اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

قال ابن الخطيب : ويجوز أن يكون من السّعة أي أوسعناها بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء بالنسبة إلى سعتها داخل فيها والبناء الواسع الفضاء عجيب ، فإنّ القبّة الواسعة لا يقدر عليها البنّاؤون ، لأنهم محتاجون إلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ، ويثبت بها تماسك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض. فقوله : (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) بيان للإعراب (في (١) الفعل).

الفصل

والحكمة في كثرة ذكر البناء في السموات كقوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس: ٥] ، وقوله : (أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧] أن بناء السماء باق إلى قيام الساعة ، لم يسقط منها شيء ، ولم يعدم منها جزء. وأما الأرض فهي في التبدل والتغير كالفراش الذي يبسط ويطوى وينقل ، والسماء كالبناء المبنيّ الثابت كما أشار إليه بقوله : (سَبْعاً شِداداً) [النبأ : ١٢] وأما الأرض فكم صارت بحرا ، وعادت أرضا من وقت حدوثها ، وأيضا فالسماء ترى كالقبّة المبنية فوق الرؤوس ، والأرض مبسوطة مدحوّة ، وذكر البناء بالمرفوع أليق كقوله تعالى : (رَفَعَ سَمْكَها) [النازعات : ٢٨].

وقال بعض الحكماء : السماء مسكن الأرواح ، والأرض موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناء. والله أعلم (٢).

فإن قيل : ما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال : وبنينا السّماء بأيد كان أوجز؟!.

فالجواب : قال ابن الخطيب : لأن الصّنع قبل الصانع عند الناظر في المعرفة ، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع قدم الدليل وقال : والسّماء المبنية التي لا تشكّون في بنيانها ، فاعرفونا بها إن كنتم لا تعرفوننا (٣).

فإن قيل : إذا كان إثبات التوحيد فكيف قال : بنيناها ، ولم يقل : بنيتها؟ ولا بناها الله؟!

فالجواب : أن قوله : بنيناها أدل على عدم الشريك ، لأن الشّركة ضعيفة ؛ فإن الشريك يمنع شريكه عن التصرف والاستبداد ، وقوله : (بَنَيْناها) يدل على العظمة ، وبين العظمة والضعف تنافر فبين (٤) قوله : (بَنَيْناها) وبين أن يكون شريك منافاة. وتقريره أن قوله تعالى : (بَنَيْناها) لا يورث إيهاما بأن الآلهة التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب. وانظر : تفسير الرازي ٢٨ / ٢٢٧. /

(٢) وانظر : تفسير الرازي ٢٨ / ٢٢٥ و ٢٢٦.

(٣) السابق.

(٤) في ب بين.

١٠١

الضمير ، لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صورها وطبائعها ، فأما الأصنام المنحوتة فلا يشكون أنها ما بنت من السماء شيئا ، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها ؛ وإنما يقال : بنيت لها وجعلت أماكنها ، فلمّا لم يتوهم ما قالوا قال : بنينا نحن ونحن غير ما يقولون ويدعونه فلا يصلحون لنا شركاء. ثم لما بين أن قولهم لا يوهم شريكا أصلا ، لأن كل ما هو غير السماء فهو محتاج إلى السماء دون السماء في المرتبة فلا يكون خالقا للسماء ولا بانيها ، فعلم أن المراد جمع التعظيم ، فأفاد النص عظمة ، والعظمة أنفى للشريك ، فعلم أن قوله : (بَنَيْناها) أدلّ على نفي الشّريك من «بنيتها» و «بناء الله» (١).

فإن قيل : لم لم يقل : بنيناها بأيدينا كما قال : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) [يس : ٧١].

فالجواب : أن ذلك لفائدة جليلة ، وهي أنّ السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة غير الله والأنعام ليست كذلك.

فقال هناك : عملت أيدينا تصريحا بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة. وكذلك : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] وفي السماء قال : بأيد من غير إضافة للاستغناء عنها.

وفيه لطيفة (أخرى (٢)) وهي : أن هناك لما أثبت الإضافة لم يعد الضمير العائد إلى المفعول فلم يقل خلقته ولا عملته ، وأما السماء : فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة ، فقال : بنيناها بعود الضمير تصريحا بأنها مخلوقة.

قوله : (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي بسطناها ومهّدناها ، وفيه دليل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش (٣).

قوله : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) المخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى ، أي نحن ، كقوله : (نِعْمَ الْعَبْدُ) [ص : ٣٠] ، قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما ـ) (٤) : معناه الباسطون أي نعم ما وطأت لعبادي (٥).

قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يجوز أن يتعلق «ب (خَلَقْنا) أي خلقنا من كل شيء زوجين ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من : (زَوْجَيْنِ) لأنه في الأصل صفة له ، إذ التقدير خلقنا زوجين كائنين من كلّ شيء (٦). والأول أقوى في المعنى.

فصل

المعنى (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) صنفين ونوعين مختلفين ، كالسّماء والأرض ، والشّمس

__________________

(١) السابق ٢٨ / ٢٢٦.

(٢) سقط من ب.

(٣) الرازي ٢٨ / ٢٢٧ السابق.

(٤) زيادة من أ.

(٥) البغوي ٦ / ٢٤٦.

(٦) بتوضيح من التّبيان ١١٨٢.

١٠٢

والقمر ، والليل والنهار ، والبرّ والبحر ، والسّهل والجبل ، والشتاء والصّيف ، والجنّ والإنس ، والذّكر والأنثى ، والنور والظّلمة ، والإيمان والكفر ، والسعادة (والشقاوة) (١) والحق والباطل ، والحلو والمرّ (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أنّ خالق الأزواج واحد لا شريك له ، لا يعجز عن حشر الأجساد وجمع الأرواح.

قوله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة. قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما (٢) ـ) : فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال سهل بن عبد الله : فروا ممّا سوى الله إلى الله (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٣) وهذا إشارة إلى الرسالة (٤).

قوله : (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إتماما للتوحيد ، لأن التوحيد يباين (٥) التعطيل والتشريك ، لأن المعطّل يقول : لا إله أصلا والمشرك يقول بوجود إله آخر ، والموحّد يقول : قول الاثنين باطل ، لأن نفي الواحد باطل والقول بالاثنين باطل ، فلما قال تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أثبت وجود الله ، فلما قال : (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) نفى الأكثر من واحد فصح القول بالتوحيد بالآيتين.

ولهذا قال مرتين : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي في المقامين والموضعين (٦).

قوله : (كَذلِكَ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر (٧) مثل ذلك ، (قال الزمخشري (٨)) : والإشارة بذلك (٩) إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحرا ومجنونا (١٠). ثم فسّر ما أجمل بقوله : (ما أَتَى).

والثاني : أن الكاف في محل نصب نعتا لمصدر محذوف. قاله مكي (١١). ولم يبين تقديره. ولا يصح أن ينتصب بما بعده لأجل ما النافية. وأما المعنى فلا يمتنع ، ولذلك قال الزمخشري : ولا يصح أن يكون الكاف منصوبة ب (أَتَى) لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ؛ ولو قيل : لم يأت لكان صحيحا (١٢) ، يعني لو أتى في موضع «ما» ب «لم» لجاز أن ينتصب الكاف ب (أَتَى) لأن المعنى يسوغ عليه ، والتقدير : كذّبت قريش تكذيبا مثل تكذيب الأمم السّابقة رسلهم ، ويدل عليه قوله : (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) زيادة من أكالعادة.

(٣) وانظر : البغوي والخازن ٦ / ٢٤٦.

(٤) قاله الرازي ٢٨ / ٢٢٨.

(٥) كذا في النسختين وفي الرازي : بين.

(٦) بالمعنى من المرجع السابق ٢٨ / ٢٢٩.

(٧) قاله في التبيان ١١٨٢.

(٨) سقط من أالأصل.

(٩) في الكشاف : «وذلك إشارة».

(١٠) الكشاف ٤ / ٢٠.

(١١) مشكل الإعراب ٢ / ٣٢٥ و ٣٢٦ كما قال بالأوّل أيضا.

(١٢) الكشاف السابق.

١٠٣

قوله : (إِلَّا قالُوا) الجملة القولية في محل نصب على الحال من : (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) و (مِنْ رَسُولٍ) فاعل : (أَتَى) كأنه قيل : ما أتى الأولين رسول إلّا في حال قولهم : هو ساحر.

فإن قيل : إن من الأنبياء من قرر دين النبي الذي كان قبله وبقي القوم على ما كانوا عليه كأنبياء بني إسرائيل وكيف وآدم لما أرسل لم يكذّب؟!.

فالجواب : أنا لا نسلم أن المقرر رسول ، بل هو نبي على دين رسول ومن كذّب رسوله فهو يكذبه أيضا ضرورة.

فإن قيل : قوله : (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا) يدل على أنهم كلّهم قالوا : ساحر والأمر ليس كذلك لأن ما من رسول إلا وآمن به قوم وهم ما قالوا ذلك!.

فالجواب : أن ذلك ليس بعامّ ، فإنه لم يقل : إلا قال كلهم وإنما قال : (إِلَّا قالُوا) ولما كان كثير منهم قابلين ذلك قال الله تعالى : إلّا قالوا.

فإن قيل : لم لم يذكر المصدّقين كما ذكر المكذّبين ، وقال : إلّا قال بعضهم صدقت وبعضهم كذبت؟.

فالجواب : لأن المقصود التسلية وهي على التكذيب ، فكأنه تعالى قال : لا تأس على تكذيب قومك ، فإن أقواما قبلك كذّبوا ورسلا كذّبوا.

قوله : (أَتَواصَوْا بِهِ) الاستفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في (بِهِ) يعود على القول المدلول عليه بقالوا ، أي أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول المتضمن كساحر أو مجنون؟. والمعنى : كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم تواطؤوا عليه ، وقال بعضهم لبعض : لا تقولوا إلا هذا وأوصى أولهم آخرهم بالتكذيب. ثم قال : لم يكن ذلك لتواطؤ قول وإنما كان لمعنى جامع وهو أن الكلّ أترفوا فاستغنوا فنسوا الله وطغوا فكذبوا رسله (١) ، قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما(٢) ـ) حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك.

قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(٥٥)

قوله (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عنهم ، (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) لا لوم عليك ، قد أديت الرسالة ، وما قصرت فيما أمرت به (٣). وهذه تسلية أخرى.

قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاشتدّ ذلك على

__________________

(١) وانظر في هذا كله تفسير الفخر الرازي ٢٨ / ٢٢٩ و ٢٣٠.

(٢) زيادة من أ.

(٣) قاله البغوي ٦ / ٢٤٧.

١٠٤

أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع ، وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يتولّى عنهم فأنزل الله : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فطابت أنفسهم. والمعنى : ليس التولي مطلقا ، بل تولّ وأقبل وأعرض وادع فلا التولي يضرك إذا كان عليهم ، ولا التذكير يضيع إذا كان مع المؤمنين.

قال مقاتل : معناه عظ بالقرآن كفار مكة ، فإن الذكرى تنفع من علم الله أنه يؤمن منهم. وقال الكلبي : عظ بالقرآن من آمن من قومك ، فإن الذكرى تنفعهم (١)

قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)(٦٠)

قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). هذا الجار (٢) متعلق «ب (خَلَقْتُ).

واختلف في الجن والإنس ، قيل : المراد بهم العموم والمعنى إلا لآمرهم بالعبادة وليقروا بها ، وهذا منقول عن علي بن أبي طالب ، ويؤيده : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً)(٣) [التوبة : ٣١] أو يكون المعنى : ليطيعوني وينقادوا لقضائي (٤) ، فالمؤمن يفعل ذلك طوعا والكافر كرها ، فكل مخلوق من الجنّ والإنس خاضع لقضاء الله متذلّل لمشيئته (٥) ، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق عليه. أو يكون المعنى : إلا معدين للعبادة ، ثم منهم من يتأتى منه ذلك ، ومنهم من لا ، كقولك : هذا القلم بريته للكتابة ، ثم قد يكتب به ، وقد لا يكتب وقيل : المراد به الخصوص ، أي ما خلقت السعداء من الجنّ والإنس إلا لعبادتي ، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي. قاله زيد بن أسلم. قال : هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة ، ويؤيده قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩].

وقال مجاهد : معناه إلّا ليعرفون. قال البغوي : وهذا أحسن ؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده ، بدليل قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] ، وقيل : إلا ليعبدون أي إلا ليوحدون ، فأما المؤمن فيوحّده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيوحده في الشّدة والبلاء دون النعمة والرخاء قال تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥] وقيل : المراد وما خلقت الجنّ والإنس المؤمنين. وقيل : الطائعين(٦). قال شهاب الدين : والأول أحسن.

__________________

(١) وانظر : تفسير العلامة البغوي والخازن ٦ / ٢٤٧.

(٢) المصدر المؤول أي إلا للعبادة.

(٣) وانظر : القرطبي ١٧ / ٥٥.

(٤) رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وانظر : السابق والبغوي ٦ / ٢٤٧.

(٥) في ب بتذلل المشيئة.

(٦) السابقين.

١٠٥

فصل

في تعلق الآية بما قبلها أن بعثة الأنبياء منحصرة في أمرين عبادة الله وهداية الخلق ، فلما قال تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) بين أن الهداية قد سقطت عند اليأس ، وأمّا العبادة فهي لازمة للخلق المطلق وليس الخلق المطلق للهداية ، وقيل : إنه لما بين حال من قبله في التكذيب ذكر هذه ليتبين سوء صنيعهم ، حيث تركوا عبادة الله الذي خلقهم للعبادة.

فإن قيل : ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلّفين ، قال تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] وقال : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) [الأعراف : ٢٠٦].

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنه تقدم أن الآية سيقت لبيان قبح ما يفعله الكفرة ، من ترك ما خلقوا له. وهذا مختص بالجنّ والإنس ؛ لأن الكفر موجود في الجنّ والإنس بخلاف الملائكة.

الثاني : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (١) كان مبعوثا إلى الجنّ والإنس ، فلما قال : (وَذَكِّرْ) بين ما يذكر به وهو كون الخلق للعبادة ، وخصص أمته بالذكر أي ذكر الإنس والجن.

الثالث : أن عباد الأصنام كانوا يقولون : إن الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين ، فهم يعبدون الله وخلقهم لعبادته ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله كما قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] فقال تعالى: (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلما من القوم ، فذكر المتنازع فيه.

الرابع : فعل الجن يتناول الملائكة ، لأن أصل الجن من الاستتار ، وهم مستترون عن الخلق فذكر الجن لدخول الملائكة فيهم (٢).

قوله : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي يرزقوا أحدا من خلقي ، ولا أن يرزقوا أنفسهم (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي يطعموا أحدا من خلقي. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه ، قال عليه الصلاة والسلام (٣) : «استطعمتك فلم تطعمني» ، أي لم تطعم عبدي (٤).

فصل

استدل المعتزلة بقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) على أن

__________________

(١) في ب ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

(٢) الرازي ٢٨ / ٢٣١ و ٢٣٢.

(٣) عن ربه في الحديث القدسيّ.

(٤) وانظر : البغوي ٦ / ٢٤٨.

١٠٦

أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض وأجيبوا بوجوه تقدمت منها : أن اللام قد تثبت لغير الغرض كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] وقوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] ومعناه المقارنة فمعناه : قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم ، وفرضت عليهم العبادة.

ومنها : قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] و [الرعد : ١٦].

ومنها : ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النحل : ٩٣] وأمثاله.

ومنها : قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] وقوله : (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) [إبراهيم : ٢٧] و (يَحْكُمُ ما يُرِيدُ).

وقوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) معناه : أن النفع يعود إليهم لا لي.

فإن قيل : ما الفائدة في تكرير الإرادتين (١) مع أن من لا يريد من أحد رزقا لا يريد أن يطعمه؟!.

فالجواب : أن السيّد قد يطلب من العبد المتكسّب (٢) له ، فيطلب منه الرزق ، وقد يكون للسّيد مال وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاء حوائجه وإحضار الطعام بين يديه ، فقال : لا أريد ذلك ولا هذا. وقد طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى.

فإن قيل : ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أن المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم؟!.

فالجواب : أنه لما عمم النفي في الطلب الأول بقوله : (مِنْ رِزْقٍ) وذلك إشارة إلى التعميم بذكر الإطعام ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى ، فكأنه قال : ما أريد منهم من غنّى ولا عمل.

فإن قيل : المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإن السيّد قد يشتري العبد لا لطلب عمل منه ، ولا لطلب رزق ولا للتعظيم ، بل يشتريه للتجارة!

فالجواب : أن عموم قوله : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) يتناول ذلك.

قوله : (أَنْ يُطْعِمُونِ) قيل : فيه حذف مضاف أي يطعموا خلقي كما تقدم في التفسير. وقيل : المعنى أن ينفعون فعبر ببعض وجوه الانتفاعات لأن (٣) عادة السادة أن ينتفعوا بعبيدهم ، والله مستغن عن ذلك.

__________________

(١) في ب الإفادتين. وما في «أ» هو ما في الرازيّ.

(٢) في ب كذلك وفي الرازي : الكسب.

(٣) النون سقطت من نسخة ب سهوا.

١٠٧

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) يعني لجميع خلقه ، وهذا تقرير لعدم طلب الرزق ، وقوله : (ذُو الْقُوَّةِ) تقرير لعدم طلب العمل لأن من يطلب رزقا يكون فقيرا محتاجا ، ومن يطلب عملا يكون عاجزا لا قوة له فكأنه يقول : ما أريد منهم من رزق فإني أنا الرزّاق ، ولا العمل فإني قويّ (١).

وروي أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قرأ : إنّي أنا الرزّاق (٢) ، وقرأ ابن محيصن : الرّازق(٣) ، كما تقدم في قراءته : «وفي السّماء رازقكم».

قوله : (الْمَتِينُ) العامة على رفعه ، وفيه أوجه :

إما النعت للرزّاق (٤) ، وإما النعت لذو (٥) ، وإما النعت لاسم «إنّ» على الموضع (٦). وهو مذهب الجرميّ والفراء (٧) ، وغيرهما. وإما خبر بعد خبر ، وإما خبر مبتدأ مضمر (٨). وعلى كل تقدير فهو تأكيد ، لأن (ذُو الْقُوَّةِ) يفيد فائدته.

وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش المتين ـ بالجر (٩) ـ فقيل : صفة (الْقُوَّةِ) ، وإنما ذكر وصفها لكون تأنيثها غير حقيقيّ. وقيل : لأنها في معنى الأيد (١٠).

وقال ابن جنّي : هو خفض على الجوار كقولهم : «هذا جحر ضبّ خرب» يعني أنه صفة للمرفوع ، وإنما جر لما (١١) جار ومجرورا. وهذا مرجوح لإمكان غيره ، والجوار لا يصار إليه إلا عند الحاجة.

فصل

قال تعالى : (ما أُرِيدُ) ولم يقل : إني رازق بل قال على الحكاية عن الغائب إن الله هو الرزّاق فما الحكمة فيه؟.

__________________

(١) وانظر في هذا كله بالمعنى قليلا تفسير الإمام الرازي ٢٨ / ٢٣٥.

(٢) نقل ذلك ابن خالويه في المختصر ١٤٥ ولكن بلفظ مختلف فقد قال : إن الله هو الرازق النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وابن محيصن. وفي الكشاف : وفي قراءة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إني أنا الرازق بلفظ اسم الفاعل كقراءة ابن محيصن. وانظر الكشاف ٤ / ٢١. /

(٣) المرجع السابقة وانظر قراءة ابن محيصن في البحر ٨ / ١٤٣.

(٤ و ٥) قاله القرطبي في الجامع ١٧ / ٥٦.

(٦) التبيان ١١٨٢ وانظر القرطبي السابق.

(٧) معاني القرآن له ٣ / ٩٠.

(٨) القرطبي والتبيان السابقين.

(٩) وهي شاذة ذكرها الفراء في مرجعه السابق وابن جني في المحتسب ٢ / ٢٨٩.

(١٠) قال الفراء في المعاني : «.... وإن كان أنثى في اللفظ فإنه ذهب إلى الحبل وإلى الشيء المفتول».

(١١) قال في المحتسب ٢ / ٢٨٩ : «يحتمل أمرين : أحدهما : أن يكون للقوة فذكره على معنى الحبل ، يريد قوي الحبل لقوله : «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» * والآخر : أن يكون أراد الرفع وصفا للرزاق إلا أنه جاء على لفظ القوة لجوارها إياه على قولهم : هذا جحر ضبّ خرب».

١٠٨

قال ابن الخطيب : نقول : قد روي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قرأ : إنّي أنا الرّزّاق. وأما على القراءة المشهورة فالمعنى : قل يا محمد إن الله هو الرزّاق ، أو يكون من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، أو يكون قل مضمرا عند قوله : (ما أُرِيدُ) أي قل يا محمد : ما أريد منهم من رزق فيكون بمعنى قوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [ص : ٨٦] ويكون على هذا قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) ، ولم يقل : القوي ، بل قال : ذو القوة ، لأن المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق ، وعدم الاستعانة بالغير لكن في عدم طلب الرزق لا يكفي كون المستغني بحيث يرزق واحدا ، فإن كثيرا من الناس يرزق ولده وعبده ويسترزق والملك يرزق الجند ، ويسترزق ، فإذا كثر منه الرزق قل منه الطلب لأن المسترزق منه يكثر الرزق ، لا يسترزق من رزقه فلم يكن ذلك المقصود يحصل إلا بالمبالغة في وصف الرازق (١) ، فقال : الرزّاق ، وأما ما يغني عن الاستعانة بالغير ، فهو دون ذلك لأن القوي إذا كان في غاية القوة يعين الغير ، فإذا كان دون ذلك لا يعين غيره ولا يستعين به استعانة قوية بل استعانة ما وتتفاوت بعد ذلك ، ولما قال : (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) كفاه بيان نفس القوة فقال : (ذُو الْقُوَّةِ) ، لأن قولنا : ذو القوة في إفادة معنى القوي دون إفادة القويّ ، لأن ذلك لا يقال في الوصف اللازم البين ، يقال في الآدمي: ذو مال ومتمول ، وذو جمال ، وجميل ، وذو خلق حسن إلى غير ذلك مما (لا) (٢) يلزم لزوما بينا. ولا يقال في الثلاثة : ذات فردية ، ولا في الأربعة : ذات زوجية ، وهذا لم يرد في الأوصاف الحقيقية فلم يسمع ذو الوجود ولا ذو الحياة ولا ذو العلم ، ويقال في الإنسان : ذو علم ، وذو حياة لأنها فيه عرض لا لازم بين.

وفي صفات الفعل يقال : الله تعالى ذو الفضل كثيرا (وذو الخلق (٣) قليلا) ؛ لأن «ذا كذا» بمعنى صاحب والصحبة لا يفهم منها اللزوم فضلا عن اللزوم البين. ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧٦] فجعل غيره ذا علم ووصف نفسه بالفعل فبين ذي العلم والعليم فرق وكذلك بين ذي القوة والقويّ ، ويؤيده أيضا قوله تعالى : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌ) [غافر : ٢٢] وقوله : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُ) [الشورى : ١٩] وقال : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١] لأن هذه الصور كان المراد بها بيان القيام بالأفعال العظيمة وههنا المراد عدم الاحتياج ومن لا يحتاج إلى الغير يكفيه من القوة قدر (ما) (٤). ومن يقوم مستبدا بالفعل لا بد له من قوة عظيمة ، لأن عدم الحاجة قد يكون بترك الفعل والاستغناء عنه.

__________________

(١) كذا في النسختين وفي الرازي : الرزق.

(٢) سقط من ب وفي الرازي مما لا يلزمه لزوما.

(٣) ما بين القوسين زيادة من الرازي لتوضيح السياق وتكميله.

(٤) لفظ ما سقط من ب وانظر الرازي ٣٨ / ٢٣٦.

١٠٩

فصل

قوله : «المتين» ، لأن ذا القوة كما تقدم لا يدل إلا على أن له قوة ما ، فزاد في الوصف المتانة وهو الذي له ثبات لا يتزلزل وهو مع المتين من باب واحد لفظا ومعنى ، فإن معنى متن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن والمتانة مع القوة كالعزّة مع القوي حيث قرن العزة مع القوة في قوله : (لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) وقوله : (الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ).

قوله تعالى : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) قد تقدم الكلام على الفاء في وجه التعلق (١). والمراد بالذين ظلموا : كفار مكة. ومعنى ذنوبا أي نصيبا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أي مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح وعاد ، وثمود. والذنوب : في الأصل الدلو العظيمة المملوءة ماء ، وفي الحديث الشريف : «فأتي بذنوب من ماء» فإن لم تكن ملأى فهو الدّلو ، ثم عبر به عن النّصيب ، قال علقمة :

٤٥٣٠ ـ وفي كلّ حيّ قد خبطت بنعمة

فحقّ لشأس من نداك ذنوب (٢)

ويجمع في القلة على أذنبة ، وفي الكثرة على ذنائب. وقال الملك (٣) لما أنشد هذا البيت نعم وأذنبة.

وقال الزمخشري : الذّنوب الدلو العظيمة ، وهذا تمثيل أصله في السّقاة يقتسمون (٤) الماء فيكون لهذا ذنوب لهذا ذنوب (٥) قال الشاعر :

٤٥٣١ ـ لنا ذنوب ولكم ذنوب

فإن أبيتم فلنا القليب (٦)

__________________

(١) وذلك لأن الله تعالى لما بين أن من يضع نفسه في موضع عبادة غير الله يكون وضع الشيء في غير موضعه فيكون ظالما فقال : إذا ثبت أن الإنس مخلوقون للعبادة فإن الذين ظلموا بعبادة الغير لهم هلاك. وانظر : الرازي السابق ٢٨ / ٢٣٧.

(٢) من الطويل وهو لعلقمة بن عبدة ، والبيت روايته كرواية البحر والكشاف والقرطبي والكتاب ، وروى أبو عبيدة في المجاز ٢ / ٢٢٨ : وفي كل يوم وبنائل. وشاش أخو الشاعر ، وخبطت أسديت وأعطيت. والشاهد في الذنوب فهو الدلو وضربه مثلا في القسم والحظّ وقد تقدم.

وانظر : الكتاب ٤ / ٤٧١ والبحر ٨ / ١٣٢ والكشاف ٤ / ٢١ وشرح شواهده ٤ / ٣٤٥ وشرح شواهد الشافية ٤٩٤ وابن يعيش ٥ / ٤٨ و ١٠ / ٤٨ و ١٥١ والقرطبي ١٧ / ٥٧ وروح المعاني ٢٧ / ٢٤ ومجمع البيان ٩ / ٢٤٢ والديوان ١٣٢ والوهبية ١٢٣٩.

(٣) والملك الذي يقصده الحارث بن أبي شمر الغسّاني وكان قد أسره.

(٤) كذا في أوفي ب يقسمون وفي الكشاف : يتقسمون.

(٥) وانظر : الكشاف ٤ / ٢١ و ٢٢.

(٦) لم أعرف نسبة هذا البيت لمعين فلم تنسبه المراجع التي رجعت إليها وهو من الرجز ، فالزمخشري لم ينسبه بينما نسب ما قبله إلى عمرو بن شاس وكذلك لم ينسبه الفراء ، والشاهد فيه : ذنوب فهي ـ

١١٠

وقال الراغب : الذنوب الدلو الذي له ذنب انتهى (١). فراعى الاشتقاق. والذنوب أيضا الفرس الطّويل الذّنب وهو صفة على فعول. والذّنوب لحم أسفل المتن (٢). ويقال : يوم ذنوب أي طويل الشّر (٣) استعارة من ذلك.

قوله : (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي بالعذاب. ووجه مناسبة الذنوب أن العذاب منصبّ عليهم كما يصبّ الذّنوب ، قال تعالى : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) [الحج : ١٩] وقال تعالى : (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) [الدخان : ٤٨] والذّنوب كذلك فكأنه قال : نصبّ فوق رؤوسهم ذنوبا من العذاب كذنوب صبّ فوق رؤوس أولئك. ووجه آخر وهو أن العرب يستقون من الآبار على النّوبة ذنوبا فذنوبا وذلك وقت عيشهم الطيب ، فكأنه تعالى قال : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) من الدنيا وطيباتها «ذنوبا» إذا ملأوه ولا يكون لهم في الاخرة من نصيب كما كان عليه حال أصحابهم استقوا (٤) ذنوبا وتركوها ، وعلى هذا فالذنوب ليس بعذاب ولا هلاك وإنما هو رغد العيش.

قال ابن الخطيب : وهو أليق بالعربية (٥).

قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) يعني يوم القيامة. وقيل : يوم بدر (٦) ، وحذف العائد لاستكمال شروطه (٧) ، أي يوعدونه.

__________________

ـ هنا بمعنى الدلو العظيمة فالمعنى أنه يقسم الماء مرة له ومرة لهم فإن أبوا فالقليب أي البئر لهم وانظر : القرطبي ١٧ / ٥٧ ومعاني الفراء ٣ / ٩٠ والكشاف ٤ / ٢١ وشرح شواهده ٣٤ / ٤ والبحر ٨ / ١٣٢ ومجمع البيان ٩ / ٢٤٢ وقد ورد بشرح شواهد الكشاف :

إنا إذا شاربنا شريب

له ذنوب ولنا ذنوب

فإن أبي فله القليب

والمعنى : إني أوثر شريبي بالحظ الأوفر ، والنصيب الأجزل ، فإن لم يرض أوثره بالجميع.

(١) قاله في المفردات ١٨١ (ذنب).

(٢) قاله الجوهريّ في الصحاح «ذنب».

(٣) نقله القرطبي في ١٧ / ٥٧ عن ابن الأعرابي. وانظر في هذا اللسان ذنب ١٥٢١.

(٤) في ب اسقوا.

(٥) انظر : تفسير الإمام فخر الدين الرازي ٢٨ / ٢٣٨.

(٦) انظر : تفسير العلامة البغوي والخازن ٦ / ٢٤٨ وقال القرطبي في الجامع ١٧ / ٥٧ بالأخير.

(٧) عائد الصلة غير الألف واللام إن كان بعض معمول الصلة جاز حذفه مطلقا كحذف المعمول ، نحو : أين الرجل الذي قلت تريد قلت أنه أو نحوه ، وإن لم يكن فإما أن يكون منفصلا أو متصلا فإن كان منفصلا لم يجز حذفه نحو : جاء الذي إياه أكرمت ، أو ما أكرمت إلا إياه ، وإن كان متصلا فله أحوال :

أحدها : أن يكون منصوبا ، إما بفعل أو وصف أو بغيرهما ، فإن كان بهما جاز حذفه كما في الآية التي معنا وإن كان بغيرهما لم يجز نحو : جاء الذي إنه جائز ، وألحق به أبو حيان المنصوب بفعل ناقص. ـ

١١١

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة «والذّاريات» أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ ريح هبّت وجرت في الدّنيا» (١) (والله سبحانه وتعالى أعلم وأشفق وأرحم) (٢).

__________________

ـ الثاني : أن يكون مجرورا ، فيجوز حذفه في صور منها أن يجر بإضافة صفة ناصبة له تقديرا نحو : «فاقض ما أنت قاض».

الثالث : أن يكون مرفوعا ، فإن كان فاعلا أو نائبا عنه أو خبرا لمبتدأ أو لناسخ لم يجز حذفه نحو : جاءني اللذان قاما أو ضربا ، وجاء الذي الفاضل هو وإن الفاضل هو. وإن كان مبتدأ جاز بشروط ذكرها السيوطي في الهمع على أن ما يعنينا هو العائد المنصوب كما نلحمه في الآية أعلى. أما وقد استكمل الشروط التي يقصدها المؤلف فإنه يجوز حذفه.

وانظر ـ بتصرف ـ همع الهوامع للعلامة السيوطي ١ / ٨٩ و ٩٠.

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٢٢.

(٢) ما بين القوسين زيادة من نسخة ب.

١١٢

سورة الطور

مكيّة وهي تسع وأربعون آية ، وثلاثمائة واثنتي (١) عشرة كلمة ، وألف وخمسمائة حرف(٢).

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ)(٨)

قوله تعالى : (وَالطُّورِ) وما بعده أقسام جوابها (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) والواوات(٣) التي بعد الأولى عواطف لا حروف قسم كما تقدم في أول هذا الكتاب عن الخليل.

ونكر الكتاب تفخيما وتعظيما.

فصل

مناسبة هذه السورة لما قبلها من حيث الافتتاح بالقسم وبيان الحشر فيهما ، وأول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها ، لأن في آخرها قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) [الذاريات : ٦٠] وفي أول هذه السورة (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [الطور: ١١] وفي آخر تلك السورة قوله : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) [الذاريات : ٥٩] ؛ وذلك إشارة إلى العذاب ، وقال ههنا : إنّ عذاب ربّك لواقع.

فصل

قيل : المراد بالطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالأرض المقدسة ، أقسم الله به. وقيل : هو الجبل الذي قال الله تعالى : (وَطُورِ سِينِينَ)

__________________

(١) كذا في النسختين. والصحيح واثنتا رفعا.

(٢) وانظر البغوي والقرطبي في مرجعيهما ٦ / ٢٤٨ و ١٧ / ٥٨.

(٣) كذا في (أ) وفي (ب) والواو الذي بعد الأولى.

١١٣

[التين : ٢]. وقيل : هو اسم جنس ، والمراد بالكتاب المسطور كتاب موسى عليه الصلاة والسلام ، وهو التوراة. وقيل : الكتاب الذي في السماء ، وقيل : صحائف أعمال الخلق ، وقال تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) [الإسراء : ١٣]. وقيل : الفرقان.

والمراد بالمسطور المكتوب.

قوله : في رقّ يجوز أن يتعلق «بمسطور» ؛ أي مكتوب في رقّ (١). وجوّز أبو البقاء (٢) أن يكون نعتا آخر لكتاب (٣) وفيه نظر ؛ لأنه يشبه تهيئة العامل للعمل وقطعه منه. والرّق ـ بالفتح ـ الجلد الرقيق يكتب فيه (٤). وقال الرّاغب : الرق ما يكتب فيه شبه كاغد (٥). انتهى فهو أعم من كونه جلدا أو غيره. ويقال فيه : رقّ بالكسر. فأما ملك العبيد فلا يقال إلا رقّ بالكسر (٦). وقال الزّمخشري : والرّقّ الصحيفة. وقيل : الجلد الذي يكتب فيه (٧). انتهى. وقد غلط بعضهم من يقول : كتبت في الرّقّ بالكسر ؛ وليس بغلط لثبوته به لغة (٨).

وقد قرأ أبو السّمّال : في رق ، بالكسر (٩).

فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) وعظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطّه ورقه؟!.

فالجواب : أن هذا إشارة إلى الوضع لأن الكتاب المطويّ لا يعلم ما فيه فقال : في رق منشور أي ليس كالكتب المطويّة أي منشور لكم لا يمنعكم أحد من مطالعته (١٠).

(قوله : (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) قيل : هو بيت في السماء العليا تحت العرش بحيال الكعبة يقال له : الصّراح حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض يدخله كلّ يوم سبعون ألفا من الملائكة يطوفون به ويصلّون فيه ، ثم لا يعودون إليه أبدا (١١).

ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة. وقيل : هو بيت الله الحرام وهو معمور بالحجّاج الطائفين به.

__________________

(١) في (ب) القرآن.

(٢) التبيان ١١٨٣.

(٣) نعتا له أي لكتاب أي كائنا في رق.

(٤) وهو قوله الجوهري في الصّحاح «رق». ولكن الفراء في المعاني ٣ / ٩٠ له رأي آخر سأذكره بعد.

(٥) في المفردات : شبه الكاغد قال في اللسان : الكاغد معروف ، وهو فارسي معرّب. انظر المفردات «رقق» ٢٠٠ واللسان «كغد».

(٦) وانظر اللسان «رقق» ١٧٠٧.

(٧) الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال الكشاف ٤ / ٢٢.

(٨) بدليل قول الزمخشري السابق وقول الفراء في المعاني ٣ / ٩١ : «والرقّ الصحائف التي تخرج إلى بني آدم».

(٩) بنفس المعنى. انظر البحر ٨ / ١٤٦. وهي شاذة.

(١٠) الرازي ٢٨ / ٢٤٠.

(١١) وهذا رأي علي وابن عباس انظر القرطبي ١٧ / ٥٩ و ٦٠.

١١٤

وقيل : اللام في (الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) لتعريف الجنس كأنه يقسم بالبيوت المعمورة والعمائر المشهورة) (١).

قوله : (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) يعني السماء. ونظيره : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً)(٢) [الأنبياء : ٣٢].

قوله : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) قيل : هو من الأضداد ، يقال : بحر مسجور أي مملوء ، وبحر مسجور أي فارغ (٣). وروى ذو الرمة الشاعر عن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٤) ـ أنه قال : خرجت أمة لتستقي فقالت : إن الحوض مسجور ؛ أي فارغ (٥). ويؤيد هذا أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة.

وقيل : المسجور الممسوك ، ومنه ساجور الكلب لأنه يمسكه ويحبسه (٦). وقال محمد بن كعب القرظيّ والضّحّاك : يعني الموقد المحمّى بمنزلة التّنّور المحمّى ، وهو قول ابن عباس (ـ رضي الله عنهما ـ) (٧) ؛ لما روى أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزاد بها في نار جهنم كما قال تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير : ٦].

وروى عبد الله بن عمر ـ (رضي الله عنهما) (٨) ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا يركبنّ رجل بحرا إلّا غازيا أو معتمرا أو حاجّا ، فإنّ تحت البحر نارا وتحت النّار بحرا».

وقال الربيع بن أنس : المسجور المختلط العذب بالمالح. وروى الضحاك عن النّزّال (٩) بن سبرة (١٠) عن علي أنه قال : البحر المسجور : هو بحر تحت العرش ، كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ ، يقال له : بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. وهذا قول مقاتل (١١).

فصل

قيل : الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء أن هذه الأماكن الثلاثة وهي : الطور ، والبيت المعمور ، والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق

__________________

(١) الرازي ٢٨ / ٢٣٩. هذا وما بين القوسين كله سقط من نسخة «ب».

(٢) وانظر القرطبي السابق والبغوي ٦ / ٢٤٧.

(٣) رواه صاحب اللسان عن أبي عليّ. وانظر اللسان «سجر» ١٩٤٣ كما رواه أيضا عن أبي زيد.

(٤) زيادة من (أ).

(٥) وقال ابن أبي داود : ليس لذي الرمة حديث إلا هذا. وانظر القرطبي ١٧ / ٦١.

(٦) اللسان سجر ١٩٤٣.

(٧) زيادة من (أ).

(٨) زيادة من (أ).

(٩) في (ب) البزار.

(١٠) وفي كلتا النسختين سمرة والتصحيح من البغوي.

(١١) وانظر هذه الأقوال في تفسير البغوي ٦ / ٢٤٩.

١١٥

وخطابهم مع الله. أما الطور فانتقل إليه موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وخاطب الله تعالى هناك وأما البيت المعمور فانتقل إليه محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقال لربه : «سلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين ، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك». وأما البحر المسجور فانتقل إليه يونس ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، ونادى في الظلمات : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها.

وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه (الأماكن) (١) مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب (واقترانه (٢) بالطور أدل على ذلك ؛ لأن موسى ـ عليه‌السلام ـ كان له مكتوب ينزل عليه وهو بالطّور).

فصل

أقسم في بعض السور بجموع كقوله : (وَالذَّارِياتِ) [الذاريات : ١] (وَالْمُرْسَلاتِ) [المرسلات : ١] (وَالنَّازِعاتِ) [النازعات : ١] وفي بعضها بأفراد كقوله : (وَالطُّورِ) ولم يقل : والأطوار والبحار.

قال ابن الخطيب : والحكمة فيه : أن في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدّلة بأفرادها مستمرة بأنواعها ، والمقصود منها لا يحصل إلا بالبدل والتّغيّر ، فقال : (وَالذَّارِياتِ) إشارة إلى النوع المستمر ، لا الفرد المعين المستقر ، وأما الجبل فهو ثابت غير (٣) متغير عادة فالواحد من الجبال دائم زمانا ودهرا ، فأقسم في ذلك بالواحد ، وكذلك في قوله : (وَالنَّجْمِ) [النجم : ١] ، ولو قال : «والريح» لما علم المقسم به ، وفي الطور علم (٤).

قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) نازل وكائن. وقوله : (مِنْ دافِعٍ) يجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا ، وأن تكون صفة لواقع أي واقع غير مدفوع. قال أبو البقاء (٥). و (مِنْ دافِعٍ) يجوز أن يكون فاعلا (٦) ، وأن يكون مبتدأ (٧) و «من» مزيدة على الوجهين.

__________________

(١) سقط من نسخة (ب).

(٢) ما بين القوسين زيادة من الرازي لاكتمال الكلام وهو ساقط من النسختين.

(٣) في الرازي : قليل التغير.

(٤) وانظر تفسير العلامة الرازي ٢٨ / ٢٤٠ و ٢٤١.

(٥) التبيان ١١٨٣.

(٦) ل «له» وأرى أن تكون نائب فاعل أي ما وجد له دافع يدفع العذاب.

(٧) والخبر : «له» وهو يكون ـ أي دافع ـ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

١١٦

فصل

قال جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأكلم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أسارى بدر فدفعت إليه وهي يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ (وَالطُّورِ) إلى قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) فكأنما صدّع قلبي حين سمعت (ه) ولم أكن أسلم(١) يومئذ قال : فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب (٢).

قوله تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٦)

قوله : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ) يجوز أن يكون العامل فيه : «واقع» أي يقع في ذلك اليوم. وعلى هذا فتكون الجملة المنفية معترضة بين العامل (٣) ومعموله (٤). ويجوز أن يكون العامل فيه «دافع». قاله الحوفيّ (٥) ، وأبو البقاء (٦). ومنعه مكّيّ (٧).

قال أبو حيان : ولم يذكر دليل المنع (٨). قال شهاب الدين : وقد ذكر دليل المنع في الكشف (٩) إلا أنه ربما يكون غلطا عليه فإنه وهم ، وعبارته قال : العامل فيه واقع أي إن عذاب ربك لواقع في (١٠) يوم تمور السّماء ، ولا يعمل فيه «دافع» ؛ لأن المنفي لا يعمل فيما قبل النّافي ، لا يقول : طعامك ما زيد آكلا ، رفعت آكلا أو نصبته أو أدخلت عليه الباء. فإن رفعت الطعام بالابتداء وأوقعت «آكلا» على «هاء» جاز وما بعد الطعام خبرا (١١). انتهى (١٢).

__________________

(١) في البغوي : ولم يكن أسلم يومئذ ، وفي (ب) ولم أكن أسلمت والبغوي و (ب) هما الواضحان بالمقصود.

(٢) وانظر تفسير البغوي والخازن ٦ / ٢٤٩.

(٣) وهو واقع.

(٤) وهو يوم.

(٥) البحر المحيط ٨ / ١٤٧.

(٦) التبيان ١١٨٣.

(٧) مشكل الإعراب ٢ / ٣٢٧.

(٨) بل ذكر الدليل كما سيأتي بعد وانظر قول أبي حيان في البحر ٨ / ١٤٧.

(٩) هذا خطأ. والصحيح المشكل المرجع السابق. ولم يتعرض في الكشف لهذا الكلام على الإطلاق ، فلعلّه سهو من النّاسخ أو المؤلف.

(١٠) زيادة عما في المشكل.

(١١) كذا في النسختين وفي المشكل : «خبرة».

(١٢) وانظر مشكل إعراب القرآن لمكّي ٢ / ٣٢٧.

١١٧

وهذا كلام صحيح في نفسه ، إلا أنه ليس في الآية شيء من ذلك ؛ لأن العامل ـ وهو دافع ـ والمعمول ـ وهو يوم ـ كلاهما بعد النافي وفي حيّزه. وقوله : وأوقعت آكلا على هاء أي على ضمير يعود على الطعام فتقول : طعامك ما زيد آكله.

وقد يقال : إن وجه المنع من ذلك خوف الوهم أنه يفهم أن أحدا يدفع العذاب في غير ذلك اليوم. والغرض أن عذاب الله لا يدفع في كل وقت وهذا أمر مناسب قد ذكر مثله كثير ، ولذلك منع بعضهم أن ينتصب (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ) [آل عمران : ٣٠] بقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران : ٢٩] لئلا يفهم منه ما لا يليق. وهذا أبعد من هذا في الوهم كثير.

وقال أبو البقاء : وقيل : يجوز أن يكون ظرفا لما دل عليه (١) «فويل» انتهى.

وقال ابن الخطيب : والذي أظنه أن العامل هو الفعل المدلول عليه بقوله : (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) ؛ لأن العذاب الواقع على هذا ينبغي أن يقع في ذلك اليوم ، لأن (٢) العذاب الذي به التخويف هو الذي بعد الحشر ومور السّماء لأنه في معنى قوله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا)(٣) [غافر : ٨٥].

فصل

والمور الاضطراب والحركة. يقال : مار الشيء أي ذهب وجاء. وقال الأخفش (٤) وأبو عبيدة تكفأ (٥) وأنشد للأعشى :

٤٥٣٢ ـ كأنّ مشيتها من بيت جارتها

مور السّحابة لا ريث ولا عجل (٦)

وقال الزمخشري : وقيل : هو تحرك في تموج. وهو الشيء يتردد في عرض كالداغصة (٧) وهي الجلدة التي فوق قفل الركبة (٨). وقال الراغب : المور : الجريان

__________________

(١) التبيان ١١٣٨.

(٢) في الرازي : لكن.

(٣) وانظر الرازي بالمعنى من تفسيره ٢٨ / ٢٤٢.

(٤) لم أجده في المعاني له وإنما نقله عنه القرطبي في الجامع ١٧ / ٦٣.

(٥) المجاز له ٢ / ٢٣١.

(٦) من البسيط له كما في الديوان وفيه : مرّ السحابة. وعليه فلا شاهد فيه وهو من قصيدة يمدح فيها يزيد بن مسهر الشيباني ، وانظر البحر ٨ / ١٤٤ والقرطبي ١٧ / ٦٣ وفتح القدير ٥ / ٩٥ ومجمع البيان ٩ / ٢٤٦ والطبري ٢٧ / ١١ واللسان «مور» والمجاز ٢ / ٢٣١. والشاهد : مور فهو بمعنى الكفء.

وانظر ديوانه ١٤٤.

(٧) هي النكفة ، وقيل : هي عظم مدور يديص ويموج فوق رضف الركبة. وقيل يتحرك على رأس الركبة. وقيل : هي الشحمة التي تحت الجلدة الكائنة فوق الركبة. وانظر اللسان «دغص».

(٨) وانظر الكشاف ٤ / ٢٣.

١١٨

السريع ومار الدّم على وجهه والمور ـ أي بالضم ـ التراب المتردد به الريح (١).

وأكد بالمصدرية دفعا للمجاز أي هذان الجرمان العظيمان مع كثافتهما يقع ذلك منهما حقيقة.

وقال ابن الخطيب : فيه فائدة جليلة ، وهي أن قوله : (وَتَسِيرُ الْجِبالُ) يحتمل أن يكون بيانا لكيفية مور السماء ؛ لأن الجبال إذا سارت وسيرت معها سكانها يظهر السماء كالسائرة إلى خلاف تلك الجهة ، كما يشاهده راكب السفينة ، فإنه يرى الجبل الساكن متحركا فكان لقائل أن يقول : السماء تمور في رأي العين بسبب سير الجبال كما يرى القمر سائرا راكب السفينة ، والسماء إذا كانت (٢) كذلك فلا يبقى مهرب ولا مفزع لا في الأرض ولا في السماء.

فصل

لما ذكر أن العذاب واقع بين أنه متى يقع العذاب ، فقال : يوم تمور السماء مورا ، قال المفسرون : أي تدور كما يدور الرّحا وتتكفأ بأهلها تكفّؤ السّفينة.

قال عطاء الخراسانيّ : يختلف أجزاؤها بعضها في بعض.

وقيل : تضطرب. (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) فتزول عن أماكنها ، وتصير هباء منثورا ، وهذا إيذان وإعلام بأن لا عود إلى السماء (٣) لأن الأرض والجبال والسماء والنجوم كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم فإذا لم يبق فيها نفع فلذلك أعدمها الله تعالى (٤).

قوله : (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يومئذ منصوب «بويل» والخبر «للمكذبين». والفاء في قوله «فويل» قال مكي : جواب الجملة المتقدمة (٥) وحسن ذلك ، لأن في الكلام معنى الشرط ، لأن المعنى إذا كان ما ذكر فويل (٦).

قال ابن الخطيب : أي إذا علم أن عذاب الله واقع ، وأنه ليس له دافع فويل إذن للمكذبين ؛ فالفاء لاتصال المعنى ، ولمعنى آخر وهو الإيذان بأمان أهل الإيمان ، لأنه لما قال : إن عذاب ربك لواقع وأنه ليس له دافع لم يبين موقعه بمن ، فلما قال : (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) علم المخصوص (به) (٧) وهو المكذب (٨).

فإن قيل : إذا قلت بأن قوله : (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بيان لمن يقع به العذاب فمن

__________________

(١) المفردات له ص ٢٠٠.

(٢) في الرازي مارت. وانظر الرازي ٢٨ / ٢٤٣ ، واللسان «مور».

(٣) الصحيح كما في (ب) والرازي : الدنيا فالمعنى يحتم ذلك.

(٤) وانظر الرازي ٢٨ / ٢٤٣ ورأي الخراساني في البغوي ٦ / ٢٤٩.

(٥) في (ب) جملة المقدمة.

(٦) قال بذلك كله مكي في المشكل ٢ / ٣٢٧.

(٧) سقط من (ب) فقط دون (أ) والرازيّ.

(٨) وانظر الرازي المرجع السابق.

١١٩

لا يكذب لا يعذب فأهل الكبائر لا يعذبون لأنهم لا يكذّبون.

فالجواب : أن ذلك العذاب لا يقع إلا على أهل الكبائر ، وإنما هذا كقوله : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا) [الملك : ٨ و ٩] فالمؤمن لا يلقى فيها إلقاء بهوان ، وإنما يدخل فيها للتطهير إدخالا مع نوع إكرام ، والويل إنما هو للمكذّبين.

والويل ينبىء عن الشدة ، لأن تركيب حروف الواو والياء واللام لا ينفك عن وقوع شدة ، ومنه لوى إذا دافع (١) ولواه يلويه إذا فتله فتلا قويا (٢).

والوليّ فيه القوة على المولى عليه. وقد تقدم وجه جواز التنكير في قوله : «ويل» مع كونه مبتدأ ؛ لأنه في تقدير المنصوب لأنه دعاء في تفسير قوله تعالى : (قالَ سَلامٌ) [الذاريات : ٢٥].

قوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) الخوض : هو الاندفاع في الأباطيل ، قال تعالى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] وقال تعالى : (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) [المدثر : ٤٥].

وتنكير الخوض يحتمل وجهين :

الأول : أن يكون للتكثير أي في خوض عظيم.

الثاني : أن يكون التنوين عوضا عن المضاف إليه ، كقوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) [هود : ١١١] والأصل في خوضهم المعروف منهم. وقوله : يعلبون أي غافلون لاهون.

واعلم أن قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ) ليس وصفا للمكذبين بما يميزهم ، وإنما هو للذم كقولك : «الشيطان الرجيم» ولا تريد فصله عن الشيطان الذي ليس برجيم بخلاف قولك : أكرم الرّجل العالم فالوصف بالرجيم للذم له لا للتعريف.

وتقول في المدح : الله الذي خلق ، والله العظيم للمدح لا للتمييز ، ولا للتعريف عن إله لم يخلق أو إله ليس بعظيم ، فإن الله واحد لا غير (٣).

قوله : (يَوْمَ يُدَعُّونَ) يجوز أن يكون ظرفا «ليقال» المقدرة مع قوله : (هذِهِ النَّارُ) [الطور : ١٤] يوم يدعون المكذبين (٤) ؛ لأن معناه يوم يقع العذاب ذلك اليوم وهو يوم يدعّون فيه إلى النار.

__________________

(١) كذا في (أ) والصحيح دفع من دون ألف كما في المعاجم والرازي فالفعل ثلاثيّ.

(٢) وانظر اللسان «لوى».

(٣) قال بهذه المعلومة الرازي ٢٨ / ٢٤٥ و ٢٤٦.

(٤) وهو أحد قولي أبي البقاء في التبيان ١١٨٣.

١٢٠