اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

للمفاجأة خبره والعامل في هذا الظرف من الاستقرار هو العامل في هذا الحال. ومحطّ الفائدة في هذا الكلام (هي (١) الحال والتقدير : فبالحضرة المعادي مشبها القريب الشفوق.

والثاني : أن الموصول مبتدأ) أيضا ، والجملة بعده خبره ، و «إذا» معمولة لمعنى التشبيه والظرف يتقدم على عامله المعنوي. هذا إن قيل : إنها ظرف.

فإن قيل : إنّها حرف فلا عامل (٢).

قوله : (وَما يُلَقَّاها) العامة على يلقّاها من التّلقية. وابن كثير ـ في رواية ـ وطلحة بن مصرف يلاقاها (٣) من الملاقاة ، فالضمير للخصلة أو الكلمة ، (أو الجنة (٤) أو شهادة التوحيد.

فصل

لما أرشد الله تعالى إلى الطريق النافع في الدين والدنيا) قال : وما يلقّاها إلّا الّذين صبروا ، (قال (٥) الزّجاج : «وما يلقّى هذه الفعلة إلّا الّذين صبروا) على تحمل المكاره وتجرح الشدائد وكظم الغيظ ، وترك الانتقام. (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الفضائل النفسانية (٦). وقال قتادة (٧) الحظ العظيم الجنة ، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.

قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٩)

قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ...) الآية. تقدم تفسيرها في آخر

__________________

(١) ما بين القوسين كله سقط من أالأصل بسبب انتقال النظر.

(٢) المرجعين السابقين.

(٣) من القراءات الشاذة ، ولم أجدها عن ابن كثير في المتواتر وانظر مختصر ابن خالويه ١٣٣ والبحر المحيط ٧ / ٤٩٨.

(٤) ما بين المعقوفين كله سقط من ب.

(٥) ما بين القوسين سقط من أالأصل والمؤلف نقل كعادته عن الرازي هذا وما في إعراب القرآن للزجاج «وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة» ٤ / ٣٨٦.

(٦) قاله الرازي ٢٧ / ١٢٧.

(٧) البغوي ٦ / ١١٣.

١٤١

سورة الأعراف (١). قال الزمخشري : النّزغ والنّسغ بمعنى واحد وهو شبه النّخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه يبعثه على ما لا ينبغي (٢). والمعنى وإن صرفك الشيطان عما شرع لك من الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من شره (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لاستعاذتك وأقوالك «العليم» بأفعالك وأحوالك.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ ...) الآية لما بين تعالى في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى وهي عبارة عن تنوير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته ، ومن جملتها العالم بجميع أجزائه فبدأ هاهنا بذكر الفلكيّات وهي اللّيل والنّهار ، والشمس والقمر ، وقدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيها على أن الظلمة عدم ، والنور وجود ، والعدم سابق على الوجود ، وهذا كالتنبيه على وجود الصانع وتقدم شرحه مرارا. ولما بين أن الشمس والقمر يحدثان وهما دليلان على وجود الإله القادر قال (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) يعني أنهما عبدان دليلان على وجود الإله (القادر) (٣) والسجود عبارة عن نهاية التعظيم وهو لا يليق إلا بمن كان أشرف الموجودات فقال : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) لأنهما عبدان مخلوقان ، واسجدوا لله الخالق القادر الحكيم (٤).

قوله : «خلقهنّ» في هذا الضمير ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه يعود على (اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)(٥). وفي مجيء الضمير كضمير الإناث (كما قال الزمخشري هو أنّ جمع ما لا يعقل حكمه حكم الأنثى أو الإناث) نحو : الأقلام بريتها وبريتهنّ.

وناقشه أبو حيان : من حيث إنه لم يفرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك ؛ لأن الأفصح في جمع القلة أن يعامل معاملة الإناث ، وفي جمع الكثرة أن يعامل معاملة الأنثى ، فالأفصح أن يقال : الأجذاع كسرتهنّ ، والجذوع كسرتها ، والذي تقدم في هذه الآية ليس بجمع قلة أعني بلفظ واحد ولكنه ذكر أربعة متعاطفة فتنزّلت منزلة الجمع المعبر به عنها بلفظ واحد (٦). قال شهاب الدين : والزمخشري ليس في مقام بيان الفصيح والأفصح بل في مقام كيفية مجيء الضمير ضمير إناث بعد تقدم ثلاثة أشياء مذكرات وواحد مؤنث والقاعدة تغليب المذكر على المؤنث (٧) أو لمّا قال : (وَمِنْ آياتِهِ) كنّ في

__________________

(١) ولم يزد هناك عما ذكره هنا على قول الزمخشري والآية ٢٠٠ من الأعراف «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

(٢) الكشاف ٢ / ٤٥٤.

(٣) سقط من ب الأصل.

(٤) انظر الرازي بتغيير طفيف في العبارة ٢٧ / ١٢٨ ، ١٢٩.

(٥) نقله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٥٤.

(٦) نقله في البحر المحيط ٧ / ٤٩٨ ، ونقله عن السمين في الدر المصون ٤ / ٧٣٥ ، وانظر معاني الفراء ٣ / ٨.

(٧) الدر المصون ٤ / ٧٣٥.

١٤٢

معنى الآيات فقيل : خلقهنّ. ذكر الزمخشري (١) أيضا أنه يعود على لفظ الآيات وهذا هو الوجه الثاني.

الثالث : أنه يعود على الشمس والقمر ؛ لأن الاثنين جمع ، والجمع مؤنث لقولهم : «شموس وأقمار» (٢).

وقال البغوي : إنما قال خلقهنّ بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير ، ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث (٣).

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) قيل : كان ناس يسجدون للشمس والقمر كالصّابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله ، فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق هذه الأشياء (٤).

قوله : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي عن السجود (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) لا يملّون.

فإن قيل : إن الذين يسجدون للشمس والقمر يقولون نحن أقلّ وأذلّ من أن يحصل لنا أهليّة لعبادة الله تعالى ولكنا عبيد للشمس والقمر وهما عبدان لله تعالى ، وإذا كان قولهم هكذا فكيف يليق بهم أنهم استكبروا عن السجود لله تعالى؟!.

فالجواب : ليس المراد من الاستكبار ههنا ما ذكرتم بل المراد استكبارهم عن قبول قولك يا محمد بالنهي عن السجود للشمس والقمر (٥).

فصل

قال ابن الخطيب ليس المراد بهذه العنديّة قرب المكان ، بل يقال : عند الملك من الجند كذا وكذا ، ويدل عليه قوله : «أنا عند ظنّ عبدي بي» (٦) وأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي في مقعد صدق عند ملك مقتدر ، ويقال : عند الشافعي : أنّ المسلم لا يقتل بالذّمّيّ.

فصل

دلّت هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر ؛ لأنه إنما يستدلّ بحال الأعلى على الأدنى فيقال : هؤلاء القوم (٧) إن استكبروا عن طاعة فلان ، فالأكابر يخدمونه.

__________________

(١) الكشاف للزمخشري ٣ / ٤٥٤ ، وقد قال بذلك أيضا أبو البركات ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٤٠ قال والهاء والنون في «خلقهن» تعود على الآيات ، ولا تعود على الشمس والقمر والليل والنهار ؛ لأنّ المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلب جانب المذكر على جانب المؤنث.

(٢) قال بذلك أبو حيان في البحر ٧ / ٤٩٩.

(٣) معالم التنزيل له ٦ / ١١٢.

(٤) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٥٤ والرازي في التفسير الكبير ٢٧ / ١٢٩.

(٥) المرجع السابق.

(٦) سبق هذا الحديث.

(٧) لفظ إن سقط من أالأصل.

١٤٣

فإن قيل : وصف الملائكة بأنهم يسبحون له بالليل والنهار لا يفترون ، وهذا يدل على مواظبتهم على التسبيح لا ينفكون عنه لحظة واحدة كما قال : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] واشتغالهم بهذا العمل على سبيل الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال لكنهم ينزلون على الأرض ، كما قال تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤] وقال (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) [الحجر : ٥١] وقال (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) [التحريم : ٦] وقال عن الذين قاتلوا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوم بدر (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران : ١٢٥].

فالجواب : أن الذين ذكرهم الله ههنا بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معيّنون من الملائكة.

فصل

اختلفوا في مكان السجدة فقال الشافعي ـ رحمه‌الله ـ هو عند قوله تعالى (إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(١) وقال أبو حنيفة ـ رضي الله ـ : هو عند قوله تعالى (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ)(٢).

قوله : (وَمِنْ آياتِهِ) أي ومن دلائل قدرته أنك ترى الأرض خاشعة أي يابسة غير الإنبات فيها (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) ، أي تحركت بالنبات ، وربت انتفخت ؛ لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض (٣) وانتفخت ثم تصدعت عن النبات.

واعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الأربعة الفلكية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي هذه الآية ثم قال : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) يعني أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها. ثم قال : (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذا هو الدليل الأصلي وتقدم تقريره مرارا.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ)(٤٣)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) الآية لما بين أن الدعوة إلى دين الله تعالى أعظم المناصب ، وأشرف المراتب ، ثم بين أن الدعوة إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد والعدل وصحة البعث والقيامة عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات ، ويجادل بإلقاء الشّبهات فيها فقال : إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ، يقال : ألحد الحافر

__________________

(١) وهو قول مالك أيضا.

(٢) قال به ابن وهب ونقل القرطبي في الجامع عكس ما قال المؤلف ، انظر الجامع ١٥ / ٣٦٤.

(٣) قاله الزجاج في معاني القرآن ٤ / ٣٨٨.

١٤٤

ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شقّ فالملحد ، هو المنحرف ، ثم اختص في العرف بالمنحرف(١) عن الحق إلى الباطل قال مجاهد : يلحدون في آياتنا بالمكاء والتصدية واللغو واللّغط. وقال قتادة: يكذبون في آياتنا. وقال السدي : يعاندون ويشاقون (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) وهو كقول الملك المهيب : إنّ الذين ينازعون في ملكي أعرفهم فإن ذلك (لا) (٢) يكون تهديدا. ثم قال : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهذا استفهام بمعنى التقرير (٣) ، والغرض منه التنبيه على أن الملحدين في الآيات يلقون في النار ، وأن المؤمنين بالآيات يأتون آمنين يوم القيامة. قال المفسرون : المراد حمزة ، وقيل : عثمان ، وقيل : عمار بن ياسر (٤). ثم قال : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) وهذا أمر تهديد (٥) ووعيد أيضا ، (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي عالم بأعمالكم فيجازيكم.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) في خبرها ستة أوجه :

أحدها : أنه مذكور ، وهو قوله (أُولئِكَ يُنادَوْنَ)(٦) وقد سئل بلال بن أبي بردة (٧) عن ذلك في مجلسه فقال : لا أجد لها معادا ، فقال له أبو عمرو بن العلاء : إنه منك لقريب أولئك ينادون (٨). وقد استبعد هذا من وجهين :

أحدهما : كثرة الفواصل.

والثاني : تقدم من يصح الإشارة إليه بقوله : «أولئك» وهو قوله : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) واسم الإشارة يعود على أقرب مذكور (٩).

والثاني : أنه محذوف لفهم المعنى فقدر (١٠) : معذّبون ، أو مهلكون ، أو معاندون (١١). وقال الكسائي : سد مسده ما تقدم من الكلام قبل «إنّ» وهو قوله : «أفمن

__________________

(١) قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٧ / ١٣١ وانظر معنى اللّحد في تفسير الزجاج في معاني القرآن وإعرابه له ٤ / ٣٨٨ واللسان «لحد» ٤٠٠٥.

(٢) زيادة من ألا داعي لها وانظر هذه الأقوال في القرطبي ١٥ / ٣٦٦ ومعالم التنزيل للبغوي ٦ / ١١٣.

(٣) أحد المواضع التي يخرج فيها الاستفهام عن الحقيقة إلى المجاز.

(٤) المرجعين السابقين.

(٥) أحد المواضع التي يخرج فيها الأمر عن الحقيقة إلى المجاز.

(٦) نقله أبو البقاء في التبيان ١١٢٧ وهو رأي ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٤١ ومكي في مشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٧٢.

(٧) قاضي البصرة وأميرها والمفوض من قبل خالد القسري كان من أهل الأدب والفصاحة توفي سنة ١٢٠ ه‍ وانظر هامش إنباه الرواة ١ / ٢٤٥.

(٨) انظر هذا بالمعنى من البحر المحيط ٧ / ٥٠٠ وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٧٣٥.

(٩) نقل هذين الاعتراضين أبو حيان في مرجعه السابق عن الحوفي رحمه‌الله.

(١٠) في ب ويقدر.

(١١) هو قول العكبري في التبيان ١١٢٧.

١٤٥

يلقى في النّار» (١). يعني في الدلالة عليه ، والتقدير : يخلّدون في النار ، وقال البغوي : يجازون بكفرهم (٢). وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال معناه في التفسير : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به (٣) ، فقدر الخبر من جنس الصّلة. وفيه نظر من حيث اتّحاد الخبر والمخبر عنه في المعنى من غير زيادة فائدة ، نحو : سيّد الجارية مالكها (٤).

الثالث : أن (إِنَّ الَّذِينَ) الثانية بدل من (إِنَّ الَّذِينَ) الأولى والمحكوم به على البدل محكوم به على المبدل منه فيلزم أن يكون الخبر (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) وهو منتزع من كلام الزمخشري(٥).

الرابع : أنّ الخير قوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) والعائد محذوف تقديره لا يأتيه الباطل منهم ، نحو : «السّمن منوان بدرهم» أي منوان منه أو يكون «أل» عوضا من الضمير في رأي الكوفيين ، تقديره : «إنّ الّذين كفروا بالذّكر لا يأتيه باطلهم».

الخامس : أن الخبر قوله تعالى : (ما يُقالُ لَكَ) والعائد محذوف أيضا تقديره : إنّ الّذين كفروا بالذّكر ما يقال لك في شأنهم إلّا ما قد قيل للرسل من قبلك. وهذان الوجهان ذهب إليهما أبو حيّان (٦).

والسادس : قال بعض الكوفيين : إنه قوله : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ) وهذا غير متعقّل (٧).

قوله : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) جملة حالية (٨) ، وقوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) صفة «لكتاب» ، و «تنزيل» خبر مبتدأ محذوف ، أو صفة لكتاب على أنّ «لا يأتيه» معترض أو صفة كما تقدم على رأي من يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح (٩) ، وتقدم تحقيقه

__________________

(١) نقله أبو حيان في المرجع السابق.

(٢) البغوي ٦ / ١١٣.

(٣) نقله أبو الحسن الأخفش في المعاني ٦٨٤ و ٦٨٥.

(٤) البحر المحيط ٧ / ٥٠٠.

(٥) الكشاف ٣ / ٤٥٥ ، فقد قال : فإن قلت : بم اتصل قوله : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ»؟ قلت : هو بدل من قوله : إن الذين يلحدون في آياتنا ، والذكر القرآن ؛ لأنهم كفروا به.

(٦) قال في البحر ٧ / ٥٠٠ و ٥٠١ والذي أذهب إليه أن الخبر مذكور لكنه حذف عائد يعود على اسم إن وذلك في قوله : لا يأتيه الباطل أي الباطل منهم ، أو تكون «أل» عوضا من الضمير على قول الكوفيين الخ ، أو يكون الخبر قوله : «ما يقال لك إلا ما قد قيل».

(٧) لعل بعض الكوفيين المقصود الفراء فقد قرأت في كتابه المعاني ٣ / ١٩ يقال : أين جواب إنه؟ فإن شئت جعلته أولئك ينادون من مكان قريب ، وإن شئت كان في قوله : «وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ».

(٨) من الذكر.

(٩) أورد السيوطي ـ رحمه‌الله ـ في الهمع ما مفاده أن الاسم إذا وصف به بظرف أو مفرد أو مجرور أو جملة فالأولى ترتيب المفرد ثم الظرف والمجرور والجملة ، وقد أوجب ابن عصفور هذا الترتيب غير أنه يرد بنحو قوله تعالى : «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ» ، وقدم ابن جنيّ الوصف الرافع على الظرف ـ

١٤٦

في المائدة. و (مِنْ حَكِيمٍ) صفة «لتنزيل» أو متعلق به و «الباطل» اسم فاعل ، وقيل : مصدر كالعاصفة والعاقبة (١).

فصل

لما بلغ في تهديد الملحدين في آيات القرآن أتبعه ببيان تعظيم القرآن فقال : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) قال الكلبي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهم (٢) ـ : أي كريم على الله. وقال قتادة : أعزه الله تعالى لا يجد الباطل إليه سبيلا. قال قتادة والسدي : الباطل هو الشيطان لا يستطيع أن يغيره أو يزيل فيه أو ينقص منه (٣). وقال الزجاج : معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه (٤) ، وعلى هذا فمعنى الباطل هو الزيادة والنقصان. وقال مقاتل : لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ، ولا يأتي بعده كتاب (٥) فيبطله (و) قال الزمخشري هذا تمثيل والمقصود أن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حين يصل إليه (٦).

فصل

اعلم أنّ لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه ؛ لأن النسخ إبطال ، فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه وهذا خلاف الآية. ثم قال : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي حكيم في جميع أفعاله حميد إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه(٧).

قوله تعالى : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) ... الآية لما هدّد الملحدين في آيات الله ثم بين شرف آيات الله وعلو درجة كتاب الله تعالى رجع إلى أمر رسوله بأن يصبر على أذى قومه ، وأن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة وهو قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) إلى قوله : (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) فقال : «ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك» أي إنهم قالوا للأنبياء قبلك : ساحر ، وكذبوهم

__________________

ـ مثل : جاء رجل كريم أبوه في الدّار. وقدم صاحب البديع الوصف بالجملة الفعلية على الوصف بالجملة الاسمية. انظر الهمع بتصرف ٢ / ١٢٠ ، وانظر الدر المصون ٤ / ٧٣٦.

(١) السابق.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) ذكر هذه الأقوال الإمام القرطبي في الجامع ١٥ / ٣٦٦ والإمامان البغويّ والخازن في معالم التنزيل ولباب التأويل ٦ / ١١٣.

(٤) أجد وجهين ذكرهما الزجاج في تفسير تلك العبارة والوجه الآخر : أن الكتب التي تقدمت لا تبطله ولا يأتي بعده كتاب يبطله معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٨٨.

(٥) البغوي والخازن السابقان.

(٦) الكشاف ٣ / ٤٥٥.

(٧) الرازي ٢٧ / ١٣٢.

١٤٧

كما كذّبت. وقيل : المراد ما قال لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل وهو أنه أمرك وأمرهم بالصبر على سفاهة الأقوام (١).

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) قيل : هو مفسر للمقول كأنه قيل : قيل للرسل إن ربك لذو مغفرة (٢) وقيل : هو مستأنف (٣) ومعناه لذو مغفرة لمن تاب وآمن بك ، وذو عقاب أليم لمن أصر على التكذيب.

قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ)(٤٧)

قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي جعلنا هذا الكتاب الذي يقرؤه على الناس قرآناه أعجميّا بغير لغة العرب (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها.

قوله : (ءَ أَعْجَمِيٌّ) قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيق الهمزة ، وهشام بإسقاط الأولى ، والباقون : بتسهيل الثانية بين بين (٤). وأما المدّ فقد عرف حكمه من قوله (أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٥] في أول الكتاب. فمن استفهم قال معناه أكتاب أعجمي ورسول عربي (٥)؟ وقيل : ومرسل إليه عربي (٦)؟ وقيل : معناه (أ(٧)) بعضه أعجمي وبعضه عربي (٨)؟ ومن لم يثبت همزة الاستفهام فيحتمل أنه حملها (٩) لفظا وأرادها معنى ، وفيه توافق القراءتين ، إلا أن ذلك لا يجوز عند الجمهور إلا (١٠) إذا كان في الكلام «أم» نحو : بسبع رمين الجمر أم بثمان (١١).

__________________

(١) السابق.

(٢) ذكره أبو حيان في البحر ٧ / ٥٠١ والسمين في الدرّ ٤ / ٧٣٦.

(٣) المرجع الأخير السابق.

(٤) إحدى القراءات المتواترة ، ذكرها مكي في الكشف ٢ / ٢٤٨ ، وابن الجزري في النشر ٢ / ٣٦٧ وانظر السبعة ٥٧٧ ، والإتحاف ٣٨١ ، وإبراز المعاني ١٢٨ ، والبحر المحيط ٧ / ٥٠٢ ، والكشاف ٢ / ٤٥٥.

(٥) الكشف ٢ / ٢٤٨ ، ومعاني الفراء ٣ / ١٩ ، والكشاف ٣ / ٤٥٥.

(٦) الأخير السابق.

(٧) الهمزة سقطت من ب.

(٨) نقله أبو حيان في بحره ٧ / ٥٠٢.

(٩) في ب حذفها وهو الأصح.

(١٠) انظر الدر المصون ٤ / ٧٣٧.

(١١) سبق هذا البيت.

١٤٨

فإن لم يكن «أم» لم يجز إلا عند الأخفش (١). وتقدم ما فيه.

ويحتمل أن يكون جعله خبرا محضا ويكون معناه : هلا فصّلت آياته فكان بعضها أعجميا يفهمه العجم وبعضه عربيا يفهمه العرب (٢). والأعجمي من لا يفصح ، وإن كان من العرب (٣) وهو منسوب إلى صفته ، كأحمريّ ، ودوّاريّ ؛ فالياء فيه للمبالغة في الوصف وليس فيه حقيقيا (٤). وقال الرازي في لوامحه : فهو كياء كرسيّ وبختيّ (٥).

وفرق أبو حيان بينهما فقال : ليست كياء كرسيّ ، فإنّ ياء كرسيّ وبختيّ بنيت الكلمة عليها بخلاف ياء «أعجميّ» فإنهم يقولون : رجل أعجم وأعجميّ (٦).

وقرأ عمرو بن ميمون (٧) أعجميّ بفتح العين (٨) ـ وهو منسوب إلى العجم ـ والياء فيه للنسب حقيقة ، يقال : رجل عجميّ وإن كان فصيحا. وقد تقدم الفرق بينهما في سورة الشعراء(٩). وفي رفع أعجمي ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره أعجمي وعربي يستويان.

والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي القرآن أعجمي والمرسل به عربيّ.

الثالث : أنه فاعل فعل مضمر ، أي أيستوي عجميّ وعربيّ (١٠)؟ إذ لا يحذف الفعل إلا في مواضع تقدم بيانها.

فصل

قال المفسرون : هذا استفهام على وجه الإنكار ، لأنهم كانوا يقولون : المنزّل عليه عربي ، والمنزّل أعجمي وذلك أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يدخل على يسار (١١) غلام

__________________

(١) قال في المعاني ٢ / ٦٨٥ وقد قرئت من غير استفهام وكل جائز في معنى واحد.

(٢) الدر المصون ٤ / ٧٣٧.

(٣) قاله ابن خالويه في الحجة ٣١٧.

(٤) نقله أبو حيان في البحر المحيط ٧ / ٥٠٢ ، والسمين في الدر ٤ / ٧٣٧.

(٥) بجعل النسب فيه حقيقة ، انظر البحر المرجع السابق.

(٦) البحر المحيط المرجع السابق. والبخت والبختية دخيل في العربية أعجميّ معرب وهي الإبل الخراسانيّة وبعضهم يقول : إن البخت عربي ، والواحد بختيّ وبختيّة ، وفي الحديث : فأتي بسارق قد أتى بختيّة. اللسان بخت ٢١٩.

(٧) عمرو بن ميمون أبو عبد الله الأوديّ الكوفيّ التابعيّ أخذ القراءة عن ابن مسعود ، وروى عن عمر بن الخطاب روى عنه أبو إسحاق السّبيعي وحصين ، مات سنة ٧٥. وقيل سنة أربع. الغاية ١ / ٦٠٣.

(٨) من القراءة الشاذة ، ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢٤٨ وانظر المختصر ١٣٣ ومعاني الفراء ٣ / ١٩.

(٩) فرق بين أعجمي بسكون العين ، وفتحها ، سكون العين لفظه لفظ النسب وليس هناك حقيقة نسب كما أوضح أما أعجمي بالفتح فالهمزة للاستفهام وهو منسوب للعجم وآية الشعراء هي «لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ» ١٩٨.

(١٠) الدر المصون ٤ / ٧٣٧.

(١١) كان عبدا لهذا اليهودي وأسلم في خيبر ومات مقتولا وصلى عليه الرسول انظر أسد الغابة ٥ / ٥٣٣ ، ٥٣٤.

١٤٩

عامر بن الحضرمي وكان يهوديّا أعجميا يكنى أبا فكيهة ، فقال المشركون : إنما يعلمه يسار فضربه سيده وقال : إنك تعلّم محمدا فقال يسار : هو يعلّمني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١). وقال ابن الخطيب : نقلوا في نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت قالوا : هلا نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية. وعندي : أن أمثال هذه الكلمات فيها حذف عظيم على القرآن ، لأنه يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض ، وأنه يوجب أعظم أنواع الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذه الطعن ادعاه كونه كتابا منتظما؟! فضلا عن ادّعاء كونه معجزا ؛ بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد على ما حكى الله عنهم من قولهم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) وهذا الكلام متعلق به أيضا وجواب له والتقدير : إنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا : كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب؟ ويصح لهم أن يقولوا : قلوبنا في أكنة من هذا الكلام ، وفي آذاننا وقر منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه. أما لمّا نزل (٢) هذا الكتاب بلغه العرب وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة فكيف يمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها وفي آذانكم وقر منها؟! فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جوابا عن ذلك الكلام بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم ، وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيب جدّا (٣).

قوله : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي قل يا محمد هو يعني القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء هدى من الضلالة وشفاء لما في القلوب. وقيل : شفاء من الأوجاع (٤). قال ابن الخطيب : هذا متعلق بقولهم : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) ... الآية كأنه تعالى يقول : إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم فلا يمكنكم أن تقولوا قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا هذه اللغة فكل من أعطاه الله تعالى طبعا مائلا إلى الحق ، وقلبا داعيا إلى الصدق وهمّة تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين فإن هذا القرآن يكون في حقه هدى وشفاء. أما كونه هدى فإنه إذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى ، وذلك شفاء لهم من مرض الكفر والجهل ، وأما من غرق في بحر الخذلان وشغف بمتابعة الشيطان فكأنّ هذا القرآن عليهم عمّى ، كما قال (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أولئك ينادون من مكان بعيد بسبب ذلك الحجاب الحائل بينه وبين الانتفاع ببيان القرآن وكل من أنصف ولم يتعسف (٥) علم أن التفسير على هذا الوجه الذي ذكرناه أولى مما ذكروه ؛ لأن السورة تصير من

__________________

(١) في الرازي ـ وهو الأصح ـ حيف وهو ظلم كما سيأتي بعد الرازي ٢٧ / ١٣٣.

(٢) وفيه أنزلنا.

(٣) الرازي ٢٧ / ١٣٣ ، وانظر ما قبل أعلى في البغوي ٦ / ١١٣ و ١١٤.

(٤) ذكر هذا الإمامان البغوي والخازن في تفسيريهما ٦ / ١١٤.

(٥) كذا في تفسير ابن الخطيب وفي ب ينصف بدل يتعسف.

١٥٠

أولها إلى آخرها كلاما واحدا منتظما منسوقا نحو غرض واحد (١).

قوله : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مبتدأ و (فِي آذانِهِمْ) خبره و «وقر» فاعل ، أو (فِي آذانِهِمْ) خبر مقدم و «وقر» مبتدأ مؤخر ، فالجملة خبر الأول (٢).

الثاني : أن «وقرا» خبر مبتدأ مضمر ، والجملة خبر الأول ، والتقدير والذين لا يؤمنون هو وقر في آذانهم. لما أخبر عنه بأنه هدى لأولئك أخبر عنه أنه وقر في آذان هؤلاء وعمّى عليهم(٣) ، قال معناه الزمخشري. ولا حاجة إلى الإضمار مع تمام الكلام بدونه (٤).

الثالث : أن يكون (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) عطفا على «الذين (آمَنُوا) و «وقر» عطف على «هدى» (٥). وهذا من باب العطف على معمولي عاملين وفيه مذاهب تقدم تحريرها.

قوله : «عمى» العامة على فتح الميم المنونة ، وهو مصدر لعمي يعمى عمى ، نحو : صدي يصدى صدى وهوي يهوى هوى. وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزّبير وجماعة عم بكسرها منونة (٦) اسما منقوصا ، وصف بذلك مجازا. وقرأ عمرو بن دينار ، ورويت عن ابن عباس: «عمي» بكسر الميم وفتح الياء فعلا ماضيا (٧). وفي الضمير وجهان :

أظهرهما : أنه القرآن.

والثاني : أنه للوقر ، والمعنى يأباه و (فِي آذانِهِمْ) إن تجعله خبرا تعلق بمحذوف على أنه حال منه لأنه صفة في الأصل ، ولا يتعلق به لأنه مصدر ، فلا يتقدم معموله عليه وقوله : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) كذلك في قراءة العامة وأما في القراءتين المتقدمتين فيتعلق «على» بما بعده إذ ليس بمصدر. قال أبو عبيد : والأولى هي الوجه ، لقوله : (هُدىً وَشِفاءٌ) وكذلك «عمى» وهو مصدر مثلهما ولو كان المذكور أنه هاد وشاف لكان الكسر في «عمي» أجود ، فيكون نعتا لهما.

فصل

قال قتادة : عموا عن القرآن وصمّوا عنه ، فلا ينتفعون به. (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ

__________________

(١) انظر تفسير ابن الخطيب الفخر الرازي مع تغيير طفيف في العبارة ٢٧ / ١٣٥.

(٢) البيان ٣ / ٣٤٢.

(٣) الكشاف ٣ / ٤٥٦.

(٤) ذلك كلام أبي حيان في رده على الزمخشري ٧ / ٥٠٢.

(٥) ذكره الزمخشري في الكشاف المرجع السابق واستبعده قال : وإن كان الأخفش يجيزه الكشاف ٣ / ٤٥٦.

(٦) شاذة ذكرها ابن خالويه ١٣٣ والفراء ٣ / ٢٠ والكشاف ٣ / ٤٥٦.

(٧) السابق.

١٥١

بَعِيدٍ) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء. وقيل: من دعي من مكان بعيد لم يسمع وإن سمع لم يفهم فكذا حال هؤلاء ، وهذا مثل لقلّة انتفاعهم بما يوعظون به (١).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) وجه تعلقه بما قبله كأنه قيل : إنا لما آتينا موسى الكتاب فقبله بعضهم وردّه آخرون فكذلك آتيناك هذا الكتاب ، فقبله بعضهم وهم أصحابك ، ورده آخرون وهم الذين يقولون : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه (٢). ثم قال : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يعني في تأخير العذاب عنهم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع أي لفرغ من عذابهم وعجل إهلاكهم (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من صدقك وكتابك «مريب» موقع لهم الريبة ، فلا ينبغي أن يعظم استيحاشك من قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ). ثم قال : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) يعني خفف على نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم وإن كفروا فضرر كفرهم يعود عليهم (٣) فالله سبحانه وتعالى يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٤).

قوله : «فلنفسه» يجوز أن يتعلق بفعل مقدر أي فلنفسه عمله (٥) ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي فالعامل الصالح لنفسه (٦). وقوله «فعليها» مثله. ثم قال : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) والكلام على نظيره قد تقدم في سورة آل عمران عند قوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [آل عمران : ١٨٢].

قوله (تعالى) (٧) : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) لما هدد الكفار بقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه يوم القيامة ، فكأن سائلا قال : ومتى يكون ذلك اليوم؟ فقال تعالى : إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة وقت ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال : إليه يرد علم الساعة وهذه الكلمة تفيد الحصر ، أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله تعالى وكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله ، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين :

أحدهما : قوله : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها).

والثاني : قوله : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ)(٨).

__________________

(١) البغوي ٦ / ١١٤.

(٢) الرازي ٢٧ / ١٣٤.

(٣) في ب والله ، بالواو.

(٤) انظر المرجعين السابقين.

(٥) الدر المصون ٤ / ٧٣٨.

(٦) التبيان ١١٢٨.

(٧) زيادة من أالأصل.

(٨) قاله الإمام الرازي في تفسيره التفسير الكبير ٢٧ / ١٣٦ و ١٣٧.

١٥٢

قوله : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ)(١) ما هذه (٢) يجوز أن تكون نافية وهو الظاهر وأن تكون موصولة جوّز ذلك أبو البقاء (٣) ، ولم يبين وجهه ، وبيانه أنها مجرورة المحل عطف على الساعة أي (عِلْمُ السَّاعَةِ)(٤) وعلم التي تخرج ، و (مِنْ ثَمَراتٍ) على هذا حال ، أو تكون «من» للبيان ، و «من» الثانية لابتداء الغاية. وأما الثانية فنافية فقط. قال أبو البقاء : لأنه عطف عليها (وَلا تَضَعُ) ثم نقض النفي بإلا ولو كانت بمعنى الذي معطوفة على الساعة لم يجز ذلك(٥).

وقرأ نافع وابن عامر «ثمرات» (٦) ويقويه أنها رسمت بالتاء الممطوطة والباقون ثمرة بالإفراد ، والمراد بها الجنس ، فإن كانت «ما» نافية كانت «من» مزيدة في (٧) الفاعل ، وإن كانت موصولة كانت للبيان (٨) كما تقدم. والأكمام جمع «كمّ» بكسر الكاف ؛ كذا ضبطه الزمخشري (٩) ، وهو ما يغطي الثمرة كجفّ الطّلع (١٠). وقال الراغب : الكم ما يغطي اليد من القميص وما يغطي الثمرة وجمعه : أكمام (١١) ، وهذا يدل على أنه مضموم الكاف ؛ إذ جعله مشتركا بين «كم» القميص ، و «كم» الثمرة ، ولا خلاف في «كم» القميص بالضم فيجوز أن يكون في وعاء الثمرة لغتان ، دون «كم» القميص جمعا بين قوليهما (١٢). وأما أكمّة فواحدها «كمام» كأزمّة وزمام (١٣).

قال أبو عبيدة : أكمامها أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم (١٤) وكمّة. قال

__________________

(١) ضبطت في النسخ ثمرة بالإفراد.

(٢) في ب يجوز أن تكون «ما» نافية .. الخ.

(٣) التبيان ١١٢٨.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٥) في التبيان لم يستقم وكل هذا أخذ من التبيان لأبي البقاء ١١٢٨.

(٦) هي القراءة المعهودة عن حفص عن عاصم وهي قراءة متواترة انظر السبعة لابن مجاهد ٥٧٧ والكشف لمكي ٢ / ٢٤٩.

(٧) وهو ثمرات وهو حينئذ يكون مرفوعا بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

(٨) انظر الدر المصون ٤ / ٧٣٩.

(٩) الكشاف ٣ / ٤٥٦.

(١٠) في النخل خاصة ويسميه عوام الناس الكوز وانظر اللسان «جفف» ٦٤٢.

(١١) المفردات للراغب ٤٤١.

(١٢) في ب قولهما وفي اللسان : والكم للطلع ـ بضم الكاف ـ وقد ضبطت في المحكم والتهذيب بالضم ككمّ القميص. بينما وجدت في المصباح والقاموس والنهاية كم الطلع وكل نور بالكسر وانظر اللسان كمم ٣٩٣١ والقاموس والمصباح «كمم».

(١٣) نقل صاحب اللسان عن الجوهري : والكمّ بالكسر والكمامة وعاء الطّلع وغطاء النور ، والجمع كمام وأكمّة وأكمام اللسان المرجع السابق.

(١٤) في ب كمة وانظر المجاز ٢ / ١٩٨ «أي أوعيتها واحدتها كمّة» وهو ما كانت فيه وكم وكمة واحد وجمعهما أكمام وأكمة.

١٥٣

ابن عباس (رضي الله عنهما) (١) : يعني الكفرّى (٢) قبل أن تنشقّ. «وما تحمل من أنثى ولا تضع إلّا بعلمه» أي إليه يرد علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنّتاج (٣).

قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) أي بحسب زعمكم واعتقادكم. (و) فتح ابن كثير ياء شركائي (٤). «قالوا آذنّاك» قال ابن عباس ـ (رضي الله (٥) عنهما) : أسمعناك ، كقوله (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) [الإنشقاق : ٢] ، يعني سمعت. وقال الكلبي : أعلمناك ، قال ابن الخطيب : وهذا بعيد ؛ لأن أهل القيامة يعلمون أن الله تعالى يعلم الأشياء علما واجبا ، فالإعلام في حقه محال (٦).

قوله : (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) هذه الجملة المنفية معلقة «لآذناك» ؛ لأنهما بمعنى أعلمناك ، قال :

٤٣٦٦ ـ آذنتنا ببينها أسماء

ربّ ثاو يملّ منه الثّواء (٧)

وتقدم الخلاف في تعليق أعلم (٨). و «من» للغاية. والصحيح وقوعه سماعا من العرب. وجوّز أبو حاتم أن يوقف على «آذنّاك» وعلى «ظنوا» ويبتدأ بالنفي بعدهما على سبيل الاستئناف. و «منّا» خبر مقدم. و (مِنْ شَهِيدٍ) مبتدأ ، ويجوز أن يكون (مِنْ شَهِيدٍ) فاعلا بالجار قبله ؛ لاعتماده على النفي (٩).

فصل

في معنى الآية وجوه :

قيل : ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكا لما عاينوا العذاب تبرأوا من الأصنام.

__________________

(١) زيادة من أ.

(٢) وهي وعاء طلع النخل والكافور. اللسان كفر.

(٣) انظر معالم التنزيل ٦ / ١١٤.

(٤) الإتحاف ٣٨٢ وهي من الأربع فوق العشر المتواترة.

(٥) زيادة من أ.

(٦) الرازي ٢٧ / ١٣٦.

(٧) البيت من الخفيف ، وهو مطلع معلقة الحارث بن حلّزة اليشكريّ وأسماء اسم امرأة. والبين البعد والمعنى لا نملّ إقامة هذه المرأة بيننا لكنها أعلمتنا بالرحيل.

والشاهد : آذنتنا فإنها بمعنى أعلمتنا. وقد تقدم.

(٨) للثاني والثالث من مفاعيل أعلم وأرى ما كان لهما في با ب «علم ورأى» من جواز الإلغاء والتعليق وغيرهما ومنع قوم الإلغاء والتعليق هنا سواء ثبت للفاعل أم للمفعول ، وعليه ابن النحاس وابن أبي الربيع لأن مبنى الكلام عليهما ولا يجيء بعد ما مضى الكلام على الابتداء ومنعهما آخرون إن ثبت للفاعل وعليه الجزوليّ ؛ لما فيه من إعمالها في المفعول الأول وإلغائها بالنسبة إلى الأخيرين وذلك تناقض لأنه بقوة وضعف معا بخلاف ما إذا لم يثبت للمفعول. ومنع آخرون التعليق دون الإلغاء وعليه الأكثرون ، ومنع قوم إلغاء أعلم دون أرى ، وعليه الشلويين ؛ لأن أعلم مؤثر فلا يلغى كما تلغى الأفعال المؤثرة. وأرى بمعنى أذن موافقة في الإلغاء كما وافقه في المعنى. انظر الهمع ١ / ١٥٨.

(٩) انظر في هذا التبيان للعكبري ١١٢٨ و ١١٢٩ والدر المصون ٤ / ٧٤٠.

١٥٤

وقيل : معناه ما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم فلا يبصرونها في ساعة التوبيخ وقيل : هذا كلام الأصنام كأن الله يجيبها ، ثم إنها تقول : «ما منّا من أحد يشهد» بصحة ما أضافه إلينا من الشركة ، وعلى هذا التقدير فمعنى ضلالهم عنهم (أنهم (١) لا ينفعونهم وهي معنى قوله : (وَضَلَّ عَنْهُمْ) ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ).

قوله تعالى : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)(٥٤)

قوله تعالى : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) كقوله : (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ)(٢) ومعناه : أنهم أيقنوا أنهم لا محيص لهم عن النار أي مهرب ، وهذا ابتداء كلام من الله تعالى.

قوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) ... الآية لما بين تعالى من حال هؤلاء الكفار (أنهم) (٣) بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله في الدنيا تبرأوا عن تلك الشركاء في الآخرة بين أن الإنسان في جميع الأوقات متغير الأحوال ، فإن أحسّ بخير وقدرة تعاظم ، وإن أحسّ ببلاء ومحنة ذلّ. والمعنى أن الإنسان في حال الإقبال لا ينتهي إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها ، وفي مجال الإدبار والحرمان يصير آيسا قانطا. وفي قوله «يؤس (قَنُوطٌ) مبالغة من وجهين :

أحدهما : من طريق فعول.

والثاني : من طريق التكرار.

واليأس من صفة القلب ، والقنوط أن يظهر آثار اليأس في الوجه والأحوال الظاهرة.

ثم بين تعالى أن الذي صار آيسا قانطا لو عاودته النعمة والدّولة (٤) وهو قوله : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من أالأصل.

(٢) أي كإعراب «ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» السابق.

(٣) سقط من ب.

(٤) الدولة ـ بضم الدال أو فتحها على خلاف في ذلك ـ العقبى في المآل وانظر اللسان دول ١٤٥٥.

١٥٥

رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) فإنه يأتي بثلاثة أنواع من الأقاويل الفاسدة الموجبة للكفر والبعد عن الله (١).

فالأول : قوله (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) وهو جواب القسم لسبقه الشرط ، وجواب الشرط محذوف كما تقدم تقريره (٢).

وقال أبو البقاء : ليقولن جواب الشرط والفاء محذوفة (٣). قال شهاب الدين (رحمه‌الله (٤)) وهو لا يجوز إلا في شعر كقوله :

٤٣٦٧ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

 ......... (٥)

حتى إنّ المبرد يمنعه في الشعر ، ويروى البيت :

٤٣٦٨ ـ من يفعل الخير فالرّحمن يشكره (٦)

فصل

معنى قوله : «هذا لي» أي هذا حقي وصل إليّ ؛ لأني استوجبته بعلمي وعملي ، ولا يعلم المسكين أن أحدا لا يستحق على الله شيئا ، لأنه إن كان عاريا من الفضائل ، فكلامه ظاهر الفساد ، وإن كان موصوفا بشيء من الفضائل والصفات الحميدة فهي إنما حصلت بفضل الله تعالى وإحسانه ، فيثبت بهذا فساد قوله : إنما حصلت هذه الخيرات بسبب استحقاقي.

النوع الثاني من كلامه الفاسد : قوله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ، والمعنى أنه يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النّفرة عن الآخرة فإذا آل الأمر إلى أحوال الدنيا يقول : إنها لي ، وإذا آل الأمر إلى الآخرة يقول : وما أظنّ السّاعة قائمة.

النوع الثالث من كلامه الفاسد : قوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي أن هذا الكافر يقول : لست على يقين من البعث وإن كان الأمر على ذلك ورددت إلى ربي إن لي عنده للحسنى أي الجنة ، كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة. ولما

__________________

(١) وانظر في هذا كله الفخر الرازي ٢٧ / ١٣٧.

(٢) ذكره السمين في الدر ٤ / ٧٤٠ وانظر التبيان ١١٢٩.

(٣) السابق.

(٤) زيادة من أ.

(٥) صدر بيت من البسيط عجزه :

 ..........

والشّرّ بالشرّ عند الله مثلان

وهو لعبد الرحمن بن حسّان. واستشهد به على حذف الفاء من قوله : «الله يشكرها» والأصل فالله يشكرها ، ولم يرتض المبرد هذا. وقد تقدم.

(٦) قال المبرد في المقتضب : فلا اختلاف بين النحويين أنه على إرادة الفاء ؛ لأن التقديم فيه لا يصلح وانظر نوادر أبي زيد ٢٠٧ ، ٢٠٨.

١٥٦

حكى الله تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال (١) : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) قال ابن عباس (٢) ـ رضي الله عنهما ـ : لنوقفنّهم على مساوىء أعمالهم (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) وهذا في مقابلة قولهم : (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى). ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الآفات حكى أفعاله أيضا فقال : (إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي أعرض عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله. (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي تعاظم ، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع (٣). ومعنى «عريض» كبير. والعرب تستعمل الطّول والعرض في الكثرة ، يقال : أطال فلان الكلام والدعاء وأعرض أي أكثر (٤).

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) تقدم الكلام عليها ، ومفعولها الأول هنا محذوف ، تقديره أرأيتم أنفسكم والثاني (٥) هو الجملة الاستفهامية.

فصل

ومعنى الآية إنكم لما سمعتم هذا القول القرآن أعرضتم عنه ، وما تأملتم فيه وبالغتم في النّفرة عنه حتى قلتم قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلا وليس العلم بفساد القول بالتوحيد والنبوة علما بديهيّا فقيل : الدليل يحتمل أن يكون صحيحا ، وأن يكون فاسدا ، فبتقدير أن يكون صحيحا كان إصراركم على دفعه من أعظم موجبات العقاب فيجب عليكم أن تتركوا هذه النفرة ، وأن ترجعوا إلى النظر والاستدلال فإن دلّ دليل على صحته قبلتموه ، وإن دل دليل على فساده تركتموه ، وقبل الدليل فالإصرار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل. فقوله : (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) موضوع موضع بيان حالهم وصفتهم (٦).

ولما ذكر هذه الوجوه الكثيرة في تقرير التوحيد والنبوة أجاب عن شبهات المشركين فقال : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) الآفاق جمع أفق وهو الناحية. نقل النّوويّ في التهذيب قال أهل اللغة : الآفاق النّواحي ، الواحد أفق بضم الهمزة والفاء ، وأفق ـ بإسكان الفاء ـ قال الشاعر (رحمه‌الله) (٧) :

٤٣٦٩ ـ لو نال حيّ من الدّنيا بمنزلة

أفق السّماء لنالت كفّه الأفقا (٨)

__________________

(١) الرازي ٢٧ / ١٣٧ و ١٣٨.

(٢) البغوي والخازن ٦ / ١١٥.

(٣) الرازي السابق والكشاف ٣ / ٤٥٧.

(٤) المرجعان السابقان.

(٥) البحر المحيط ٧ / ٥٠٥ ، والسمين ٤ / ٧٤٠.

(٦) الرازي ٢٧ / ١٣٨ و ١٣٩.

(٧) زيادة من أ.

(٨) من البسيط لزهير بن أبي سلمى.

والشاهد في أفق الأولى والثانية حيث إنهما مفرد آفاق والأولى بضم الهمزة وتسكين الفاء والثانية بضم ـ

١٥٧

وهو كأعناق في عنق ، أبدلت همزته ألفا (١). ونقل الراغب أنه يقال : أفق ـ بفتح الهمزة والفاء ـ (٢) فيكون كجبل وأجبال. وأفق فلان أي ذهب في الآفاق. والآفق الذي بلغ نهاية الكرم تشبيها في ذلك بالذاهب في الآفاق. والنسبة إلى الأفق أفقيّ ـ بفتحهما (٣) ـ. ويحتمل أنه نسب الى المفتوح ثم استغنوا بذلك عن النسبة إلى المضموم ، وله نظائر (٤). قال النووي : قالوا والنسبة إليه أفقيّ بضم الهمزة والفاء وبفتحهما لغتان (٥) مشهورتان.

فصل

قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما (٦) ـ) : معنى قوله سنريهم آياتنا في الآفاق أي منازل الأمم الخالية وفي أنفسهم بالبلاء والأمراض. وقال قتادة : يعني وقائع الله تعالى في الأمم الخالية وفي أنفسهم يوم بدر. وقال مجاهد والحسن والسدي : ما يفتح الله من القرى على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمسلمين وفي أنفسهم : فتح مكة. (٧)

فإن قيل : حمل الآية على (هذا) الوجه بعيد ؛ لأن أقصى ما في الباب أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم استولى على البلاد المحيطة بمكة ثم استولى على مكة إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقا فإنا نرى بعض الكفار قد يستولي على بلاد المسلمين وعلى ملوكهم (٨) (وهذا لا يدل على كونهم) محقين.

فالجواب : أنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ على تلك البلاد على كونه محقا في ادعاء النبوة ، بل يستدل به من حيث إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر عن أنه سيستولي عليها ويقهر أهلها وهذا إخبار عن الغيب ، وقد وقع مخبره مطابقا لخبره ، فيكون هذا إخبارا صدقا عن الغيب فيكون معجزا فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا

__________________

ـ الهمزة والفاء ، ومن المحتمل أن يكون للوزن العروضي دخل في هيئة الكلمتين. وانظر الديوان له ٥٥ ، والبحر المحيط ٧ / ٤٨١ ، والدر المصون ٤ / ٧٤٠.

(١) يقصد أن آفاق جمع عن أفق وآفاق أصلها أأفاق بزنة أفعال ، فاجتمعت همزتان الأولى متحركة والثانية ساكنة فأبدلت الثانية من جنس حركة الأولى مثل : آبار ، وآثام وغيرهما.

(٢) أتى الراغب في كتابه بهذه الكلمة دون ضبط إلا أن محقق الكتاب ضبطها بالكسر.

(٣) ومحقق الكتاب ضبطها أيضا بضم الهمزة والفاء واحتمال أن يعود هذا كله إلى الطبع والسهو والله أعلم انظر المفردات (١٩) «أفق».

(٤) قال إمام النحاة سيبويه فيما جاء من النسب شاذا .. وفي السّهل سهليّ وفي الدّهر دهريّ .. وقالوا في الأفق : أفقيّ ، ومن العرب من يقول : أفقيّ فهو على القياس الكتاب ٣ / ٣٣٦ ، وانظر أيضا اللسان أفق ٩٦ ومفردات الراغب السابق ١٩.

(٥) انظر تهذيب النووي المرجع السابق.

(٦) سقط من ب.

(٧) هذه الآراء ذكرها القرطبي في الجامع ١٥ / ٣٧٤ و ٣٧٥.

(٨) ما بين القوسين سقط من أالأصل.

١٥٨

الاستيلاء على كون هذا الدين حقا. وقال عطاء وابن زيد : في الآفاق يعني أقطار السماوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم ، وآيات الليل والنهار ، والأضواء ، والظلال والظلمات والنبات والأشجار والأنهار ، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة ، وبديع الحكمة ، في كيفية تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام ، وحدوث الأعضاء العجيبة ، والتركيبات الغريبة ، كقوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١] يعني نريهم هذه الدلائل (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) من عند الله يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه مرسل من عند الله.

فإن قيل : هذا الوجه ضعيف ، لأن قوله تعالى (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك ، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد أطلعهم عليها قبل ذلك فيتعذر حمل اللفظ على هذا الوجه.

فالجواب : أن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب (التي أودعها (١) الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زمانا فزمانا ؛ لأن كل أحد رأى بنية الإنسان وشاهدها ، إلا أن العجائب) إلى أبدعها الله تعالى في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها ، والذي وقف على شيء منها كلّما ازداد وقوفا على تلك العجائب ازداد يقينا وتعظيما ، وكذلك التركيبات (الفلكية أيضا) (٢).

والأولى أن يقال : إن كان المراد بقوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(٣) هو الرسول فقول مجاهد أولى وإن كان المراد به الدين والتوحيد فهذا أولى.

قوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) فيه وجهان :

أحدهما : أن الباء مزيدة في الفاعل ، وهذا هو الراجح ، والمفعول محذوف ، أي أو لم يكف ربّك (٤).

وفي قوله : (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وجهان :

أحدهما : أنه بدل من «بربك» فيكون مرفوع المحل ، مجرور اللفظ كمتبوعه (٥).

والثاني : أن الأصل بأنه ، تم حذف الجار فجرى الخلاف (٦).

الثاني من الوجهين الأولين : أن يكون «بربّك» هو المفعول و «أنه» وما بعده هو

__________________

(١) ما بين القوسين كله سقط من ب بسبب انتقال النظر. وانظر في هذا كله تفسير الإمام الرازي ٢٧ / ١٣٩ و ١٤٠.

(٢) سقط من ب.

(٣) انظر الرازي المرجع السابق.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ٤٥٨ معنى ، والبحر المحيط ٧ / ٥٠٥ والدر المصون ٤ / ٧٤١ لفظا.

(٥) المرجع السابق بالمعنى من الكشاف السابق أيضا.

(٦) المرجع قبل الأخير ، وقد نقل هذه الأوجه أبو البقاء في التبيان ١١٢٩ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٣٤.

١٥٩

الفاعل ، أي أو لم يكف ربّك شهادته. وقرىء : «إنّه على كلّ» «بالكسر» (١) ، وهو على إضمار القول أو على الاستئناف.

فصل

اعلم أن قوله «بربّك» في موضع الرفع على أنه فاعل كفى كما تقدم ومعناه : أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ، أي شهيدا على الأشياء لأنه خلق الدلائل الدالة عليها.

وقال مقاتل : أو لم يكف (٢) بربك شاهدا أن القرآن من الله عزوجل. قال الزجاج : معنى الكفاية ههنا أن الله عزوجل قد بين من الدلائل ما فيه كفاية (٣).

قوله : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي في شك من البعث والقيامة (٤). وقرأ أبو عبد الرحمن (٥) والحسن في مرية ـ بضم الميم (٦) ـ وقد تقدم أنها لغة في المكسورة (٧) الميم.

ثم قال : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي عالم بكل المعلومات (التي لا نهاية لها (٨) فيعلم بواطن الكفار وظواهرهم ويجازي كل واحد على فعله).

فإن قيل : الإحاطة مشعرة بالنهاية ، وهذا يقتضي أن يكون معلومه (٩) متناهيا!

فالجواب : أن قوله : (بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) يقتضي أن يكون عمله بكل شيء محيطا أي بكلّ واحد من الأشياء وهذا يقتضي أن يكون واحد منها متناهيا لا كون مجموعها متناهيا والله أعلم.

روى الثعلبي في تفسيره أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «من قرأ حم السجدة أعطاه الله من الأجر بكل حرف منها عشر حسنات» (١٠).

__________________

(١) قراءة شاذة ولم ينسبها أبو حيان في البحر ولا السمين في الدر انظر البحر ٧ / ٥٠٥ ، والدر المصون ٤ / ٧٤١.

(٢) البغوي ٦ / ١١٥.

(٣) قال : «ومعنى الكفاية ههنا أنه قد بيّن لهم ما فيه كفاية في الدلالة على توحيده وبينت رسله» معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٩٢.

(٤) قاله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ١١٥ والقرطبي في الجامع ١٥ / ٣٧٥.

(٥) هو أبو عبد الرحمن السلمي وقد تقدم التعريف به.

(٦) نقلها صاحب الإتحاف من الآية ١١ من هود وعلى ذلك فهي من الأربع الشواذ فوق العشر المتواترات وذكرها كقراءة الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٥٨.

(٧) قال في اللسان : والمرية والمرية الشك والجدل بالكسر والضمّ وقرىء بهما في قوله عزوجل «فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ». قال ثعلب : هما لغتان ، قال: وأما مرية الناقة فليس فيها إلا الكسر (ومرية الناقة أي التي تدر على من يمسح ضروعها) والضمّ غلط. اللسان (مرا) ٤١٨٩.

(٨) ما بين القوسين ساقط من أالأصل.

(٩) في ب معلوما وفي الرازي علومه ففي الثلاث اختلاف لفظي يعود إلى معنى واحد.

(١٠) ذكره الكشاف للزمخشري بدون سند. انظر الكشاف ٣ / ٤٥٩.

١٦٠