الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

فصل في القلوب في المصطلح الشرعي : ورد في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى عن الكافرين : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) وورد قوله تعالى عن المنافقين : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وترد كلمة القلب في الكتاب والسنة كثيرا ، وكثيرون من الناس يغلطون في شأنها. وباختصار نقول : إن هناك قلبا محسوسا لكل الناس يشترك فيه الإنسان مع كثير من المخلوقات هو القلب الدموي ، هذا القلب الذي له وظيفة المضخة الدموية هو مركز لقلب آخر هو مركز الأحاسيس الوجدانية ، من حب وبغض وحقد وسماحة وخوف وأمن ، وهذه القضايا كذلك محسوسة لكل الناس ، إذ كل الناس يحسون بشىء من هذه المعاني في قلوبهم. هذا القلب الثاني هو محل الإيمان الذوقي ، وهو محل الكفر والنفاق كذلك ، وههنا نجد أمورا محسة عند بعض الناس وغير محسة عند آخرين ، فأهل الإيمان ـ مثلا يحسون بمعان كثيرة في قلوبهم ، هذه المعاني لا يحس بها الكافرون لأن هذا الجانب في قلوبهم ميت ، هذا القلب المرتبط بالقلب الدموي ليس هو عين القلب الدموي ، بدليل أن الذين أجريت لهم عمليات استئصال لقلوبهم ، وأعطوا قلبا آخر ، لم تتغير أحاسيسهم ، وفي التفريق بين القلب الدموي والقلب الآخر يقول صاحب حاشية الجمل على تفسير الجلالين : «وحيث أطلق القلب في لسان الشرع فليس المراد به الجسم الصنوبري الشكل فإنه للبهائم وللأموات ، بل المراد به معنى آخر يسمى بالقلب أيضا ، وهو جسم لطيف قائم بالقلب اللحماني قيام العرض بمحله أو قيام الحرارة بالفحم ، وهذا القلب هو الذي يحصل منه الإدراك وترتسم فيه العلوم والمعارف». هذا القلب في المصطلح الشرعي يمرض ويصح ويموت ويعمى ويصم. ومن ثم رأينا في الكلام عن الكافرين في الفقرة كيف أن الله عزوجل قال (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) وقال عن المنافقين (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ووصفهم بقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ.)

هذا القلب في المصطلح الشرعي مقره الصدر لا كما توهم بعضهم ، من أن مقره الدماغ ، قال تعالى (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج : ٤٦) فحدد مكانها في الصدور. وقد فصلنا في كتابنا (تربيتنا الروحية) في هذه المعاني فليراجع.

وبمناسبة قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) وقوله تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ننقل هذه النقول :

٨١

قال مجاهد : «الران أيسر من الطبع ، والطبع أيسر من الأقفال ، والأقفال أشد من ذلك كله».

وقال مجاهد : «ثبتت الذنوب على القلب ، فحفت به من كل جوانبه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع ، والطبع : الختم» :

وقال : «كانوا يرون أن القلب في مثل هذه ـ يعني الكف ـ فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه وقال : بأصبعه الخنصر هكذا ، فإذا أذنب ضم وقال : بأصبع أخرى ، فإذا أذنب ضم ، وقال : بأصبع أخرى ، هكذا ، حتى ضم أصابعه كلها ثم قال : يطبع عليه بطابع. وقال مجاهد : كانوا يرون أن ذلك عين الران».

وفي الحديث الصحيح عن حذيفة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير القلوب على قلبين قلب أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة مادامت السموات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا».

وأخرج الترمذي وغيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : «إن المؤمن إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه. وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي قال الله تعالى (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين : ١٤) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

قال ابن جرير : فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ، ولا للكفر عنها مخلص ، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) نظير الختم والطبع على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها ، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه» اه.

فإذا علم الإنسان هذا وفهم قوله تعالى (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وما أشبه ذلك من الآيات ، أدرك أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق.

٨٢

وبمناسبة ما مر أقول : إن التركيز على قضية القلب من أهم ملامح التربية القرآنية والنبوية ، وقد أهمل الناس هذا إلا القليل ، والقليل عنده دخن كثير إلا أقل القليل. ولأن الجزء الأكبر من التكاليف الربانية منوط بالقلب ، فإن على الإنسان أن ينتبه لذلك. ونحن ـ في هذه السلسلة ـ سنعطي هذا الموضوع حقه ، كلما جاءت مناسبته بإذن الله.

فصل في الكفر الذي لا يؤمن أهله :

يلاحظ أن كثيرين من الناس يكونون كافرين ثم يدخلون في الإسلام ، وقد ذكرت الفقرة التي تحدثت عن الكافرين في مقدمة سورة البقرة أن الكافرين يستوي عليهم الإنذار وعدمه فهم لا يؤمنون فكيف نجمع بين هذا وهذا؟ قال بعض المفسرين في هذا : والمراد بالذين كفروا هنا أناس علم الله أنهم لا يؤمنون فهؤلاء يستوي عليهم الإنذار وعدمه ، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ ..) قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له السعادة في الذكر التفسير ، أن هاتين الآيتين قد فصلت فيهما سور في كتاب الله ، ومن خلال دراسة هذه السور سنرى أن الكفر الكامل هو ما انعدمت فيه قضية الفطرة في قلب الإنسان ، وأن هذا له علاماته وله حقيقته وثمراته. فمن اجتمعت له الحقيقة والثمرات والعلامات فهذا الذي لم تعد فيه بقية من الفطرة ، وهذا الذي لم يعد ينفع معه إنذار. ولكون هذا لا يعلمه إلا الله فإننا مكلفون بالإنذار لإقامة الحجة ، أما الكافرون الذين لم يصلوا إلى مثل تلك الدرجة ، فهؤلاء لازال في شأنهم أمل أن يهتدوا بإذن الله (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (الأنعام : ١٢٢) ولا يصل الإنسان إلى الكفر الذي لا أمل معه في الإيمان إلا بسيره في طريق ذلك كما رأينا. في الفصل السابق ، وهذا موضوع سنراه كثيرا. وبكلامنا هذا لا نرد على من ذهب إلى أن الآيتين وردتا في شأن كفار علم الله أنهم لا يؤمنون ، بل كلامنا تبيان لأسباب هداية بعض الكافرين وعدم هداية بعضهم ، وإلا فالآيتان حتما واردتان في كفار علم الله أنهم لا يهتدون.

٨٣

٥ ـ فوائد

(أ) أخرج الترمذي وابن ماجه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس) قال الترمذي عنه : حديث حسن غريب. وذكر ابن كثير أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له : أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال : بلى ، قال : فما عملت؟ قال : شمرت واجتهدت قال : فذلك التقوى ..» وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيرا من زوجة صالحة إن نظر إليها سرته وإن أمرها أطاعته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله) ، دل الحديث على أن تقوى الله هي أعظم ما يعطاه عبد.

(ب) مما أورده ابن كثير بمناسبة قوله تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)

ـ قال أبو العالية في تفسير الإيمان بالغيب : «الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث».

ـ عن عبد الرحمن بن يزيد قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا فذكرنا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما سبقونا به فقال عبد الله : إن أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ (الم ذلِكَ الْكِتابُ ..) إلى قوله : (الْمُفْلِحُونَ) قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وعن صالح بن جبير قال : «قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيت المقدس يصلي فيه ، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة ، فلما انصرف خرجنا نشيعه فلما أراد الانصراف قال : إن لكم جائزة وحقا أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلنا : هات رحمك الله. قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنا معاذ بن جبل ـ عاشر عشرة ـ فقلنا : يا رسول الله : هل من قوم أعظم منا أجرا؟ آمنا بالله واتبعناك. قال : ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء ، بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين ، يؤمنون به ويعملون بما فيه ، أولئك أعظم منكم أجرا ، أولئك أعظم منكم أجرا».

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا : الملائكة ، قال : وما لهم لا يؤمنون وهم

٨٤

عند ربهم؟ قالوا : فالنبيون ، قال : وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ قالوا : فنحن ، قال : وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا إن أعجب الخلق إلي إيمانا ، لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها». قال ابن كثير : قال الحاكم : صحيح الإسناد دلت هذه النصوص على فضل إيمان من جاء بعد الصحابة من المسلمين ، ولا يعني ذلك أن من جاء بعد الصحابة أفضل منهم بل من جاء بعدهم أعظم أجرا من هذه الحيثية لا مطلقا.

(ج) أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له : يا رسول الله : إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس أو كما قال. قال : أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا : بلى يا رسول الله ... قال : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) إلى قوله تعالى (الْمُفْلِحُونَ) هؤلاء أهل الجنة ، قالوا : إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثم قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ ... وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) هؤلاء أهل النار. قالوا : لسناهم يا رسول الله .. قال : أجل.

(د) فهم بعضهم أن الفقرة الأولى من مقدمة سورة البقرة ذكرت صنفين من أهل الإيمان ، الأول : هم الذين آمنوا بالقرآن دون أن يكونوا على دين سماوي سابق ، وهؤلاء هم الذين ذكروا في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.)

والثاني : هم الذين كانوا على دين سماوي سابق ثم آمنوا بالقرآن وهم الذين ذكروا في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ونحن في التفسير الحرفي لم نعتمد هذا الاتجاه ، بل اعتبرنا أن المتكلم عنهم في الفقرة صنف واحد ، فالناس كلهم مطالبون بالإيمان بالغيب والإيمان بالوحي كله وباليوم الآخر ، وقد ذكرنا حكمة التفصيل بذكر الإيمان بالوحي كله وباليوم الآخر مع أنهما داخلان في الإيمان بالغيب ؛ نعم قد يكون من حكمة ذكر قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) البيان لأهل الكتاب ولأصناف من الناس قد لا يعتبرون الإيمان بالآخرة ضروريا ، قد يكون من جملة الحكم في التفصيل البيان لهؤلاء جميعا أن التقوى لا بد فيها من إيمان بالوحي كله وباليوم الآخر هذا مع الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق والاهتداء بكتاب الله.

٨٥

(ه) في قوله تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) يصح الوقوف على قوله تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ) كما يصح الوقوف على (لا رَيْبَ فِيهِ) فإذا وقفنا على (لا رَيْبَ) كان المعنى : هذا القرآن الذي لا يدانيه كتاب بلاشك ، فيه هدى للمتقين وفي هذه الحالة يكون في الآية إشارة إلى أن المتقين يأخذون هداية أخرى نفهمها من نصوص الكتاب ذاته إذ المتقون مكلفون بالاهتداء بالسنة مع الكتاب ، وبما أحال عليه الكتاب والسنة من طرق الاهتداء إلى حكم الله. أما الوقوف على قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) فإنه يفيد أن أصل الريب منفي عن هذا الكتاب ، بينما على الوقف الأول ، فإن الشك منفي عن أن هذا الكتاب يدانيه كتاب آخر ، ثم إن قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) في الوقف على (لا رَيْبَ فِيهِ) يعطينا أن هداية المتقين محصورة في الكتاب ، ولا تنافي بين المعاني فهداية المتقين محصورة في الكتاب. ولكن الكتاب هداهم إلى اعتماد السنة والاهتداء بها ، وإلى اعتماد الإجماع والاهتداء به ، وإلى اعتماد القياس وغيره. وهكذا نرى أنه من خلال الوقف فقط عرفنا معاني متعددة يكمل بعضها بعضا ويفسر بعضها بعضا ، وسنرى هذا وغيره فندرك كيف أنه من خلال الوقف ، ومن خلال القراءات المتعددة ، ومن خلال السياق الخاص ، ومن خلال السياق العام ، تتولد عن هذا القرآن معاني لا نهاية لها ، وكل هذا مع تيسير الفهم لكتاب الله ، لكل طبقات الناس ، بحيث يأخذ كل من مائدة القرآن ثم هي تبقى بلا نفاد.

(و) قال قتادة في نعت المنافق : «خنع الأخلاق يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ، يصبح على حال ويمسي على غيره ، ويمسي على حال ويصبح على غيره ، ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبت ريح هبت معها».

وقال مالك : المنافق في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الزنديق اليوم ..

ونقل ابن كثير ـ عن بعض العلماء ـ أن المنافقين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون أنهم يقتلون ...

وقال ابن كثير : «وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر ، هل يستتاب أم لا؟ أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا؟ أو يتكرر منه ارتداده أم لا؟ أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟» وسنتحدث عن هذا

٨٦

الموضوع في سورة الأحزاب عند قوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً.)

(ز) فرق بعض العلماء بين النفاق الاعتقادي والنفاق العملي ، والحقيقة أن النفاق حالة قلبية تنبثق عنها أخلاقيتها ، كما أن الكفر حالة قلبية تنبثق عنها أخلاقيتها ، وكذلك الإيمان حالة قلبية تنبثق عنها أخلاقيتها. فمن أخلاقية النفاق ما ذكره لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان». وكذلك ما أخرجه البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا ائتمن خان. وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» ، فهذه أخلاقيات النفاق التي تدل على وجوده ، ومن الحديث الأخير ندرك أن علينا أن نفرق بين النفاق الخالص والنفاق المخالط ، وفي الأصل فإن علينا أن نفرق بين الزلة العارضة والخلق الدائم.

(ه) من ذكر التجارة في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) نفهم فهما بعيدا لا ينصب عليه السياق أن من عوامل النفاق وأسبابه الرغبة في الدنيا ، والحرص عليها ، وأنهم باعوا دينهم بمنفعة أو مصلحة.

٦ ـ كلمة في السياق

(أ) جاءت مقدمة سورة البقرة بعد سورة الفاتحة مباشرة فأرتنا النموذج الذي ينبغي أن نكونه ، وعرفتنا على نموذجين لا ينبغي أن نكون من أهلهما ، ولنلاحظ خاتمة سورة الفاتحة :

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فهؤلاء رأينا نموذجهم الفقرة الأولى عن المتقين.

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.) وقد رأينا نماذج ذلك في الفقرتين الثانية والثالثة من مقدمة سورة البقرة ، فالكافرون مغضوب عليهم وضالون ، والمنافقون مغضوب عليهم وضالون ، ولا يتعارض هذا مع كون المغضوب عليهم على الأخص

٨٧

اليهود ، والضالون على الوجه الأخص هم النصارى ، لأن جميع الكافرين والمنافقين على الوجه العام مغضوب عليهم وضالون.

(ب) وقبل الفقرة الأخيرة من الفاتحة يأتي قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وسنرى أن القسم الأول من أقسام البقرة مبدوء بدعوة الناس جميعا إلى العبادة (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) فالصلة بين سورة البقرة والفاتحة على أكثر ما تكون وأدق ما تكون.

(ج) يلاحظ أنه بعد أن قسم الله عزوجل الناس إلى أصناف ثلاثة ، يأتي القسم الأول من أقسام سورة البقرة ليدعو إلى سلوك الطريق الذي يحررهم من أن يكونوا كافرين ، أو منافقين ، ويجعلهم مؤمنين متقين فلننتقل للكلام عن القسم الأول من أقسام سورة البقرة :

٨٨

القسم الأول من أقسام سورة البقرة :

ويمتد من الآية (٢١) إلى نهاية الآية (١٦٧) حيث يأتي قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً)

٨٩
٩٠

كلمة في القسم الأول من أقسام سورة البقرة :

ترد كلمة (يا أَيُّهَا النَّاسُ) مرتين في سورة البقرة : مرة في بداية القسم الأول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ، ومرة في بداية القسم الثاني : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ،) وهذا الابتداء هو إحدى العلامات التي دلتنا على القسم الأول والثاني.

والعلامة الثانية التي دلتنا على نهاية القسم الأول ، هو انتهاؤه بنفس معاني الابتداء.

البداية هي قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.)

والنهاية هي قوله تعالى :

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ.)

لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في البداية : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) قال ابن عباس في تفسيرها : وحدوا ربكم.

ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ ، وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.)

لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في البداية (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ)

وبعد آية الخلق يأتي قوله تعالى في نهاية القسم : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.)

٩١

لاحظ صلة قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) هنا بقوله تعالى في بداية القسم (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فهذه العلامة الثانية التي دلتنا على أن ههنا نهاية القسم الأول من سورة البقرة.

والعلامة الثالثة هي :

أننا لاحظنا أن مقدمة سورة البقرة وهي تشكل كلا بالنسبة للسورة انتهت بفقرة مبدوءة بقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ)

ونلاحظ هنا أنه لأول مرة في سورة البقرة بعد المقدمة يأتي قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ) في الآيات التي مرت معنا (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً ،) فهذا كذلك مما دلنا على أن القسم الأول من سورة البقرة ينتهي هنا.

والعلامة الرابعة التي دلتنا على القسم الأول بداية ونهاية هي المعاني : فهذا القسم كما سنرى من خلال المعاني يتألف من ستة مقاطع كل مقطع مرتبط بما قبله وبما بعده بوشائج وصلات فلنستعرض بعض معاني المقاطع لنرى كيف أنها تدلنا على أنها مع بعضها تشكل قسما من الأقسام : يبدأ المقطع الأول بدعوة الناس جميعا إلى سلوك طريق العبادة والتوحيد ، ليكونوا من المتقين ، مقيما عليهم الحجة من خلال إعجاز القرآن محذرا ومنذرا ومبشرا ، ثم يبين لهم العوامل التي تحول بين الإنسان وبين الهداية ، مقيما الحجة على الكافرين بكفرهم ، ثم يأتي المقطع الثاني : وفيه قصة آدم التي نهايتها (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وهي تبين أن الوضع العادي للإنسان أن يكون مهتديا بهدى الله ، وبالتالي فشىء عادي أن يكون الإنسان من المتقين بسلوك طريق ذلك.

ثم بعد ذلك يأتي مقطعان :

مقطع فيه قصة بني إسرائيل ، وهي لأمة جاءها وحي ففرطت فيه ، ومقطع فيه قصة إبراهيم (عليه‌السلام) وفيه نموذج على من قام بحق الوحي قياما كاملا : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) أي قام بهن كلهن وفي كل من المقطعين تأخذ هذه الأمة دروسا.

وقصة إبراهيم (عليه‌السلام) التي فيها بناء الكعبة ، تصل بنا إلى مقطع جديد حول

٩٢

قبلة المسلمين ودروس ذلك ، وذلك هو المقطع الخامس.

ثم يأتي المقطع السادس ، وفيه توجيهات مباشرة للمسلمين لها صلة بكل ما مر قبل ذلك في السورة.

فالمعاني إذن هي العلامة الرابعة التي دلتنا على القسم ابتداء وانتهاء ولئن اختصرنا وبسطنا فمن أجل مجرد وضع أساس وسيتضح الأمر لنا شيئا فشيئا.

ومما مر ندرك أن القسم الأول يتألف من ستة مقاطع ـ ذلك اجتهادنا ـ فلنبدأ بعرض المقطع الأول.

المقطع الأول من القسم الأول :

يمتد هذا المقطع من الآية (٢١) إلى نهاية الآية (٢٩) وهذا هو :

(يَـٰأَيُّهَا لنَّاسُ عْبُدُوا رَبَّكُمُ لَّذِى خَلَقَكُمْ وَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) لَّذِى جَعَلَ لَكُمُ لْأَرْضَ فِرَٰشًا وَلسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ لسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ لثَّمَرَٰتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَدْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ للَّهِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ (٢٣) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَتَّقُوا لنَّارَ لَّتِى وَقُودُهَا لنَّاسُ وَلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَـٰفِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ لَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا لصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا لْأَنْهَـٰرُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَـٰذَا لَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَـٰبِهًا وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ (٢٥)

٩٣

إِنَّ للَّهَ لَا يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا لَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا لَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ للَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا لْفَـٰسِقِينَ (٢٦) لَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ للَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى لْأَرْضِ أُولَـٰئِكَ هُمُ لْخَـٰسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ لَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى لْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ سْتَوَىٰ إِلَى لسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)

١ ـ كلمة إجمالية في هذا المقطع وسياقه

بعد أن عدد الله في مقدمة السورة فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين ، وذكر صفاتهم وأحوالهم وما اختصت به كل فرقة أقبل عليهم بالخطاب داعيا إياهم إلى عبادته وتوحيده دالا لهم على طريق الكون من المتقين مقيما عليهم الحجة ، على أن كتابه لا ريب فيه ، مبشرا المستجيبين له بما أعده لهم مبينا الأسباب الحقيقة لضلال الضالين من كافرين ومنافقين ، ومناقشا الكافرين مقيما عليهم الحجة ، فإذا كانت مقدمة البقرة قد قررت بعض المعاني تقريرا فهذا المقطع كان دعوة وإقامة حجة.

٢ ـ المعنى الحرفي

وسنعرض فيه المقطع على ثلاث مراحل كل مرحلة نعرض فقرة وتعقيبا على محل الفقرة في السياق.

الفقرة الأولى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي اعرفوه ووحدوه وأدوا له حقوق الربوبية بعبادتكم إياه. قال ابن عباس : كل عبادة في القرآن توحيد. أقول : ولا توحيد إلا

٩٤

بمعرفة ، والمعرفة تقتضي القيام بحقوق المعبود. (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.) الخلق هو إيجاد المعدوم على تقدير واستواء ، وتذكيره إيانا بخلقنا وخلق من قبلنا في سياق الأمر بالعبادة تهييج لنا على العبادة وتبيان أن من خلق هو الذي يستحق العبادة. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لعل في أصل اللغة للترجي والإطماع ولكنه في القرآن إطماع من كريم ، فيجري مجرى وعده المحتوم وفاؤه ، فمن عرف الله حق المعرفة ووحده حق التوحيد ، وعبده حق العبادة ، وحققه الله عزوجل بالتقوى كان من المفلحين ، ففي الآية دعوة للناس جميعا أن يكونوا من الفئة الأولى التي ذكرت في مقدمة سورة البقرة ـ فئة المتقين ـ وذلك بسلوك طريق ذلك ، وطريق ذلك معرفة الله وتوحيده وعبادته. وقد عرفهم على ذاته بأنه خالقهم وخالق من قبلهم ، ثم أكمل التعريف على ذاته بقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) معنى جعل : صير. والفراش كالبساط قال الألوسي : ومعنى صيرها فراشا أي كالفراش فى صحة القعود والنوم عليها قال السيوطي : أي بساطا يفترش لا غاية في الصلابة أو الليونة فلا يمكن الاستقرار عليها ، قال القرطبي : وما ليس بفراش كالجبال والأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها لأن الجبال كالأوتاد .. والبحار تركب إلى سائر منافعها ، (وَالسَّماءَ بِناءً.) قال القرطبي : وكل ما علا فأظل قيل له سماء أقول : وقد شبهت السماء بالبناء في الآية لدقة إحكامها وكمال ترتيبها (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي من السحاب (فَأَخْرَجَ بِهِ) أي بالماء (مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ،) وهذا يقتضي منكم معرفة وعبادة وتوحيدا. ولذلك قال تعالى (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) الند : المثل ، ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوىء (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنها لا تخلق شيئا ولا ترزق ، وأن الله هو الخالق والرازق فهو صاحب الحق بالعبادة ويمكن أن يكون التقدير : فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم من أهل العلم بأصل الفطرة بأن الله هو المستحق للعبادة وحده.

ثم بعد أن عرفهم على ذاته من خلال ظاهرتي الخلق والعناية ، بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك ويستوجب العبادة ويستأهل التقوى ذكر ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يقرر إعجاز القرآن مما يستوجب السير على هداه لتحقيق التقوى وذلك في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي في شك (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) العبد اسم لمملوك من جنس العقلاء والمراد به في الآية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلمة (نَزَّلْنا) تفيد التنزيل التدريجي المنجم (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) السورة هي : الطائفة من القرآن المترجمة أي المعنونة

٩٥

التي أقلها ثلاث آيات (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) الشهيد هو : الحاضر أو القائم بالشهادة (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعاواكم ، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) : بأن تأتوا بسورة من مثله (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ.) الوقود : ما توقد به النار من مثل الحطب ، ومعنى وقودها الناس والحجارة : أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران ، بأنها تتقد بالناس والحجارة وهي إما حجارة الكبريت فهي أشد توقدا ، وأبطأ خمودا ، وأنتن رائحة ، وألصق بالبدن ، وإما الأصنام المعبودة فهي أشد تحسيرا ، أو هي هذه وهذه وكل ذلك اتجاهات للمفسرين (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي هيئت لهم ، وفي ذلك دليل أن النار مخلوقة موجودة الآن ، وبعد أن بين الله عزوجل طريق تقواه ، وأقام الحجة على وجوبها ، وبين أن هذا القرآن لا ريب فيه ، وتوعد الكافرين ، فكأنه لم يعد هناك مبرر لإنسان في ألا يؤمن ويعمل صالحا ، ومن ثم فقد توجه الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبشر هؤلاء العاملين : (وَبَشِّرِ) الأمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتداء ولكل مسلم انتهاء بحكم أن للمؤمنين أسوة برسول الله فهو قدوتهم ، والبشارة : الإخبار بما يظهر سرور المخبر به (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : الذين آمنوا بالغيب ، وآمنوا بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أنزل من قبل ، وآمنوا بالآخرة وعملوا الصالحات ؛ من إقامة صلاة وإنفاق وذلك كله قرر من قبل والصالحات في الاصطلاح الشرعي : كل ما استقام من الأعمال بدليل الكتاب والسنة ، وعطف العمل الصالح على الإيمان دليل على أن الإيمان غير العمل الصالح. (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ.) الجنة في اللغة : البستان من الشجر المتكاثف وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الأشجار ، وقد جمعت في الآية ونكرت لاشتمالها على جنان كثيرة مرتبة مراتب بحسب أعمال العاملين ، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان ودار الثواب مخلوقة من قبل موجودة الآن. رزقنا الله إياها ، قال علماء أصول الدين : ولا نجعل للمؤمن العاصي صاحب الكبيرة بشارة مطلقة بل نثبت بشارة مقيدة بمشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) النهر هو : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر والجري : الاطراد. قالوا : وأنهار الجنة تجري في غير أخدود من تحت أشجار الجنة وأنزه البساتين ما كانت أشجارها مظلة والأنهار في خلالها مطردة ، والماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ولذا قرن الله تعالى الجنات بذكر الأنهار الجارية وقدمه على سائر نعوتها (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) هذه الجنات لها ثمار أجناسها

٩٦

أجناس ثمرات الدنيا وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله ، وإنما كانت ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا ، ولم تكن أجناسا أخرى لأن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل ، وإذا رأى فيه مزية ظاهرة وتفاوتا بينا كان تعجبه أكثر واستغرابه أوفر. وقوله تعالى (مِنْ قَبْلُ) أى من قبل ذلك مما رزقوه في الدنيا والآخرة (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا في المنظر والطعم مختلف (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من مساوىء الأخلاق ، ومما يختص بالنساء في الدنيا من حيض واستحاضة ، ومما لا يختص بالمرأة من البول والغائط وسائر الأقذار والأدناس ، ومطهرة أبلغ من طاهرة لأنها تكون للتكثير وفيها إشعار بأن مطهرا طهرهن وما ذلك إلا الله (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) الخلد والخلود البقاء الدائم الذي لا ينقطع ، فالجنة باقية ولكنها مخلوقة ، وهي باقية بإبقاء الله ، والله باق وبقاؤه واجب وليس لوجوده ابتداء فهو الأول.

عن ابن عباس قال : لا يشبه شىء مما في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء «وفي رواية : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء» وعن ابن مسعود في قوله تعالى (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) قال : في اللون والمرأى وليس يشتبه في الطعم ، وقال يحيى بن كثير فيها : يؤتى أحدهم بالصحفة من الشىء فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل فتقول الملائكة : كل فاللون واحد والطعم مختلف ، وقال مجاهد في تفسير قوله تعالى (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد .. نسأل الله أن يجعلنا من أهل جنته وأن يقينا ناره.

كلمة في السياق :

ـ قسمت مقدمة سورة البقرة الناس إلى ثلاثة أقسام ثم جاءت الآيتان التاليتان للمقدمة تدعوان الناس إلى أن يكونوا من المتقين بسلوك طريق ذلك ، فأقامتا الحجة عليهم بلزوم السير في هذا الطريق من خلال ظاهرتي الخلق والعناية ، ثم في الآية اللاحقة أقامت عليهم الحجة في أن هذا القرآن من عند الله ، فأكملت الحجة على ضرورة السير ليكون الإنسان من المتقين ، ويلاحظ أن بداية سورة البقرة كانت : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) وأن ههنا قد جاء قوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) فههنا يأتي الدليل على أن القرآن لا ريب فيه ، ويأتي الدليل الملزم على وجوب الإيمان بالوحي المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي إحدى النقاط المذكورة في المقدمة (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ.)

ـ وفي المقدمة ذكرت الآيات استحقاق الكافرين للعذاب ، واستحقاق المنافقين

٩٧

للعذاب ، فقالت عن الكافرين (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وعن المنافقين (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ.) وفي الآيات التي جاءت بعد المقدمة ذكر فيها ماهية هذا العذاب (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) والمنافقون كفار بل هم شر الكفار.

ـ لاحظ الصلة بين الأمر بالعبادة بعد المقدمة ، وبين صفات المتقين التي وردت في المقدمة ثم لاحظ الصلة بين قوله تعالى (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في المقدمة ، وبين قوله تعالى فيما بعد (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) ثم لاحظ أن مقدمة سورة البقرة بعد أن قررت أن القرآن لا ريب فيه ذكرت أن المهتدين به هم (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ،) وههنا بعد أن أقامت الآيتان السابقتان على آية الأمر بالبشارة الحجة على أن القرآن لا ريب فيه ، بشر أهل الإيمان والعمل الصالح أي : الذين آمنوا بالغيب وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة واتبعوا الكتاب ، وبهذا عرفنا مظهر الفلاح الذي ورد في مقدمة سورة البقرة في حق المتقين ، وهو أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ..

وإذا عرفنا الصلة بين مقدمة سورة البقرة والفقرة الأولى من المقطع الأول من القسم الأول من أقسام سورة البقرة فلننتقل إلى الفقرة الثانية من المقطع :

الفقرة الثانية :

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها)

قال قتادة : أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا مما قل أو كثر وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ..). فالمعنى إذن : أن الله لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها ، و (ما) في الآية إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته عموما (فَما فَوْقَها) : أي فما تجاوزها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة أو فما زاد عليها في الحجم (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي يعلمون أن المثل هو الحق من عند الله والحق هو : الثابت الذي لا يصح إنكاره. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أشعر سؤالهم الاستحقار ، وذلك من جهلهم بالله ،

٩٨

والإرادة طلب النفس وميل القلب بالنسبة للإنسان ، وهي عند المتكلمين معنى يقتضي تخصيص الممكنات بوجه دون وجه ، والله تعالى موصوف بالإرادة : على الحقيقة عند أهل السنة. (يُضِلُّ بِهِ) أي بالمثل (كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) دلت على أن فريق العالمين بأنه الحق ، وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة ، وأن العلم بكونه حقا من باب الهدى ، وأن الجهل بحسن مورده من باب الضلالة ، وأهل الهدى كثيرون في أنفسهم وإنما يوصفون بالقلة بالقياس إلى أهل الضلال ، والإضلال : خلق فعل الضلال في العبد ، والهداية : خلق فعل الاهتداء عند أهل السنة. (وَما يُضِلُّ بِهِ ،) أي بالمثل (إِلَّا الْفاسِقِينَ) الفاسق في اصطلاح الفقهاء هو : الخارج عن الأمر بارتكاب كبيرة أو بإصرار على صغيرة وأما في الاصطلاح القرآني فإذا جاء في سياق الكلام عن الكافرين والمنافقين فالمراد به الكافر ، وإذا جاء حديثا عن المسلمين العاصين فالمراد به المقصرون في الفعل أو في الترك. وههنا المراد به الكافرون والمنافقون ، وينسحب الكلام على المؤمنين ، لأنه كثيرا ما ينسحب الوعيد في حق الكافرين والمنافقين على عصاة هذه الأمة ممن يوافقون الكافرين أو المنافقين في أمر هو معصية. ثم وصف الله ـ عزوجل ـ هؤلاء الذين يستحقون الإضلال بسبب فسوقهم فقال :

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) النقض هو الفسخ وفك التركيب ، والعهد الموثق ، والضمير في (مِيثاقِهِ) يعود إلى العهد أو لله تعالى ، والميثاق من الوثاقة وهي : إحكام الشىء ، فإذا كان الضمير للعهد صار المعنى ينقضون عهد الله من بعد ما وثقوه به من قبوله وإلزامه أنفسهم ، وإذا كان الضمير (لله) صار المعنى : ينقضون عهد الله من بعد توثقته عليهم ، وعهد الله هو : إما ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ، ووثقه عليهم ، وإما الميثاق بأنه إذا بعث رسولا يصدقه بالمعجزات أن يؤمنوا ويتابعوا ، وإما أخذ الله العهد على ألا يسفك دم ظلما وألا يكون بغي وفساد وتقطيع أرحام.

(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) هو : قطعهم الأرحام وقطعهم موالاة المؤمنين ومن باب أولى موالاة الرسل ، فمن قطع ما بين الأنبياء من الوصلة والاجتماع على الحق فآمن ببعض وكفر ببعض فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل ، والأمر : طلب الفعل بقول مخصوص على سبيل الاستعلاء.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) من أظهر مظاهر الإفساد في الأرض الدعوة إلى الكفر

٩٩

والمعصية والفواحش ، والتعويق عن الإيمان.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الخاسر هو : المغبون وهؤلاء مغبونون حيث استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب.

كلمة في السياق :

١ ـ في مقدمة سورة البقرة ذكر المتقون ، وذكر أنهم هم المفلحون ، وذكر الكافرون وأن لهم عذابا عظيما ، وذكر المنافقون وأن لهم عذابا أليما ، وأنهم اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم ، وههنا ذكر أن من اجتمعت لهم صفات بعينها هم الخاسرون ، فدل ذلك على أن هذه الصفات التي ذكرت هنا صفات مشتركة بين المنافقين والكافرين ، وأنهم جميعا فاسقون ، وفي الكلام عن الكافرين ذكر الله عزوجل أنه ختم على قلوبهم. وفي الكلام عن المنافقين ذكر الله عزوجل أنه ذهب بنورهم. وههنا بين الله عزوجل أنه لا يضل إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ، فعرفنا أنه ما ختم على قلوب الكافرين ولا ذهب بنور المنافقين إلا بسبب من أعمال ارتكبوها وطريق ساروا فيها فاستحقوا من الله ما استحقوا ، فهذا أول مظهر من مظاهر صلة الآيتين بما قبلهما.

٢ ـ مقدمة سورة البقرة ذكرت الذين يهتدون بالكتاب ، وهم من اجتمع لهم الإيمان بالغيب ، والصلاة والإنفاق. وفي هاتين الآيتين ذكر من لا يهتدي بالكتاب ، وهم الناقضون للعهد والقاطعون لما ينبغي وصله ، والمفسدون في الأرض ، وبالتالي فعلى الراغبين في الهداية أن يفعلوا شيئا ، ويتركوا شيئا وكل من الشيئين مفصل محدد ، وهذا مظهر ثان من مظاهر الصلة بين هاتين الآيتين وما قبلهما ، فبعد أن دلنا الله عزوجل على الطريق السالك نحو تقواه وعرفنا على ماهية تقواه وبشر المتقين ، دلنا على طريق الضلال ليجتنب وذلك من خلال التعريف به جل جلاله.

٣ ـ جاءت هاتان الآيتان في سياق قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ورأينا أن الأمر بالعبادة أمر بالمعرفة بالضرورة ، وهاتان الآيتان جاءتا معرفتين على الله ، ولذلك بدأتا بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) فعرفتانا على الله عزوجل أنه يضل وأنه يهدي وأن إضلاله باستحقاق ، وذلك كله تعريف على الله وتصحيح لمفاهيم خاطئة عن الله عزوجل ، فهناك أناس يؤمنون بالله في زعمهم ولكنهم يعتقدون أن الله لا يتدخل في قضايا عباده ، أو في شأن توجيههم ، وهناك أناس يتصورون أن الله عزوجل لا يهتم بشؤون عباده وإذا اهتم فضمن حدود ، ويرون أن هناك أمورا لا تليق

١٠٠