الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

التسمية بسورة البقرة ، وقال عن أحد رواتها : وهو ضعيف الرواية لا يحتج به ثم قال : وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود «أنه رمى الجمرة من بطن الوادي ، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ، ثم قال : هذا مقام من أنزلت عليه سورة البقرة ....» وروى ابن مردويه ... عن عتبة بن مرثد قال : «رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابه تأخرا فقال : يا أصحاب سورة البقرة» قال ابن كثير : وأظن هذا كان يوم حنين يوم ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم : «يا أصحاب الشجرة يعني أهل بيعة الرضوان وفي رواية : يا أصحاب سورة البقرة» لينشطهم بذلك ، فجعلوا يقبلون من كل وجه. وكذلك يوم اليمامة ، مع أصحاب مسيلمة ، جعل الصحابة يفرون لكثافة جيش بني حنيفة ، فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون : يا أصحاب سورة البقرة حتى فتح الله عليهم.

أخرج أبو عبيد .. «أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران فلما قضى صلاته قال له كعب أقرأت البقرة وآل عمران قال : نعم. قال : فو الذي نفسي بيده إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب قال : فأخبرني به قال : لا ، والله لا أخبرك به. ولو أخبرتك به لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت» ذكره ابن كثير.

وأخرج أبو عبيد عن سعيد بن جبير قال : قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) «من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان ـ أو كتب ـ من القانتين» قال ابن كثير : «فيه انقطاع ولكن ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قرأ بهما في ركعة واحدة».

كلمة في سورة البقرة وسياقها :

تتألف سورة البقرة ـ في اجتهادي ـ من مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة ، أما المقدمة فعشرون آية وفيها كلام عن المتقين وصفاتهم ، ثم عن الكافرين وأوضح علاماتهم ، ثم عن المنافقين وحقيقتهم وعلاماتهم ، وتوضيحات في شأنهم ، وبعد أن تقسم مقدمة السورة الناس إلى أقسام ثلاثة هم : المتقون ، والكافرون ، والمنافقون ، وتحدد السمات الرئيسية لكل من هؤلاء ، يأتي القسم الأول ويمتد من الآية الحادية والعشرين إلى نهاية الآية السابعة والستين بعد المائة.

٦١

يبدأ القسم الأول من السورة بأمر ونهي :

أما الأمر فهو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.)

وأما النهي فهو قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الأمر والنهي واردان في الآيتين الأوليين من القسم الأول ، وينتهي القسم الأول بفقرة هي قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ...).

لاحظ الصلة بين قوله تعالى (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) في بداية القسم ، وبين آخر فقرة في القسم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) وبعد ذلك يأتي القسم الثاني ويمتد من الآية الثامنة والستين بعد المائة إلى نهاية الآية السابعة بعد المئتين.

لاحظنا أن القسم الأول بدأ بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ثم لم تذكر كلمة (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إلا بعد الآية السابعة والستين بعد المائة ، حيث تظهر مرة أخرى وأخيرة في سورة البقرة :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.)

فكما بدأ القسم الأول ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فإن القسم الثاني بدأ كذلك وكما انتهى بفقرة مبدوءة بقوله تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ) فإن الثاني ينتهي بفقرة مبدوءة بقوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ.)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ.)

وهكذا نجد أن مقدمة سورة البقرة مختومة بفقرة بدايتها : (وَمِنَ النَّاسِ.)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ.)

وأن القسم الأول مختوم بفقرة بدايتها : (وَمِنَ النَّاسِ)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً.)

وأن القسم الثاني منته بفقرة تتكرر فيها (وَمِنَ النَّاسِ) مرتين :

٦٢

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)

ثم يأتي القسم الثالث ويمتد من الآية الثامنة بعد المائتين إلى نهاية الآية الرابعة والثمانين بعد المئتين.

يبدأ القسم الثالث بأمر ونهي ، أما الأمر : فهو في موضوع الدخول في الإسلام كله. وأما النهي : فعن اتباع خطوات الشيطان وهو نفس النهي الذي جاء في ابتداء القسم الثاني.

لاحظ أن بداية القسم الثاني كانت : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) وأن بداية القسم الثالث :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) أي في الإسلام جميعا كما فسرها ابن عباس (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ.)

ومن المعلوم أن الآيتين الأخيرتين في سورة البقرة قد ورد فيهما أكثر من نص يخصهما بالذكر فهما خاتمة السورة وبدايتهما : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ...).

لاحظ صلة ذلك ببداية السورة : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)

هذه نقاط علام كبيرة على معالم السورة ، ونحن نعلم أننا الآن ونحن نذكر مثل هذه المعاني كأننا نبني على فراغ في حق من لا يحفظ السورة أو لا يمسك بيده مصحفا يتتبع ما نقول ، ولكن أحببنا في هذه الكلمة أن نضع أساسا يبني عليه القارئ ونحن نسير معه فقرة فقرة ، ومقطعا مقطعا وقسما قسما ونحن نعرض الترابط والصلات بين أجزاء السورة ، وإلا فإن الكلام المختصر هنا لا يغني ولكنه ينفع ، ولذلك فلنستمر به على ملاحظتنا عليه :

تبدأ المقدمة بتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام : متقين ، وكافرين ، ومنافقين. ثم يأتي القسم الأول مبتدئا بدعوة الناس لسلوك طريق العبادة والتوحيد كطريق موصل إلى التقوى ، ثم يسير القسم ليناقش الكفر ، وليعمق قضية السير في التقوى ، من خلال تأكيد طاعة الأمر واجتناب النهي ، ومن خلال عرض الآثار الخطيرة لمخالفة الأمر.

٦٣

والوقوع في النهي ، ومن خلال عرض نماذج الانحراف في قصة بني إسرائيل ، ومن خلال عرض نماذج الاستقامة في قصة إبراهيم عليه‌السلام. ولا ينتهي القسم إلا وتأكدت قضية التقوى وقضية السير فيها وقضية العبادة والتوحيد ومظاهر ذلك.

ثم يأتي القسم الثاني : فيؤكد قضية التقوى ، ويرسم طرائق التحقيق بها على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة ، ويعمق مفهوم الشكر وطرائق الشكر ، ولا نكاد ننتهي من هذا القسم إلا وقد وضحت قضية التقوى وقضية العبادة وقضية الشكر ، وقضية الصراط المستقيم وقضية الانحراف عنه ، واتجاهات المنحرفين ، وخلال ذلك يتم الكلام عن كل أركان الإسلام : الإيمان والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، فتصبح أرضية النفس والقلب والعقل جاهزة للسير في الإسلام كله. وههنا يأتي القسم الثالث : داعيا إلى الدخول في الإسلام كله فيعرض قضايا في الحرب والعلاقات الاجتماعية في محيط الأسرة وغيرها ويعرض أمهات في قضايا السياسة والاقتصاد ، ثم تأتي خاتمة السورة رابطة كل شىء بقضايا الإيمان والتوجه إلى الله معلمة في ذلك مربية عليه مفصلة فيه.

وفيما بين ذلك وخلاله نعرض القضايا الكثيرة ، وكل واحدة في محلها تؤدي دورها في بناء الذات ، وفي بناء الأمة بعد المقدمات التي تناسب ذلك ، وتتولد المعاني الكثيرة في هذا السياق الكبير من خلال المعنى الحرفي للآية ، ومن خلال محل الآية في السياق القريب ، ومن خلال محلها في السياق البعيد ، ومن خلال محل المقطع في القسم ، ومحل القسم في السورة ، ومحل السورة مع ما قبلها ، وما بعدها ، وفي هذا السير نجد كثرة الروابط والوشائج والصلات فيما بين الأقسام والمقدمة والخاتمة ، وكل ذلك يجري على تسلسل معين وعلى طريقة عجيبة لم يألفها البشر وليس الخبر كالمعاينة فلنبدأ عرض مقدمة السورة :

مقدمة سورة البقرة :

تتألف مقدمة سورة البقرة من عشرين آية :

الأحرف (الم) وبعضهم يعتبرها آية ثم أربع آيات في وصف المتقين واثنتين في وصف الكافرين وثلاث عشرة آية في المنافقين :

قال مجاهد : أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة في المنافقين .. وعلى هذا فالمقدمة تتألف من ثلاث فقرات وهذه هي :

٦٤

الفقرة الأولى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

الفقرة الثانية :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

الفقرة الثالثة :

وتتألف من ثلاث مجموعات : مجموعة في تبيان حقيقة المنافقين ، ومجموعة في ذكر نماذج من أقوالهم ، ومواقفهم ليعرفوا بها. ومجموعة فيها مثلان يبينان ويوضحان شأنهم :

المجموعة الأولى :

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨ الى ١٠]

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)

٦٥

يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠))

المجموعة الثانية :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥))

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

المجموعة الثالثة :

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ

٦٦

وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

١ ـ المعاني العامة لمقدمة السورة

قسمت المقدمة الناس إلى أصناف ثلاثة : متقين وكافرين ومنافقين ، ويفهم من ذلك : أن هذا هو التقسيم المعتبر شرعا ، والذي تترتب عليه آثاره في المواقف والمواقع ، ومن المقدمة نعرف أن التقوى قضية محددة مفصلة ، والكفر قضية محددة واضحة المعالم ومفصلة ، والنفاق قضية محددة ومفصلة وله علاماته ، ومقدمة سورة البقرة ذكرت الصفات الرئيسية لأهل الإيمان ، من إيمان بالغيب ، وصلاة ، وإنفاق ، واهتداء بكتاب الله في الشأن كله ، وذكرت المظهر الأجلى للكفر في كون الكافر لا يؤثر فيه الإنذار من أهله ، وذكرت حقيقة النفاق في أن أهله يكذبون في ادعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر ، وأن علة ذلك هي الخداع وأن سبب ذلك مرض القلب ، ثم ذكرت نماذج ثلاثة من مواقفهم ، نتعرف عليهم من خلالها ، ثم ضربت لهم مثلين ، مثلا للمنافق الخالص ، ومثلا للمنافق الذي لا زال في قلبه بقية من إيمان.

٢ ـ المعنى الحرفي للمقدمة

(الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، في هذا النص أربع جمل : (الم) جملة برأسها ، و (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة ثانية ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) جملة ثالثة و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) جملة رابعة ، وجيء بها هكذا متناسقة بلا حرف عطف لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض ، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة. ونبه ب (الم) على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب

٦٧

المنعوت بغاية الكمال من خلال استعمال لفظ الإشارة (ذلِكَ) فكان تقريرا لجهة التحدي ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلا بكماله لأنه لا كمال أكمل كالحق واليقين ، ولا نقص أنقص كالباطل والشبهة. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله ، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ف (ذلِكَ الْكِتابُ) معناه : هذا الكتاب الكامل لأن كلمة (ذلِكَ) فيها إشارة إلى بعده عن أن يكون على اقتراب في المستوى من غيره و (لا رَيْبَ فِيهِ) معناه لا شك فيه ، وإنما نفى الريب على سبيل الاستغراق وقد ارتاب فيه كثير ، لأن المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له ، لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه أحد ، لا أن أحدا لا يرتاب ، والهدى : هو الدلالة الموصلة إلى البغية ، والمتقي : هو من يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك ، وإنما خص المتقون بالاهتداء لأنهم وحدهم المهتدون بكتاب الله.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) وصف المتقون بالإيمان والصلاة والصدقة ، فالإيمان أساس لكل شىء من الحسنات والخيرات ، والصلاة والصدقة معيار العبادات البدنية والمالية ، فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات ، ولذلك اختصر الكلام بأن استغني عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها ، والإيمان هو التصديق ، والغيب هو المغيب عنهم مما أتاهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كل ما غاب عنهم ، سواء في ذلك أمر البعث والنشور والحساب والخلق إلى غير ذلك ، وإقامة الصلاة : أداؤها حسا ومعنى (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي ومما أعطيناهم يتصدقون ثم أكمل الله وصف المتقين بقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي بالقرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ،) أي سائر الكتب المنزلة على النبيين ، وهذه وإن كانت داخلة في قضية الإيمان بالغيب من وجه لكن لها مظهرا محسوسا من جهة أخرى ، ولأن للآخرة معنى استقباليا زائدا على كونها من الغيب ، فقد خصت بالذكر (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الإيقان هو رسوخ العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) : أي الظافرون بما طلبوا ، الناجون مما هربوا ، فالفلاح إدراك البغية والمفلح الفائز بالبغية وفي ذكر الحرف (عَلى) في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) ما يدل على تمكنهم من الهدى ، واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشىء وركبه ، ودخل في قوله تعالى : (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) إقامة فروضها وإتمام ركوعها وسجودها وتلاوتها وخشوعها والإقبال عليها فيها ، والمحافظة على مواقيتها

٦٨

وإسباغ الطهور فيها ، والتشهد والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ، كما دخل في ذلك فرضها ونفلها ودخل في قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) النفقات الواجبة والزكاة المفروضة وأنواع الصدقات.

في هذه الآيات قضيتان : أساس وبناء ، الأساس هو : الإيمان والصلاة والإنفاق والبناء هو : اتباع الكتاب ، ومجموع ذلك هو التقوى ، وقد غفل الكثيرون عن هذا فعطل بعضهم كتاب الله وهم يظنون أنهم متقون ، وعطلوا الصلاة والإنفاق وأخلوا بالإيمان وهم يظنون أنهم متقون ، وليفهم على ضوء ذلك كله حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتفق عليه «بني الإسلام على خمس ...» فهناك أساس فوقه بناء ، والأساس وإن كان جزءا من البناء لكنه ركنه ، والبناء هو الأركان وما فوقها وذلك هو الإسلام.

ثم وبعد أن ذكر الله أولياءه بصفاتهم المقربة إليه ، وبين أن الكتاب هدى لهم قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.) الكفر : ستر الحق بالجحود ، والإنذار : التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي ، والحكمة في الإنذار مع العلم بالإصرار : إقامة الحجة ، وليكون الإرسال عاما وليثاب الرسول (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) والختم هو : التغطية ، والختم والطبع واحد ، والغشاوة : الغطاء ، والأسماع داخلة في حكم الختم لا في حكم التغشية. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) العذاب هو : النكال والعظيم يقابل الحقير ، والمراد بالذين كفروا هنا : أناس علم الله أنهم لا يؤمنون فهؤلاء يستوي عليهم الإنذار وعدمه. قال الشيخ أبو منصور الماتريدي : «الكافر لما لم يسمع قول الحق ، ولم ينظر في نفسه وغيره من المخلوقات ليرى آثار الحدوث ، فيعلم أنه لا بد له من صانع جعل كأن على بصره غشاوة».

وبعد أن قدم الله عزوجل وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات ، ثم عرف حال الكافرين بآيتين ، ذكر حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس ، أطنب في ذكرهم بصفات متعددة هنا ، كما أنزل سورة براءة وسورة المنافقين فيهم ، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفا لأحوالهم لتجتنب ، ويجتنب من تلبس بها أيضا ، لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون ،

٦٩

فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر ، وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خير. ولما كنا لا نعرف المنافق إلا من سيماه وفلتات لسانه كما قال تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (سورة محمد) فقد بين الله لنا هنا حقيقة المنافق ، وأعطانا نماذج من كلامه وتصرفاته ، ثم ضرب لنا الأمثلة عليه لتتضح الحال تماما ، لأن النفاق أخطر شىء على الأمة ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان ...» (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) : ادعى المنافقون إحاطتهم بجانبي الإيمان أوله وآخره ، وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى المبدأ ، وهي العلم بالخالق وصفاته وأسمائه وأفعاله ومسائل المعاد وهي : العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة. وفي تكرار الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام ، وقد نفي الله عزوجل إيمانهم على أبلغ وجه ، إذ أخرج ذواتهم من أن تكون من المؤمنين ، فقال : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.) ولليوم الآخر تعريفان :

الأول : هو الوقت الذي لا حد له ، وهو الابد الدائم الذي لا ينقطع ، وإنما سمي بالآخرة لتأخره عن الأوقات المنقضية.

الثاني : هو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الخداع : إظهار غير ما في النفس على نية الغش (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) النفس : ذات الشىء وحقيقته ، ثم قيل للقلب والروح نفس لأن النفس بهما ، وقيل للدم نفس لأن قوام النفس بالدم ، وقيل للماء نفس لفرط حاجة النفس إليه ، والمراد بالأنفس ههنا ذواتهم ، والمعنى أنهم بمخادعتهم الله والمؤمنين لا يخدعون في الحقيقة إلا أنفسهم لعود أضرار ذلك عليهم ، فالخداع لاحق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولكنهم لا يشعرون أن حاصل خداعهم يرجع إليهم ، والشعور : علم الشىء علما حسيا ، ومشاعر الإنسان في الأصل حواسه لأنها آلات الشعور. والمعنى أن لحوق ضرر الخداع بهم كالمحسوس ، وهم للتمادي في غفلتهم كالذي لا حس له. (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : المرض هنا هو الشك والنفاق ، لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد ، كما أن المريض متردد بين الحياة والموت ولأن

٧٠

المرض ضد الصحة ، والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسما لكل فساد ، والشك ، والنفاق فساد في القلب (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) : أي فزادهم الله رجسا وشرا إلى شرهم عقوبة لهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) : أي بكذبهم في قولهم (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) خداعا للمؤمنين. والكذب هو الإخبار عن الشىء على خلاف ما هو به. وبهذه الآيات الثلاث عرفنا حقيقة النفاق وأسبابه ثم بعد أن بين الله لنا ذلك ، ذكر لنا ثلاثة نماذج من أقوالهم ومواقفهم لنعرفهم بها :

١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ، قالُوا : إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) الفساد : خروج الشىء عن حال استقامته وكونه منتفعا به ، وضده الصلاح وهو : الحصول على الحال المستقيمة النافعة والمراد بالفساد في الآية الكريمة ـ والله أعلم ـ الكفر والعمل بالمعصية ، فهؤلاء المنافقون يعملون بالكفر والمعصية ويدعون إليهما ، ويزعمون أن ما يفعلون وما يدعون إليه إصلاح وهو عين الفساد ، ولكن من جهلهم لا يشعرون أنه فساد و (إنما) في اللغة العربية تفيد : قصر الحكم على شىء أو قصر الشىء على حكم ، وقد استعملوها في تعبيرهم. (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فذلك يدل على أنهم يتصورون أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة تقدح فيها من وجه من وجوه الفساد ، ولم يظهر أهل هذه الآية في عصر كما ظهروا في عصرنا ـ في القرن الخامس عشر الهجري ـ إذ تجد الدعاة إلى الكفر والمعصية والعاملين بهما ممن لهم أسماء إسلامية ، ويتظاهرون بأنهم مسلمون ، ويخلعون على أنفسهم ودعواتهم الكافرة أسماء براقة تعطيهم صفة المصلحين ، كالتقدمية والتقدميين ، والحرية والأحرار ، وقد روي من غير طريق ذكره ابن كثير عن سلمان الفارسي ، في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) : ما جاء هؤلاء. لم يجىء أهل هذه الآية بعد .. أقول : قد جاءوا في عصرنا ورأيناهم ونسأل الله أن يطهر الأرض منهم. قال ابن جرير : يحتمل أن سلمان (رضي الله عنه) أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد.

٢ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) السفه : سخافة العقل وخفة الحلم. والناس في الآية هم الكاملون في الإنسانية وهم المؤمنون ، لأنهم هم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم.

٧١

نصحهم أهل الإيمان النصيحة الأولى كما رأينا بتقبيح ما كانوا عليه ؛ لبعده عن الصواب وجره للفساد ، فردوا عليهم كما رأينا ، ونصحوهم النصيحة الثانية كما في هذه الآية بأن بصروهم بالطريق الأسد من اتباع ذوي الأحلام ، فكان جوابهم أن سفهوهم للتمادي في جهلهم ، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة.

ولم يظهر أهل هذه الآية كذلك في عصر كما ظهروا في عصرنا ، إذ ترى المنافقين يحتقرون أهل الإيمان من علماء وربانيين ودعاة وعباد ويعتبرونهم ضعاف العقول ، ويصفونهم بالرجعية والجمود وضيق الأفق وأمثال ذلك ، فهم أبعد الناس عن احترامهم ، فضلا عن متابعتهم والاقتداء بهم فيما هم فيه من خير ، وقد تولى الله سبحانه الجواب الذي يفضح حقيقة أمرهم فقال : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ ،) فأكد وحصر السفاهة فيهم ، (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) يعني : ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون أن ما هم فيه ضلال وجهل وسفه ، وذلك أردى وأبلغ في العمي والبعد عن الهدى ، وإنما وصفهم في الآية الأولى بأنهم لا يشعرون ، وفي الآية الثانية بأنهم لا يعلمون ، لأنه ذكر في الآية الثانية السفه وهو الجهل فكان ذكر العلم هو الأحسن طباقا له ، ولأن الإيمان يحتاج إلى نظر واستدلال ليكتسب الناظر المعرفة ، فناسب ذلك ذكر العلم ، أما الفساد في الأرض فأمر مبني على العادات فهو كالمحسوس فناسب هناك أن يذكر عدم الشعور.

٣ ـ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.)

يزيدنا الله بيانا في توضيح حال المنافقين من خلال أقوالهم ، ومواقفهم ، فذكر لنا أن هؤلاء المنافقين إذا لقوا المؤمنين (قالُوا آمَنَّا) وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة تغريرا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية ، وإذا خلوا إلى سادتهم وكبرائهم ورؤسائهم وأصحابهم من الكافرين والمشركين والمنافقين (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي إنا على مثل ما أنتم عليه (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) أي : إنما نحن نسخر بالقوم ونستهزىء منهم ونلعب بهم ، ولم يظهر أهل هذه الآية في عصر كما ظهروا في عصرنا ، إذ كثرت المؤسسات الكافرة من محافل ماسونية وأحزاب ضالة ، أو مؤسسات خائنة ، أو جمعيات فاجرة ، أو تكتلات على أسس فاسدة. وتجد كثيرا من أبناء المسلمين يتظاهرون مع أهل الإيمان بالإيمان ولكنهم مع زعمائهم في هذه المؤسسات وأمثالها على غاية من المتابعة والولاء. وليس أبلغ من كلام الله في وصف حالهم ومقالهم للمؤمنين ولزعمائهم ،

٧٢

ولكن الله أكبر ، والله محيط بهم وبأعمالهم ، وهو يتولى أمر المؤمنين ، ويدافع عنهم ، ويعاقب هؤلاء وينتقم منهم. (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ،) فهذا تطمين للمؤمنين وتهديد للمنافقين والمعنى أنه تعالى مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع. قال ابن كثير نقلا عن ابن جرير : «لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عزوجل بالإجماع ، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك». فيملي لهم تعالى ويزيدهم من نعمه على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم ؛ ليستمروا في طغيانهم يترددون ؛ فتقوم عليهم الحجة باستحقاقهم عقوبة الدنيا والآخرة. والطغيان : مجاوزة الحد والإمداد : الإملاء ، والعمه : هو الضلال والضياع ، وقال بعضهم العمى في العين والعمه في القلب.

ثم بين الله عزوجل واقع هؤلاء المنافقين الذين بدأ الكلام عنهم بقوله (وَمِنَ النَّاسِ) فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) بين الله عزوجل في هذه الآية : أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال ، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة ، أي بذلوا الهدى الذي هو الإيمان ثمنا للضلالة التي هي الكفر ، سواء في ذلك من كان منهم حصل له الإيمان ثم رجع إلى الكفر ، أو من كان منهم استحب الضلالة على الهدى ، دون أن يكون الإيمان قد أصاب قلوبهم من قبل مع تظاهر الجميع بالإيمان ؛ فما ربحت صفقتهم في هذه البيعة ، وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك. قال قتادة : «قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة» ، فليحصلوا ما حصلوا من أمر الدنيا فإنهم الخاسرون.

وبعد هذا البيان عن حقيقة المنافقين وبعد أن أعطانا الله عزوجل نماذج من أقوالهم ومواقفهم نعرفهم بها ، يضرب الله لنا مثلين نعرف بهما حال المنافقين معرفة تامة :

المثل الأول : لنوع من المنافقين وصلوا إلى النفاق الخالص بعد أن كانوا مؤمنين.

والمثل الثاني : لنوع من المنافقين لا زالوا مترددين ، الأولون لم يعد فيهم أمل للرجوع إلى الإيمان ، أما الآخرون فلم يقنطوا ، وبعض المفسرين اعتبر المثلين لنوع واحد ، وهذا خطأ ، لأن أهل المثل الأول قال الله عنهم (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ، وقال (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) بينما قال عن الآخرين (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) ، وابن كثير وضح

٧٣

ذلك ، لذلك قال عن المثل الثاني : هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم : قوم يظهر لهم الحق تارة ، ويشكون تارة أخرى ، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم كصيب ..

المثل الأول : قال تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) المثل هو القول السائر ، ثم استعير للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة. ويضرب المثل زيادة في الكشف ، وتتميما للبيان ، وتقدير هذا المثل : إن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى : بمن استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله فبينا هو كذلك إذ أطفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي ، وهو مع هذا أصم لا يسمع ، أبكم لا ينطق ، أعمى لو كان ضياء لما أبصر ، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك. فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد ، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا قال الرازي : «والتشبيه هنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة ، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين» فصار المعنى :

(ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور ، نور الإسلام الذي يرون به الأشياء كلها على حقائقها. (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق. (لا يُبْصِرُونَ) أي لا يهتدون إلى سبيل خير ، ولا يعرفونها وهم مع ذلك (صُمٌ) لا يسمعون خيرا ، (بُكْمٌ) لا يتكلمون بما ينفعهم ، (عُمْيٌ) عن رؤية الحق ، فبصيرتهم عمياء وهم في ضلالة. (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي فلذلك لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة ، وهذا المثل نجده منطبقا على كثير من أبناء المسلمين في عصرنا ممن مرت عليهم فترات استغرقوا فيها بالعبادة والإسلام ، ثم انتظموا في سلك أهل الكفر والضلال ، ساخرين من حالهم الأول ، مزدادين كل يوم كفرا على كفر ، وقد دل المثل على أن الإنسان الذي لا يرى الأشياء بنور الإيمان منافق ، ومن لم تكن منطلقاته في الحكم على الأشياء منطلقات إسلامية ، فإنه : منافق لا يرى الأشياء بنور الله على ما هي عليه في الحقيقة ، ثم ضرب الله مثلا آخر لنوع آخر من النفاق :

٧٤

المثل الثاني : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.)

قال ابن كثير : «هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين ، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى».

شبه دين الإسلام في المثل بالصيب أي : بالمطر لأن القلوب تحيا به ، حياة الأرض بالمطر ، والشبهات والشكوك في قلب هذا الضرب من المنافقين شبهها بالظلمات ، والوعيد الموجود في دين الله سواء كان الوعيد بالفضيحة أو بالعذاب الأخروي أو بانتصار المؤمنين بالرعد ، وبقايا الفطرة في قلوب هؤلاء بالبرق ، وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا بالصواعق.

الصيب : المطر ، والرعد : هو الصوت الذي يسمع من السحب لاصطكاك أجرامه ، والبرق : هو الذي يلمع من السحاب. وظلمات المطر : ظلمة تكاثفه بتتابع القطر ، وظلمة إظلال غمامه مع ظلمة الليل ، والإسلام والقرآن في المثل هو المطر وحده ، وأما الظلمات ففي القلب والنفس ظلمات الشبهات والشكوك والشهوات. وذكر في المثل الأصابع ـ ولم تذكر الأنامل مع أن رؤوس الأصابع هي التي تجعل في الآذان : اتساعا كقوله تعالى : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (سورة النور) والمراد إلى الرسغ ، ولأن في ذكر الأصابع من الإشعار بمخالفتهم ما ليس في ذكر الأنامل ، وإنما لم يذكر الأصبع الخاص الذي تسد به الأذن لأن السبابة من السب ، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن. ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة ، والصاعقة : قصفة رعد تنقض ، والخطف : الأخذ بسرعة ، وإحاطة الله بالكافرين تعني : أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط. وكل ما علاك فهو سماء ، وتطلق السماء على السحاب أو على المطر لنزوله من السحاب فصار المعنى :

مثل المنافقين كمثل أصحاب مطر نزل من السماء في حال ظلمات ، وهي الشكوك والشبهات ، ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف ، وبرق وهو ما يلمع في قلوب ذلك الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان ، فهم يسدون آذانهم فلا يرغبون أن يسمعوا التهديد والوعيد وأخبار أيام الله ، ولكن ذلك لا يجديهم فإن سد

٧٥

الأذن لا يغني من الصاعقة شيئا ، ومع شدة لمعان البرق فينقدح في قلوبهم نور إضافي فإنهم لا يستفيدون منه إلا قليلا لما يعقبه من ظلام. فهؤلاء إذا ظهر لهم شىء من الإيمان استأنسوا به واتبعوه ، ثم تعرض لهم الشكوك فتظلم قلوبهم ، فيقفون حائرين ، وقد حذر الله المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير فإن الله على كل ما أراد بعباده من نعمة أو نقمة أو عفو أو عقاب أو غير ذلك قدير.

ويمكن أن يقال في المثل :

المطر يحيي الأرض وينزل من السماء ، والإسلام يحيي القلوب وقد نزل من السماء ، والمطر في الليل يرافقه ظلمات ورعد وبرق ، وهؤلاء المنافقون بسبب ليل قلوبهم ؛ صار الإسلام بالنسبة لهم ظلمة ورعدا وبرقا ، فشبه الكافرين والمنافقين ظلمات تحيط بهم والتهديدات تقرع آذانهم فتخيفهم ، ولشدة ضوء الحق فإنه يظهر لهم نور فيسيرون به قليلا ثم تحيط بهم الظلمة من جديد فيقفون.

هذا المثل من غوامض الأمثال القرآنية ، والأمثال في القرآن كما قال الله تعالى في سورة (العنكبوت) : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) ونادرا ما تجد شرحا مبسطا في كتب التفسير لهذا المثل ، وإذ كان ظهور هذا المثل في عصرنا أكثر من ظهوره في بقية العصور فإننا نستطيع أن نقول :

إن هناك مسلمين بحكم النشأة والبيئة ، وجدوا في عصرنا المليء بالشبه والدعوات الضالة ، ولم يتح لهم أن يسيروا في طريق الإيمان حتى يحققوه في قلوبهم ، فبقيت قلوبهم فيها إيمان ونفاق ، أو إيمان وكفر ، فتارة تأتيهم حجة من حجج الإسلام القوية فتضيء جوانب قلوبهم بالإيمان فيسيرون على زاد ذلك قليلا ، ثم تحيط بهم شبهة من الشبهات فينطفىء النور في قلوبهم فيقفون حائرين ، وهم في هذه الحالة على غاية من الخوف من انكشاف أمرهم للمؤمنين ، أو من سلطان الكافرين ، أو من عقوبة الله لهم على ما هم فيه. هذا حال الكثيرين من أبناء المسلمين في عصرنا ، ولعل ما هم فيه يجعلنا نفهم المثل من خلال واقعهم.

وقد حاول بعض المفسرين أن يجعل لكل كلمة وردت في المثل ما يقابلها على انفراد ، ثم قابلوا ذلك بمفردات ، فالمطر الإسلام ، والظلمات الآيات المتشابهات ، والرعد آيات الوعيد ، والبرق الآيات المحكمات ، أو غير ذلك على اعتبار أنهم ظنوا أن للعرب طريقة

٧٦

واحدة في هذا السبيل ، وهو أن تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها عن بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها. ولكن الواقع أن للعرب طريقة أخرى ، وهي أن تشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها كما هنا. فالمراد العام هنا تشبيه حال المنافقين في ضلالتهم ، وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة كحال من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق.

٣ ـ حديث شريف كاشف

إن هناك حديثا شريفا يكشف لنا هذين المثلين ويبين لنا أهلهما كما يكشف لنا مقدمة سورة البقرة كلها فلنره :

عن أبي سعيد (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مصفح ، فأما القلب الأجرد ، فقلب المؤمن فسراجه فيه نوره ، وأما القلب الأغلف ، فقلب الكافر ، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر ، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» قال ابن كثير : رواه الإمام أحمد بإسناد جيد حسن.

لا شك أن القلب الأول هو : قلب المؤمنين المتقين الذين وردت صفاتهم في الفقرة الأولى من مقدمة سورة البقرة ، وأن القلب الثاني هو قلب الكافرين الذين وردت صفاتهم في الفقرة الثانية من مقدمة سورة البقرة ، وأن القلبين الثالث والرابع هما في من وردت صفاتهم في الفقرة الثالثة من مقدمة سورة البقرة ، وأن القلب الثالث مثله هو المثل الأول وأن القلب الرابع مثله هو المثل الثاني.

والملاحظ أن القلب الرابع لازال فيه أمل ، وذلك إذا أصبح مدد الإيمان أكثر من مدد النفاق ، وذلك بالإقبال على الأعمال الصالحة وترك السيئات وخلطة أهل الباطل.

وسنرى كيف أن سورة البقرة بأقسامها كلها ، إنما تدل على الطريق ليكون الإنسان من الفئة الأولى. فئة الإيمان والتقوى ، ولذلك فإن القسم الأول يبدأ بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وهذا حديث سيأتي فلنبق الآن في أجواء مقدمة سورة البقرة.

٧٧

٤ ـ (فصول شتى)

فصل في فواتح السور :

لو أنك تأملت فواتح سور القرآن ، فإنك تجد أن نوعا من الفواتح يتكرر ، فمثلا تجد أكثر من سورة مبدوءة ب (الم) أو (الر) أو (حم) أو (إِنَّا) أو (إِذا) أو (هَلْ) أو (وَيْلٌ) وتجد سورا كثيرة مبدوءة بقسم ، ثم إنك تلاحظ أحيانا أن مجموعة من السور لها بدايات معينة تشبهها مجموعة أخرى لها نفس البدايات فمثلا : نلاحظ أن سورتي البقرة وآل عمران مبدوءتان ب (الم) وتأتي بعدهما سورتا النساء والمائدة وكل منهما مبدوءة ب (يا أَيُّهَا) ثم تأتي سورة الأنعام وهي مبدوءة ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ.)

ونلاحظ بعد ذلك بسور كثيرة : أنه تأتي سورة العنكبوت ، وهي والسور الثلاث بعدها مبدوءة ب (الم) ، ثم تأتي بعد ذلك سورة الأحزاب وهي مبدوءة ب (يا أَيُّهَا) ثم تأتي بعد ذلك سورتا سبأ وفاطر وكل منهما تبدأ ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ.)

لاحظ التشابه بين بدايات هذه المجموعة ، وبين بدايات المجموعة الأولى مع الاختلاف في عدد السور التي بدأت بالنوع الواحد من الفواتح.

ولنأخذ مثلا آخر :

بعد سورة المدثر : تأتي سورة القيامة ، وهي مبدوءة بقسم ، وتأتي بعدها سورة الدهر وهي مبدوءة باستفهام :

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ، (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ؟)

ثم تأتي بعد سورة الدهر سورة مبدوءة بقسم ، وبعدها سورة مبدوءة باستفهام :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً)

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ)

لاحظ القسم والاستفهام في كل من النموذجين الأول والثاني

وبعد سور كثيرة تأتي خمس سور متتالية مبدوءة بقسم ، ثم تأتي سورة مبدوءة باستفهام :

٧٨

(وَالْفَجْرِ) ، (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) ، (وَالشَّمْسِ وَضُحاها ، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ، (وَالضُّحى.) ثم سورة مبدوءة باستفهام (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ.)

فهل هناك تعليل شامل لهذه الظاهرة

إننا الآن نقول باختصار : (وسنرى الدليل على ذلك شيئا فشيئا) :

إن فواتح السور هي بعض المفاتيح التي تتعرف بها على الرابطة بين أقسام القرآن ، وبين مجموعات هذه الأقسام ، وبين تسلسل السور ضمن القسم الأول أو المجموعة الواحدة ، فهي من مفاتيح الوحدة القرآنية المعجزة ، ولو أننا أردنا أن ندلل على هذا الموضوع ههنا لتعثر القارىء ولطال البحث وتعقد ، ولذلك فإننا سنعرض لأدلة هذا الموضوع شيئا فشيئا ، فإنه موضوع يصعب التدليل عليه إلا من خلال السير الشامل والوقوف عند كل سورة وبدايتها ، والتدليل آت بإذن الله تعالى.

فصل في الحروف التي بدأت بها بعض السور :

هذه الحروف التي بدأت بها بعض سور القرآن مثل (الم) أو (المص) أو (الر) أو (أَحْرَصَ) وقف عندها بعض المفسرين كثيرا ، وبعضهم لم يقف واكتفى بأن يذكر بعد الواحدة منها : الله أعلم بمراده. والذين وقفوا عندها إما واحد أراد أن يعطيها تفسيرا فاعتبر كل حرف هو جزء لكلمة تدل عليها ، ثم حاول أن يجد الكلمة التي يدل عليها الحرف ، وإما واحد اعتبرها رموزا على أزمنة ، وحاول من خلال ما اعتاده العرب أن يعطوا كل حرف رقمه الحسابي وأن يستخرج نبوءات زمنية ، وإما واحد اكتفى بأن يسجل ملاحظة حول هذه الأحرف ، ومن أهم الملاحظات التي سجلت خلال العصور أنه حيث وردت هذه الأحرف في سورة فإن السورة لها صلة في الحديث عن القرآن.

ومن ثم اعتبروا أن ذكر هذه الأحرف فيه إشارة إلى الإعجاز ، وفيه مظهر من مظاهر التحدي ، وقد عبر سيد قطب ـ رحمه‌الله ـ في ظلاله عن هذا المعنى تعبيرا طيبا.

يقول الأستاذ سيد قطب ـ رحمه‌الله ـ في ظلاله عند الكلام عن (الم) في سورة البقرة : «ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية وقد وردت في

٧٩

تفسيرها وجوه كثيرة نختار منها وجها : أنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف وهي في متناول المخاطبين به من العرب ، ولكنه مع هذا هو ذلك الكتاب المعجز الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله. الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور مثله ، أو بسورة من مثله ، فلا يملكون لهذا التحدي جوابا.

والشأن في هذا الإعجاز : هو الشأن في خلق الله جميعا ، وهو مثل صنع الله في كل شىء وصنع الناس. إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات ، فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة ، أو آجرة ، أو آنية ، أو أسطوانة ، أو هيكل ، أو جهاز كائنا في دقته ما يكون ، ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة ؛ حياة نابضة خافقة تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز ، سر الحياة. السر الذي لا يستطيعه بشر ولا يعرف سره بشر ، وهكذا القرآن حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا ويجعل منها الله قرآنا وفرقانا. والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض ، هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة».

أقول وصدق الله العظيم (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا)

(سورة الشورى)

هذه الملاحظة التي سجلها صاحب الطلال ببيانه المشرق سجلها علماء المسلمين قديما ، إلا أنه في عصرنا ـ فيما أعلم ـ سجلت ملاحظة أخرى إضافية حول هذه الأحرف وهي ما ذكرناه في الفصل السابق من أن فواتح السور ـ ومنها الأحرف ـ هي مفتاح من مفاتيح الوحدة القرآنية ، وهذا الموضوع سيتضح لنا شيئا فشيئا في هذا التفسير. ولنكتف هنا بتسجيل هاتين الملاحظتين حول الأحرف التي افتتحت بها بعض السور ، ولنا عودة على ما قيل في هذه الأحرف في أول سورة يونس حيث أول القسم الثاني من أقسام القرآن.

٨٠