اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

الذنوب ، بل حصول المصائب (للصالحين) (١) والمتقين أكثر منه للمذنبين ، ولهذا قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «خصّ البلاء بالأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل» (٢).

الثالث : أن الدنيا دار تكليف ، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار تكليف ودار جزاء معا وهو محال. وقال آخرون : هذه المصائب قد تكون أجزية على ذنوب متقدمة لهذه الآية ، ولما روى الحسن قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «والّذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلّا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر» (٣).

قال علي بن أبي طالب : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدّثنا بها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (قال) (٤) : وسأفسّرها لك يا عليّ ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدّنيا فبما كسبت أيديكم والله عزوجل أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة ، وما عفا الله عنه في الدّنيا ، فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه (٥). وتمسكوا أيضا بقوله تعالى بعد هذه الآية : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) وذلك تصريح بأن ذلك الاهلاك بسبب كسبهم. وأجاب الأولون بأن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف ، لا من باب العقوبات ، كما في حق الأنبياء والأولياء. ويحمل قوله : «بما (كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم (٦).

فصل

هذه الآية تقتضي إضافة الكسب إلى اليد ، والكسب لا يكون باليد بل بالقدرة القائمة باليد فوجب أن يكون المراد من لفظ اليد هاهنا القدرة ، وإذا كان هذا المجاز (٧) مشهورا مستعملا كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيها لله تعالى عن (٨) الأعضاء.

قوله : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي قد يترك الكثير بفضله ورحمته قال الواحدي ـ بعد أن روى حديث عليّ المتقدم ـ : وهذه أرجى آية في كتاب الله ؛ لأن الله تعالى جعل ذنوب

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ابن كثير : «أشدّ النّاس بلاء الأنبياء ثم الصالحون» ٣ / ٤٠٤ بدون سند.

(٣) رواه ابن أبي حاتم عن الحسن انظر المرجع السابق ٤ / ١١٦ والكشاف ٣ / ٤٧١.

(٤) سقط من ب.

(٥) نقله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ١٢٦.

(٦) قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٧ / ١٧٢ ، ١٧٣.

(٧) فهو مجاز مرسل علاقته السببية كقوله تعالى : «يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ».

(٨) في ب «من». وانظر الرازي السابق.

٢٠١

المؤمنين صنفين ، صنف كفّر عنهم بالمصائب ، وصنف عفا عنه في الدنيا ، وهو كرم لا يرجع في عفوه فهذه سنة الله مع المؤمنين. وأما الكافر ، فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي (ربّه) (١) يوم القيامة (٢).

ثم قال : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي بفائتين (فِي الْأَرْضِ) هربا ، أي لا تعجزونني حيث ما كنتم ولا تسبقوني (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) والمراد به من يعبد الأصنام ، بين أنه لا فائدة فيها ألبتة بل النّصير هو الله تعالى ، فلا جرم هو الذي يحسن عبادته(٣).

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)(٣٥)

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) قرأ نافع وأبو عمرو «الجواري» بياء في الوصل (٤). وأما الوقف فإثباتها على الأصل وحذفها للتخفيف ، وهي السفن ، وأحدثها جارية ، وهي السائرة في البحر.

فإن قيل : الصفة متى لم تكن خاصة بموصوفها امتنع حذف الموصوف ، لا تقول : مررت بماش ؛ لأن المشي عامّ ، وتقول : مررت بمهندس وكاتب ، والجري ليس من الصفات الخاصة فما وجه ذلك؟

فالجواب : أن قوله : (فِي الْبَحْرِ) قرينة دالة على الموصوف ، ويجوز أن تكون هذه صفة غالبة كالأبطح (٥) والأبرق (٦) ، فوليت العوامل دون موصوفها (٧). و (فِي الْبَحْرِ) متعلق «بالجواري» ، إذا لم يجر مجرى الجوامد ، فإن جرى مجراه كان حالا منه (٨) ، وكذا قوله : «كالأعلام» وهي الجبال قالت الخنساء :

٤٣٨٣ ـ وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار (٩)

__________________

(١) لفظ ربه سقط من ب.

(٢) انظر البسيط للإمام الواحدي ميكروفيلم ، والرازي ٢٧ / ١٧٣.

(٣) السابق.

(٤) في النسختين وأما الوقف ، وفي ب فإثباتها ووجدت الوصل والوقف في الرازي ٢٧ / ١٧٤ وفي السبعة غير ذلك. قال ابن مجاهد : قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بياء في الوصل. انظر السبعة ٥٨١ والإتحاف ٣٨٣.

(٥) هو مسيل الوادي لا نبت فيه.

(٦) كل ما فيه سواد وبياض وغلب على الجبل ومن هنا ساغ حذف الموصوف فقد استعملا استعمال الأسماء انظر اللسان بطح وبرق ٢٦٢ و ٢٩٩.

(٧) الدر المصون ٤ / ٧٥٧.

(٨) انظر التبيان ١١٣٤.

(٩) من تمام البسيط في رثاء أخيها صخر ، وشاهده : علم في رأسه فهو بمعنى الجبل مفرقا لأعلام. وانظر ـ

٢٠٢

روي : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ استنشد (ب) (١) قصيدتها هذه ، فلما وصل (الراوي) (٢) (إلى) (٣) هذا البيت قال : قاتلها الله ما رضيت تشبيهه (٤) بالجبل حتّى جعلت في رأسه نارا (٥).

وقال مجاهد : الأعلام القصور ، واحدها علم. وقال الخليل بن أحمد : كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم وسمع : هذه الجوار ، وركبت الجوار ، وفي الجوار ، بالإعراب على الراء تناسيا للمحذوف (٦) ، وتقدم هذا في قوله تعالى : (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١].

فصل

اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أمران :

أحدهما : أن يستدل به على وجود الإله القادر الحكيم.

الثاني : أن يعرف ما فيه من النّعم العظيمة لله تعالى على العباد ، وأما وجه الأول فإن هذه السفن العظيمة التي كالجبال تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح على أسرع الوجوه وعند سكون الرياح (تقف) (٧) وقد تقدم في سورة النحل أن محرّك الرياح ومسكّنها هو الله (سبحانه و) (٨) تعالى ؛ إذ لا يقدر أحد من البشر على تحريكها ولا على تسكينها ، وذلك يدل على وجود الإله القادر مع أن تلك السفينة في غاية الثقل ومع ثقلها بقيت على وجه الماء أيضا. وأما دلالتها على النعم العظيمة ، وهو ما فيها من المنافع فإنه تعالى خص كل جانب من الأرض بنوع من الأمتعة ، فإذا نقل متاع هذا الجانب إلى الجانب الآخر في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة بالتجارة ، فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفن (٩).

قوله : (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) التي تجري بها «فيظللن رواكد» قرأ أبو عمرو والجمهور بهمزة : «إن يشأ» لأن السكون علامة الجزم ، وورش عن نافع بلا همز (١٠) وقرأ نافع «يسكن (١١) الرّياح» على الجمع والباقون «الريح» على التوحيد (١٢).

وقوله : «فيظللن» العامة على فتح اللام التي هي عين الكلمة وهو القياس ؛ لأن

__________________

ـ الدر المصون ٤ / ٧٥٧ والجامع للقرطبي ١٦ / ٣٢ ، ولسان العرب علم ٣٠٨٤ و ٣٠٨٥ وديوانها ٤٩.

(١) الباء زيادة من ب.

(٢) زيادة من أ.

(٣) زيادة من ب.

(٤) في ب تشبّهه.

(٥) قاله الألوسيّ في روح المعاني ٢٥ / ٤٢.

(٦) من الياء.

(٧) سقطت من ب.

(٨) كذلك.

(٩) الرازي ٢٧ / ١٧٥.

(١٠) لم أجدها في كتب المتواتر ولا الشواذ وقد نقلها الرازي ٢٧ / ١٧٥.

(١١) في ب بسكون خطأ.

(١٢) وانظر الإتحاف ٣٨٣.

٢٠٣

الماضي بكسرها ، تقول (١) ظللت قائما. وقرأ قتادة بكسرها (٢) وهو شاذ ، نحو : حسب يحسب وأخواته وقد تقدمت آخر البقرة (٣).

وقال الزمخشري : قرىء بفتح اللام وكسرها من ظلّ يظل ويظل ، نحو : ضلّ يضلّ (٤) ويضلّ. قال أبو حيان : وليس كما ذكر ؛ لأن يضلّ بفتح العين من ضللت بكسرها في الماضي ويضلّ بالكسر من ضللت بالفتح وكلاهما مقيس (٥) يعني أن كلا منهما له أصل يرجع إليه بخلاف «ظلّ» فإن ماضيه مكسور العين فقط.

والنون اسمها ، و «رواكد» خبرها ويجوز : أن يكون «ظل» هنا بمعنى صار ؛ لأن المعنى ليس على وقت الظلول ، وهو النهار فقط وهو نظير : أين باتت يده (٦) ، من هذه الحيثية. والرّكود والثّبوت الاستقرار قال :

٤٣٨٤ ـ وقد ركدت وسط السّماء نجومها

ركودا بوادي الرّبرب المتفرّق (٧)

والمعنى فيظللن رواكد أي ثوابت على ظهر البحر ، لا تجري (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على بلاء الله «شكور» على نعمائه.

قوله : «أو يوبقهنّ» عطف على «يسكن» قال الزمخشري : لأن المعنى : إن يشأ يسكن فيركدن ، أو يعصفها فيغرقن (٨) بعصفها ، قال أبو حيان : ولا يتعين أن يكون التقدير : أو يعصفها فيغرقن لأن إهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح ، بل قد يهلكها بقلع لوح أو خسف (٩).

قال شهاب الدين : والزّمخشريّ لم يذكر أن ذلك متعين ، وإنما ذكر شيئا مناسبا ؛ لأن قوله: يسكن الرياح يقابله «يعصفها» فهو في غاية الحسن والطّباق (١٠).

__________________

(١) مكررة في ب.

(٢) من القراءة الشاذة التي لم يجزها أبو الفتح قال : هذه القراءة على ظللت أظلّ ، كفررت أفرّ والمشهور فيها : فعلت أفعل ، وأما ظللت أظلّ فلم يمر بنا ، لكن قد مر نحو : ضللت أضلّ وضللت أضلّ.

المحتسب ٢ / ٢٥٢ وأبان أبو الفتح أنها لغة.

(٣) فعل قياس مضارعه يفعل بفتح العين وجاء بكسرها وجوبا في مضارع ومق ، ووثق ، ووفق ، وولي ، وورث ، وورع ، وورم ، ووري الخ ، ووعم ، وبكسرها جوازا مع الفتح في مضارع حسب ، ونعم ، ويئس ، وبئس ، ووعر ، ووحر ، ووله ، ووهل ، وولع ، ووزع ، ووسق ، ووحب ، وولغ. (المزهر ٢ / ٣٧ و ٣٨).

(٤) الكشاف ٣ / ٤٧٠.

(٥) البحر المحيط ٧ / ٥٢٠.

(٦) جزء من حديث رواه أبو هريرة عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واستشهد بالحديث بأن «بات» ليست للدلالة على حال البيات ، وإنما على مطلق المكث وانظر الحديث في صحيح البخاري ١ / ٤٢.

(٧) من الطويل وهو مجهول قائله. والرّبرب : قطيع البقر والظباء. والشاهد : ركدت .. ركودا ، فإن الركود بمعنى الثبوت والاستقرار. وانظر البحر المحيط ٧ / ٥٠٧ والدر المصون ٤ / ٧٥٨.

(٨) الكشاف ٣ / ٤٧١.

(٩) بالمعنى من البحر ٧ / ٥٢١.

(١٠) بالمعنى من البحر ٤ / ٧٥٨.

٢٠٤

فصل

معنى «يوبقهنّ» يهلكهنّ ويغرقهن (بِما كَسَبُوا) أي بما كسبت ركابها من الذنوب (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) من ذنوبهم فلا يعاقب عليها (١). يقال : أوبقه أي أهلكه ، كما يقال للمجرم : أوبقته ذنوبه أي أهلكته (٢).

فإن قيل : ما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوما مثله؟

فالجواب : معناه إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم ، وأما من قرأ «ويعفو» فقد استأنف الكلام (٣). والعامة على الجزم عطفا على جواب الشرط. واستشكله القشيريّ ، وقال : لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكدا ويهلكها بذنوب أهلها ، فلا يحسن عطف : «ويعف» على هذا لأن المعنى يصير : إن يشأ يعف ، وليس المعنى على ذلك ، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى (٤). قال أبو حيان : وما قاله ليس بجيّد ، إذ لم يفهم مدلول التركيب والمعنى إلا أنه تعالى إن يشأ أهلك ناسا وأنجى ناسا على طريق العفو عنهم (٥). وقرأ الأعمش : ويعفو بالواو (٦). وهي تحتمل أن تكون كالمجزوم ، وثبتت الواو في الجزم كثبوت الياء في «من يتّقي ويصبر» (٧). ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعا ، أخبر الله تعالى أنه يعفو عن كثير من السّيّئات (٨).

وقرأ بعض أهل المدينة (٩)(١٠) بالنصب بإضمار «أن» بعد الواو كنصبه في قول النابغة : شعرا :

٤٣٨٥ ـ فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع النّاس والبلد الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجبّ الظّهر ليس له سنام (١١)

__________________

(١) قاله البغوي في ٦ / ١٢٦ من معالم التنزيل.

(٢) قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٣٩٣ ، واللسان «وبق» ٤٧٥٥.

(٣) قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٧ / ١٧٥.

(٤) القرطبي في الجامع بتصرف ١٦ / ٣٣.

(٥) البحر المحيط ٧ / ٥٢١.

(٦) السابق وانظر الكشاف ٢ / ٤٧١ والقرطبي بدون نسبة فيهما ١٦ / ٣٣.

(٧) وهي قراءة ابن كثير وصلا ووقفا. السبعة ٣٥١ وهي من الآية ٩٠ من يوسف.

(٨) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٤٧١ وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٧٥٩.

(٩) أخبر ابن مجاهد في السبعة ٥٨١ ، أنهم ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي.

(١٠) زيادة من ب.

(١١) بيتان من تمام الوافر له مدحا في النعمان بن الحارث ، والذّناب عقب كل شيء ، و «أجب الظهر» مقطوع السّنام.

والشاهد في «وتأخذ» حيث يجوز فيه النصب والرفع والجزم فالجزم على العطف والنصب على الإضمار والرفع على الاستئناف ، وقد تقدم.

٢٠٥

بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه ، وهذا كما ترى بالأوجه الثلاثة بعد الفاء في قوله تعالى : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٨٤] كما تقدم آخر البقرة ويكون قد عطف هذا المصدر المؤول من «أن» المضمرة والفعل على مصدر متوهّم (١) من الفعل قبله تقديره : أو يقع إيباق ، وعفو عن كثير. فقراءة النصب كقراءة الجزم في المعنى إلا أن في هذه عطف مصدر مؤول على مصدر متوهم وفي تيك عطف فعل على مثله (٢).

قال تعالى : (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) قرأ نافع وابن عامر برفعه والباقون بنصبه (٣). وقرىء : بجزمه أيضا (٤). فأما الرفع فواضح جدا ، وهو يحتمل وجهين: الاستئناف بجملة فعلية ، والاستئناف بجملة اسمية ، فتقدر قبل الفعل مبتدأ أي وهو يعلم الذين و «الذين» (٥) على الأول فاعل ، وعلى الثاني مفعول. وأما قراءة النصب ففيها أوجه :

أحدها : قال الزجاج : على الصرف قال : ومعنى الصرف صرف العطف عن اللفظ إلى العطف على المعنى قال : وذلك أنه لم يحسن عطف «ويعلم» مجزوما على ما قبله ؛ إذ يكون المعنى إن يشأ يعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله ، ولا يتأتى ذلك إلا بإضمار أن» ليكون مع الفعل في تأويل اسم (٦). وقال البغوي : قرىء بالنصب على الصّرف والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب كقوله : (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] نقل من حال الجزم إلى النصب استخفافا وكراهية توالي الجزم (٧).

الثاني : قول الكوفيون : إنه (٨) منصوب بواو الصرف يعنون أن الواو نفسها هي الناصبة ، لا بإضمار «أن» وتقدم معنى الصّرف.

__________________

(١) أو متصيد.

(٢) البحر المحيط ٧ / ٥٢٠ والدر المصون ٤ / ٧٥٩.

(٣) قراءة متواترة أوردها صاحب الإتحاف ٣٨٣ وكذا صاحب السبعة ٥٨١.

(٤) قراءة شاذة لم ينسبها الزمخشري في كشافه ٣ / ٤٧٢ وانظر معاني القرآن للفراء ٣ / ٢٥ ونقلها القرطبي عن الفراء الذي قال : «ولو جزم «ويعلم» جازم كان مصيبا». القرطبي ١٦ / ٣٤.

(٥) الدر ٤ / ٧٥٩.

(٦) لم أجد هذا الرأي منسوبا للزجاج في : معاني القرآن وإعرابه عند هذه الآية ونسبه أبو شامة في : إبراز المعاني لأبي عبيد ٦٧٥ وأبو حيان في البحر المحيط ٧ / ٥٢١. ولقد مشى المؤلف وحذا حذو صاحب الدر المصون في نسبة هذا الرأي للزجاج. الدر المصون ٤ / ٧٥٩.

(٧) ذكره في معالم التنزيل ٦ / ١٢٦.

(٨) قال ابن هشام في المغني : والواو الداخلة على المضارع المنصوب لعطفه على اسم صريح أو مؤول ، فالأولى كقوله : «للبس عباءة وتقر عيني .... البيت».

والثاني : شرطه أن يتقدم الواو نفي أو طلب وسمى الكوفيون هذه الواو واو الصرف ، وليس النصب بها خلافا لهم. وقال ابن هشام : والحق أن هذه واو العطف كما سيأتي. المغنى ٣٦٠ : ٣٦١.

٢٠٦

الثالث : قال الفارسي (١) ـ ونقله الزمخشري (٢) عن الزجاج ـ إن النصب على إضمار «إن» ؛ لأن قبلها جزاء تقول : ما تصنع أصنع ، وأكرمك وإن شئت : وأكرمك على : وأنا أكرمك ، وإن شئت : وأكرمك جزما.

قال الزمخشري : وفيه نظر ؛ لما أورده سيبويه في كتابه قال : واعلم أنّ النّصب بالواو والفاء في قوله : إن تأتني آتك ، وأعطيك ضعيف ، وهو نحو من قوله :

٤٣٨٦ ـ .........

وألحق بالحجاز فأستريحا (٣)

فهذا (لا) (٤) يجوز ؛ لأنه ليس بحدّ الكلام ولا وجه ، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا ؛ لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل ، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه (٥). قال الزمخشري : ولا يجوز أن تحصل القراءة المستفيضة على وجة ليس بحدّ الكلام ولا وجهه ، ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه. وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة (٦).

الرابع : أن ينتصب عطفا على تعليل محذوف تقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) [مريم : ٢١] (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى) [الجاثية : ٢٢] قاله الزمخشري (٧). قال أبو حيان : ويبعد تقديره : لينتقم منهم لأنه مرتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن «لينتقم منهم» وأما الآيتان فيمكن أن تكون اللام متعلقة بفعل محذوف تقديره «ولنجعله آية للنّاس فعلنا ذلك ، ولتجزى كلّ نفس فعلنا ذلك» وهو كثيرا (ما) (٨) يقدر هذا الفعل مع هذه اللام إذا لم يكن فعل يتعلق به (٩). قال شهاب الدين : بل يحسن تقدير : لينتقم ؛ لأنه يعود في المعنى على إهلاك قوم المترتب على الشرط (١٠).

وأما الجزم فقال الزمخشري :

__________________

(١) الحجة ٧ / ٩٩ بلدية.

(٢) الكشاف ٣ / ٤٧٢.

(٣) عجز بيت من الوافر للمغيرة بن حبناء صدره :

سأترك منزلي لبني تميم

 .............

وفي المقتضب لأبي العباس : وألحق بالعراق ، وشاهده : نصب الفعل أستريح بعد الفاء في غير جواب الأمر أو النهي وشبههما وذلك لا يكون إلا في ضرورة فهو ضعيف كما قال سيبويه وانظر ابن يعيش ١ / ٢٧٩ ، والخزانة ٨ / ٥٢٢ والكتاب ٣ / ٣٩ و ٩٢ والأشموني ٣ / ٣٠٥. والهمع ١ / ٧٧ و ٢ / ١٠ و ١٦ و ٧٣ والمقتضب ٢ / ٢٢ والإفصاح ١٨٤.

(٤) سقطت من ب.

(٥) الكتاب ٢ / ٣٤٢.

(٦) الكشاف ٣ / ٤٧٢.

(٧) الكشاف السابق.

(٨) لفظ «ما» سقط من ب.

(٩) انظر البحر المحيط ٧ / ٥٢١.

(١٠) الدر المصون ٤ / ٧٦٠.

٢٠٧

فإن قلت : كيف يصح المعنى على جزم «ويعلم»؟!

قلت : كأنه قيل (١) : أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور إهلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين(٢). وإذا قرىء بالجزم فيكسر الميم لالتقاء الساكنين.

وقوله : (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) في محل نصب ، بسدها مسدّ مفعولي (٣) العلم.

فصل

المعنى (٤) وليعلم الذين يجادلون أي يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله ـ عزوجل ـ بعد البعث لا مهرب لهم من عذاب الله (٥) ، كما أنه لا مخلص لهم إذا وقصت السفن وإذا عصفت الرياح ، ويكون ذلك سببا لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله (٦).

قوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤٢)

قوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الشورى : ٣٦] الآية لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتنفير عن الدنيا وتحقير شأنها ؛ لأن المانع من قبول الدليل هو الرغبة في الدنيا ، فقال : «وما (أُوتِيتُمْ) «ما» شرطية (٧) ، وهي في محل نصب مفعولا ثانيا (٨) «لأوتيتم» والأول هو ضمير المخاطبين قام مقام الفاعل ، وإنما قدم الثاني ؛ لأن له صدر الكلام ، وقوله : (مِنْ شَيْءٍ) بيان لما الشرطية لما فيها من الإيهام (٩). وقوله «فمتاع» الفاء جواب (١٠) الشرط و «متاع» خبر مبتدأ مضمر أي فهو متاع (١١) ، وقوله (وَما عِنْدَ اللهِ) «ما» موصولة مبتدأة ، و «خير» خبرها ، و «للّذين» يتعلق (١٢) «بأبقى».

__________________

(١) في الكشاف كأنه قال.

(٢) السابق.

(٣) التبيان ١١١٤.

(٤) في ب ويعلم.

(٥) وانظر البغوي ٦ / ١٢٦.

(٦) الرازي ٢٧ / ١٧٦.

(٧) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٧٢.

(٨) البحر المحيط ٧ / ٥٢٢.

(٩) السابق وانظر في هذا الدر المصون ٤ / ٧٦١.

(١٠) الكشاف السابق.

(١١) التبيان ١١١٤.

(١٢) في ب متعلق بالاسمية وانظر الدر المصون ٤ / ٧٦١.

٢٠٨

فصل

المعنى : وما أوتيتم من شيء من رياش الدنيا فمتاع الحياة الدنيا ليس من زاد المعاد ، وسماه متاعا تنبيها على قلته وحقارته وجعله من متاع الدنيا تنبيها على انقراضه ، وأما الآخرة فإنها خير وأبقى والباقي خير من الخسيس الفاني.

ثم بين أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفا بصفات منها أن يكون من المؤمنين فقال (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(١). وهذا يدل على من زعم أن الطاعة توجب الثواب ؛ لأنه متكل على عمل نفسه لا على الله فلا يدخل تحت الآية (٢).

الصفة الثانية : قوله : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) نسق على (٣) «الذين» الأولى. وقال أبو البقاء : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) في موضع جر بدلا من (٤) «الذين (آمَنُوا) ويجوز أن يكون في محل (٥) نصب بإضمار «أعني» أو في موضع رفع على تقدير «هم» (٦) وهذا وهم منه في التلاوة كأنه اعتقد أن القرآن : وعلى ربهم يتوكلون الذين يجتنبون فبنى عليه الثّلاثة الأوجه وهو بناء فاسد (٧).

قوله : (كَبائِرَ الْإِثْمِ) قرأ الأخوان هنا وفي النجم (٨) : «كبير الإثم» بالإفراد (٩) ، والباقون كبائر بالجمع في السورتين ، والمفرد هنا في معنى الجمع والرسم الكريم يحتمل القراءتين.

فصل

تقدم معنى كبائر الإثم في سورة النساء (١٠). قال ابن الخطيب : نقل الزمخشري عن ابن عباس : أن كبير الإثم هو الشرك ، وهو عندي ضعيف لأن شرط الإيمان مذكور وهو يغني عن عدم الشرك ، وقيل : كبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات (١١). وأما

__________________

(١) الرازي ٢٧ / ١٧٦.

(٢) الرازي المرجع السابق.

(٣) التبيان ١١٣٤ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٧٩ ، وفي معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٤٠٠ أنه صفة «لِلَّذِينَ آمَنُوا».

(٤) لم أجد ذلك في كتابه السابق وإنما ما وجدته ما قاله المؤلف بعد.

(٥) في ب موضع.

(٦) التبيان ١١٣٥.

(٧) والصحيح أن أبا البقاء لم يتوهم ذلك ولقد تابع المؤلف السمين الذي نقل هذا عن أبي حيان ولقد تتبعت كتاب التبيان وآراءه في هذه الآية فلم أجد ما كتبه عنه المؤلف تبعا للسمين وشيخه. انظر البحر ٧ / ٥٢٢ ، والدر المصون ٤ / ٧٦١.

(٨) يعني الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم الآية ٢٢.

(٩) انظر السبعة ٥٨٣ ، وابن خالويه ٣١٩ ومعاني الفراء ٣ / ٢٥.

(١٠) في قوله : «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ» [النساء : ٣١].

(١١) الرازي ٢٧ / ١٧٦.

٢٠٩

الفواحش فقال السدي : يعني الزنا. وقال مقاتل : ما يوجب الحدّ.

قوله : (وَإِذا ما غَضِبُوا) «إذا» منصوبة بيغفرون ، و «يغفرون» خير لهم والجملة بأسرها عطف على الصلة وهي «يجتنبون» ، والتقدير : والذين يجتنبون وهم يغفرون عطف اسمية على فعلية. ويجوز أن يكون «هم» توكيد للفاعل في قوله : «غضبوا» ، وعلى هذا فيغفرون جواب الشرط (١). وقال أبو البقاء : هم مبتدأ ، ويغفرون الخبر ، والجملة جواب إذا (٢).

قال شهاب الدين : وهذا غير صحيح ، لأنه لو كان جوابا لإذا لاقترن بالفاء ، تقول : إذا جاء زيد فعمرو منطلق ، ولا يجوز : عمرو ينطلق (٣). وقيل : (هم) (٤) مرفوع بفعل مقدر يفسره «يغفرون» بعده ولما حذف الفعل انفصل الضمير (٥). ولم يستبعده أبو حيان ، وقال : ينبغي أن يجوز ذلك في مذهب سيبويه (٦) ، لأنه أجازه في الأداة الجازمة تقول : إن ينطلق زيد ينطلق تقديره: ينطلق زيد ينطلق فينطلق واقع جوابا ومع ذلك فسّر الفعل فكذلك هذا. وأيضا فذلك جائز في فعل الشرط بعدها نحو : إذا السّماء انشقّت فليجز في جوابها أيضا (٧).

فصل (٨)

وإذا ما غضبوا هم يغفرون يحلمون ويكظمون الغيظ ، وخص الغضب بلفظ الغفران ؛ لأن الغضب على طبع النار واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة ، فلهذا خصه الله تعالى بهذا اللفظ (٩).

قوله (تعالى) (١٠) : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته. وقال ابن الخطيب : المراد منه تمام الانقياد.

فإن قيل : أليس أنه لما حصل (١١) الإيمان فيه شرطا فقد دخل في الإيمان إجابة الله؟!

والجواب : أن يحصل هذا على الرضا بقضاء الله من صميم القلب وأن لا يكون في

__________________

(١) انظر البيان ٢ / ٣٥٠.

(٢) انظر التبيان له ١١٣٥.

(٣) في ب : عمرو منطلق .. وفي السمين لينطلق ولعله خطأ من الناسخ وانظر الدر المصون ٤ / ٧٦٢.

(٤) سقط من ب.

(٥) قال بهذا ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٥٠ في الآية الآتية وهي : «هُمْ يَنْتَصِرُونَ» قال : هذا قياس قول سيبويه.

(٦) قال في الكتاب ٣ / ١١٣ و ١١٤ : «واعلم أن قولهم في الشعر : إن زيد يأتك يكن كذا إنما ارتفع على فعل هذا تفسيره كما كان ذلك في قولك : إن زيدا رأيته يكن ذلك ، لأنه لا تبتدأ بعدما الأسماء ثم يبنى عليها.

(٧) وانظر البحر المحيط بالمعنى ٧ / ٥٢٢.

(٨) في ب قوله بدل من فصل.

(٩) الرازي ٢٧ / ١٦٧.

(١٠) سقط من ب.

(١١) الرازي ٢٧ / ١٦٧.

٢١٠

قلبه منازعة. ثم قال : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي الواجبة لأن هذا هو الشرط في حصول الثواب.

قوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي يتشاورون فيما يبدو لهم ولا يعجلون. والشّورى مصدر كالفتيا بمعنى التّشاور (١). (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) أي الظلم والعدوان (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي ينتقمون من ظالمهم من غير أن يعتدوا. قال ابن زيد : جعل الله المؤمنين صنفين : صنف يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم وهو قوله : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) وصنف ينتصرون من ظالمهم وهم المذكورون في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا ، فإذا قدروا عفوا. وقال عطاء : هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم ، ثم مكنهم الله في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم (٢). وعن النّخعيّ أنه كان إذا قرأها قال : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء (٣).

فإن قيل : هذه الآية مشكلة لوجهين :

الأول : أنه لما ذكر قبله : وإذا ما غضبوا هم يغفرون كيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهم الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون؟!

الثاني : أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن ، قال تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧] وقال : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] وقال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] وقال : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل : ١٢٦]؟

فالجواب : أن العفو على قسمين :

أحدهما : أن يصير العفو سببا لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عن جنايته.

والثاني : أن يصير العفو سببا لمزيد جرأة الجاني وقوة غيظه ، فآيات العفو محمولة على القسم الأول ، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني وحينئذ يزول التناقض.

روي : أن زينب أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عنها فلم تنته فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (دونك (٤) فانتصري) وأيضا فإنه تعالى لم يرغّب في الانتصار ، بل بين أنه مشروع فقط ، ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة (٥) فقال : «وجزاء سيّئة سيّئة

__________________

(١) في الرازي جعل فعلى صفة كفعلى صفة مثل : قسمة ضيزى. وانظر المرجع السابق.

(٢) البغوي ٦ / ١٢٧.

(٣) نقله القرطبي بلفظ : «فتجترىء عليهم الفساق» انظر الجامع ١٦ / ٣٩.

(٤) تصحيح من تفسير الإمام الرازي ففي النسختين : فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سبّيها ، ولا أدري من أي مرجع أخذ المؤلف هذه اللفظة.

(٥) انظر هذا في تفسير العلامة فخر الدين الرازي ٢٧ / ١٧٧.

٢١١

مثلها» ثم بين أن العفو أولى بقوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) فزال السؤال.

قوله : (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) إعرابه كإعرابه : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ففيه ما تقدم ، إلا أنه يزيد هنا أنه يجوز أن يكون «هم» توكيدا للضمير المنصوب في «أصابهم» أكد بالضمير المرفوع وليس فيه إلا الفصل بين المؤكد والمؤكد ، والظاهر أنه غير ممنوع (١).

قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ...) الآية لما قال : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) بين بعده أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيدا بالمثل ، فإن العدل هو المساواة ، وسمي الجزاء سيئة وإن كان مشروط مأذونا فيه قال الزمخشري : كلتا الفعلتين : الأولى : وجزاؤها سيئة ؛ لأنها تسوء من تنزل به ، قال تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [النساء : ٧٨] يريد : ما يسوءهم من المصائب والبلاء (٢). وأجاب غيره بأنه لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر أطلق اسم أحدهما على الآخر مجازا والأول أظهر (٣). وقال آخرون : إنما سمي الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئة لتشابههما في الصّورة (٤).

فصل

قال مقاتل : يعني القصاص في الجراحات والدماء. وقال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح إذا قال : أخزاك الله تقول : أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي (٥). قال سفيان بن عيينة : قلت لسفيان الثوريّ : ما قوله عزوجل : وجزاء سيئة سيئة مثلها؟ قال : أن يشتمك رجل فتشتمه أو يفعل بك فتفعل به فلم أجد عنده شيئا ، فسألت هشام بن حجير (٦) عن هذه الآية فقال : الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك فتشتمه (٧).

فصل

دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمّيّ وأن الحرّ لا يقتل بالعبد ؛ لأن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة في المسألتين ، وأيضا فإن الحر إذا قتل العبد

__________________

(١) هو قول أبي حيان في البحر ٧ / ٥٢٢ قال : وقال الحوفي : وإن شئت جعلت «هم» توكيدا للهاء والميم يعني في أصابهم ، وهو ضمير رفع ، وفي هذا نظر ، وفيه الفصل بين المؤكد والتوكيد بالفاعل (وهو البغي) وهو فعل الظاهر أنه لا يمتنع. البحر ٧ / ٥٢٢ فكأن الرأي الذي أورده المؤلف أعلى هو رأي الحوفي نقلا عن السمين في الدر عن أبي حيان في البحر ، وانظر الدر المصون ٤ / ٧٦٢.

(٢) في الكشاف : والبلايا وانظر الكشاف ٣ / ٤٧٣.

(٣) وانظر الرازي ٢٧ / ١٧٨.

(٤) البغوي ٦ / ١٢٧.

(٥) الخازن والبغوي السابق ٦ / ١٢٧.

(٦) في ب حجة تحريف وتصحيف وهو هشام بن حجير ـ مصغرا ـ المكي صدوق له أوهام من السادسة.

انظر تقريب التهذيب ٢ / ٣١٧.

(٧) انظر معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٣١٧.

٢١٢

يكون قد أتلف على مالك العبد شيئا (ف) (١) يساوي عشرة دنانير مثلا فوجب أن يلزمه أداء عشرة دنانير لهذه الآية وإذا وجب الضّمان وجب أن لا يجب القصاص ، لأنه لا قائل بالفرق ، فوجب أن يجري القصاص بينهما. والدليل على أن المماثلة شرط لوجوب القصاص هذه الآية ، وقوله : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [غافر : ٤٠] وقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) وقوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة : ٤٥] وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة : ١٧٨]. والقصاص عبارة عن المساواة والمماثلة فهذه النصوص تقتضي مقابلة الشيء بمثله. ودلت الآية أيضا على أن الأيدي تقطع باليد الواحدة ؛ لأن كل القطع أو بعضه صدر عن (كل) (٢) أولئك القاطعين أو عن بعضهم. فوجب أن يشوع في حق أولئك القاطعين مثله بهذه النصوص.

فإن قيل : فيلزم استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع!.

فالجواب : أنه لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجنيّ عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى. ودلت الآية أيضا على مشروعية القصاص في حق شريك الأب لأنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله. ودلت الآية أيضا على أن من حرق حرقناه ، ومن غرّق غرقناه ، وعلى أن شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا : تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص ؛ لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه فوجب أن يهدر دمهم. ودلت أيضا على أن المكره (٣) يجب عليه القود (٤) ، لأنه صدر منه القتل ظلما فوجب مثله أما صدور القتل فالحسّ يدل عليه ، وأما أنه قتل ظلما فلإجماع المسلمين على أنه مكلف بأن لا يقتل فوجب أن يقابل بمثله ودلت أيضا على أن منافع الغصب مضمونة ، لأن الغاصب فوّت على المالك منافع تقابل في العرف بدينار مثلا فوجب أن يفوّت على الغاصب مثله من المال (٥).

قوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) بالعفو بينه وبين ظالم ه «فأمره إلى الله». قال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان له عند الله أجر فليقم ، فلا يقوم إلّا من عفا. ثم قرأ هذه الآية «إنّ الله (لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٦) : الذين يبدأون بالظلم (٧) ، وفيه تنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له الزيادة والتعدي في الاستيفاء خصوصا في حال الحرب والتهاب الحمية فربما صار المظلوم عند الاستيفاء ظالما.

__________________

(١) زيادة من أ.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب المكذب.

(٤) هو قتل النفس بالنفس شاذ كالحوكة والخونة ، وقال الجوهري : هو القصاص. انظر اللسان والصحاح قود.

(٥) وكل هذه الأشياء عن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ فيما نقله عنه الرازي في التفسير الكبير.

(٦) زيادة من أالأصل.

(٧) انظر معالم التنزيل ٦ / ١٢٧.

٢١٣

وفيه دقيقة وهو أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم وأخبر أنه لا يحب الظالم وإذا كان لا يحبه وندب غيره إلى العفو عنه فالمؤمن الذي يحبه الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو الله عنه (١).

قوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ) هذه لام الابتداء ، وجعلها الحوفي وابن عطية للقسم (٢) ، وليس بجيد إذا جعلنا «من» شرطية كما سيأتي ؛ لأنه كان ينبغي أن يجاب السابق ، وهنا لم يجب إلا الشرط. و «من» يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر ، والفاء في «فأولئك» جواب الشرط ، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط. و «ظلمه» مصدر مضاف للمفعول وأيدها الزمخشري بقراءة من قرأ : «بعد ما ظلم» مبنيا للمفعول (٣).

فصل

معنى الآية : ولمن انتصر بعد ظلم الظالم إياه فأولئك المنتصرين ما عليهم من سبيل لعقوبة ومؤاخذة ، لأنهم ما فعلوا إلا ما أبيح لهم من الانتصار. واحتجوا بهذه الآية على أن سراية القود مهدرة (٤) لأنه فعل مأذون فيه مطلقا فيدخل تحت هذه الآية.

قوله تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي يبدأون بالظلم (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) يعملون فيها بالمعاصي (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

قوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)(٥٠)

قوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ) الكلام في اللام كما تقدم. فإن جعلناها شرطية فإن جواب

__________________

(١) الرازي ٢٧ / ١٨١.

(٢) البحر المحيط ٧ / ٥٢٣.

(٣) كشاف الزمخشري ٣ / ٤٧٣.

(٤) الرازي المرجع السابق.

٢١٤

القسم المقدر ، وحذف جواب الشرط للدلالة عليه ، وإن كانت موصولة ، كان قوله : (إِنَّ ذلِكَ) هو الخبر (١). وجوز الحوفي وغيره (٢) أن تكون «من» شرطية و (إِنَّ ذلِكَ) جوابها على حذف الفاء على حدّ حذفها في قوله :

٤٣٨٧ ـ من يفعل الحسنات ...

 .........

وفي الرابط قولان :

أحدهما : هو اسم الإشارة ، إذا أريد به المبتدأ ، ويكون حينئذ على حذف مضاف تقديره: إنّ ذلك لمن ذوي عزم الأمور (٣).

والثاني : أنه ضمير محذوف تقديره لمن عزم الأمور «منه أوله» (٤). وقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ) عطف على قوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ) والجملة من قوله : (إِنَّمَا السَّبِيلُ) اعتراض(٥).

فصل

المعنى لمن صبر وغفر فلم يقتص (٦) وتجاوز ، إن ذلك الصبر والتجاوز من عزم الأمور حقها وحزمها. قال مقاتل : من الأمور التي أمر الله بها (٧). وقال الزجاج : الصابر يؤتى بصبره الثواب والرغبة في الثواب أتم عزما (٨).

قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي فليس له ناصر يتولاه من بعد إضلال الله إياه ، وليس له من يمنعه من عذاب الله ، وهذا صريح في جواز أن الإضلال من الله وأن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله.

قال القاضي : المراد : ومن يضلل الله عن الجنة لجنايته فما له من ولي من بعده ينصره. وأجيب بأن تقييد الإضلال بهذه الصور المعينة خلاف الدليل ، وأيضا فالله تعالى ما أضله عن الجنة في قولكم بل هو أضل نفسه عن الجنة.

قوله : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) يوم القيامة (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لعظم ما شاهدوا من العذاب (٩).

ثم ذكر حالهم عند عرض النار. قوله : «يعرضون» حال ، لأن الرؤية بصرية ، و «خاشعين» حال والضمير في «عليها» يعود على النار لدلالة العذاب عليها.

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ٥٢٣.

(٢) كأبي البقاء العكبري في التبيان ١١٣٥.

(٣) قاله البحر المحيط المرجع السابق.

(٤) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٧٣ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٥٠ وانظر معاني الأخفش ٦٨٧.

(٥) قاله السمين ٤ / ٧٦٣.

(٦) في ب ينتصر وكذا في البغوي.

(٧) انظر معالم التنزيل للبغوي ٦ / ١٢٦.

(٨) بالمعنى من معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٠٢.

(٩) الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير ٢٧ / ١٨٣.

٢١٥

وقرأ طلحة : من الذّلّ ـ بكسر (١) الذال ـ وقد تقدم الفرق بين الذّل والذّل (٢) و (مِنَ الذُّلِّ) يتعلق بخاشعين أي من أجل. وقيل : هو متعلق بينظرون (٣). وقوله : «من طرف» يجوز في «من» أن تكون لابتداء (٤) الغاية ، وأن تكون (٥) تبعيضية وأن تكون بمعنى الباء (٦) ، والظرف قيل : يراد به العضو وقيل : يراد به المصدر يقال : طرفت عينه تطرف طرفا أي ينظرون نظرا خفيّا (٧).

فصل

اعلم أنه ذكر حالهم عند عرضهم على النار ، فقال : خاشعين أي خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل يسارقون النظر إلى النار خوفا منها وذلة في أنفسهم ، كما ينظر المقتول إلى السيف فلا يقدر أن يملأ عينيه منه ، ولا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها ، وإذا كانت من بمعنى الباء أي بطرف خفي ضعيف من الذل.

فإن قيل : إنه قال في صفة الكفار : إنهم يحشرون عميا فكيف قال هاهنا إنهم ينظرون من طرف خفي؟! فالجواب : لعلهم يكونون في الابتداء هاهنا (٨) ثم يصيرون عميا ، أو لعل هذا في قوم وذاك في قوم آخرين. وقيل : معنى ينظرون من طرف خفيّ أي ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا والنظر بالقلب خفيّ.

ولما وصف الله تعالى حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وقيل : خسروا أنفسهم بأن صاروا إلى النار وأهليهم بأن صاروا لغيرهم إلى الجنة. وهذا القول يحتمل أن يكون واقعا في الدنيا ، وإما أن يقولوه يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة ، ثم قال : (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) أي دائم. قال القاضي : هذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب : أن لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكافر قال تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) والذي يؤكد هذا قوله تعالى بعد هذه الآية : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) والمعنى أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لتشفع لهم عند الله تعالى ما أتوا بتلك الشفاعة وهذا لا يليق إلا بالكافر (٩).

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ٥٢٤.

(٢) والذّل هو ضد العز والذّل فهو للحيوان.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ٤٧٤.

(٤) قال الزمخشري أن يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم السابق.

(٥) نقله أبو حيان وعنه نقل السمين وعنه نقل المؤلف عن قتادة. البحر المحيط ٧ / ٥٢٤.

(٦) نقله الأخفش في معانيه عن يونس ، قال : وقال يونس إن «من طرف» مثل بطرف كما تقول العرب : ضربته في السّيف وبالسّيف» معاني الأخفش ٦٨٧.

(٧) البحر المحيط ٧ / ٥٢٤ والدر ٤ / ٧٦٥.

(٨) في ب بدل ههنا هكذا ، وكذا هي في الرازي.

(٩) انظر الرازي ٢٧ / ١٨٢.

٢١٦

قوله : «ينصرونهم» صفة «لأولياء» ، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجرّ اعتبارا بلفظ موصوفها وبالرفع اعتبارا بمحلة ، فإنه اسم لكان (١). وقوله : «من سبيل» إما فاعل وإما مبتدأ(٢) ، والمعنى فما له من سبيل إلى الحق في الدنيا والجنة في العقبى وقد أفسد عليهم طريق الخير(٣).

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا) يجوز أن يكون ماضيا على حقيقته ، ويكون (يَوْمَ الْقِيامَةِ) معمولا «لخسروا» ويجوز أن يكون بمعنى يقول فيكون يوم القيامة معمولا له (٤).

قوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ ...) الآيات. لما ذكر الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود ، فقال (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي أجيبوا داعي (ربكم) (٥) يعني (٦) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له من الله» أي لا يقدر أحد على دفعه.

قوله : (مِنَ اللهِ) يجوز تعلقه بيأتي (٧) أي يأتي من الله يوم لا مرد له ، وأن يتعلق بمحذوف (٨) يدل عليه (لا مَرَدَّ لَهُ) أي لا يرد ذلك اليوم ما حكم الله به فيه.

وجوز الزمخشري أن يتعلق «بلا مردّ» (٩) ، ورده أبو حيان : بأنه يكون معمولا (١٠) وكان ينبغي أن يعرب فينصب منونا.

واختلفوا في المراد بذلك اليوم ، فقيل : هو ورود الموت. وقيل : يوم القيامة ، قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون معنى قوله : لا مرد له» أي لا يقبل التقديم ولا التأخير ، وأن يكون معناه أنه لا مرد فيه إلى حال التكليف حتى يحصل فيه التلاقي (١١).

ثم وصف اليوم فقال فيه : (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ) تلجأون إليه يقع به المخلص (١٢) من العذاب (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) ينكر (١٣) تغير ما بكم. ويجوز أن يكون المراد من النكير الإنكار ، أي لا تقدرون أن تنكروا شيئا مما اقترفتموه من الأعمال.

قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن الاستجابة ولم يقبلوا هذا الأمر (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) بأن تحفظ أعمالهم وتحصيها (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي ما عليك إلا البلاغ ، وذلك تسلية من الله تعالى له. ثم بين السبب في إصرارهم على الكفر فقال : (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا

__________________

(١) التبيان للعكبري ١١٣٥.

(٢) قاله السمين في الدر المصون ٤ / ٧٦٥.

(٣) البغوي ٦ / ١٢٨.

(٤) معنى كلام الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٧٤.

(٥) سقط من أالأصل.

(٦) البغوي المرجع السابق.

(٧) الكشاف المرجع السابق.

(٨) البحر المحيط ٧ / ٥٣٥.

(٩) قال : من صلة «لا مرد» أي لا يرده الحكم الله بعد ما حكم به. الكشاف ٣ / ٤٧٤.

(١٠) تصحيح من البحر ففي النسختين مطولا. وانظر البحر المحيط ٧ / ٥٢٥.

(١١) تفسيره التفسير الكبير ٢٧ / ١٨٣.

(١٢) في ب التخلص وفي الرازي : ينفع في التخلص من العذاب.

(١٣) في ب ينكر يعني ما بكم وفي الرازي : ممن ينكر ذلك حتى يتغير حالكم بسبب ذلك المنكر.

٢١٧

الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (١) ـ يعني الغنى والصحة «فرح بها».

واعلم أن نعم الله وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر ، فلذلك سميت ذوقا. فبين (الله) تعالى أن الإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به وعظم غروره ، ووقع في العجب والكبر ، ويظن أنه فاز بكل المنى ، ووصل إلى أقصى السعادات ، وهذه طريقة من ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة.

ثم إنه تعالى بين أنه متى أصابهم سيئة أي شيء يسوءهم في الحال كالمرض والفقر والقحط وغيرها فإنه يظهر الكفر (٢) وهو (معنى) قوله : (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) ، والكفور : هو المبالغ في الكفران والمراد بقوله : كفور أي لما تقدم من نعمة الله عليه ينسى ويجحد بأول شدة (٣) جميع ما سلف من النّعم.

وقوله : فإنّ الإنسان من وقوع الظاهر موقع المضمر أي فإنه كفور. وقدر أبو البقاء : ضميرا محذوفا فقال (٤) فإن الإنسان (منهم) (٥) ولما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بعدها أتبع ذلك بقوله : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له التصرف فيهما بما يريد والمقصود منه أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه بل إذا علم أن الكل ملك لله وملكه وإنما حصل له القدر إنعاما من الله عليه فيصير ذلك حاملا له على مزيد من الطاعة.

ثم ذكر من أقسام تصرف الله تعالى في العالم أنه يخص البعض بالأولاد والإناث والبعض بالذكور والبعض بهما ، والبعض بأن يجعله محروما من الكل وهو المراد بقوله : (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً)(٦).

قوله : (ذُكْراناً وَإِناثاً) حال وهي حال لازمة. وسوغ مجيئها كذلك أنها بعد ما يجوز أن يكون الأمر على خلافه ، لأن معنى يزوجهم يقرنهم (٧).

قال الزمخشري : فإن قلت : لم قدم الإناث على الذكور مع تقديمهم عليهن ثم رجع فقدمهم؟! ولم عرف الذكور بعد ما نكّر الإناث؟!. قلت : لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى ، وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنه ، ثم عقبه (٨) بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد فقدم الإناث ؛ لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤ (ه) (٩)

__________________

(١) زيادة من أ.

(٢) في ب الكفران.

(٣) في النسختين : شديدة ، وانظر في هذا تفسير الرازي ٢٧ / ١٨٣ والبغوي ٦ / ١٢٨.

(٤) في ب فقدر وفي أفصار وفي السمين فقال.

(٥) سقط من ب وانظر التبيان ١١٣٥.

(٦) انظر الرازي ٢٧ / ١٨٤.

(٧) الدر المصون ٤ / ٧٦٥.

(٨) في النسختين ذكره.

(٩) زيادة من الكشاف.

٢١٨

الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما يشاؤه الإنسان أهم ، والأهم واجب التقديم ، وليلي الجنس التي كانت العرب تعده بلاء (ذكر) (١) البلاء ، وأخر الذكور ، فلما أخرهم تدارك تأخيرهم وهم أحقّاء بالتقديم وبالتّعريف ، لأن تعريفهم فيه تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم. ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حظه من التقديم والتأخير وعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتضى آخر فقال : (ذُكْراناً وَإِناثاً) (كما قال : إنّا) (٢)(خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) [الحجرات : ١٣] فجعل فيه (الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى)(٣).

فصل

قال ابن الخطيب : وفي الآية سؤالات :

الأول : أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور أولا ، ثم قدم الذكور على الإناث ثانيا فما السبب في هذا التقديم والتأخير؟

الثاني : أنه نكّر الإناث وعرف الذكور وقال في الصّنفين معا (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً).

الثالث : لما كان حصول الولد هبة من الله تعالى فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأيّ حاجة في عدم حصوله إلى قوله : (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً).

الرابع : هل المراد بهذا الحكم جمع معيّنون أو الحكم على الإنسان المطلق؟

والجواب على الأول : أن الكريم يسعى في أن يقع الحتم على الخير والراحة فإذا وهب الأنثى أولا ثم أعطي الذكر بعده فكأنه نقله من الغم إلى الفرح ، وهذا غاية الكرم ، أما إذا أعطي الذكر أولا ثم أعطي الأنثى ثانيا فكأنه نقله من الفرح إلى الغم ، فذكر الله تعالى هبة الأنثى أولا ، ثم ثنّى بهبة الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون أليق بالكرم.

قيل : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر ؛ لأن الله بدأ بالإناث وأما تقديم ذكر الذكور على ذكر الإناث ثانيا ؛ لأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى ، والأفضل مقدم على المفضول.

وأما الجواب عن تنكير الإناث وتعريف الذكور فهو أن المقصود منه التنبيه على أن الذكر أفضل من الأنثى وأما قوله (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) وهو أن كل شيئين يقرن أحدهما بالآخر ، فهما زوجان وكل واحد منهما يقال له : زوج والكناية في «يزوّجهم»

__________________

(١) زيادة من الكشاف.

(٢) سقط من أ.

(٣) [القيامة : ٣٩]. وانظر الكشاف ٣ / ٤٧٥.

٢١٩

عائدة على الإناث والذكور والمعنى يجعل الذكور والإناث أزواجا أي يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث (١).

وأما الجواب عن قوله «عقيما» فالعقيم هو الذي لا يلد ولا يولد له يقال : رجل عقيم ، وامرأة عقيم ، وأصل العقم القطع ومنه قيل : الملك عقيم ، لأنه يقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق(٢).

وأما الجواب عن الرابع فقال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٣) ـ : يهب لمن يشاء إناثا ، يريد لوطا وشعيبا لم يكن لهما إلا البنات ، «ويهب لمن يشاء الذّكور» يريد : إبراهيم لم يكن له إلا الذكور ، (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) يريد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان له من البنين ثلاثة على الصحيح القاسم وعبد الله ، وإبراهيم ، ومن البنات أربعة : زينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) يريد يحيى وعيسى ـ عليهما الصّلاة والسّلام (٤) ـ.

وقال أكثر المفسرين : هذا على وجه التمثيل ، وإنما الحكم عام في كل الناس ؛ لأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله تعالى في تكوين الأنبياء كيف شاء ، فلا معنى للتخصيص (٥).

ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ). قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (٦) ـ : عليم بما خلق قدير على ما يشاء أن يخلقه. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(٥٣)

قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً ...) الآية لما بين حال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه. قوله : «أن يكلمه» «أن» ومنصوبها اسم كان و «لبشر» (٦) خبرها. وقال أبو البقاء : «أن» والفعل في موضع رفع

__________________

(١) وانظر كل هذا بالمعنى من الرازي ٢٧ / ١٨٤.

(٢) قاله ابن منظور في اللسان عقم ٣٠٥١.

(٣) زيادة من أ.

(٤) نقله الرازي في تفسيره ٢٧ / ١٨٥ و ١٨٦ عن الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٧٥. ونقله القرطبي في الجامع ١٦ / ٤٩ عن النّقّاش : نزلت في الأنبياء وإن عمّ حكمها.

(٥) وممن قال به البغوي والخازن في تفسيرهما والنقاش عن القرطبي انظر البغوي والخازن ٦ / ١٢٩.

(٦) في النسختين ليس بدل لبشر تحريف.

٢٢٠