الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))

الفقرة الثانية :

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))

الفقرة الثالثة :

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ

٢٦١

الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١))

كلمة في هذا المقطع وسياقه :

١ ـ ختمت قصة آدم عليه الصلاة والسلام بالقاعدة :

(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

٢٦٢

وجاء مقطع بني إسرائيل ليعرض علينا نموذجا لأمة أنزل عليها هدى فانحرفت عنه ، ويأتي الآن مقطع إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ليقص علينا قصة النموذج الكامل لإنسان أنزل عليه هدى فقام به قياما كاملا (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) قال البيضاوي : فأداهن كملا وقام بهن حق القيام لقوله تعالى (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (سورة النجم) لاحظ الآن الصلة بين قوله تعالى في أول آية في مقطع آدم عليه‌السلام : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).

وبين قوله تعالى في أول آية من مقطع إبراهيم عليه‌السلام : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً.) فالذي جعل ادم خليفة ، جعل إبراهيم إماما فهو النموذج الكامل على الخليفة الكامل.

٢ ـ وقبل مقطع آدم في سورة البقرة يأتي مقطع الدعوة إلى التوحيد (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

وفي مقطع إبراهيم نرى النموذج الأعلى على التوحيد متمثلا بإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ .... أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فمقطع إبراهيم يعمق سياقه المعاني التي وردت في مقطع الدعوة إلى العبادة والتوحيد.

٣ ـ ومن قبل المقطع الأول في هذا القسم جاءت مقدمة سورة البقرة وفيها : قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) وفي مقطع إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأتي الأمر المفصل : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

٤ ـ ومن قبل جاءت الفاتحة وكانت الفقرة الخاتمة فيها : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ* غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.) وقد رأينا في مقطع بني إسرائيل بعض صراط المغضوب عليهم والضالين ، وفي مقطع إبراهيم نرى صراط الذين أنعم الله عليهم. ومع ذلك كله الحوار مع المغضوب عليهم والضالين وإقامة الحجة.

٢٦٣

٥ ـ وكما أن مقطع إبراهيم عليه‌السلام يخدم في سياقه ما مر من السورة ، فإنه الأساس والمقدمة للمقطع اللاحق من السورة ، وهو مقطع القبلة ، إن القبلة التي هي مرتكز من مرتكزات العبادة لله ستتحدد في المقطع اللاحق ، ولكن مقطع إبراهيم جاء بمثابة الترشيح للكلام في شأنها ، وجاء بمثابة المقدمة لتقريرها (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) .. (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) .. (وَأَرِنا مَناسِكَنا ....)

وهكذا نرى أن مقطع إبراهيم عليه‌السلام في محله يخدم سياق الفاتحة ، ومقدمة سورة البقرة ، ومقطع التوحيد ، ومقطع آدم ، والمقطع اللاحق ، فماصلته بالمقطع السابق عليه مباشرة مقطع بني إسرائيل؟

٦ ـ قلنا من قبل : إن الحوار مع بني إسرائيل لازال مفتوحا ، وإن ختم مقطع بني إسرائيل ، ذلك لأنه لا زال لليهود. كلام يقولونه ، متكئين عليه في رفض الإيمان بالإسلام ، وفي مقطع إبراهيم يستكمل جزء من الحوار ، إذ الإمامة في ذرية إبراهيم مشروطة ، وقد أخل اليهود بالشرط فلا حجة لهم في أن تستمر الإمامة فيهم ، ولذلك تنتقل الإمامة إلى أمة تقوم بحق الله ، وذلك مقتضى دعوة إبراهيم وإسماعيل (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ...) وبعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقتضى دعوة إبراهيم عليه‌السلام لأبناء إسماعيل (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ...) والمقطع يقرر أن دين إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب هو الإسلام ، فأن يرغب بنو إسرائيل عن الإسلام فذلك سفه فيهم.

وكما أنه في مقطع بني إسرائيل أعطيت أمتنا دروسا ، فكذلك في مقطع إبراهيم ، وكما أن أمتنا قد علمت كيف ترد على الدعوات الباطلة في المقطع السابق فكذلك الحال هنا في هذا المقطع.

٧ ـ في مدخل الكلام عن بني إسرائيل رأينا أنه وجهت لبني إسرائيل أوامر ونواه ، وأن المقطع جاء بعد ذلك بمثابة تعليل لتوجيه هذه الأوامر والنواهي ، ورأينا أن الفصل الثاني من مقطع بني إسرائيل مرتبط بقوله تعالى في المدخل (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) وأن الحوار في الفقرتين الأخيرتين من الفصل الثاني انصب على هذه المعاني ، وقلنا في هذه الكلمة إن مقطع إبراهيم عليه‌السلام يكمل الحوار في هذا الشأن ، والآن نقول إن مقطع إبراهيم زيادة على تكملة الحوار فإنه يضع أساسا لنقطة تعرض لها مدخل مقطع بني

٢٦٤

إسرائيل ، وهي القضية المذكورة بعد الآية التي ذكرناها آنفا ، إن الآية اللاحقة لهذه الآية هي قوله تعالى (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إذ الملاحظ أن مقطع إبراهيم يرد فيه قبل الآية الأخيرة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) وسنرى أن مقاطع لاحقه ستتعرض بشكل أوسع لموضوع كتمان ما أنزل الله

إن تعانق المقطع مع ما قبله ومع ما بعده كثير كبير شديد ، وتعانق فقراته مع بعضها كثير شديد كما سنرى.

ولنطرز هذه المقدمة عن سياق المقطع بخاتمة ما قدم سيد قطب لهذا المقطع. يقول : وفي ثنايا هذا العرض التاريخي (الذي عرضه النص وتحدث عنه سيد) يبرز السياق أن الإسلام بمعنى إسلام الوجه لله وحده ، كان هو الرسالة الأولى وكان هو الرسالة الأخيرة ، هكذا اعتقد إبراهيم ، وهكذا اعتقد من بعده إسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط حتى أسلموا هذه العقيدة ذاتها إلى موسى وعيسى ، ثم آلت أخيرا إلى ورثه إبراهيم من المسلمين ، فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها ووريث عهودها وبشاراتها ، ومن فسق عنها ورغب بنفسه عن ملة إبراهيم ، فقد فسق عن عهد الله ، وقد فقد وراثته لهذا العهد وبشارته. عندئذ تسقط كل دعاوى اليهود والنصارى في اصطفائهم واجتبائهم لمجرد أنهم أبناء إبراهيم وحفدته ، وهم ورثته وخلفاؤه ، لقد سقطت عنهم الوراثة منذ ما انحرفوا عن هذه العقيدة ، وعندئذ تسقط كذلك كل دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام عليه وعمارته ، لأنهم قد فقدوا حقهم في وراثه باني هذا البيت ورافع قواعده ؛ بانحرافهم عن عقيدته ، ثم تسقط كل دعاوى اليهود فيما يختص بالقبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون ، فالكعبة هي قبلتهم وقبلة أبيهم إبراهيم ، كل ذلك في نسق من العرض والأداء والتعبير عجيب حافل بالإشارات الموحية ، والوقفات العميقة الدلالة ، والإيضاح القوي التأثير».

ولنبدأ عرض وتفسير المقطع :

الفقرة الأولى وتفسيرها :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) أي : واذكر إذ اختبر إبراهيم ربه بأوامر ونواه (فَأَتَمَّهُنَ) أي : قام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية ، من غير تفريط ولا توان ، والابتلاء : هو الاختبار والاختبار منا لظهور ما لم نعلم ، ومن الله لإظهار ما قد

٢٦٥

علم ، وعاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعا ، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى ، وللمفسرين في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه‌السلام كلام كثير ، وكل أقوالهم استنباط ، إما من خلال السياق ، أو من خلال قصة إبراهيم في القرآن ، أو من خلال ما قصه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أبينا إبراهيم وهو كلام مفيد ولذلك سنعقد له فصلا. أما ههنا فنقول : «لقد وردت كلمة (بكلمات) منكرة للإشعار بأن الهدف من السياق هو تبيان قيام إبراهيم بما كلف به لا تبيان التكليف ، على أنه من الفقرة ، سنرى نموذجا على قيام إبراهيم بما يكلف به من خلال قيامه ببناء البيت (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) الإمام هو : من يؤتم به ويقتدى ، وإمامة إبراهيم مؤبدة يجمع عليها حتى المختلفون من أبناء الديانات الكتابية ، والظاهر أن إتمام إبراهيم عليه الصلاة والسلام الكلمات سبب الإمامة ، فكأنه كان نبيا ثم بإتمامه الكلمات أعطي منصب الرسالة مكافأة ، فالقيام بأمر الله كاملا هو الذي يرشح لمنصب الإمامة في دين الله ، فما أكثر خطأ الذين يتصدرون للإمامة عن غير طريقها. (قالَ) إبراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم ، وذرية الرجل : أولاده ذكورهم وإناثهم فيه سواء (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) اختلف المفسرون في تفسير العهد والظلم في هذه الآية ، فقد فسر الظلم : هنا بالكفر والشرك ، وفسر : بالظلم الذي هو مخالفة الشريعة ، فعلى الأول يكون المعنى لا ينال عهدي كافر. وعلى الثاني : لا ينال عهدي فاسق ، وفسر العهد : بالنبوة والدين والأمر والطاعة والنجاة في الآخرة ، كما فسر بالوعد بالإمامة وهو أحقها بالاعتماد. فالمعنى : أنه لا ينال الإمامة فى الدين ظالم ، والظلم نوعان : ظلم يتعدى الإنسان إلى غيره ، وظلم لنفسه ، وسنعقد من أجل إبراز ما يدخل في هذا النص أو من أجل رد الفهوم الخاطئة فيه فصولا.

قال ابن كثير : وقال ابن خويز منداد المالكي : «الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ، ولا حاكما ، ولا مفتيا ، ولا شاهدا ، ولا راويا».

فالمعنى العام للآية كما يفهم من مجموع كلام ابن كثير :

واذكر لهؤلاء المشركين ، وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها ، واذكر لهؤلاء وتذكر ابتلاء الله إبراهيم أي : اختباره بما كلفه به من الأوامر والنواهي ، فأتمهن : أي : قام بهن كلهن ؛ فاستحق بذلك منصب الإمامة جزاء على ما فعل ، فكما قام بالأوامر وترك الزواجر ؛ جعله الله قدوة وإماما يقتدى به في الخير ،

٢٦٦

فرغب إلى الله أن تكون الإمامة في بعض ذريته كذلك فأجيب لذلك ، لكنه أخبر بأنه سيكون من ذريته ظالمون ، وأنه لا ينالهم عهد الله ، ولا يكونون أئمة ؛ فلا يقتدى بهم.

وبعد الآية الأولى تأتي في الفقرة هذه الآية :

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

كلمة في سياق هذه الآية :

تأتي هذه الآية بعد إعطاء إبراهيم منصب الإمامة ، وبعد إعطائه الوعد بأن يكون من ذريته أئمة ، فترينا هذه الآية مظهرا من مظاهر إمامة إبراهيم وواحد من ذريته ، وترينا نموذجا على قيام إبراهيم وإسماعيل بما كلفا به ، وترينا كذلك أن البيت الذي سيكون قبلة للمسلمين ومحجا لهم إنما وجد بإرادة تشريفية من الله وبأمره ، كما ترينا الحكمة من بناء البيت ، وترينا أنه في الأصل بني للطواف والعكوف والسجود ، وترينا أن الأمر صدر لإبراهيم وإسماعيل بتطهيره ، ففي الآية تصحيح لمفاهيم أهل الكتاب والمشركين في شأن البيت ، وتأسيس للرد على اليهود في شأن القبلة ، وتأنيب لمن ينجس البيت بالشرك بعد أن بني في الأصل للتوحيد ، وفي ذلك تأنيب لمن روع المؤمنين وآذاهم وفتنهم ، حتى اضطروا أن يخرجوا من جواره ، وقد جعله الله مثابة للناس جميعا وأمنا ، وفي ذلك دروس لما يستقبل من الزمان.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) البيت : الكعبة ، والمثابة : المباءة والمرجع للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه ، والأمن هنا : مكان السلام. وقد فسر ابن عباس كون هذا البيت مثابة بقوله : «لا يقضون منه وطرا يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه» ، وقال غيره : «لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا» ، وقال ابن زيد : «يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه» ، وقال كثيرون من أئمة التفسير : إن المثابة : المجمع ، وعلى هذا القول يكون المعنى : أن الله عزوجل أراد أن يكون هذا البيت ملتقى للشعوب كلها ، وللأجناس كلها ، يجتمعون فيه ، فيتعارفون وينتفعون ، قائمين بأمر الله ، عابدين له موحدين معظمين شعائره ، وأما كون البيت أمنا فمن حيث : إن من دخله كان آمنا ، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف

٢٦٧

الناس من حولهم وهم آمنون ، واستدل الحنفية بهذه الآية على مذهبهم بأن الجاني إذا أوى الحرم فلا يتعرض له حتى يخرج ، لكنه يلجأ إلى الخروج بمقاطعته. وسنعقد لموضوع الأمن عند البيت وحدوده واتجاهات العلماء فصلا.

ذكر في هذا النص : شرف هذا البيت ، وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مجمعا للناس من كل أقطار العالم ، يعرف فيه بعضهم بعضا ، ويألف فيه بعضهم بعضا ، ويستمع فيه بعضهم إلى بعض ، وينفع فيه بعضهم بعضا ، وهو كذلك ، المكان الذي تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ، ولا تقضي منه وطرا ولو ترددت إليه كل عام ؛ استجابة لدعوة إبراهيم عليه‌السلام. (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (سورة إبراهيم) كما وصفه تعالى بأنه جعله آمنا لمن دخله حتى الرجل في الجاهلية يلقى قاتل أخيه أو أبيه فلا يهيجه ، وقد فسر ابن عباس الأمن هنا بأن هذا البيت والقيام بحقه أمن لهذا العالم كله فلا يخرب ، قال ابن عباس : «لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض» قال ابن كثير : وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن.

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) اختلف المفسرون في المراد بمقام إبراهيم ما هو : قال ابن عباس : «مقام إبراهيم الحرم كله ، مقام إبراهيم الحج كله». وقال سعيد بن جبير : «الحجر مقام إبراهيم فقد جعله الله رحمة ، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة» وقال السدي : «المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه» وهذا القول يلتقي مع الذي قبله في أن المراد بمقام إبراهيم هو الحجر الذي غاصت فيه قدما إبراهيم ، فكان آية ، وهو الحجر المعروف الآن ، والأدلة التي تعضد أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه‌السلام يقوم عليه لبناء البيت كثيرة ، من جملتها ، أنه هو الذي عليه عمل الناس وفهمهم خلال العصور ، إذ يطبقون هذا الأمر بصلاتهم عند الحجر الذي عليه آثار قدمي إبراهيم ، ومنها ما ورد في الحديث الصحيح عن عمر : «قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) ومنها ما في صحيح مسلم عن جابر قال : «استلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين» ومنها ظاهر قوله تعالى : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) وعلى هذا الاتجاه يكون المعنى : وقلنا اتخذوا من مقام إبراهيم موضع صلاة تصلون فيه.

٢٦٨

وهل الحجر الآن في محله حيث تركه إبراهيم؟ يذكر ابن كثير : أن الذي وضعه محله الآن إنما هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أما قبل ذلك فقد كان ملصقا بجدار الكعبة ، فدل فعل عمر ، وصنيع الناس أن الحجر أيا كان من الكعبة ، فذلك مقام إبراهيم وعنده تكون الصلاة التي أمر الله بها في هذه الآية.

وفي فقه الحنفية «يجب على من طاف بالبيت أن يصلي ركعتين لكل طواف ، ويسن أن تكون هاتان الركعتان وراء مقام إبراهيم ، فإذا لم يتمكن الإنسان من الصلاة عند مقام إبراهيم صلى حيث أمكنه».

(وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي : أمرناهما أن يطهراه من الأوثان والخبائث والأنجاس كلها ، للدائرين حوله ، والمجاورين الذين عكفوا عنده ، أي : أقاموا لا يبرحونه ، أو المعتكفين والمصلين راكعين وساجدين. فالعهد هنا بمعنى الأمر ، وإنما عدي بإلى لأنه بمعنى : تقدمنا وأوحينا فتقدير الكلام : وتقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي من الشرك والريب ، وابنياه خالصا لله ، معقلا للطائفين والعاكفين والراكعين الساجدين. وقد فهم من ذلك أن الطواف والعكوف والركوع والسجود كلها مما يتعبد الله عزوجل به في الحرم ، وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل عند البيت الصلاة النافلة أو الطواف النافلة؟. قال مالك : الطواف به لأهل الأمصار أفضل وقال الجمهور : الصلاة أفضل مطلقا.

قال العلماء : وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى في سورة النور : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ...) ومن السنة من أحاديث كثيرة في الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك ، ولهذا قال عليه‌السلام : «إنما بنيت المساجد لما بنيت له» ومن قوله تعالى (وَالْعاكِفِينَ) استدلوا على جواز النوم في المسجد : قال ثابت : قلنا لعبد الله ابن عبيد بن عمير : ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام ، فإنهم يجنبون ويحدثون : قال : لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال هم العاكفون قال ابن كثير : «وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عزب».

وهكذا رأينا في الآية ثلاث قضايا معطوفا بعضها على بعض ومرتبطا بعضها ببعض إذ

٢٦٩

التقدير : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) وقلنا : (اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى.)

ثم بين تعليل الأمر الثاني وكيف تم تنفيذ القضية الأولى :

(وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ومن العبارة الثالثة عرفنا لم جعل البيت مثابة وأمنا ، وذلك من أجل الطواف والعكوف والركوع والسجود ، فمن كان في مكة أو ذهب إليها فعليه أن يلاحظ ذلك. وسنرى أنه بعد مقطع إبراهيم ومقطع القبلة سيأتي قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) وذلك استكمالا للسياق في عبادات الحرم. ولكن بعد أن يأخذ السياق مجراه في استكمال التقرير والحوار في القضايا الرئيسية التي يحتاجها السياق.

وهكذا رأينا في الآية الأولى من مقطع إبراهيم كيف قررت إمامة إبراهيم وسببها ، ورأينا في الآية الثانية إمامة الكعبة واختصاصها بشرف عظيم ، فلله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، يخص من شاء وما شاء بما شاء ، وإذ تتقرر إمامة البيت وإمامة إبراهيم ؛ يأتي الأمر لهذه الأمة باتخاذ مقام إبراهيم مصلى وصلة ذلك بإمامة إبراهيم واضحة : ثم يأتي قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.)

المعنى الحرفي :

واذكر (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ) هذا البلد أو هذا المكان بلدا ذا أمن ، وارزق المؤمنين بالله واليوم الآخر من أهله من الثمرات فقال الله تعالى جوابا له (وَمَنْ كَفَرَ) أي : وأرزق من كفر (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) أي فأمتعه تمتيعا قليلا ، أو زمانا قليلا إلى حين أجله (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) أي ألجئه إلى (عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الذي يصير إليه وهو النار. قاس إبراهيم عليه‌السلام الرزق على الإمامة ، فإذ أعلمه الله بخصوصية الإمامة في المؤمنين ، فإنه قطع كل عاطفة تربطه بغيرهم فلم يدع الله بالرزق إلا لهم ، فأخبره الله أنه يرزق الكافرين كما يرزق المؤمنين ، قال ابن إسحق : «لما عن لإبراهيم الدعوة على من أبى الله أن يجعل له الولاية ، انقطاعا إلى الله ومحبة وفراقا لمن خالف

٢٧٠

أمره ، وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك ، قال الله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ) فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا» أقول : ولذلك لم يكن الرزق علامة على القرب ، فكان ذلك استدراجا في حق الكافر ، ومحل اعتبار من المؤمن ، وقد وافق دعاء إبراهيم بالأمن للبيت تقدير الله ، فكان البيت آمنا ، واستجاب الله عزوجل دعوة إبراهيم في رزق سكان الحرم ، قال الألوسي : «حتى إنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد».

كلمة في السياق :

جاءت هذه الآية بعد آية العهد لإبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت ، وبعد آية إعطاء الإمامة لإبراهيم ، وقبل الآية التي تذكر الشروع ببناء البيت ، فدلتنا على أن إبراهيم (عليه‌السلام) وقد علم مكان البيت بالنسبة للعالم دعى لأهله بالأمن والرزق ، كما أرتنا نموذجا على قيام إبراهيم بأمر الله ، فإنه لما علم أن عهد الله لا يناله الظالمون لم يدع إلا للمؤمنين بالرزق ، فالآية ترينا في سياقها نموذجا على مسارعة إبراهيم في تنفيذ الأمر وقيامه بالأوامر والنواهي. وبعد أن عرفنا الله عزوجل على إرادته في جعل البيت مثابة وأمنا ، وعرفنا على رغبة إبراهيم في أن يعطي أهل الحرم رزقا وأمنا ، تأتي الآية اللاحقة لتقص علينا بناء البيت ، ورغبات إبراهيم وإسماعيل وهما يبنيانه ، ورغبتهما إلى الله في ذلك مما حققه الله عزوجل فيما بعد ، ومما يعاند أهل الكفر في شأنه بعد ذلك كما سنرى.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

المعنى الكلي : واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام) البيت ، ورفعهما القواعد منه ، وهما يدعوان هذه الدعوات ، فهما في عمل صالح ، ويدعوان الله ، إذ الدعاء والإنسان في طاعة أمر الله مظنة إجابة ، ومجموع هذه الدعوات تعبر عن العواطف التي كانت تثور في أنفسهما آنذاك ، ومجموع ذلك هو : الرغبة في قبول العمل ، وفي قبول الذات بتوفيقها للإسلام في شأنها كله ، والرغبة في استمرار الإسلام في الذرية ،

٢٧١

وذلك تعبير عن الحرص على بقاء الإسلام ، والرغبة في التعرف على الشعائر التي يحبها الله ، والرغبة في مغفرة الله ، والرغبة في أن يبعث الله للذرية رسولا يتلو عليها آيات الله ، ويعلمها كتاب الله وسنن الأنبياء ، ويطهرها من الأدران الحسية والمعنوية ، وقد استجاب الله لهما ذلك كله :

المعنى الحرفي :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) البيت : الكعبة والقواعد : جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه ومعناها : الثابتة ، ورفع الأساس : البناء عليه ، لأنه إذا بني على القاعدة نقلت من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر ، وذكر القواعد مبهمة أولا ثم تبيانها بقوله (مِنَ الْبَيْتِ) تفخيم لشأن المبين ، وإسماعيل معطوف على إبراهيم ، وكان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. قال الألوسي : «وآثر صيغة المضارع أي في قوله تعالى (وَإِذْ يَرْفَعُ) مع أن القصة ماضية .. استحضارا لهذا الأمر ؛ ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها ، وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه» وفي العرض من خلال الفعل المضارع (يَرْفَعُ) مع الابتهالات : «ما يرينا مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود ، يرينا إياه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن» عن الظلال بتصرف (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي قائلين : يا ربنا إنا تقربنا إليك ببناء هذا البيت ، فتقبل عملنا ؛ إنك أنت السميع لدعائنا ، العليم بضمائرنا ونياتنا.

قرأ وهيب بن الورد مرة هذه الآية ثم بكى وقال : «يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن ، وأنت مشفق أن لا يتقبل منك» ذكره ابن كثير ثم قال : «وهذا كما حكى الله عن حال المؤمنين الخلص في قوله تعالى (في سورة : المؤمنون) (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي خائفة أن لا يقبل منهم كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كما سيأتي في موضعه (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي اجعلنا مستسلمين لك يقال : أسلم له واستسلم إذا خضع وأذعن ، قال ابن جرير : «واجعلنا مستسلمين لأمرك ، خاضعين لطاعتك ، لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك ، ولا في العبادة غيرك».

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) قال السدي : يعنيان العرب. قال ابن كثير

٢٧٢

«والسياق إنما هو في العرب ولهذا قال بعده (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ...) قال النسفي : «وإنما خصا بالدعاء ذريتهما لأنهم أولى بالشفقة» أقول : والذين لا يعطون العواطف البشرية العميقة في النفس البشرية حقها مخطئون ، فالحرج أن تتجاوز العواطف البشرية حدودها المشروعة ، أو تؤثر على النكوص عن أمر أو الوقوع في نهي (وَأَرِنا مَناسِكَنا) أي وبصرنا متعبداتنا في الحج ، أو عرفنا إياها وواحد المناسك : منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ولهذا قيل للعابد ناسك أقول : وقد عرف الله إبراهيم على المناسك ، وإن حجنا الحالي كله له صلة بإبراهيم وآله عليهم‌السلام كما سنرى ذلك. (وَتُبْ عَلَيْنا) ما فرط منا من التقصير. قالا ذلك هضما لنفسيهما وإرشادا لذريتهما وللخلق (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ) لمن تاب (الرَّحِيمُ) بعباده (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) أي من الذرية أي وأرسل فيهم رسولا لهم من أنفسهم ، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا في الأميين إليهم ، وإلى سائر الأعجمين من الإنس والجن ، فكانت دعوة مستجابة (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) أي يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل وحدانيتك ، وصدق أنبيائك ورسلك (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ ،) قال الألوسي «بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه ويوقفهم على حقائقه وأسراره ، والظاهر أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون ـ الرسول ـ صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن» أقول : كانت هذه الدعوة قبل إنزال التوراة على موسى (عليه‌السلام) بسنين طويلة ، وهذا يقتضي إما أنهما دعوا بذلك بإخبار من الله تعالى أنه سينزل كتبا ، أو بمعرفة عن الكتب ، وعلى القول الثاني فإن احتمال أن يكون هناك كتب منزلة من الله قبل التوراة والزبور والإنجيل يبقى قائما ، وإن كثيرا من الأمم كأهل الهند وفارس تدعي وجود كتب مقدسة عندها ، فهل لهذه الكتب أصل ، ثم طرأ عليه ما طرأ؟ موضوع قابل للدراسة ، وإن دراسة مستوعبة مقارنة شاملة يمكن أن توصلنا إلى بعض الحقائق مع الاحتراس الكثير (وَالْحِكْمَةَ) أي : ويعلمهم الحكمة وهي : وضع الأشياء في مواضعها : سواء كانت دنيوية أو أخروية ، وإذ كانت الحكمة هي ما سوى الكتاب من تعليم الرسل ، فإن كل ما علمنا إياه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمى حكمة ، ومن ثم فسر بعضهم الحكمة بالسنة وفسر ابن إسحاق دعوة إبراهيم وإسماعيل بتعليم الكتاب والحكمة بقوله : «يعلمهم الخير فيعقلوه ، والشر فيتقوه ، ويخبرهم برضى الله عنهم إذا أطاعوه ، ليستكثروا من طاعته ، ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته» أقول فكأنه فسر

٢٧٣

الكتاب بالفرائض والحكمة بالسلوك الصحيح (وَيُزَكِّيهِمْ) أي : ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس الحسية والمعنوية أقول : دل ذلك على أن شأن الوارث الكامل للرسل أن يعلم الكتاب ، ويربي على السلوك الحكيم ، ويطهر الأنفس من شركها وأمراضها ، فمن فاته شىء من ذلك ؛ فاته شىء من الوراثة (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أي الغالب الذي لا يغلب ، والذي لا يعجزه شىء ، وهو قادر على كل شىء (الْحَكِيمُ) في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله.

وبهذا تنتهي الفقرة الأولى من مقطع إبراهيم «وقد أعطتنا دلالات وإيحاءات ، وعلى ضوء هذه الدلالات والإيحاءات تأتي الفقرة الثانية لتواجه الذين ينازعون الأمة المسلمة الإمامة ، وينازعون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبوة والرسالة ، ويجادلون في حقيقة دين الله الأصيلة الصحيحة» عن الظلال بتصرف.

فوائد :

١ ـ قال ابن كثير : «وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة فقيل : الملائكة قبل آدم ... وقيل : آدم ... وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب ابن منبه أن أول من بناه شيث عليه‌السلام ، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب ، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها ، وأما إذا صح حديث من ذلك فعلى الرأس والعين».

٢ ـ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قصة إسماعيل وإبراهيم ومنها ما له علاقة ببناء البيت. «قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال : فاصنع ما أمرك ربك ، قال : وتعينني؟ قال : وأعينك ، قال : فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا (وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها ، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

٣ ـ أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة قال : «قلت يا رسول الله .. ما كان أول بدء أمرك؟ قال : دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بي ، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ..» قال ابن كثير : وقوله : (ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام) قيل : كان مناما رأته حين حملت به ، وقصته على قومها

٢٧٤

فشاع فيهم واشتهر بينهم ، وكان ذلك توطئة ، وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام ، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله ، وبها ينزل عيسى ابن مريم ، إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها ، ولهذا جاء في الصحيحين «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» وفي صحيح البخاري «وهم بالشام» .. اه. أقول : والمراد ببدء أمره عليه الصلاة والسلام أي بدء ظهور أمره في هذا العالم وأقول : إن للشام لرسالة وإن على أهلها لواجبا.

٤ ـ وقال صاحب الظلال تعليقا على دعوة إبراهيم وإسماعيل في أن يبعث الله في ذريتهما رسولا : «وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة هذا الرسول الكريم بعد قرون وقرون .... إن الدعوة المستجابة تستجاب ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته ، غير أن الناس يستعجلون ، وغير الواصلين يملون ويقنطون».

كلمة في السياق :

انتهت الفقرة الأولى من مقطع إبراهيم وقد تقررت فيها إمامة إبراهيم وسببها ، وإمامة بعض ذريته ، وتقررت فيها إمامة البيت ، وبعض الآداب فيه ومعه ، وتقررت فيها مجموعة الرغبات التي كانت في قلب إبراهيم وإسماعيل ، والتي تمثلت بدعوات ، وإذ كان إبراهيم إماما فإن هذه الرغبات لكل منها وزنه العظيم.

والقضيتان الكبيرتان في الفقرة هما الإسلام والبيت ، والفقرتان اللاحقتان في هذا المقطع تناقشان الراغبين عن الإسلام والداعين لغيره. وسيأتي المقطع اللاحق ليكون فيه كلام عن اتخاذ البيت قبلة ولم نخرج من الفقرة الأولى إلا وقد اتضح موضوع الإسلام ، والأمة المسلمة ، التي سيتجدد ظهورها فيما بعد ، بذرية إبراهيم وإسماعيل من العرب ، ليشكلوا نواة الأمة الإسلامية في العالم بعد غياب ، بالقائد والمنشىء والمربي رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الفقرة الثانية في مقطع إبراهيم عليه‌السلام :

قلنا الفقرتين التاليتين في مقطع إبراهيم كلتاهما تناقش موضوع الإسلام.

٢٧٥

إحداهما تناقش الراغبين عنه ؛ ولذلك تبدأ بقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ).

والثانية : تناقش الداعين إلى غيره ؛ ولذلك فإنها تبدأ بقوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ..) فنحن الآن إذن في الفقرة التي تناقش الراغبين عن الإسلام : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) هذا استفهام فيه معنى الإنكار والاستبعاد أن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح ، الذي هو ملة إبراهيم ، والملة : هي السنة والطريقة وقوله (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أي جهل نفسه فظلمها بسفهه ، وسوء تدبيره ؛ بتركه الحق إلى الضلال ، حيث خالف طريق من اصطفاه الله في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنة ، إلى أن اتخذه الله خليلا ، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء ، فمن ترك طريقه ومسلكه وملته ، واتبع طرق الضلالة والغي ، فأي سفه أعظم من سفهه ؛ أم أي ظلم أكبر من ظلمه ؛ كما قال تعالى (في سورة لقمان) : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) هذا بيان لخطأ رأي من يرغب عن ملة إبراهيم ، لأن من جمع كرامة الدارين لم يكن أحد أولى بالرغبة في طريقته منه (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ.) هذا بيان لسبب الاصطفاء أنه أمر بالإسلام والاستسلام لله فأسلم واستسلم ، والإسلام فيه معنى التسليم والإذعان والطاعة والإخلاص لله.

فوائد :

١ ـ اصطفاء إبراهيم في الدنيا أي : اختياره بالرسالة واجتباؤه من سائر المخلوقات ، وكونه في الآخرة من الصالحين شهادة له بفعل الصلاح ، والثبات على الاستقامة والخير والصلاح ، فاجمع له الكمالات الدنيوية والأخروية. فالسفيه وحده أي : الجاهل الخفيف العقل هو الذي يرغب عن طريق فيه خير الدنيا والآخرة.

٢ ـ ذهب أبو العالية وقتادة : «أن هذه الآية نزلت في اليهود ؛ أحدثوا طريقا ليست من عند الله ، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه» والقاعدة أن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ، فما من إنسان يرغب عن ملة إبراهيم إلا جاهل لنفسه ، إذ الوضع الصحيح للنفس أن تكون مستسلمة لله علما وحالا وسلوكا ، وكان إبراهيم إماما في ذلك ، فالرغبة عن هذه الطريقة لا تكون إلا أثرا عن الجهل والسفه والطيش.

٢٧٦

كلمة في السياق :

١ ـ مر معنا في مقدمة سورة البقرة عن المنافقين قوله تعالى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) وسيأتي معنا في أول المقطع اللاحق مقطع القبلة قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها.) وفي هذه الفقرة تحدد معنا معنى السفهاء بما لا يقبل لبسا ، ألا وإنهم الراغبون عن الإسلام لله رب العالمين.

٢ ـ إن الاستسلام لله رب العالمين هو ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فمهما أمر به الله أو نهى عنه أو اختاره ، فعلى الإنسان أن يستسلم له ، وقد اختار الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل عليه الكتاب والحكمة ، وعلى الإنسان أن يستسلم لله في ذلك ، ومن لم يفعل فإنه من السفهاء كائنا من كان.

٣ ـ ولقد احتج اليهود من قبل في رفضهم الإيمان بالقرآن ؛ بأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم ، وتستكمل الحجة عليهم فيما يأتي من هذه الفقرة ، بأن وصية إبراهيم وإسحق ويعقوب ، الإسلام والتوحيد ، فعليهم أن يسلموا ، ولا ينفعهم انتسابهم للصالحين إن كانوا كافرين.

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) أي وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله ، أو وصى بهذه الكلمة وهي (أسلمت لله رب العالمين) إبراهيم بنيه لحرصه عليها ومحبته لها ، حافظ عليها إلى حين الوفاة ، ووصى بنيه بها من بعده كقوله تعالى (في سورة الزخرف) (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، (وَيَعْقُوبُ) هو معطوف على إبراهيم داخل في حكمه والمعنى : ووصى بها يعقوب بنيه أيضا ، (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) هذه هي الوصية للأبناء ، وإذن يقدر قبل : (يا بَنِيَ) قول محذوف فيكون التقدير : قال «يا بني إن ...» ومعنى هذه الوصية : إن الله أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام ، ووفقكم للأخذ به ، فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام ، قال ابن كثير في تفسير هذه الوصية : «أي : أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه ، فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه ، ويبعث على ما مات عليه ، وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وفق له ويسر عليه ، ومن نوى صالحا ثبت عليه ، وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة

٢٧٧

حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع ـ أو ذراع ـ فيسبق عليه الكتاب ؛ فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع ـ أو ذراع ـ فيسبق عليه الكتاب ؛ فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث : «ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس» ، وقد قال الله تعالى (في سورة الليل) (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) ا ه. كلام ابن كثير.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

(أَمْ) على الراجح في الآية أنها منقطعة بمعنى بل ، والهمزة للإنكار ، ومعنى (بل) الانتقال عن الكلام الأول وهو التوصية ـ إلى توبيخ اليهود على ادعائهم أن يعقوب وأبناءه دينهم اليهودية ، وفائدته الانتقال من جملة إلى أخرى : أي ما (كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي حاضرين (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) حين احتضاره عليه الصلاة والسلام ، وسؤاله بنيه عن الدين فلم تدعون ما تدعون؟! قال ابن كثير في الآية : «يقول تعالى محتجا على المشركين من العرب ـ أبناء إسماعيل ـ وعلى الكفار من بني إسرائيل ـ وهو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ، عليهم‌السلام ـ بأن يعقوب لما حضرته الوفاة (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه ، قال النحاس : والعرب تسمي العم أبا نقله القرطبي ... (إِلهاً واحِداً) أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به غيره (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي مطيعون خاضعون ... والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة ، وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم» اه. ثم قال تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) الإشارة في (تِلْكَ) إلى إبراهيم عليه‌السلام وأولاده والأمة هنا بمعنى : الجماعة (قَدْ خَلَتْ) أي قد مضت (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) أي : إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين ، لا ينفعكم انتسابكم إليهم ؛ إذا لم تفعلوا خيرا يعود نفعه عليكم ، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لا تؤاخذون بأعمالهم ، نصت الآية على أن الكافر لا ينفعه كسب غيره متقدما كان أم متأخرا ، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم

٢٧٨

إلا ما اكتسبتم ؛ وذلك لافتخارهم بآبائهم. وفي الحديث الذي رواه مسلم «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه».

وبهذا استكملت الحجة على الراغبين عن دين إبراهيم ، ومن رغب عن الإسلام الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد رغب عن ملة إبراهيم. (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).

فائدة :

ـ استدل بقوله تعالى (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) من جعل الجد أبا (في حال وفاة الأب) وحجب به الإخوة في الإرث ، كما هو قول الصديق ، حكاه البخاري عنه ، من طريق ابن عباس وابن الزبير ثم قال البخاري : ولم يختلف عليه ، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين ، وبه يقول الحسن البصري وطاووس وعطاء ، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف والخلف ، وقال مالك والشافعي وأحمد فى المشهور عنه : إنه يقاسم الإخوة واختاره صاحبا أبي حنيفة : أبو يوسف ومحمد بن الحسن.

كلمة في السياق :

بالفقرة السابقة تنتهي مناقشة الراغبين عن دين إبراهيم ، وخاصة أصحاب دعوى الانتساب إليه ، مع انحرافهم عن التوحيد والإسلام والعبادة الخالصة. وقد ذكرنا قوله تعالى ـ حكاية عن أبناء يعقوب (عليه‌السلام) : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ببداية هذا القسم كله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فالأمر الذي وجه للناس جميعا بالعبادة والتوحيد تأتي المقاطع لتعمقه ، ولم يبق من مقطع إبراهيم إلا الفقرة الأخيرة ، وهي التي تناقش الداعين إلى غير ملة إبراهيم ، بعد أن ناقشت الفقرة السابقة الراغبين عن ملته ، وتختم بالآية نفسها التي ختمت بها الفقرة السابقة :

الفقرة الثالثة في مقطع إبراهيم عليه‌السلام :

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ

٢٧٩

الْمُشْرِكِينَ) أي قالت اليهود : كونوا يهودا تهتدوا ، وقالت النصارى : كونوا نصارى تهتدوا ، والجواب (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) الحنيف : هو المائل عن كل دين باطل إلى الدين الحق ، وقد رأينا في الفقرة السابقة أن ملة إبراهيم هي الإسلام ، فالاستسلام لله واتباع هداه هو الهدى لا دعاواهم (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بل من الموحدين ، هذا تعريض بأهل الكتاب وغيرهم ، لأن كلا منهم يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك ، بينت الآية أن الهداية في الاستسلام لله وعدم الشرك به ، وبدون ذلك فلا هداية ، وهؤلاء وهؤلاء ليسوا مسلمين وليسوا موحدين ، فأنى يكونون مهتدين ، وكيف يزعمون أن الهداية عندهم ويدعون إليها ، روى محمد بن إسحق عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل الله (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا ...) قال قتادة : «الحنيفية : شهادة أن لا إله إلا الله ، يدخل فيها تحريم الأمهات ، والبنات ، والخالات ، والعمات ، وما حرم الله ـ عزوجل ـ والختان» أقول : الحنيفية : هي موافقة الفطرة بالتوحيد ، وترك ما نهى الله عنه ، وفعل ما أمر به ، ذلك مقتضى العهد الأول.

كلمة في السياق :

في هذه الآية الأولى من هذه الفقرة جاء الرد على زعم اليهود والنصارى ، أن الهدى عندهم فجاء الرد عليهم : بأن الهداية في ملة إبراهيم ، واستكمالا للرد واستكمالا لإقامة الحجة ، يأمر الله هذه الأمة أن تعلن إيمانها بكل هدى أنزله الله ، من لدن إبراهيم إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما قبل ذلك ، وأن تعلن استسلامها لله عزوجل ، تلك هي الهداية الكاملة لا مزاعم اليهود والنصارى.

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) الخطاب للمؤمنين ، وما أنزل إلينا هو القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) السبط : هو الحفيد والأسباط : هم حفدة يعقوب ذراري أبنائه الإثنى عشر. قال البخاري : الأسباط : قبائل بني إسرائيل وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط ههنا شعوب بني إسرائيل ، ونحن مأمورون بأن نؤمن بالوحي الذي أنزل على أنبيائهم (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) أوتي موسى التوراة ؛ فنحن نؤمن بذلك ، وأوتي عيسى الإنجيل ؛ فنحن نؤمن بذلك ، أخرج ابن أبي حاتم .. عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آمنوا بالتوراة والإنجيل وليسعكم القرآن» (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) أرشد الله عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم

٢٨٠