اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

على الابتداء وما قبله الخبر ، أو فاعل بالجار لاعتماده على حرف النفي (١) ، وكأنه وهم في التلاوة فزعم أن القرآن : وما لبشر أن يكلمه مع أنه يمكن الجواب عنه بتكلّف (٢).

و (إِلَّا وَحْياً) يجوز أن يكون مصدرا (٣) أي إلا كلام وحي. وقال أبو البقاء : استثناء منقطع (٤) ؛ لأن الوحي ليس من جنس الكلام. وفيه نظر ؛ لأن ظاهره أنه مفرغ ، والمفرغ لا يوصف بذلك (٥). ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال (٦).

قوله : (أَوْ يُرْسِلَ) قرأ نافع : «أو يرسل» برفع اللام ، وكذلك : فيوحي فسكنت ياؤه.

والباقون بنصبهما (٧). فأما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه رفع على إضمار مبتدأ أي : أو هو يرسل (٨).

الثاني : أنه عطف على «وحيا» على أنه حال ؛ لأن وحيا في تقدير الحال أيضا فكأنه قال : إلا موحيا أو مرسلا (٩).

الثالث : أن يعطف على ما يتعلق به (مِنْ وَراءِ) ؛ إذ تقديره أو يسمع من وراء حجاب و «وحيا» في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه (أَوْ يُرْسِلَ) ، والتقدير : إلّا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا (١٠).

وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) إذ تقديره : أو يكلّمه من وراء حجاب. وهذا الفعل (المقدر) (١١) معطوف على «وحيا» ، والمعنى : إلا بوحي أو إسماع من وراء حجاب أو إرسال رسول.

ولا يجوز أن يعطف على «يكلّمه» لفساد المعنى (١٢) ؛ إذ يصير التقدير : وما كان لبشر أن يرسل الله رسولا ، فيفسد لفظا ومعنى.

وقال مكي : لأنه يلزم منه نفي الرسل ، ونفي المرسل (١٣) إليهم.

الثاني : أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على «وحيا»

__________________

(١) التبيان ١١٣٥.

(٢) والتكلف هو جعل كان زائدة.

(٣) قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٥١.

(٤) التبيان ١١٣٥ ، قال : لأن الوحي ليس بتكليم.

(٥) نقله السمين في الدر المصون ٤ / ٧٦٦.

(٦) قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٥١.

(٧) وهي قراءة متواترة انظر السبعة لابن مجاهد ٥٨٢ والإتحاف للبناء ٣٨٤ ومعاني الفراء ٣ / ٢٦ ، والبيان ٢ / ٣٥١ والتبيان ١١٣٦.

(٨) البيان والتبيان السابقين والحجة لابن خالويه ٣١٩ ، والكشاف ٢ / ٤٧٤.

(٩) الكشاف قال بذلك المرجع السابق.

(١٠) الدر المصون للسمين ٤ / ٧٦٦.

(١١) سقط من ب.

(١٢) وانظر البحر المحيط لفظا ٧ / ٥٢٧ والكشاف معنى ٣ / ٤٧٤.

(١٣) قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٥٨ وقد نقله أيضا القرطبي في الجامع ١٦ / ٥٣.

٢٢١

و «وحيا» حال ، فيكون هنا أيضا حالا ، والتقدير : إلا موحيا أو مرسلا (١).

وقال الزمخشري : «وحيا وأن يرسل» مصدران واقعان موقع الحال ، لأن : أن يرسل في معنى : إرسالا و (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ظرف واقع موقع الحال أيضا كقوله : (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٩١] والتقدير : وما صح أن يكلم أحدا إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا (٢).

ورد عليه أبو حيان بأن وقوع المصدر موقع الحال غير منقاس وإنما قاس منه المبرد ما كان نوعا للفعل فيجيز أتيته ركضا ويمنع : أتيته بكاء أي باكيا (٣). وبأن : أن يرسل لا يقع حالا لنص سيبويه : على أن «أن» والفعل لا يقع حالا وإن كان المصدر الصريح يقع حالا تقول : جاء زيد ضحكا ، ولا يجوز أن يضحك (٤).

الثالث : أنه عطف على معنى وحيا فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير : إلّا بأن يوحي إليه أو بأن يرسل. ذكره مكي (٥) وأبو البقاء (٦).

قوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) العامة على الإفراد. وابن أبي عبلة : حجب جمعا (٧). وهذا الجار يتعلق بمحذوف تقديره : أو يكلمه من (٨) وراء حجاب. وقد تقدم أن هذا الفعل معطوف على معنى وحيا ، أي إلّا أن يوحي أو يكلمه.

قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يتعلق من ب «يكلّمه» (الموجودة (٩) في اللفظ لأن ما قبل الاستثناء لا يعمل فيما بعد إلا. ثم قال : وقيل : من متعلقة بيكلّمه) (١٠) لأنه ظرف والظرف يتّسع فيه (١١).

__________________

(١) مشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٧٩ قال : أو نفي المرسل إليهم وذلك لا يجوز.

(٢) قال النحاس في إعراب القرآن ٤ / ٩٢ : قال سيبويه : سألت الخليل عن قول الله عزوجل : «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ» فزعم أن النصب محمول إلى أن سوى هذه. وانظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٢ / ١٠٣.

(٣) الكشاف ٣ / ٤٧٥.

(٤) قال في المقتضب : ومن المصادر ما يقع في موضع الحال فيسد مسده فيكون حالا ، لأنه قد ناب عن اسم الفاعل وأغنى غناءه وذلك قولهم : قتلته صبرا ، إنما تأوله صابرا أو مصبرا ، وكذلك : جئته مشيا لأن المعنى جئته ماشيا فالتقدير أمشي مشيا ، لأن المجي على حالات والمصدر قد دل على فعله من تلك الحال. ولو قلت : جئته إعطاء لم يجز ؛ لأن الإعطاء ليس من المجيء ، ولكن جئته سعيا. فهذا جيد. المقتضب ٣ / ٣٣٤ ، فهذا النص نفهم منه بأن المصدر واقع موقع الحال ، وقد فهم النحاة ونقلوا نقولات كثيرة عن المبرّد في هذا هل المصدر هذا مفعول مطلق لهذا الفعل المحذوف أم أنه مصدر واقع موقع الحال؟

(٥) البحر المحيط ٧ / ٥٢٧.

(٦) مشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٧٩.

(٧) التبيان ١١٣٦.

(٨) من القراءة الشاذة انظر البحر المحيط ٧ / ٥٢٧ وشواذ القرآن ٢١٦.

(٩) التبيان لأبي البقاء ١١٣٦.

(١٠) ما بين القوسين تكملة لازمة من كتاب التبيان لأبي البقاء فقد سقط كل هذا من النسختين بسبب انتقال النظر.

(١١) التبيان ١١٣٦.

٢٢٢

فصل

ذكر المفسرون أن اليهود قالوا للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال : لم ينظر موسى إلى الله عزوجل. فأنزل الله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أي يوحي إليه في المنام أو بالإلهام أو من وراء حجاب يسمعه كلامه ولا يراه كما كلم موسى عليه الصّلاة والسّلام أو يرسل رسولا إما جبريل أو غيره من الملائكة فيوحي بإذنه ما يشاء أن يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله (١) ما يشاء (٢).

وهذه الآية تدل على (أن) (٣) الحسن لا يحسن لوجه عائد إليه وأن القبح لا يقبح لوجه عائد إليه بل الله إنما يأمر بما يشاء من غير تخصيص وأنه ينهى عما يشاء من غير تخصيص ، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله : «ما يشاء» ، ثم قال : (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي عليم بصفات المخلوقين حكيم تجري (٤) أفعاله على الحكمة فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام وأخرى بإسماع الكلام وثالثا بواسطة الملائكة الكرام. ولما بين الله كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ قال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أي كما أوحينا إلى سائر رسلنا أوحينا إليك روحا من أمرنا.

قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٥) ـ نبوة. وقال الحسن ـ (رضي الله عنه) (٦) ـ : رحمة وقال السدي ومقاتل : وحيا. وقال الكلبي : كتابا ، وقال الربيع ، جبريل. وقال مالك بن دينار : يعني القرآن (٧).

قوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) «ما» الأولى نافية والثانية استفهامية ، والجملة الاستفهامية معلقة للدّراية (٨) ، فهي في محل نصب لسدها مسد مفعولين ، والجملة المنفية بأسرها في محل نصب على الحال من الكاف في : «إليك» (٩).

فصل (١٠)

المعنى : وما كنت تدري قبل الوحي ما الكتاب ولا الإيمان يعني شرائع الإيمان

__________________

(١) في ب بإذنه.

(٢) البغوي ٦ / ١٢٩.

(٣) سقط من ب.

(٤) الرازي ٢٧ / ١٩٠.

(٥) زيادة من أ.

(٦) كذلك.

(٧) انظر هذه الأقوال في البغوي والخازن ٦ / ١٢٩ والقرطبي ١٦ / ٥٤.

(٨) ذكره السمين في الدر المصون ٤ / ٧٦٨ عن أبي حيان في البحر المحيط ٧ / ٥٢٨.

(٩) ذكره العكبري في تبيانه ١١٣٦ ، وانظر الدر المصون السابق.

(١٠) هذا الفصل كله سقط من ب.

٢٢٣

ومعالمه. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة : الإيمان هنا الصلاة لقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] أي صلاتكم (١). وقيل : هذا على حذف (٢) مضاف أي ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان (٣) حين كنت طفلا في المهد.

وقيل : الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به وأنه قبل النبوة ما كان عارفا بجميع تكاليف الله تعالى بل كان عارفا بالله تعالى. وقال بعضهم : صفات الله تعالى على قسمين : منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقول ومنها (٤) ما لا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية فهذا القسم الثاني لم يكن معرفته حاصلا قبل النبوة. واعلم أن أهل الأصول على أن الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ كانوا مؤمنين من قبل الوحي ، وكان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم ولم يتبين له شرائع دينه (٥).

قوله : «جعلناه» الضمير يعود إما لروحا وإما للكتاب ، وإما لهما ، لأنهما مقصد واحد ، فهو كقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)(٦) [التوبة : ٦٢].

فصل

قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٧) ـ يعني الإيمان : وقال السدي : يعني القرآن (٨) يهدي به من يشاء «نرشد به من نشاء» من عبادنا و «نهدي» يجوز أن يكون مستأنفا وأن يكون مفعولا مكررا للفعل وأن يكون صفة لنورا (٩).

قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) قرأ (شهر) بن حوشب : لتهدي مبنيا للمفعول وابن السّميقع : لتهدي بضم التاء وكسر الدال (١٠) من : أهدى والمراد بالصراط المستقيم الإسلام.

قوله : (صِراطِ اللهِ) بدل من : «صراط» قبله بدل كل من كل معرفة من نكرة (١١).

__________________

(١) البغوي المرجع السابق والرازي ٢٧ / ١٩٠.

(٢) هذا هو رأي الرازي.

(٣) كان من الأولى : أي ولا أهل الإيمان يعني من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن الرازي ٢٧ / ١٩٠.

(٤) الرازي المرجع السابق.

(٥) نقله البغوي والخازن في تفسيريهما معالم التنزيل ولباب التأويل ٦ / ١٢٩.

(٦) أقول : وقد جوّز الأول أبو حيان في البحر ٧ / ٥٢٨ والثاني ابن عطية فيما نقله عنه أبو حيان أيضا ، وحكى الثلاثة أبو زكريا في معاني القرآن ٣ / ٢٧.

(٧) سقط من ب.

(٨) البغوي ٦ / ١٢٩.

(٩) الدر المصون ٤ / ٧٦٩.

(١٠) كلتا القراءتين شاذة الأولى أوردها أبو حيان في البحر ٧ / ٥٢٨ وابن خالويه في المختصر ١٣٤ والسمين في الدر ٤ / ٧٦٨ ، والثانية أوردها أبو حيان والسمين في مرجعيهما السابقين.

(١١) الكشاف ٣ / ٤٧٦.

٢٢٤

فصل

نبه بهذه الآية على أن الذي يجوز عبادته هو الذي يملك السماوات والأرض ، ثم قال : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي أمور الخلائق كلها في الآخرة وهذا كالوعيد والزجر أي ترجع الأمور كلها إلى الله تعالى حيث لا يحاكم سواه فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب(١).

روى أبو أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من قرأ سورة حم عسق كان ممّن تصلّي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له (٢). (والله أعلم) (٣).

__________________

(١) الرازي ٢٧ / ١٩١.

(٢) مجمع البيان ٩ / ٣١ والسراج المنير ٣ / ٥٥٢ والبيضاوي ٢ / ١٩٨ والكشاف ٢ / ٤٧٦ بدون سند فيها.

(٣) زيادة من ب.

٢٢٥

سورة الزخرف

مكية (١) وهي تسع وتسعون (٢) آية ، وثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة ، وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)(٥)

قوله تعالى : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) إن جعلت «حم» قسما كانت الواو عاطفة ، وإن لم تكن الواو للقسم.

وقوله : (إِنَّا جَعَلْناهُ) جواب القسم. وهذا عندهم من البلاغة ، وهو كون القسم والمقسم عليه من واد (٣) واحد ، كقول أبي تمام :

٤٣٨٨ ـ .........

وثناياك إنّها إغريض (٤)

إن أريد بالكتاب القرآن ، وإن أريد به جنس الكتب المنزلة غير القرآن لم يكن من ذلك. والضمير في «جعلناه» على الأول يعود على الكتاب وعلى الثاني للقرآن وإن لم

__________________

(١) بإجماع. وقال مقاتل : إلا قوله : «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا» وانظر القرطبي ١٦ / ٦١.

(٢) كذا في النسختين والأصح : تسع وثمانون.

(٣) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٤٤٧ وباللفظ من الدر ٤ / ٧٧٠.

(٤) من بحر الخفيف وعجزه :

ولآل توم وبرق وميض

 .........

والثنايا : جمع ثنية مقدم الأسنان من تحت ومن فوق ثنتان متقابلتان ، والإغريض : الطلع ثم أطلق على البرد وهو حبات البلح الصغيرة. والتّوم جمع تومة اللؤلؤة العظيمة. والشاهد في قوله : إنها إغريض حيث وقعت هذه الجملة جوابا للقسم وهي تعني الأسنان فاتحد القسم وجوابه معنى.

٢٢٦

يصرح بذكره (١). والجعل في هذا تصيير ، ولا يلتفت لخطأ الزمخشري في تجويزه أن يكون بمعنى خلقناه (٢).

فصل

ذكر المفسرون في هذه الآية وجهين :

الأول : أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين فيكون المقسم واقعا على أن هذه السورة هي سورة حم.

الثاني : أن يكون القسم واقعا على قوله : إنّا جعلناه قرآنا عربيا.

وفي المراد بالكتاب قولان :

أحدهما : أنه القرآن فيكون قد أقسم بالقرآن أنه جعله عربيا.

والثاني : المراد بالكتاب الكتابة والخط ، أقسم بالكتاب لكثرة ما فيه من المنافع ، ووصف الكتاب بأنه مبين أي أبان طريق الهدى من طريق الضلال ، وأبان ما يحتاج (٣) إليه الأمة من الشريعة وتسميته مبينا مجاز ؛ لأن المبين هو الله تعالى وإنما سمي القرآن بذلك توسعا من حيث إنه حصل (٤) البيان عنده (٥).

وقوله : «جعلناه» أي صيّرنا قراءة هذا الكتاب (٦) عربيا. وقيل : بيّناه (٧). وقيل : سميناه (٨) وقيل وضعناه. يقال : جعل فلان زيدا عالما ، أي وصفه بهذا ، كقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] و (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) [الحجر : ٩١] (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) [التوبة : ١٩] كلها بمعنى الوصف والتسمية.

فصل

احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه :

الأول : أنها تدل على أن القرآن مجعول ، والمجعول هو المصنوع المخلوق.

فإن قيل : المراد به أنه سماه عربيا ، فهذا مدفوع من وجهين :

الأول : أنه لو كان المراد من الجعل التسمية لزم أن سماه عجميا أنه يصير عجميا ، وإن كان بلغة العرب ، وهذا باطل.

__________________

(١) انظر المرجعين الأخيرين السابقين.

(٢) فقد قال في شرح الكشاف ٣ / ٤٧٧ أو بمعنى خلقناه معدّى إلى واحد.

(٣) في ب تحتاج بالتاء.

(٤) انظر الرازي ٢٧ / ١٩٢ و ١٩٣ وفي ب جعل بدل حصل.

(٥) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٤٧.

(٦ و ٧) وهو رأي الزجاج انظر معاني القرآن ٤ / ٤٠٥.

٢٢٧

الثاني : (أنه) لو صرف الجعل إلى التسمية لزم كون التسمية مجعوله ، والتسمية أيضا كلام الله وذلك أنه جعل بعض كلامه ، وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل.

الثاني : أنه وصفه بكونه قرآنا ، وهو إنما سمي قرآنا ، لأنه جعل بعضه مقرونا بالبعض ، وما كان ذلك كان مصنوعا.

الثالث : وصفه بكونه عربيا ، وإنما يكون عربيا ، لأن العرب اختصت بوضع ألفاظه واصطلاحهم ، وذلك يدل على أنه مجعول. والتقدير : حم وربّ الكتاب المبين.

ويؤكد هذا بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «يا ربّ طه ويس ، ويا ربّ القرآن العظيم»(١).

وأجاب ابن الخطيب : بأن هذا الذي ذكرتموه حق ؛ لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة محدثة (٢) ، وذلك معلوم بالضرورة ومن الذي ينازعكم فيه.

قوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) كلمة «لعلّ» للتمني والترجي ، وهي لا تليق بمن كان عالما بعواقب الأمور ، وكان (٣) المراد ههنا : إنّا أنزلناه قرآنا عربيّا لأجل أن تحيطوا بمعناه (٤).

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) متعلقان بما بعدهما ، ولا تمنع اللام (٥) من ذلك. ويجوز أن يكونا حالين مما بعدهما ؛ لأنهما كانا وصفين له في الأصل فيتعلقان بمحذوف ، ويجوز أن يكون «لدينا» متعلقا بما تعلق به الجار قبله ، إذا جعلناه حالا من لعليّ ، وأن يكون حالا من الضمير المستتر فيه. وكذا يجوز في الجار أن يتعلق بما تعلق به الظرف وأن يكون حالا من ضميره عند من يجوز (تقديمها) (٦) على العامل المعنوي ، ويجوز أن يكون الظرف بدلا من الجار قبله ، وأن يكونا حالين من «الكتاب» أو من «أمّ» (٧).

ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء (٨) ، وقال : «ولا يجوز أن يكون واحد من الظرفين خبرا ؛ لأن الخير لزم أن يكون «عليّا» من أجل اللام» (٩). قال شهاب الدين : وهذا يمنع

__________________

(١) لم أعثر عليه إلا في تفسير الإمام الرازي ٢٧ / ١٩٣.

(٢) في الرازي : محدثة مخلوقة.

(٣) وفيه : فكان المراد منها.

(٤) وانظر الرازي المرجع السابق.

(٥) في ب يمنع بالتذكير.

(٦) سقط ذلك اللفظ من ب ففيها «بياض».

(٧) بتوضيح وتفصيل من كتاب الدر المصون للسمين ٤ / ٧٧١.

(٨) التبيان ١١٣٧.

(٩) قال : ولكن يجوز أن كل واحد منهما صفة للخبر ، فصارت حالا بتقدمها ، وانظر المرجع السابق.

٢٢٨

أن تقول : «إنّ زيدا كاتب لشاعر ؛ لأنه منع أن يكون غير المقترن بها خبرا» (١).

وقرأ حمزة والكسائيّ إم الكتاب ـ بكسر الألف (٢) ـ والباقون بالضم. والضمير في قوله «وإنّه» عائد إلى الكتاب المتقدم ذكره.

فصل

قيل : أم الكتاب هو اللوح المحفوظ (٣). قال قتادة : أم الكتاب أصل الكتاب ، وأمّ كلّ شيء أصله.

قال ابن عباس : ـ (رضي الله عنهما) (٤) ـ : أوّل ما خلق الله القلم أمره أن يكتب بما يريد أن يخلق فالكتاب عنده ثم قرأ : وإنّه في أمّ الكتاب لدينا (٥) ، فالكتاب مثبت عنده في اللوح المحفوظ كما قال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١ ـ ٢٢].

وقوله : (لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) قال قتادة : يخبر عن منزلته وشرفه ، أي إن كذّبتم بالقرآن يا أهل مكة فإنه عندنا «لعليّ» رفيع شريف «حكيم» أي محكم في أبواب البلاغة والفصاحة ، أو ذو حكمة بالغة. قيل : المراد بأم الكتاب الآيات المحكمة لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) [آل عمران : ٧] والمعنى أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم.

فإن قيل : ما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب فيستحيل عليه السهو والنسيان؟

فالجواب : أنه تعالى لما أثبت (٦) في ذلك أحكام حوادث المخلوقات ، ثم إن الملائكة إذا شاهدوا أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافقة ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمته وعلمه (٧).

قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) في نصب «صفحا» خمسة أوجه :

أحدها : أنه مصدر في معنى يضرب (٨) ؛ لأنه يقال : ضرب عن كذا وأضرب عنه بمعنى أعرض عنه وصرف وجهه عنه قال :

__________________

(١) الدر المصون له ٤ / ٧٧١.

(٢) لم أجدها في المتواتر عنهما ، ويبدو أنها شاذة من الأربع فوق العشر. انظر الإتحاف ٣٨٤ والفخر الرازي ٢٧ / ١٩٤ والقرطبي ١٦ / ٦٢.

(٣) القرطبي ١٦ / ٦٢.

(٤) ساقط من ب وانظر رأي قتادة في معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٤٠٥.

(٥) القرطبي السابق والرازي ٢٧ / ١٩٤.

(٦) كذا ما أثبته من الرازي وفي ب وفي أ«ثبت» بدون همزة التعدية.

(٧) قاله الإمام الرازي في مرجعه السابق.

(٨) في ب نضرب بالنون ، وانظر البيان ٢ / ٣٥٢.

٢٢٩

٤٣٨٩ ـ اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسّيف قونس الفرس (١)

والتقدير : أفنصفح عنكم الذكر ، أي أفنزيل القرآن عنكم إزالة ، ينكر عليهم ذلك.

الثاني : أنه منصوب على الحال من الفاعل أي صافحين (٢).

الثالث : أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة ، فيكون عامله محذوفا ، نحو : (صُنْعَ اللهِ) [النمل : ٨٨] قاله ابن عطية (٣).

الرابع : أن يكون مفعولا من أجله (٤).

الخامس : أن يكون منصوبا على الظرف.

قال الزمخشري : و «صفحا» على وجهين : إما مصدر من صفح عنه إذا أعرض عنه ، منتصب على أنه مفعول له ، على معنى أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم : نظر إليه بصفح وجهه ، وصفح وجهه بمعنى أفننحّيه عنكم جانبا؟ فينتصب على الظرف ، نحو : ضعه جانبا ، وامش جنبا ، ويعضده قراءة : صفحا بالضم (٥). يشير إلى قراءة حسّان بن عبد الرحمن الضّبعيّ (٦) وسميط بن عمر (٧) وشبيل بن عزرة (٨) قرأوا : صفحا ـ بضم الصاد ـ وفيه احتمالات :

أحدها : ما ذكره من كونه لغة في المفتوح ، ويكون ظرفا (٩). وظاهر عبارة أبي البقاء أنه يجوز فيه ما جاز في المفتوح ؛ لأنه جعله لغة فيه كالسّدّ والسّدّ (١٠).

والثاني : أنه جمع صفوح ، نحو : صبور ، وصبر ، فينتصب حالا من فاعل «يضرب» (١١) وقدّر الزمخشري على عادته فعلا بين الهمزة والفاء ، أي : أنهملكم فنضرب (١٢). وقد تقدم ما فيه.

__________________

(١) من المنسرح لطرفة ، وروي البيت : بالسوط بدل بالسيف وهي رواية قليلة بجانب الرواية الأولى. والشاهد : أن الضرب بمعنى الإعراض والنّسيان أي انس ذلك وأعرض عنه ولا تتذكره فهو مجاز. وانظر النوادر لأبي زيد ١٦٥ ، والكشاف ٣ / ٣٧٨ والبحر المحيط ٨ / ٥ واللسان ٣٧٥٢ ، والخصائص ١ / ١٢٦ ، والممتع ١ / ٣٢٣ وشرح المفصل لابن يعيش ٩ / ٤٤ والمغني ٦٤٢ والإنصاف ٥٦٨ وشرح شواهد المغني للسيوطي ٩٣٣ والهمع ٢ / ٧٩ والأشموني ٣ / ٢٢٨.

(٢) التبيان ١١٣٧.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٦.

(٤) الكشاف ٣ / ٤٧٨.

(٥) السابق مع اختلاف بسيط في العبارة.

(٦) روي عن النبي ، وعن ابن عمر ، انظر أسد الغابة ٢ / ٢٥٨.

(٧) السدوسي أبو عبد الله البصريّ عن أبي موسى وعنه عاصم الأحول ، الخلاصة ١٦٢.

(٨) الضبعي أبو عمرو البصري أحد أئمة العربية ، عن أنس ، وشهر بن حوشب ، وعنه الزّبيديّ وشعبة انظر خلاصة الكمال. المرجع السابق. وهذه القراءة شاذة غير متواترة انظر الشواذ لابن خالويه ١٣٤.

(٩) قاله السمين في الدر ٤ / ٧٧٢.

(١٠) قال : قرىء بضم الصاد ، والأشبه أن يكون لغة. انظر التبيان له ١١٣٧.

(١١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٧٨.

(١٢) المرجع السابق.

٢٣٠

قوله : «أن كنتم» قرأ نافع والأخوان بالكسر ، على أنها (١) شرطية. وإسرافهم كان متحقّقا و «إن» إنما تدخل على غير المتحقّق أو المتحقق المبهم الزمان.

وأجاب الزمخشري : أنه من الشرط الذي يصدر عن المدلي (٢) بصحة الأمر والتحقيق لثبوته كقول الأجير : «إن كنت عملت لك عملا فوفّني حقّي» ، وهو عالم بذلك ، ولكنه تخيل في كلامه أن تفريطك في إيصال حقي (٣) فعل من له شك في استحقاقه إيّاه تجهيلا لهم (٤).

وقيل : المعنى على المجازاة ، والمعنى أفنضرب عنكم الذكر صفحا متى أسرفتم ، أي إنكم غير متروكين من الإنذار متى كنتم قوما مسرفين (٥). وهذا أراد أبو البقاء بقوله : وقرىء : إن بكسرها على الشرط وما تقدم يدل على الجواب (٦) ، والباقون بالفتح على العلة ، أي لأن كنتم كقوله :

٤٣٩٠ ـ أتجزع أن بان الخليط المودّع

 ......... (٧)

ومثله قوله :

٤٣٩١ ـ أتجزع أن أذنا قتيبة جزّتا

 ......... (٨)

__________________

(١) ذكره مكي في الكشف ٢ / ٢٥٥ وهي سبعية وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٤٧٨.

(٢) في الكشاف : عن المدلّ بصحة الأمر المتحقق لثبوته.

(٣) وفيه : ان تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له.

وانظر الكشاف ٣ / ٤٧٨.

(٤) واللفظ لشهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٧٧٣ نقلا بالمعنى عن الزمخشري.

(٥) المرجع السابق.

(٦) التبيان ١١٣٧ وقد قرأ بالكسر أيضا مع نافع وحمزة الكسائي والأعمش ، وانظر الكشف لمكي ٢ / ١٥٥. ومعاني القرآن للفراء ٣ / ٢٧ والإتحاف ٣٨٤ ، والسبعة ٥٨٤.

(٧) صدر بيت من الطويل ، ولم أعرف قائله وعجزه :

 .............

وحبل الصّفا من عزّة المتقطّع

والخليط : القوم الذين أمرهم واحد ، والشاهد : ورود البيت بكسر الهمزة وفتحها فالفتح على تقدير حرف العلة ، أي لأن ، والكسر على الشرط وتقدير الفتح : أتجزع لبين الخليط ، وقد أوضح الزمخشري قبل كسر الهمزة على الشرطية وانظر معاني الفراء ٢ / ١٣٤ و ٣ / ٢٨ ، والخزانة ٩ / ٨٠ والدر المصون ٤ / ٧٧٣.

(٨) من الطويل كسابقه وهو للفرزدق في هجاء جرير ، ومدح سليمان بن عبد عبد الملك وعجزه :

 ..........

جهارا ولم تجزع لقتل ابن خازم

وقتيبة هو ابن مسلم الباهلي القائد المشهور ، وابن خازم أمير خراسان ، وحزّتا : قطعتا. ويروى البيت أتغضب بدل : أتجزع ، والمعنى واحد وشاهده كسابقه ورود البيت بالكسر والفتح ، فالفتح على تقدير حرف الجر وهو لام العلة والكسر على الشرط كما أجاب عن ذلك الزمخشري والكسر فيه وفي البيت قبله وارد كورود الفتح ، وهنا في البيت يقدر فعل دل عليه حزّ ، كقوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ـ

٢٣١

يروى بالكسر والفتح ، وقد تقدم نحو من هذا أول المائدة. وقرأ زيد بن عليّ : إذا ـ بذال عوض النون (١) وفيها معنى العلة ، كقوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٣٩].

فصل

قال الفراء (٢) والزجاج (٣) : يقال : ضربت عنه وأضربت عنه. أي تركته ومسكت عنه ، وقوله : «صفحا» أي إعراضا ، والأصل فيه : أنك تولّيت (٤) بصفحة عنقك. والمراد بالذكر عذاب الله. وقيل : أفنردّ عنكم النصائح والمواعظ والأعذار بسبب كونكم مسرفين ، وقيل : أفنردّ عنكم القرآن (٥) ، وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار ، والمعنى : أفنترك عنكم الوحي ، ونمسك عن إنزال القرآن ، فلا نأمركم ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان؟ وهذا قول قتادة وجماعة ، قال قتادة : والله لو كان هذا القول (٥) رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله.

وقيل : معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين معرضين (٦). وقال الكسائي : أفنطوي عنكم الذّكر طيّا ، فلا تدعون ولا توعظون (٧) ، وقال الكلبي : أفنترككم سدى ، لا نأمركم ولا ننهاكم (٨). وقال مجاهد والسدي : أفنعرض عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم(٩).

قوله تعالى : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا

__________________

ـ وانظر الكتاب ٣ / ١٦١ ومعاني الفراء ٣ / ٢٧ ، والخزانة ٩ / ٧٨ ، ٨٦ والهمع ٢ / ١٩ والمغني ٢٦ و ٣٥ و ٣٦ وشرح الشواهد ٨٦ ، والدر المصون ٣ / ٧٧٣ وديوانه ٢ / ٣١١.

(١) البحر المحيط ٨ / ٦.

(٢) انظر معاني القرآن للفراء ٣ / ٢٨.

(٣) معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٤٠٥.

(٤) في الرازي والنسختين تولية.

(٥) الرازي ٢٧ / ١٩٣ ، ١٩٤ والقرطبي ١٦ / ٦٢.

(٥) الرازي ٢٧ / ١٩٣ ، ١٩٤ والقرطبي ١٦ / ٦٢.

(٦) الكشاف ٣ / ٤٧٨.

(٧) القرطبي ١٦ / ٦٢.

(٨) ونسب الرأي للسدي انظر السابق.

(٩) السابق أيضا.

٢٣٢

سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ)(١٤)

قوله : (وَكَمْ أَرْسَلْنا) «كم» خبرية مفعول مقدم ، و (مِنْ نَبِيٍّ) تمييز و (فِي الْأَوَّلِينَ) يتعلق بالإرسال أو بمحذوف على أنه صفة «لنبيّ» والمعنى : أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء ، فلا ينبغي أن يتأذّى بسبب تكذيبهم ، واستهزائهم ، لأن المصيبة إذا عمت خفت.

ثم قال : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي إن أولئك المتقدمين الذين أرسل إليهم الرسل ، كانوا أشدّ بطشا من قريش وأكثر عددا وجلدا.

قوله «بطشا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه تمييز «لأشد» والثاني : أنه حال من الفاعل أي أهلكناهم باطشين (١).

قوله : (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) والمعنى أن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم الخزي مثل أنزل بالأولين (٢). أي صفتهم وسنتهم وعقوبتهم ، فعاقبة هؤلاء كذلك في الإهلاك.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) الآية والمعنى : ولئن سألت قومك من خلق السماوات والأرض؟ وقيل : الضمير في «سألتهم» يحتمل رجوعه إلى الأنبياء. والأقرب الأول ، أي أنهم مع كفرهم مقرين بعزته ، وعلمه ، ثم عبدوا غيره ، وأنكروا قدرته على البعث ، لفرط جهلهم (٣).

قوله : (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) كرر الفعل للتوكيد ؛ إذ لو جاء «العزيز» بغير «خلقهن» لكان كافيا ، كقولك : من قام؟ فيقال : زيد. وفيها دليل على أن الجلالة الكريمة من قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٤) [الزخرف : ٨٧] مرفوعة بالفاعلية ، لا بالابتداء للتصريح بالفعل في نظيرتها.

وهذا الجواب مطابق للسؤال من حيث المعنى ، إذ لو جاء على اللفظ لجيء فيه بجملة ابتدائية كالسؤال.

قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً)(٥) اعلم أنه قد تم الإخبار عنهم ، ثم ابتدأ

__________________

(١) نقل هذه الإعرابات كلها أبو البقاء في التبيان ١١٣٧ ، والسمين في الدر المصون بتفصيل نقلا عنه ٤ / ٧٧٣.

(٢) قال بهذه المعاني الرازي في تفسيره ٢٧ / ١٩٥.

(٣) انظر الرازي ٢٧ / ١٩٦ و ١٩٥ بالمعنى منه.

(٤) انظر هذا في الأشباه والنظائر للإمام السيوطي ٢ / ٥٠ ، والدر المصون للإمام السمين الحلبي ٤ / ٧٧٣.

(٥) في النسختين مهادا وما ذكرته موافق للمصحف والمعهود منه.

٢٣٣

دالا على نفسه بذكر مصنوعاته فقال : «الّذي جعل لكم الأرض مهادا» ولو كان هذا من جملة كلام الكفار لقالوا : الذي جعل لنا الأرض مهادا ، إلا أن قوله في أثناء الكلام : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) لا يليق إلا بكلامه.

ونظيره من كلام الناس أن يسمع الرجل رجلا يقول : الذي بنى هذا المسجد فلان العالم فيقول السّامع لهذا الكلام : الزاهد الكريم ، كأن ذلك السامع يقول : أنا أعرفه بصفات حميدة فوق ما تعرفه فأزيد في وصفه ، فيكون النعتان جميعا من رجلين لرجل واحد (١).

ومعنى كون الأرض مهادا واقعة ساكنة ، فإنها لو كانت متحركة لما أمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية ، وستر عيوب الأحياء والأموات ، ولأن المهد موضع راحة الصبي. فكانت الأرض مهادا لكثرة ما فيها من الراحات (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) وذلك أن انتفاع الناس بها إنما يكمل إذا سعوا في أقطار الأرض ، فهيأ تعالى تلك السبل ووضع عليها علامات ، ليحصل بها الانتفاع (٢). ثم قال : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى مقاصدكم في أسفاركم ، أو لتهتدوا إلى الحق في الدّين (٣).

قوله تعالى : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) أي بقدر حاجتكم إليه من غير زيادة ولا نقصان ، لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم (٤).

قوله : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) قرأ العامة مخفّفا ، وعيسى (٥) وأبو جعفر (٦) مثقّلا ، وتقدم الكلام فيه في آل عمران (٧). وتقدم في الأعراف الخلاف في تخرجون وتخرجون (٨) أي كما أحيينا هذه البلدة بالمطر ، ومعنى الميتة الخالية من النبات ، كذلك تخرجون من قبوركم أحياء. والمعنى أن هذا الدليل كما دل على قدرة الله تعالى وحكمته ، فكذلك يدل على قدرته على المبعث والقيامة.

ووجه التشبيه أنه جعلهم أحياء بعد إماتة كهذه الأرض التي انتشرت بعدما كانت ميتة.

__________________

(١) نقله الرازي في تفسيره ٢٧ / ١٩٦.

(٢ و ٣) الرازي في تفسيره ٢٧ / ١٩٦.

(٢ و ٣) الرازي في تفسيره ٢٧ / ١٩٦.

(٤) المرجع السابق.

(٥) المراد به الثقفي ـ كما تقدم ـ عند الإطلاق.

(٦) أحد العشرة.

(٧) عند قوله : «وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ» ٢٧ ، وقد روى حفص عن عاصم التشديد في كل ما ورد في القرآن من هذا الحرف ، وقرأ بالتخفيف ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر ، وأبو عمرو وابن عامر ، وبالتثقيل قرأ نافع وحمزة والكسائي ، انظر السبعة ٢٠٣ ، والإتحاف ١٧٢.

(٨) يقصد الآية ٢٠ ومنها تخرجون فعلى البناء للفاعل قرأ حمزة وخلف والكسائي في الأعراف وفي الزخرف ، وفي البناء للمجهول قرأ الباقون وانظر الإتحاف ٢٢٣ ، والسبعة ٥٨٤ ، والبحر ٨ / ٧.

٢٣٤

قيل : بل وجه التشبيه أنه يعيدهم ويخرجهم من الأرض بماء كالمني كما تنبت الأرض بماء المطر ، وهذا ضعيف ؛ لأن ظاهر لفظ الإنشار الإعادة فقط دون هذه الزيادة.

قوله تعالى : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ،) قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى.

وقال بعض المحققين : كل ما سوى الله فهو زوج ، كالفوق ، والتّحت ، واليمين ، واليسار ، والقدّام والخلف ، والماضي ، والمستقبل ، والذّوات والصّفات ، والصيف ، والشّتاء ، والربيع والخريف. وكونها أزواجا يدل على أنها ممكنة الوجود في ذواتها محدثة مسبوقة بالعدم ، فأما الحق تعالى فهو المفرد المنزه عن الضّدّ والنّدّ ، والمقابل ، والمعاضد ، فلهذا قال تعالى : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي كل ما هو زوج فهو مخلوق ، فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزه عن الزوجية.

قال ابن الخطيب : وأيضا علماء الحساب بينوا أن المفرد (١) أفضل من الزوج لوجوه :

الأول : أن الاثنين لا توجد إلا عند حصول وحدتين ، فالزوج محتاج (٢) إلى الفرد ، والفرد هو الواحدة وهي غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج.

الثاني : أن الزوج يقبل القسمة بقسمين متساويين والفرد لا يقبل القسمة ، وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة ، فكان الفرد أفضل من الزوج.

(ثم ذكر وجوها (٣) أخر (٤) تدل على أن الفرد أفضل من الزوج) وإذا كان كذلك ثبت أن الأزواج ممكنات ومحدثات ومخلوقات وأن الفرد هو القائم بذاته المستقلّ بنفسه ، الغني عمّا سواه.

قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) ما موصولة وعائدها محذوف ، أي ما تركبونه ، وركب بالنسبة (إِلَى الْفُلْكِ)(٥) يتعدى بحرف الجر : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) [العنكبوت : ٦٥] وفي غيره بنفسه ، قال : (لِتَرْكَبُوها) [النحل : ٨] فغلب هنا المتعدي بنفسه على المتعدي بواسطة ، فلذلك حذف العائد (٦).

__________________

(١) كذا هي في أهنا وما في الرازي وب الفرد.

(٢) في الرازي : يحتاج.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٤) انظرها في تفسيره ٢٧ / ١٩٧ و ١٩٨ وانظر كل ما سبق في التفسير ٢٧ / ١٩٧ و ١٩٨.

(٥) سقط من ب.

(٦) قاله في الكشاف معنى ٣ / ٤٧٩ ، وفي الدر المصون لفظا ٤ / ٤٧٤.

٢٣٥

فصل

السّفر إما أن يكون في البحر ، وإما أن يكون في البرّ ، فأما سفر البحر فعلى السفينة ، وأما سفر البر فعلى الأنعام.

فإن قيل : لم لم يقل على ظهورها؟

فالجواب من وجوه :

الأول : قال أبو عبيدة التذكير لقوله (١) : (ما تَرْكَبُونَ)(٢) والتقدير : ما تركبونه ، فالضمير يعود على لفظ «ما» فلذلك أفرده.

الثاني : قال الفراء : أضاف الظهر إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزلة الجنس ، فلذلك ذكّره ، وجمع الظهور باعتبار معناها (٣).

الثالث : أن التأنيث فيها ليس حقيقيا ، فجاز أن يختلف اللفظ فيه ، كما يقال : عندي من النّساء من يوافقك (٤).

قوله : «لتستووا» يجوز أن تكون هذه لام العلة ، وهو الظاهر (٥) وأن تكون للصيرورة فتتعلق في كليهما ب «جعل» (٦). وجوز ابن عطية : أن تكون للأمر (٧) ، وفيه بعد ، لقلة دخولها على أمر المخاطب.

وقرىء شاذا : فلتفرحوا (٨) وفي الحديث : «لتأخذوا مصافّكم» (٩) وقال :

٤٣٩٢ ـ لتقم أنت يا ابن خير قريش

فتقضي حوائج المسلمينا (١٠)

__________________

(١) في ب بقوله.

(٢) نقله في مجاز القرآن ٢ / ٢٠٢.

(٣) ينظر معاني القرآن له ٣ / ٢٨ و ٢٩.

(٤) قاله الرازي في تفسيره الكبير ٢٧ / ١٩٨ ، ١٩٩.

(٥) وهو رأي أبي حيان المفضل ، البحر ٨ / ٧.

(٦) نقله أبو حيان عن الحوفيّ في المرجع السابق.

(٧) المرجع السابق.

(٨) ذكر ابن خالويه في مختصره (٥٧) أنها عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعن الكسائيّ في رواية زكريا بن وردان.

(٩) سيف هذا الحديث.

(١٠) من الخفيف ولم أعرف قائله من خلال ما قلبت من مراجع ، ويروى : فتقضى ـ بالبناء للمفعول ـ كما يروى : فلتقضي ـ بلام الأمر ـ ويكون حينئذ فيه شاهدان فالشاهد : مجيء لام الأمر داخلة على المضارع المبدوء بالتاء وهو في الشعر أكثر منه في النثر. وقوله فلتقضي تكون الياء إشباعا عن حركة الكسرة ، وانظر البيت في الخزانة ٩ / ١٤ والإنصاف المسألة رقم ٧٢ / ٥٢٤ إلى ٥٣٨. وقد احتج به الكوفيون على أن فعل الأمر معرب لا مبني ، وهو من الشواذ والقلة عند النحويين ، لأن لام الأمر لا تدخل على أمر المخاطب والأكثر الاستغناء عنه هذا الفعل الأمر. وانظر كذلك شرح الكافية ٢ / ٢٥٢ وابن يعيش ٧ / ٦١ وشرح الأشموني ٤ / ٣ والتصريح ١ / ٥٥ و ٢ / ٢٤٦.

٢٣٦

نص النحويون على قلتها عدا أبا القاسم الزّجّاجيّ (١) ، فإنه جعلها لغة (٢) جيدة (٣).

قوله : (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي تذكرونها في قلوبكم ، وذلك الذكر هو أن يعرف أن الله تعالى خلق البحر وخلق الرياح ، وخلق جرم السفينة على وجه يمكن الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء ، فإذا تذكر أن خلق البحر ، وخلق الرياح ، وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصرف الإنسان ولتحريكاته ، إنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير ، عرف أن ذلك نعمة من الله تعالى ، فيحمله ذلك على الانقياد لطاعة الله تعالى ، وعلى الاشتغال بالشكر ، لنعم الله التي نهاية لها.

قوله : (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) مطيقين (٤) وقيل : ضابطين (٥).

واعلم أنه تعالى عين ذكرا لركوب السفينة والدابة ، وهو قوله : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) وذكر عند دخول المنازل : (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [المؤمنون : ٢٩] وتحقيقة أن الدابة المركوبة لا بدّ أن تكون أكثر قوة من الإنسان بكثير ، وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان ، ولكنه تعالى خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر ، وخلقها الباطن ، فحصل منها هذا الانتفاع. أما خلقها الظاهر ، فلأنها تمشي على أربع ، وكان ظهرها يحسن لاستقرار الإنسان وأما خلقها الباطن فلأنها مع قوتها الشديدة قد صيّرها الله تعالى منقادة للإنسان ، ومسخّرة له ، فإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب عظم تعجبه من تلك القدرة ، والحكمة التي لا نهاية لها ، فلا بدّ وأن يقول : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين(٦).

قوله : «(له) (٧) مقرنين» ، «له» متعلق «بمقرنين» ، وقدم للفواصل. والمقرن : المطيق للشيء الضابط له من : أقرنه : أي أطاقه. قال الواحدي : كأن اشتقاقه من قولك : صرت له قرنا ، ومعنى قرن فلان ، أي مثله في الشّدة (٨).

وقال أبو عبيدة : قرن لفلان أي ضابط له (٩). والقرن الحبل (١٠) ، وقال ابن هرمة :

__________________

(١) عبد الرحمن بن إسحاق ، أخذ عن ابن السراج ، ولازم الزجاج فنسب إليه وله من الكتب كتاب «الجمل» مات سنة ٣٣٧ وانظر نزهة الأولياء ٢٠٤ و ٢٠٥.

(٢) في (ب) آفة وهو تحريف.

(٣) انظر الدر المصون ٤ / ٧٧٥.

(٤) وهو قول ابن عباس والكلبي انظر القرطبي ١٦ / ٦٦.

(٥) وهو رأي الأخفش وأبي عبيدة ، انظر تفسير القرطبي ١٦ / ٦٦ والمجاز ٢ / ٢٠٢.

(٦) انظر تفسير الإمام الرازي ٢٧ / ١٩٨ و ١٩٩.

(٧) سقط من (ب.

(٨) وهذا رأي ابن سيده في المخصص «قرن» وابن منظور في اللسان ٣٦١٣.

(٩) مجاز القرآن ٢ / ٢٠٢.

(١٠) اللسان المرجع السابق ٣٦١١.

٢٣٧

٤٣٩٣ ـ وأقرنت ما حمّلتني ولقلّما

يطاق احتمال الصّدّ يا دعد والهجر (١)

وقال عمرو بن معد يكرب :

٤٣٩٤ ـ لقد علم القبائل ما عقيل

لنا في النّائبات بمقرنينا (٢)

وحقيقة أقرنه : وجده قرينه ؛ لأن القوي لا يكون قرينه الضعيف (٣) ، قال (ـ رحمه‌الله ـ)(٤):

٤٣٩٥ ـ وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس (٥)

وقرىء : مقترنين بالتاء قبل الراء (٦).

فصل

ومعنى الآية ليس عندنا من القوة والطاعة أن نقرن هذه الدابة والفلك ، وأن نضبطها فسبحان من سخّر لنا هذا بقدرته وحكمته (٧) ، روى الزمخشريّ عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه كان إذا وضع رجله في الركاب ، قال : بسم الله ، فإذا استوى على الدّابّة قال : الحمد لله على كل حال ، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون (٨).

وروى عن عليّ أيضا مثله وزاد : ثم حمّد ثلاثا ، وكبّر ثلاثا ، ثم قال : لا إله إلا الله ظلمات نفسي فاغفر لي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، ثم ضحك ، فقيل : مما تضحك يا أمير المؤمنين؟ قال : رأيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فعل ما فعلت ، فقلنا : ما يضحكك يا نبيّ

__________________

(١) من الطويل ومعناه إنني أطقت احتمال هجرك وصدّك عني يا دعد.

والشاهد : أقرنت بمعنى أطقت واستطعت ، انظر الدر المصون ٤ / ٧٧٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٧ ، والكشاف ٣ / ٤٨٠ ، وشرح شواهده ٤٢١ ، وليس في ديوانه.

(٢) من الوافر له وليس في ديوانه أيضا كسابقه.

وشاهده : «بمقرنينا» أي بمطيقين ، وانظر القرطبي في الجامع ١٧ / ٦٦ والبحر ٨ / ٧ ، والدر المصون ٤ / ٧٧٥.

(٣) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٤٨٠ فقد قال : «وحقيقة أقرنه وحده قرينته وما يقرن به لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف».

(٤) ساقط من ب.

(٥) من البسيط ولم أعرف قائله. وشاهده أن القرن هو الحبل ، وأن «أقرنه» المتعدي بهمزة لا يكون إلا بين متساويين كما أوضح أعلى قبل ولزه شده من لزّه يلزّه لزّا ولزازا أي شده وألصقه. والبزل جمع أبزل وبازل وهو الشق وذلك أن نابه ـ أي البعير ـ إذا طلع يقال له بازل لشقه اللحم عن منبته شقا.

(٦) قراء شاذة غير متواترة ذكرها أبو حيان في بحره ٨ / ٧ إلا أنه ذكرها باللام. وقرىء المقترنين اسم فاعل من اقترن وانظر كذلك الكشاف ٣ / ٤٨٠.

(٧) الرازي ٢٧ / ١٩٩.

(٨) الكشاف ٣ / ٤٧٩ و ٤٨٠.

٢٣٨

الله؟ قال : العبد إذا قال لا إله إلا أنت ظلمات نفسي فاغفر لي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو (١).

فصل

دلت هذه الآية على خلاف قول المجبّرة من وجوه :

الأول : أنه تعالى قال : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) فذكره بلام «كي» وهذا يدل على أنه أراد منا هذا الفعل وهذا يدل على باطلان قولهم : إنه تعالى أراد الكفر منه.

الثاني : قوله «لتستووا» يدل على أن فعله معلّل بالأغراض.

الثالث : أنه تعالى بين أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر عن العبد ولو كان فعل العبد فعلا لله لكان معنى الآية إني خلقت هذه الحيوانات على هذه الطبائع لأجل أن (٢) أخلق سبحان الله في لسان العبد. وهذا باطل ؛ لأنه تعالى قادر على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوسائط (٣).

قال ابن الخطيب : «الكلام على هذه الوجوه معلوم مما تقدم فلا فائدة في الإعادة» (٤).

قوله : (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي لمصيّرون في المعاد (٥). ووجه اتصال الكلام بما قبله أن راكب الفلك في خطر الهلاك وراكب الدابة كذلك أيضا ؛ لأن الدابة قد يحصل لها ما يوجب هلاك الراكب ، وكذا السفينة قد تنكسر ، ففي ركوبهما تعريض النفس للهلاك فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت ، ويقطع أنه هالك ، وأنه منقلب إلى الله ، وغير منقلب من قضائه وقدره ، فإذا اتفق له ذلك (المحذور) (٦) كان قد وطن نفسه على الموت (٧).

قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)(١٧) (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ

__________________

(١) رواه علي بن أبي ربيعة عن علي بن أبي طالب انظر القرطبي ١٦ / ٦٨.

(٢) في ب أني وما ذكر أعلى كما قاله الإمام الرازي في التفسير الكبير.

(٣) انظر تفسير الرازي ٢٧ / ١٩٩ وقد نقله عن صاحب الكشاف ولم أعثر عليه فيه.

(٤) المرجع السابق.

(٥) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٤٠٦.

(٦) زيادة من الرازي لتوضيح السياق.

(٧) الرازي ٢٧ / ٢٢٠.

٢٣٩

(١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(٢٣)

قوله : «جزءا» قرأ عاصم ـ في رواية أبي بكر ـ جزءا ـ بضم الجيم والزّاي ، في كل القرآن (١) ، والباقون بإسكان الزاي في كلّ القرآن. وهما لغتان.

وأما حمزة فإذا وقف قال : جزا ـ بفتح الزاي بلا همز (٢). و «جزءا» مفعول أول للجعل والجعل تصيير قولي. ويجوز أن يكون بمعنى سمّوا واعتقدوا.

وأغرب ما قيل هنا : أن الجزء الأنثى ، وأنشدوا :

٤٣٩٦ ـ إن أجزأت حرّة يوما فلا عجب

قد تجزىء الحرّة المذكار أحيانا (٣)

وقال الآخر :

٤٣٩٧ ـ زوّجته من بنات الأوس مجزئة

للعوسج اللّدن في أبياتها زجل (٤)

قال الزمخشري : أثر الصنعة فيهما ظاهر (٥).

وقال الزّجّاج والأزهريّ : هذه اللغة فاسدة ، وهذه الأبيات مصنوعة (٦).

__________________

(١) ليست من المتواتر بل هي من الأربع فوق العشرة. انظر الإتحاف ٣٨٥ والرازي ٢٧ / ٢٢٠.

(٢) انظر السابقين.

(٣) من البسيط ولم أهتد إلى قائله.

وشاهده : أن أجزأت وتجزىء بمعنى تلد الإناث وهو معنى غريب نقل ، ولم يرتضه أولو العلم الخلّص فقد قال الزجاج : أنشدني بعض أهل اللغة بيتا يدل على أن معنى جزء معنى الإناث ، ولا أدري البيت قديم أم مصنوع ، ثم قال كذلك صاحب اللسان انظر معاني الزجاج ٤ / ٤٠٧ والدر المصون ٤ / ٧٧٥ ، وغريب القرآن ٣٩٦ وتفسير غريب القرآن للسجستاني ٢٢٤ والكشاف ٣ / ٤٨١ وشرح شواهده ٥٥٨ ، ومجمع البيان ٩ / ٦٤ والبحر المحيط ٨ / ٨.

(٤) البيت صدره فقط في القرطبي ١٦ / ٦٩ ، والبحر ٨ / ٨ وبتمامه في اللسان جزأ ٦١٣ وغريب القرآن ٣٩٦ ، إلا أن الرواية التي ذكرها المؤلف تبعا للسمين ٤ / ٧٧٦ وفي اللسان وبقية المراجع : زوجتها وهو من البسيط وقد أنشده أبو حنيفة الدينوري كما قال صاحب اللسان.

والشاهد : مجزئة : أي تلد الإناث ومعنى البيت أنها امرأة غزالة بمغازل سوّيت من شجر العوسج ، وانظر المراجع السابقة والكشاف ٣ / ٤٨١ ، وشرح شواهده ٥٠١.

(٥) قال : «ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث ، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث وما هو إلا كذب على العرب ، ووضع مستحدث منحول».

(٦) قال الزجاج ٤ / ٤٠٧ في معاني القرآن : «ولا أدري البيت قديم أم مصنوع» ، وانظر تهذيب الأزهري جزأ.

٢٤٠