهو قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ).

قال : لا يسألهم ليعرف ذلك منهم ، ولكنهم يسألهم لم عملتموها؟ سؤال توبيخ.

وقال أبو العالية : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم.

وقال قتادة : يسألون قبل الختم على أفواههم ، ثم يختم على أفواههم ، وتتكلم جوارحهم شاهدة عليهم (٣).

قوله تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ).

قرأ حماد بن (٤) أبي سليمان : «بسيمائهم» بالمد.

قوله تعالى : (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي) الآية.

«يؤخذ» متعدّ ، ومع ذلك تعدى بالباء ؛ لأنه ضمن معنى «يسحب». قاله أبو حيان(٥).

و «يسحب» إنما يتعدى ب «على» ، قال تعالى : (يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر : ٤٨] فكان ينبغي أن يقول : ضمن معنى يتعدى «يدعون أو يدفعون».

وقال مكّي : «إنما يقال : أخذت الناصية ، وأخذت بالناصية ، ولو قلت : أخذت الدّابة بالناصية ، لم يجز.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٩) عن ابن عباس وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٠) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٠) عن مجاهد وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٩).

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٥.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٤.

٣٣٧

وحكي عن العرب : أخذت الخطام ، وأخذت بالخطام. بمعنى.

وقد قيل : إن تقديره : فيؤخذ كل واحد بالنّواصي ، وليس بصواب ؛ لأنه لا يتعدى إلى مفعولين أحدهما : بالباء ، لما ذكرنا ، وقد يجوز أن يتعدى إلى مفعولين : أحدهما بحرف جر غير الباء ، نحو : أخذت ثوبا من زيد ، فهذا المعنى غير الأول ، فلا يحسن مع الباء مفعول آخر إلّا أن تجعلها بمعنى «من أجل» ، فيجوز أن تقول : «أخذت زيدا ثوبا بعمرو» أي : من أجله وبذنبه». انتهى.

وفيما قاله نظر ، لأنك تقول : «أخذت الثوب بدرهم» فقد تعدّى بغير «من» أيضا بغير المعنى الذي ذكره.

وقال ابن الخطيب (١) : فإن قيل : كيف عدي الأخذ بالباء وهو متعد بنفسه قال تعالى : (لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) [الحديد : ١٥] وقال : (خُذْها وَلا تَخَفْ) [طه : ٢١]؟.

فالجواب أن الأخذ تعدى بنفسه كما تقدم ، وبالباء كقوله تعالى : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) [طه : ٩٤] لكن التدقيق فيه أن المأخوذ إن كان مقصودا فكأنه ليس هو المأخوذ ، فكأن الفعل لم يتعد إليه بنفسه ، فيذكر الخوف ويدل على هذا استعمال القرآن ، فقال تعالى : (خُذْها وَلا تَخَفْ) [طه : ٢١] ، وقال تعالى (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) [النساء : ١٠٢] وأخذ الألواح إلى غير ذلك مما هو المقصود بالأخذ غيره ، وأسند الأخذ إلى النواصي دون ضمير المجرمين إشارة إلى استيلاء الآخذين على المأخوذين وكثرتهم وكيفية الأخذ.

و «أل» في «النّواصي والأقدام» ليست عوضا من ضمير عند البصريين ، فالتقدير : بالنواصي منهم ، وهي عند الكوفيين عوض.

والنّاصية : مقدم الرأس ، وقد تقدم هذا مستوفى في «هود» (٢) وفي حديث عائشة رضي الله عنها : «ما لكم لا تنصّون ميّتكم» أي : لا تمدّون ناصيته.

و «النّصيّ» : مرعى طيب ، فقولهم : فلان ناصية القوم ، يحتمل أن يكون من هذا ، يعنون أنه طيب منتفع ، أو مثل قولهم : هو رأس القوم انتهى.

فصل في سيما المجرمين

قال الحسن : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) أي بسواد الأوجه ، وزرقة الأعين (٣)(٤) قال تعالى : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) [طه : ١٠٢].

وقال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦].

__________________

(١) ينظر الدر المصون ٦ / ٢٤٥.

(٢) آية ٥٦.

(٣) ينظر الرازي ٢٩ / ١٠٥.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٠) عن الحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٠) عن الضحاك وعزاه إلى هناد وعبد بن حميد.

٣٣٨

فقوله : (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي : يأخذ الملائكة بنواصيهم ، أي : بشعور مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار.

و «النّواصي» : جمع ناصية.

وقال الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره حتى يندقّ ظهره ، ثم يلقى في النّار.

وقيل : يفعل به ذلك ليكون أشد لعذابه ، وأكثر لتشويهه.

وقيل : تسحبهم الملائكة إلى النّار ، تارة تأخذ بناصيته ، وتجرّه على وجهه ، وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على وجهه.

فإن قيل : ما وجه إفراد «يؤخذ» مع أن المجرمين جمع ، وهم المأخوذون؟.

فالجواب من وجهين (١) : الأول : أن قوله : «يؤخذ» متعلق «بالنواصي» ، كقولك : ذهب يزيد.

والثاني : أن يتعلق بما يدلّ عليه «يؤخذ» ، فكأنه قال : يؤخذ المأخوذون بالنواصي.

قوله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) أي يقال لهم : هذه جهنّم.

قال ابن الخطيب (٢) : ويحتمل أن يقال : معناه هذه صفة جهنم ، فأقيم المضاف إليه مقام المضاف ، وقد يكون المشار إليه هو ما تقدم.

قال : والأقوى أن يقال : الكلام تم عند قوله تعالى : (بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) ، وقوله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ) لقربها ، كما يقال : هذا زيد قد وصل إذا قرب مكانه ، فكأنه قال : جهنم التي يكذب بها المجرمون هذه قريبة غير بعيدة عنهم ، ويؤيده قوله : «يكذّب» ؛ لأن الكلام لو كان بإضمار يقال ، لقال تعالى لهم : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) ؛ لأن في ذلك اليوم لا يبقى تكذيب.

قوله تعالى : (يَطُوفُونَ).

قراءة العامة : «يطوفون» من «طاف» ، وعلي بن أبي طالب (٣) ـ رضي الله عنه ـ وأبو عبد الرحمن : «يطافون» مبنيّا للمفعول ، من أطافهم غيرهم.

والأعمش (٤) وطلحة وابن مقسم : «يطوّفون» بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة ، أي يطوفون أنفسهم.

وقرأت فرقة : «يطّوّفون» بتشديد الطّاء والواو ، والأصل : «يتطوّفون».

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٢٩ / ١٠٥.

(٢) ينظر : الرازي ٢٩ / ١٠٧.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٣٢ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٥.

(٤) السابق.

٣٣٩

قوله تعالى : (حَمِيمٍ آنٍ) أي : حارّ متناه في الحرارة ، وهو منقوص ك «قاض» يقال : «أتى يأتي فهو آت» ك «قضى يقضي فهو قاض». وقد تقدم في «الأحزاب».

قال قتادة : يطوفون مرة بين الحميم ، ومرة بين الحميم والجحيم (١).

و «الحميم» : الشّراب. وفي قوله تعالى : «آن» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه الذي انتهى حرّه وحميمه. قاله ابن عبّاس ، وسعيد بن جبير ، والسدي (٢) ، ومنه قول النابغة الذبياني : [الوافر]

٤٦٥٠ ـ وتخضب لحية غدرت وخانت

بأحمر من نجيع الجوف آن (٣)

وقال قتادة : «آن» طبخ منذ خلق الله السموات والأرض (٤) ، يقول : إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم ذلك.

وعن كعب : أنه الحاضر ، وعنه أيضا : «آن» اسم واد من أودية جهنّم.

وقال مجاهد : إنه الذي قد آن شربه ، وبلغ غايته.

ثم قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

فإن قيل : هذه الأمور ليست نعمة ، فكيف قال : بأي آلاء؟.

فالجواب من وجهين (٥) :

أحدهما : أن ما وصف من هول القيامة ، وعقاب المجرمين فيه زجر عن المعاصي ، وترغيب في الطّاعات وهذا من أعظم النعم.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى على شاب في الليل يقرأ : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) فوقف الشّاب ، وخنقته العبرة ، وجعل يقول : ويحي من يوم تنشقّ فيه السماء ويحي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويحك يا فتى ، يأتيني مثلها ، فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السّماء من بكائك» (٦).

الثاني : أن المعنى كذبتم بالنعم المتقدمة ما استحقيتم هذه العقوبات ، وهي دالة على الإيمان بالغيب ، وهو من أعظم النعم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٠٠ ـ ٦٠١) عن ابن عباس والضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ينظر ديوانه ص ١١٣ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٤٥ ، ومعاني القرآن للأخفش ص ٦٥ ، وإعراب القرآن للنحاس ٤ / ٣١٣ ، والمحتسب ١ / ٣٦٧ ، والطبري ٢٧ / ٨٤ ، والقرطبي ١٧ / ١١٤.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٠١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١١٤.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٠) وعزاه إلى محمد بن نصر في «كتاب الصلاة» عن لقمان بن عامر الحنفي.

٣٤٠