الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

(رَبِّ الْعالَمِينَ) الرب هو المالك ومنه قول صفوان بن أمية : «لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن» ولا يطلق إلا على الله وحده وهو في العبيد مع التقييد (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) (سورة يوسف) قال الواسطي في تفسير كلمة الرب : (هو الخالق ابتداء والمربي غذاء والغافر انتهاء وهو اسم الله الأعظم) والعالم هو كل ما سوى الله تعالى لأنه علم على وجود ربنا تعالى ، إذ يعرف الخالق بما خلق. (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مر الكلام عليهما.

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يوم الدين هو يوم الجزاء ولذلك قالوا : كما تدين تدان أي كما تفعل تجازى ، والله تعالى مالك الأمر كله في يوم الدين وغيره ، وإنما كان التخصيص بيوم الدين لأن الأمر فيه لله وحده (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

هذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه وتعالى من كونه ربا للعالمين ومنعما بالنعم كلها ومالكا للأمر كله يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله : الحمد لله دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) العبادة هي أقصى غاية الخضوع والتذلل ، والاستعانة هي طلب المعونة ، وتقديم (إِيَّاكَ) على (نَعْبُدُ) و (نَسْتَعِينُ) لقصد الاختصاص فيكون المعنى : نخصك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة.

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي ثبتنا على المنهاج الواضح أو اهدنا في الاستقبال كما هديتنا في الحال ، والصراط هو الطريق والمراد : طريق الحق وهو ملة الإسلام ، والمستقيم هو الذي لا عوج فيه.

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي صراط المسلمين ، وفائدة تكرار كلمة الصراط مع هذه الزيادة التأكيد والإشعار بأن الصراط المستقيم هو صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده ؛ والذين أنعم الله عليهم هم مجموع من ذكرهم الله بقوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (سورة النساء) وإذن فهم المؤمنون الكاملون (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) يعني : أن المنعم

٤١

عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال فجمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال. و (آمين) بالإجماع ليست من القرآن ، وهي اسم فعل بمعنى (استجب).

ملاحظة : في حديث حسن غريب رواه أحمد عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى .. وفي هذا المعنى وردت أكثر من رواية ولذلك قال ابن أبي حاتم : ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافا قال ابن كثير : (فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ، واليهود فقدوا العمل ، والنصارى فقدوا العلم ، ولهذا كان الغضب لليهود ، والضلال للنصارى ، لأن من علم وترك استحق الغضب بخلاف من لم يعلم ، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه ، لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه وهو اتباع الحق ضلوا. وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) (سورة المائدة) وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ ، وَأَضَلُّوا كَثِيراً ، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ..) (سورة المائدة).

أقول : إذا كنا نهينا أن نسير في طريق اليهود والنصارى وهم أهل كتاب فكيف نتابع غيرهم ونجعلهم قدوتنا؟! وانظر الآن إلى حال الكثيرين من أبناء المسلمين فإنك تجدهم إما مقلدين للغربيين وهم على بقية من كتاب ، وإما متابعين للشيوعيين وهم يكفرون بالكتاب كله.

٦ ـ فصول شتى ..

فصل في البسملة : افتتح بها الصحابة كتاب الله واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل ، ثم اختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة ، أو من أول كل سورة كتبت في أولها ، أو أنها بعض آية من كل سورة ، أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها ، أو أنها كتبت للفصل لا أنها آية ، على أقوال للعلماء سلفا وخلفا. والجهر بها في الصلاة مفرع على هذا الخلاف ، فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها وكذا من قال : إنها آية في أولها. وأما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا ؛ فذهب الشافعي رحمه‌الله إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة ، وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والثوري ، وأحمد. وعن الإمام مالك أنه لا يقرأ

٤٢

البسملة بالكلية لا جهرا ولا سرا. قال ابن كثير بعد أن عرض مآخذ الأئمة في هذه المسألة : «وهي قريبة لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر».

... ومن ابتداء الله عزوجل كتابه بالتسمية ندرك فضلها ، ونأخذ منه أدبا عاما في ألا ننسى التسمية حيث تستحب التسمية فللابتداء باسم الله بركة ، ولذكر الله عامة بركة.

أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن مردويه «عثر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : (القائل هو أسامة بن عمير رديف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : تعس الشيطان. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقل تعس الشيطان ، فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال : بقوتي صرعته ، وإذا قلت باسم الله تضاغر حتى يصير مثل الذباب» قال ابن كثير : فهذا من تأثير بركة باسم الله ، ولهذا تستحب في أول كل عمل وقول ، فتستحب في أول الخطبة كما جاء «كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم» ، وتستحب عند دخول الخلاء كما ورد من الحديث في ذلك ، وتستحب في أول الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن .. مرفوعا : «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» وهو حديث حسن ... وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة ، وأوجبها آخرون عند الذبح ، ومطلقا في قول بعضهم ... وهكذا تستحب عند الأكل كما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة «قل باسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه ، وكذا تستحب عند الجماع كما في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا».

فصل في الاستعاذة : سيأتي الكلام عن الاستعاذة عند الآيات التي تذكرها وههنا ننقل ما له صلة بالصلاة والتلاوة بشكل مختصر.

قال ابن كثير : وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة وليست بمتحتمة يأثم تاركها وحكى الرازي عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة. قال : وقال ابن سيرين : إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب .. أقول على رأي ابن سيرين : إنها واجبة في العمر مرة ، وما سوى ذلك فهي مستحبة.

٤٣

قال ابن كثير : وقال الشافعي في الإملاء : يجهر بالتعوذ وإن أسر فلا يضر وقال في الأم بالتخيير ... واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى هل يستحب التعوذ فيها على قولين ورجح عدم الاستحباب .. فإذا قال المستعيذ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة ...

... ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف بل للصلاة ، فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان لا يقرأ ، ويتعوذ في العيد بعد تكبيرة الإحرام وقبل تكبيرات العيدين ، والجمهور يعدها قبل القراءة. ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث ، وتطييب له وهو لتلاوة كلام الله ، وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة ، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه ، ولا يقبل مصانعة ولا يدارى بالإحسان ، بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات من القرآن في ثلاث من المثاني ...».

فصل في الحمد : عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله» .. أخرجه الترمذي وقال : حسن غريب. وإنما كان الحمد أفضل الدعاء ، لأنها رأس الشكر والله عزوجل يقول (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) وفي الحديث الذي رواه ابن جرير «إذا : قلت الحمد لله رب العالمين فقد شكرت الله فزادك». وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ» ، وقال القرطبي في تفسيره : وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال : الحمد لله لكان الحمد أفضل من ذلك» قال القرطبي وغيره : أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نعمة من نعم الدنيا لأن ثواب الحمد لا يفنى ، ونعيم الدنيا لا يبقى وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثهم : أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله تعالى فقالا : يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها قال الله : ـ وهو أعلم بما قال عبده ـ ماذا قال عبدي؟ قالا : يا رب إنه قال لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها». وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن الأسود بن سريع قال : قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد

٤٤

حمدت بها ربي تبارك وتعالى؟ فقال : «أما إن ربك يحب الحمد» أقول : وفي هذا الحديث إشارة إلى الشعر ، وعلى من يعالج قضية الإنشاد في المجتمع الإسلامي أن يضعه في حسابه ولنا جولة في هذا الموضوع في آخر سورة الشعراء.

فصل في التأمين : يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها آمين ، ومعناها اللهم استجب سواء كان ذلك في الصلاة أو خارجها ، ويتأكد في حق المصلي سواء كان منفردا أو إماما أو مأموما. وقال أصحاب مالك : لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم. واختلفوا في الجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية. قال الشافعية : إن نسي الإمام التأمين جهر المأموم به قولا واحدا ، وإن أمن جهرا فالجديد أنه لا يجهر المأموم والقديم أنه يجهر. ومذهب الحنفية عدم الجهر للإمام وهو رواية عن مالك ، وقال الحنابلة بالجهر وهو رواية أخرى عن مالك.

والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي عن وائل بن حجر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فقال آمين مد بها صوته. ولأبي داود رفع بها صوته. قال الترمذي : هذا حديث حسن وعن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تلا (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قال آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول. رواه أبو داود وابن ماجه وزاد فيه فيرتج بها المسجد. قال الدارقطني : هذا إسناد حسن وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا أمن الإمام فأمنوا فانه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» ، ولمسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قال أحدكم في الصلاة : آمين ، والملائكة في السماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى ، غفر له ما تقدم من ذنبه» قال ابن كثير : «قيل : بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان وقيل في الإجابة في صفة الإخلاص وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا إذا قال ـ يعني الإمام ـ ولا الضالين فقولوا : آمين يحيكم الله».

فصل في قراءة الفاتحة في الصلاة : اختلف الأئمة في أنه هل تتعين فاتحة الكتاب في الصلاة؟ أم تجزىء هي أو غيرها؟ ففي ذلك قولان مشهوران فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه أن قراءة الفاتحة أو سورة قصيرة ، أو ما يعادلها واجب في كل ركعات النفل وواجب في الركعتين الأوليين من الفرض إلا أنه لو لم يقرأ الإمام أو المنفرد الفاتحة وقرأ شيئا من القرآن فإن الصلاة صحيحة مع الكراهة ، فعندهم أن قراءة أي شىء من القرآن

٤٥

في الصلاة هو الركن لقوله تعالى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) وأما الفاتحة فإنها واجبة كما رأينا. وعند الشافعي ومالك وأحمد أنها تتعين قراءتها للصلاة ولا تجزىء الصلاة بدونها ، واختلف هؤلاء هل تجب قراءتها في كل الركعات؟ أو في معظم الركعات؟ أو في بعضها؟ فمذهب الشافعي وجوب قراءتها في كل الركعات ، ومذهب الحسن وأكثر البصريين أنها تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلاة.

واختلف الأئمة : هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ ففيه ثلاثة أقوال للعلماء : أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على إمامه ، والثاني لا تجب على المأموم بل تكره ، والثالث لا تجب قراءتها في الجهرية وتجب في السرية. ومحل التفصيل في هذا الشأن وغيره من اتجاهات الفقهاء هو في القسم الثاني من هذه السلسلة الأساس في السنة وفقهها.

فصل في كيفية أداء الفاتحة : في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطع قراءته : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ...) قال الدار قطني : إسناده صحيح ، أقول : والوقوف على رؤوس الآي سنة متبعة ولكنها من نوع المستحبات في الصلاة وغيرها.

فصل في أن الصراط المستقيم هو الإسلام أخرج الإمام أحمد عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ، وعلى جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا ، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط هو الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم».

إن صراطك أيها المسلم هو الإسلام وله داعيتان داعية الفطرة وداعية الوحي الإلهي ، فلا تفرط في هذا الإسلام بأن ترتكب الحرام فتدخل في متاهات طرق الشيطان.

فصل : في أن المالكية العليا لله : في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله قال : يقبض الله الأرض بيمينه ثم يقول : «أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون» فالله عزوجل مالك يوم الدين وهو رب العالمين وكل منازعة لله عزوجل في

٤٦

ربوبيته أو مالكيته العليا لا تصح ولو في التسمية. ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أبغض اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك ولا مالك إلا الله» ، وقد وقع في هذا الغلط الكثيرون ممن حكموا المسلمين.

فصل في رد مزاعم : ـ مما ذهبت إليه الفلسفة اليونانية أن الله عزوجل لا يتدخل في شؤون الخلق ، والآن تجد أكثر الخلق لا يعتبرون أن من حق الله عزوجل أن يتدخل في أمر الناس ، وليست فكرة فصل الدين عن الدولة إلا مظهرا من مظاهر هذه العقلية ، وفي سورة الفاتحة تصحيح لهذه المعاني كلها : فالله رب العالمين هو الخالق وهو المربي وهو المالك ، وعلى الناس أن يعبدوه وأن يسيروا في طريقه طالبين العون والهداية.

زعم بعض المستشرقين أن الدين الإسلامي لا يعرف أهله فيه عن الله عزوجل إلا صفات القسوة وأي زعم أظهر في البطلان من هذا الزعم؟! فالإسلام الذي يبتدىء كتابه بقوله تعالى (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) والذي تثنى فيه كلمتا (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بعد آية من ذلك ، هل يدعي ما ادعوه إلا مجنون؟! ألا إنه العمى عن الحق ليس إلا. فالله غفور رحيم ، وهو عزيز ذو انتقام ، ولله الأسماء الحسنى. في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ، ما طمع في جنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ، ما قنط من رحمته أحد» ، ولكن الله عزوجل حدد في كتابه المرحومين وغيرهم فحيثما كان له حكم فعنده نقف.

فصل في مسألة اعتقادية : من المسائل التي وقع فيها خلاف كثير بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة مسألة تسمى بمسألة خلق الأفعال. فأهل السنة يرون أن كل شىء يجري في هذا الكون إنما هو بعلم الله وإرادة الله وقدرة الله ، وذلك لا ينافي اختيار الإنسان وهو موضوع سنبسطه في أكثر من مكان. والمعتزلة يقولون بالقوة المودعة ، وأن الإنسان يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وهو كلام ظاهره براق لأنه يتفق مع النظرة الحسية ، ولكنه منقوض عقلا ونقلا كما سنرى. ومناقشات أهل السنة والجماعة لهم في هذا الموضوع كثيرة ، ونادرا ما تجد سورة من سور القرآن إلا ولأهل السنة حجة فيها على المعتزلة في هذا الشأن ، ومما استدلوا به على المعتزلة من سورة الفاتحة كلمة الحمد لله فإن الألف واللام للاستغراق ، وهذا يفيد أن كل أنواع الحمد لله. وهذا لا يتأتى إلا إذا كان الله هو الفاعل لكل شىء قال ابن كثير : والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع

٤٧

أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث «اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله» ، واستدلوا من الفاتحة على المعتزلة بقوله تعالى : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وبقوله تعالى (اهْدِنَا) فلو لا أن الله هو الخالق فكيف يستعان؟ وكيف تطلب الهداية منه؟ وهذا موضوع سنرى حيثياته في أمكنة أخرى.

ملاحظة في قضايا اختلاف الأئمة :

يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ....» ، إن كل مناقشات أئمة أهل السنة والجماعة مع بعضهم إنما تدور حول أمور مشتبهات ، وكل منهم على بصيرة حاول أن يعطي حكم الله في هذه الأمور ، ومن ثم فالأمر واسع ؛ فمهما كان الواحد منا على مذهب إمام في مثل هذه الشؤون فإنه لا حرج عليه ، ولكن الخلاف بين أهل السنة والجماعة ، وبين الفرق المنشقة عن جسم الأمة الإسلامية ، كالمعتزلة وأنواع من المرجئة ، وطوائف من الشيعة والخوارج ليس فيما ذكرنا ، وإنما هو خلاف حيث لا ينبغي أن يكون خلاف لكثرة النصوص ووضوحها ، ولذلك في قسم التفسير قد لا نعتني بعرض أدلة الأئمة في اختلافاتهم ولكننا نعتني بعرض الأدلة في أي خلاف بين أهل السنة والجماعة ومن خالفهم.

٧ ـ فوائد

أ ـ من أساليب العرب في الكلام : الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، والعرب يستكثرون منه ، ويرون أن الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبول عند السامع ، وأحسن تطرية لنشاطه ، وأملأ لاستلذاذ إصغائه ، وتختص مواقعه بفوائد ولطائف يراعيها القائل وتتضح للحذاق المهرة. والقرآن جاء على أساليب العرب في الخطاب ومن ثم تجد فيه هذا النوع من طرق البيان على أدقها وأرقاها وأعظمها فوائد ولطائف وقد رأينا ذلك في سورة الفاتحة. إذ عدل عن لفظ الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) بعد قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ ..) قال صاحب الكشاف : هذا يسمى الالتفات في علم البيان ، قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) وقوله تعالى (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ.) وقد التفت امرؤ القيس ثلاثة التفاتات في ثلاثة أبيات :

٤٨

تطاول ليلك بالأثمد

ونام الخلي ولم ترقد

وبات وباتت له ليلة

كليلة ذي العائر الأرمد

وذلك من نبإ جاءني

وخبرته عن أبي الأسود

وذلك على عادة افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه .. وقد رأينا عند عرض المعاني العامة حكمة الالتفات في سورة الفاتحة.

ب ـ مما يدل على أن كلمة الدين تأتي بمعنى الحساب والجزاء الحديث الذي رواه أحمد والترمذي : «الكيس من دان نفسه ـ أي حاسب نفسه ـ وعمل لما بعد الموت» واستطرادا ننقل كلمة عمر (رضي الله عنه) : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم» (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ.)

ج ـ أكمل أحوال الداعي أن يبدأ بالحمد ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين ومن ثم جاء قوله تعالى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بعد الثناء ، فالسؤال بعد الثناء أنجح للحاجة وأنجع للإجابة ، ولهذا أرشد الله إليه لأنه الأكمل ، وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه كما قال موسى عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ.) وقد يتقدم مع ذلك وصف المسؤول كقول ذي النون (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.)

د ـ يتشدد كثير من الناس في أمر تحرير مخارج الحروف أثناء تلاوة القرآن وذلك شىء جيد ، ولكن بعضهم يعتبر الإخلال بالتحرير مبطلا للصلاة ، وذلك خطأ ولتصحيح مثل هذا ننقل كلام ابن كثير. يقول ابن كثير : «الصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما» ، وكلامنا كله عندما لا يخرج الحرف صافيا ، أما إذا استبدل حرف بحرف فلذلك أحكامه التي سنراها.

ه ـ رأينا من خلال سورة الفاتحة : أن الأصل في المسلم أن يكون جزءا من كل هو الجماعة ، وأن الأصل في التربية الإسلامية أنها تقوم على التربية الجماعية ، وهذا يجعلنا نفكر كثيرا في الأسباب والأمراض التي تحول دون وجود هذه الروح عند الأكثرين من المسلمين ويجعلنا نتفطن لأهمية معالجة هذه الأسباب والأمراض التي تحول بين المسلم وبين مشاركته جماعة المسلمين فيما تفترض المشاركة فيه ، ولا شك أن هذه

٤٩

الأسباب إما مرجعها لمرض عام مثل انعدام الثقة أو لمرض فردي مثل حب الدنيا وإيثار العافية والشح والإعجاب بالرأي واتباع الهوى والحسد وغير ذلك من أمراض.

و ـ يردد المسلم سورة الفاتحة سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى. وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنة ، وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا غير الفرائض والسنة ... لما ورد في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث عبادة بن الصامت : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، «إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية ، وكليات التصور الإسلامي ، وكليات المشاعر والتوجيهات ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة» عن الظلال بتصرف. وقد رأينا الخلاف في قراءتها وراء الإمام.

٨ ـ كلمة في السياق

هذه السورة كما رأينا هي مقدمة القرآن ، ولذلك فقد تجمعت فيها معانيه وهذا أول مظهر من مظاهر ارتباط هذه السورة بالقرآن كله ، وقد رأيت بأكثر من وجه كيف تسلسلت معانيها تسلسلا خاصا هذا التسلسل ظهرت فيه أكثر من حكمة من حكم تسلسل المعاني في القرآن ، فلا سير في الصراط بلا عبادة ، ولا عبادة بلا عقيدة ومعرفة بالله.

والآن انتبه إلى الصلة بين آخر فقرة في سورة الفاتحة وبين أول آية في سورة البقرة تبدأ الفقرة الأخيرة في سورة الفاتحة بقول الله تعالى معلما لنا : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ...) وتبدأ سورة البقرة بقول الله تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) لاحظ الصلة بين (اهْدِنَا) وبين (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فبعد أن علمنا الله تعالى أن نطلب الهداية منه إلى الصراط المستقيم عرفنا على أن هذا القرآن هو محل الهدى ، وهكذا نجد الصلة على أقواها بين خاتمة الفاتحة وبداية سورة البقرة ، ولننتقل الآن للكلام عن القسم الأول من أقسام القرآن وهو قسم السبع الطوال.

٥٠

٥١
٥٢

كلمة في هذا القسم :

هناك أكثر من أثر وخبر يذكر السبع السور الطويلة الأولى من القرآن ويخصها بالذكر ، وقد عقد ابن كثير لذلك فصلا تحت عنوان (ذكر ما ورد في فضل السبع الطوال) وذكر بهذه المناسبة حديثا له أكثر من سند هو :

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني مكان الزبور وفصلت بالمفصل» ، قال الشيخ المحدث عبد الله الغماري في كتابه (جواهر البيان في تناسب سور القرآن) عن هذا الحديث : فهذا الحديث حسن.

هذا الحديث ذكر أن القرآن أربعة أقسام القسم الأول هو السبع الطوال ، ونحن سنرى في هذا التفسير كيف أن واقع القرآن يصدق هذا التقسيم من خلال المعاني ، وكثير من الأمور التي سنراها.

وذكر ابن كثير : أن أبا عبيد ، والإمام أحمد كل منهما أخرج عن أبي هريرة وعن عائشة (رضي الله عنهما) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أخذ السبع الاول من القرآن فهو حبر». ليس هناك نص يحدد السبع الطوال ، بل المتبادر أنها السور الأول الطويلة من القرآن. ورواية عائشة وأبي هريرة تذكر السبع الأول فالمفروض أن تكون : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ، والأنفال ومعها براءة ؛ لأنهما بحكم السورة الواحدة ولذلك لم يفصل الصحابة بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم :

أخرج الترمذي عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين وقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا بينهما سطر : «بسم الله الرحمن الرحيم»؟ ووضعتموها في السبع الطوال! وما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يأتي عليه الزمان (الطويل) وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشىء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وحسبت أنها منها ، وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر : «بسم الله الرحمن الرحيم» فوضعتها في السبع

٥٣

الطوال» فهذا نص في أن الأنفال وبراءة من السبع الطوال وإذا كان ما قبلهما ست سور الأعراف فالأنعام فالمائدة فالنساء فآل عمران فالبقرة ، فذلك دليل على أن الأنفال وبراءة هما السورة الطويلة السابعة وأن براءة هي نهاية قسم الطوال. قال الشيخ الغماري في كتابه (جواهر البيان) : (السبع الطوال أولها البقرة وآخرها براءة) ، وإذن فبعد الفاتحة التي هي مقدمة القرآن يأتي القسم الأول من أقسام القرآن الذي يبدأ بالبقرة وينتهي بسورة براءة.

وقد ذكر ابن كثير اتجاها في تفسير السبع الطوال بأن السورة السابعة بعد الأعراف هي يونس ولكن ذكره على أنه قول في تفسير قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.) فقد نقل عن مجاهد وغيره أن المراد بها السبع الطوال ، وفسرها بأنها البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس. وسنرى عند تفسير هذه الآية أن هذا القول ليس هو الأقوى في تفسيرها ، فمن باب أولى ألا يصلح تفسيرا للسبع الطوال. خاصة وكثير من الأدلة تشير إلى أن سورة يونس من القسم الثاني من أقسام القرآن وليست من القسم الأول.

فسورة يونس مبدوءة ب (الر ،) وكذلك سورة هود بعدها ، وهذا يشير إلى أن هذه السور من زمرة واحدة ومجموعة واحدة ، ثم إن سورة يونس آياتها (١٠٩) ، وسورة هود بعدها آياتها (١٢٣) ، بينما سورة براءة وحدها (١٢٩) آية ، فهي أطول من سورة هود التي هي أطول من سورة يونس ، فإذا عرفنا أن سورة الأنفال خمس وسبعون آية ، فإن مجموع آيات سورة الأنفال وبراءة يكون مئتين وأربع آيات ، ثم هما بالنص عن الصحابة كما رأينا في رواية الترمذي من السبع الطوال ، فلم يبق بعد هذا إلا أن نرد اتجاه مجاهد ومن وافقه من أن سورة يونس هي السباعة في قسم الطوال.

لاحظنا من قبل أنه ما بين آخر فقرة في الفاتحة ، وما بين أول سورة البقرة صلة ففي الفاتحة (اهْدِنَا) وفي البقرة عن القرآن (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.) وسنرى أن الصلة بين الفاتحة والبقرة ليست ضمن هذه الحدود فقبل الفقرة الأخيرة من الفاتحة قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ،) وسنرى أن القسم الأول من سورة البقرة يبدأ بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) وينتهي بقوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً ،) فمقدمة سورة البقرة مرتبطة بآخر فقرة في الفاتحة ، والقسم

٥٤

الأول من سورة البقرة مرتبط بالفقرة الثانية ، وسنرى أن القسم الثاني في البقرة مرتبط بالفقرة الأولى من الفاتحة (الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) .. (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ،) والكلام في هذه المعاني قبل مجىء أوانها يبدو معقدا فلنقتصر على هذه الإشارة ، ومع هذا الترابط بين سورة البقرة والفاتحة ، فإن سورة البقرة ككل سورة في القرآن لها ذاتيتها الخاصة وتسلسلها الخاص ، وسنرى أنه تسلسل عجيب معجز ، ثم إننا سنرى كما ذكرنا في مقدمة هذا التفسير كيف أن السور الست الطوال الآتية بعد البقرة كل سورة منها تفصل في محور على نفس التسلسل الموجود في سورة البقرة ، وكل ذلك سنراه ، وسنرى فيه أن مثل هذا الربط ، ومثل هذه الصلات لا يمكن أن تخطر بقلب بشر فضلا عن أن يستطيعها بشر وهذا بعض الأمر وليس كل الأمر ، والشرح سيأتي ، وتكفي ههنا الإشارات ولنبدأ عرض سورة البقرة.

٥٥

٥٦
٥٧

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٥٨

نصوص ونقول :

أخرج الإمام أحمد والإمام مسلم عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اقرءوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة ، اقرءوا الزهراوين : البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ، أو كأنهما غيايتان ، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أهلهما ، ثم قال : اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة».

قال ابن كثير : الزهراوان : المنيرتان والغياية : ما أظلك من فوقك.

والفرق القطعة من الشىء والصواف : المصطفة المتضامة ، والبطلة : السحرة ومعنى لا تستطيعها : أي لا يمكنهم حفظها وقيل لا تستطيع النفوذ في قارئها.

ـ أخرج الإمام أحمد عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : سورة البقرة سنام القرآن وذروته. نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا واستخرجت (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) من تحت العرش فوصلت بها أو فوصلت بسورة البقرة ، ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له واقرءوها على موتاكم».

وفي مسند أحمد وصحيح مسلم وفي الترمذي والنسائي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تجعلوا بيوتكم قبورا ، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» قال الترمذي : حسن صحيح.

وأخرج ابن مردويه والنسائي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ويدع سورة البقرة يقرؤها ، فإن الشيطان ينفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة ، وإن أصفر البيوت الجوف الصفر (أي الخالي) من كتاب الله».

وأخرج الطبراني وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه ، وابن مردويه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل شىء سناما ، وإن سنام القرآن البقرة ، وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام».

٥٩

وأخرج الدارمي في مسنده عن طريق الشعبي قال : قال عبد الله بن مسعود : من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة : أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها ، وفي رواية : لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شىء يكرهه ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق».

وأخرج النسائي وابن ماجه والترمذي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثا وهم ذوو عدد فاستقرأهم ، فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال : ما معك يا فلان فقال : معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال : أمعك سورة البقرة؟ قال نعم قال : اذهب فأنت أميرهم فقال رجل من أشرافهم والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت أن لا أقوم بها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تعلموا القرآن واقرءوه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح ريحه في كل مكان ، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكي على مسك». هذا لفظ الترمذي وقال عنه : حديث حسن.

وأخرج البخاري عن أسيد بن حضير (رضي الله عنه) قال : بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة ـ وفرسه مربوطة عنده ـ إذ جالت الفرس فسكت فسكنت ، فقرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس ، فانصرف ، وكان ابنه يحيى قريبا منها فأشفق أن تصيبه ، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : اقرأ يا ابن حضير قال : قد أشفقت يا رسول الله على يحيى وكان منها قريبا فرفعت رأسي وانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة ، فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال : «وتدري ما ذاك؟ قال : لا. قال : تلك الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم».

قالوا والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف وهي من أوائل ما نزل بالمدينة ، لكن قوله تعالى فيها : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.) آخر ما نزل من القرآن. وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل ، وكان خالد بن معدان يسمي البقرة فسطاط القرآن. وقد رد ابن كثير الرواية التي تنهى عن

٦٠