الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

(نقلت هذه النقول الأربعة عن كتاب سيكولوجية القصة في القرآن).

فصل في حكمة من حكم تكرار المعاني في القرآن :

يلاحظ أنه في سياق إقامة الحجة على بني إسرائيل أن قضية عبادتهم للعجل تعرض مرة بعد مرة ، وفي كل مرة تأتي ضمن سياق يناسبها ، فمرة في سياق الكلام عن النعمة ، لأن الله تاب عليهم مع فعلهم الشنيع هذا ، ومرة في سياق إقامة الحجة عليهم في أن الانحراف عن أمر الله طبيعة لهم ، ومرة في معرض استمرارية هذا الانحراف فيهم ، والانتباه لحكمة تكرار بعض الأمور في القرآن مهم إن في عملية التربية ، أو في عملية الصراع مع الكافرين ، فالقضية التي تتكرر في القرآن مرات ومرات لم تتكرر إلا وهناك سياق يقتضيها ، ثم إن تكرارها مهم إن في ضرورة هذا التكرار للنفس البشرية ، أو في ضرورة هذا التكرار للتوضيح ، أو للتفصيل ، أو للصراع مع الكفر وأهله ، وقد أدرك علماء النفس المعاصرون أهمية التكرار في تثبيت المعاني ، وبنى عليه المشتغلون في فنون الدعاية والإعلام كل نظرياتهم في الدعاية والإعلام ، وبنى عليه الشيوعيون وغيرهم نظرية غسيل الدماغ التي محتواها أن تجعل الإنسان في وضع غير طبيعي ، ثم تكرر عليه بعض المعاني آلاف المرات حتى تستقر عنده ويزول ما عداها ، وكل ذلك مرجعه ما عرف عن طبيعة النفس البشرية ، ولئن أدرك الإنسان هذا فالله الذي خلق الإنسان أعلم به وأعلم باحتياجاته ، فكان كتابه مذكرا للإنسان على حسب احتياجات الإنسان ، وإن كل قراءة للقرآن لتتأكد فيها عند القارىء معان وتستقر معان ، ويتذكر بها القارىء الخاشع معاني ومن خلال التكرار بأساليب شتى تأخذ كل قضية محلها في النفس البشرية ، مراعى في ذلك ما تغفل عنه النفس البشرية كثيرا ، أو ما تحتاج إلى تذكره كثيرا ، إلى غير ذلك من معان لا يحاط بها ، وفي هذا كله من مظاهر الإعجاز القرآني الكثير لمن عقل.

فصل في التوسل :

مما يستدل به القائلون بجواز التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته وموته قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) إذ ورد في سبب نزولها أكثر من رواية فبعض الروايات تذكر عنهم أنهم كانوا يقولون «إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم» وبعض الروايات تذكر ما يلي :

٢٤١

قال ابن كثير : وقال العوفي عن ابن عباس (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) يقول : يستنصرون بخروج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مشركي العرب ...

وقال أبو العالية : كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مشركي العرب يقولون اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم.

ولما عرض القرطبي لهذه الآية قال : والاستفتاح : الاستنصار ...

قال ابن عباس : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان ، فلما التقوا هزمت يهود ، فعاذت يهود بهذا الدعاء وقالوا : إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم قال : فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان» فعلى هذا الاتجاه في سبب النزول يكون اليهود قد توسلوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل معرفتهم بوجوده ، ولأن الله عزوجل قد أقام عليهم الحجة بذلك ، فذلك دليل عند هؤلاء على جواز التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير حياته ومن المعلوم أن حسن البنا ـ رحمه‌الله ـ مجدد القرن الرابع عشر الهجري يرى أن التوسل مسألة فرعية ، أي ليست من مسائل الأصول التي لا يسع المسلمين الخلاف فيها ، وذلك لوجود أدلة لكل من الطرفين فيها ، ونحن سنحقق هذا الموضوع عند قوله تعالى في سورة الأعراف (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) وإنما أشرنا إلى هذا الموضوع هنا بمناسبة استدلال أحد الطرفين بالآية المذكورة على صحة ما ذهب إليه.

فصل في روايات أهل الكتاب :

رأينا في مقطع بني إسرائيل قوله تعالى (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) وقوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهذا يجعلنا حذرين في قبول الروايات الكتابية : أخرج البخاري من طرق عن الزهري عن ابن عباس قال : «يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شىء ، وكتاب الله تعالى الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرؤونه غضا لم يشب ، وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه ، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ، لا والله ما رأينا منهم أحدا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم» ولقد استطاع رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه العظيم (إظهار الحق) أن يأتي بمئات الشواهد والأدلة من كلام علماء اليهود والنصارى أنفسهم على التحريف والتغيير والتبديل في الكتب الحالية المعتمدة عند

٢٤٢

اليهود والنصارى ، فإذا كان هذا في الكتب المتوارثة فما بال الروايات الشفهية وكلام الكذبة والعامة ، ولا يعني هذا أننا نرفض كل شىء ورد في الكتب السابقة ، بل يعني هذا أن نكون حذرين مع عدم إعطاء ما نقبله ـ قوة في تفسير كتاب الله ـ أكثر مما تحتمله ، ولنا عودة على هذا الموضوع مرة ومرة إذا جاءت مناسبته.

فصل في السحر :

السحر في اللغة : عبارة عما لطف وخفي سببه ، وهو أنواع ، وكل نوع منه يستند إلى نوع من العلم أو الفن ، فمن عرف علمه استطاعه ، وهذا هو الفارق بينه وبين المعجزة والكرامة ، فالمعجزة والكرامة لا دخل لعالم الأسباب فيهما ، بل هما بقدرة الله المباشرة. أما السحر فمبناه عالم الأسباب ، ولكن قلة من يعرفه تجعله غريبا خارقا ، ومن أنواعه سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية ، ومنه ما يكون أثرا عن الاستعانة بعالم الجن ، ومنه ما يكون أثرا عن الخفة والمهارة في التلبيس على العيون والأبصار ، ومنه ما يكون أثرا عن مهارات في بعض العلوم يظنها الجهلة سحرا وهي ليست سحرا ، ومنه ما يكون أثرا عن استعمال أدوية أو ألوان ، ومنه ما يكون أثرا عن استغلال ضعف نفسي عند الآخرين ، ومنه ما يكون تغيرا وقلبا للأشياء عن أعيانها ، وهذه الأنواع تدخل تحت كلمة السحر لغويا ، أما السحر الذي هو سحر بالاصطلاح الشرعي وهو السحر المحرم : فهو ما رافقه كفر أو ضرر تلبيس أو استغلال أو كذب أو دعوى.

ومن أقوالهم في السحر :

قال القرطبي : وعندنا ـ أي أهل السنة والجماعة ـ أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافا للمعتزلة وأبي إسحق الإسفراييني من الشافعية حيث قالوا إنه تخييل وتمويه.

وقال الألوسي : والمراد به أمر غريب يشبه الخارق وليس به ـ أي بالخارق ـ إذ يجري فيه التعلم ويستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان بارتكاب القبائح قولا كالرقى التي فيها ألفاظ الشرك ومدح الشيطان وتسخيره ، وعملا كعبادة الكواكب والتزام الجنابة وسائر الفسوق ، واعتقادا كاستحسان ما يوجب التقرب إليه ومحبته إياه ...

وقال الألوسي كذلك : «فسره الجمهور بأنه خارق للعادة ـ في الظاهرة ـ يظهر في نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة ، والجمهور على أن له حقيقة».

٢٤٣

أقول : وأمهات المجلات والصحف العالمية تتحدث في عصرنا عن السحرة وسحرهم بما يدهش ويحير ، اقرأ مثلا ما نشرته مجلة «ريدرز دايجست (المختار)» عن ديننجز قارىء الأفكار وخلال العصور كان الكلام عن السحر والسحرة مستمرا على ضيق أو توسع كما سنرى بمناسبات أخرى في هذا التفسير. يقول صاحب الظلال : «وبعد فلا بد من كلمة هنا عن السحر وعما يفرق بين المرء وزوجه مما كان أولئك اليهود يجرون خلفه ويتركون كتاب الله وراء ظهورهم من أجله : إنه ما يزال مشاهدا في كل وقت أن بعض الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد ، لقد سمى بعضها بأسماء ولكنه لم يحدد كنهها ولا طرائقها. هذا «التلباثي» التخاطر عن بعد ـ ما هو؟ وكيف يتم؟ كيف يملك إنسان أن يدعو إنسانا على أبعاد وفواصل لا يصل إليها صوت الإنسان في العادة ولا بصره فيتلقى عنه دون أن تقف بينهما الفواصل والأبعاد؟ وهذا التنويم المغنطيسي ما هو وكيف يتم؟ كيف يقع أن تسيطر إرادة على إرادة ، وأن يتصل فكر بفكر ، فإذا أحدهما يوحي إلى الآخر وإذا أحدهما يتلقى عن الآخر كأنما يقرأ من كتاب مفتوح؟ إن كل ما استطاع العلم أن يقوله إلى اليوم في هذه القوى التي اعترف بها هو أن أعطاها أسماء ولكنه لم يقل قط ما هي : ولم يقل قط كيف تتم ، وثمة أمور كثيرة أخرى يماري فيها العلم ؛ إما لأنه لم يجمع منها مشاهدات كافية للاعتراف بها ؛ وإما لأنه لم يهتد إلى وسيلة تدخلها في نطاق تجاربه ، هذه الأحلام التنبؤية ـ وفرويد الذي يحاول إنكار كل قوة روحية لم يستطع إنكار وجودها ـ كيف أرى رؤيا عن مستقبل مجهول ثم إذا هذه النبوءة تصدق في الواقع بعد حين؟ وهذه الأحاسيس الخفية التي ليس لها اسم بعد. كيف أحس أن أمرا ما سيحدث بعد قليل ، أو أن شخصا ما قادم بعد قليل ثم يحدث ما توقعت على نحو من الأنحاء! إنه من المكابرة في الواقع أن يقف إنسان لينفي ببساطة مثل هذه القوى المجهولة في الكائن البشري لمجرد أن العلم لم يهتد بعد إلى وسيلة يجرب بها هذه القوى. وليس معنى هذا هو التسليم بكل خرافة والجري وراء كل أسطورة إنما الأسلم والأحوط أن يقف العقل الإنساني أمام هذه المجاهيل موقفا مرنا ، لا ينفي على الإطلاق ، ولا يثبت على الإطلاق ؛ حتى يتمكن بوسائله المتاحة له بعد ارتقاء هذه الوسائل من إدراك ما يعجز الآن عن إدراكه ، أو يسلم بأن في الأمر شيئا فوق طاقته ويعرف حدوده ويحسب للمجهول في الكون حسابه ...

السحر من قبيل هذه الأمور ، وتعليم الشياطين للناس من قبيل هذه الأمور ، وقد تكون صورة من صوره : القدرة على الإيحاء والتأثير إما في الحواس والأفكار ، وإما في

٢٤٤

الأشياء والأجسام ، وإن كان السحر الذى ذكر القرآن وقوعه من سحرة فرعون كان مجرد تخييل لا حقيقة له (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (سورة طه) ـ ولا مانع أن يكون مثل هذا التأثير وسيلة للتفريق بين المرء وزوجه وبين الصديق وصديقه ، فالانفعالات تنشأ من التأثرات ، وإن كانت الوسائل والآثار والأسباب والمسببات لا تقع كلها إلا بإذن الله على النحو الذي أسلفنا .. أقول ما اتجه إليه صاحب الظلال من كون السحر يمكن أن يكون من صور الإيحاء والتمويه هو ما ذهب إليه أبو إسحاق الإسفراييني وهو من أكبر أئمة أهل السنة والجماعة ، والجمهور على أن هذا نوع من السحر ولكنه ليس كل السحر والمسلم في كل القضايا التي أخبره عنها الوحي موقفه التصديق والتسليم ، والسحر من جملة ذلك فخطاب (سيد قطب) للعقل الإنساني في أن عليه أن يكون موقفه مرنا في الإثبات والنفي إنما هو في حالة سكت عنها النص وأخذت محلها في كلام البشر.

قال الشافعي : «إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك ، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة ، وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر ، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر».

واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك ، ومن أصحاب أبي حنيفة من قال : «إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر ـ وهذا إذا لم يرافق تعلمه كفر أو يلزم عليه كفر ـ ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه كفر» وعلى القول بأنه يكفر بمجرد تعلمه فإنه يقتل بذلك وقد رأينا كلام الشافعي في هذا الأمر.

قال ابن هبيرة : وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد : نعم. وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا. فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين ، وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي فإنه قال : يقتل ـ والحالة هذه ـ قصاصا قال : وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : في المشهور عنهم لا تقبل ، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى تقبل. وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم ، وقال مالك وأحمد والشافعي : لا يقتل ... واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة : لا تقتل ولكن تحبس وقال الثلاثة : حكمها حكم الرجل ...

٢٤٥

وهل يسأل الساحر حلا لسحره؟ أجاز سعيد بن المسيب ذلك فيما نقله عنه البخاري ولكن لا بد من اشتراط الوسيلة المباحة.

قال النسفي : قال أبو منصور الماتريدي : «القول بأن السحر على الإطلاق كفر ، خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم في شرط الإيمان فهو كفر ، وإلا فلا ، ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الإناث ، وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوي فيه ، وتقبل توبته إذا تاب ومن قال : لا تقبل فقد غلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم».

قال ابن كثير : أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان وفي الحديث : «لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان».

أقول : ظن بعضهم أن بعض المخترعات من قبيل السحر وذلك في أول ظهورها ولذلك فإن علينا من خلال نظرة شاملة وعلمية أن نميز بين ما أسماه الإنسان سحرا وهو ليس من السحر المحرم ، وبين السحر المحرم في شريعة الله ، وإن علينا أن نعرف أن الإسلام جاء ليقطع دابر السحر المحرم من حياة الإنسان ، فقد رأينا أن من فقهاء المسلمين من يكفر الساحر في كل حال ومما استدل به هؤلاء قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) وذلك بعد الكلام عن فعل السحرة وهذا الاتجاه عليه الإمام أحمد وطائفة من السلف ، وقال آخرون : لا يكفر ولكن حده ضرب عنقه ؛ لما رواه الشافعي وأحمد : أن عمر بن الخطاب كتب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال : فقتلنا ثلاث سواحر وقد أخرجه البخاري. وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت. قال الإمام أحمد : «صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الساحر». وكان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندب مشتملا على سيفه فقتله قال : أراه كان ساحرا وحمل الشافعي قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركا.

فوائد :

١ ـ في الصحيح «من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

٢ ـ وفي السنن «من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر».

٣ ـ في ضرب الله نموذجا على السحر التفريق بين المرء وزوجه إشارة إلى فظاعة

٢٤٦

هذا الفعل ، فلا شىء أفرح للشيطان من الخلاف بين الزوجين لما يترتب عليه من فتح أبواب كثيرة من الشر ، وقد أخرج الإمام مسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة يجىء أحدهم فيقول ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا ، فيقول إبليس : لا والله ما صنعت شيئا ويجىء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله. قال : فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول نعم أنت».

٤ ـ السحر قديم فقد كان في زمن سليمان عليه‌السلام ، وكان قبل في زمن موسى كما ذكر القرآن وكان في قوم صالح وهم قبل إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام إذ إنهم قالوا لصالح (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) (سورة الشعراء) أي المسحورين على المشهور كل هذا يدل على أن السحر كان موجودا قديما وقد جاءت الحفريات وجاء علم الآثار ودراسة تاريخ الأقوام فأعطى المزيد في هذا الشأن.

فصل في قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) :

في (ما) في هذا النص مذهبان الأول : أنها نافية ، والثاني : أنها اسم موصول : ـ فعلى القول بأنها نافية تصبح جملة (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) جملة معطوفة على (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) فيصير المعنى على هذا التقدير : وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشيطانين هاروت وماروت كفرا يعلمان الناس السحر ببابل ، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما. هذا مذهب القرطبي في فهم الآية وقد وجه ذلك من حيث اللغة والإعراب ، والمقصود بالملكين المبرأين هنا جبرائيل وميكائيل ؛ لأن اليهود تزعم أن جبرائيل وميكائيل هما اللذان نزلا بالسحر على سليمان. وعلى القول بأن (ما) نافية يمكن أن نعتبر (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) جملة اعتراضية فيصير المعنى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل ، يعلمون هاروت وماروت ، وهاروت وماروت يعلمان الناس وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ؛ فيتعلم الناس منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وما أنزل السحر على الملكين جبرائيل وميكائيل. وهناك قراءة بكسر اللام ؛ فيكون الملكان داود وسليمان وأنهما ما أنزل عليهما السحر. هذه أهم التفاسير التي تترتب على اعتبار ما نافيه.

٢٤٧

ـ وعلى القول بأن (ما) اسم موصول فإن معاني متعددة يحتملها النص على ضوء فهم قضية هاروت وماروت.

إن المعنى العام للآية على هذا الاتجاه هو :

ولكن الشياطين كفروا ، يعلمون الناس السحر ، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت من السحر مع أن الملكين ما كانا يعلمان أحدا السحر إلا بعد أن يعلماه أنهما أنزلا ابتلاء للناس ، فلا يعلمان أحدا السحر حتى ينهياه عن ذلك ، فإذا أصر علماه فيكون المتعلم قد اختار الكفر عن بصيرة فيستحق عذاب الله. وبعض العلماء لم يفهم أن هناك تلازما بين التعلم والكفر. قال النسفي : «والذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من الله للناس ، من تعلمه منهم وعمل به كان كافرا إن كان فيه رد مالزم في شرط الإيمان ، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنا» والفتنة في الآية معناها المحنة والإخبار ، وهل هذا التعليم من قبل الملكين أثر عن تكليف لهما من الله ليفرق الناس بين السحر والمعجزة فيكونان غير عاصيين به ، فهما على أصل العصمة أو أن الأمر غير ذلك؟ إن الفهم الشامل لشريعة الله ولنصوص الكتاب والسنة يرجح الأول.

اختلف المفسرون في هاروت وماروت الوارد اسمهما في الآية فقال بعضهم : إن هاروت وماروت شيطانان ونصر هذا القرطبي ، وقال بعضهم : إنهما قبيلان من الجن ونصر هذا ابن حزم ، وقال بعضهم إنهما رجلان من أهل بابل وصفهما الناس بالملكين لظنهم صلاحهما ، وقال بعضهم : إنهما ملكان أنزلا من السماء. ثم هؤلاء اختلفوا فمنهم من قال إنهما كلفا أن يعلما الناس السحر من أجل أن يميز الناس بين المعجزة والسحر ، وكل هذه الآراء إنما يريد أصحابها أن لا يجرحوا العصمة الثابتة للملائكة بالنصوص القطعية. وهذا الذي يرجحه علماء الأصول وليس عنه نميل.

وأما القول الآخر الذي عنه نعدل فهو : أنهما ملكان اختارتهما الملائكة لتركب فيهما الشهوة حين عيرت بني آدم ، فأهبطا إلى الأرض ، فواقعا المعصية ، فخيرا بين عذاب الدنيا أو الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا على الآخرة ، فهما يعذبان الآن. والذين ذهبوا هذا المذهب جمعوا بينه وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا ، فيكون تخصيصا لهما ، فلا تعارض حينئذ ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق وفى قول : إنه من الملائكة ، والذين ذهبوا إلى أن هاروت وماروت ملكان عصيا ،

٢٤٨

استشهدوا بما ظنوه أحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنها رواية رواها الإمام أحمد ، وقد نقلها ابن كثير ثم قال : «فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل» وإذن فليس هناك حديث صحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الموضوع واستشهد أصحاب هذا المذهب بآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وقد سردها كلها ابن كثير ثم علق عليها بقوله : «وحاصلها راجع ... إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال».

قال صاحب الظلال في حديثه عن هاروت وماروت : فإن قصتهما كانت متعارفة بين اليهود ، بدليل أنهم لم يكذبوا هذه الإشارة ولم يعترضوا عليها ، وقد وردت في القرآن الكريم إشارات مجملة لبعض الأحداث التي كانت معروفة عند المخاطبين لها ، وكان في ذلك الإجمال كفاية لأداء الغرض ، ولم يكن هناك ما يدعو إلى تفصيل أكثر ، لأن هذا التفصيل ليس هو المقصود. وقد أغرب القصاصون في هذا الموضوع كثيرا كما يرى فيما نقله ابن كثير ومن أغرب ما ذكروه : أن كوكب الزهرة إنما هو المرأة التي زنيا بها وهذا كلام غريب جدا». قال الألوسي : «والزهرة كانت يوم خلق الله تعالى السموات والأرض والقول بأنها تمثلت لهما فكان ما كان وردت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول» وسبب هذا الغلط هو العقلية الخرافية الإسرائيلية ، فقد وردت في الإسرائيليات كلمة الزهرة إما على هذه الشاكلة أو أن القصاص أحبوا الإغراب فذكروا ما ذكروا ، وقد يدل لذلك أن القصة في رواية ابن عباس ـ فيما يبدو عن أهل الكتاب ـ «وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب» قال الألوسي عن هذه القصة :

«هذا ومن قال بصحة هذه القصة في نفس الأمر وحملها على ظاهرها فقد ركب شططا ، وقال غلطا ، وفتح بابا من السحر يضحك الموتى ويبكي الأحياء ، وينكس راية الإسلام ، ويرفع رؤوس الكفرة الطغام ، كما لا يخفى ذلك على المنصفين من العلماء المحققين». وتعليقا على قصة امرأة من دومة الجندل ادعت أنها اجتمعت بهاروت وماروت ، وحدث لها ما حدث ثم جاءت تستفتي الصحابة في أمر توبتها يقول الألوسي : «فهو ونظائره مما ذكره المفسرون من القصص في هذا الباب مما لا يعول عليه ذوو الألباب ، والإقدام على تكذيب مثل هذه المرأة الدوجندلية أولى من اتهام العقل في قبول هذه الحكاية التي لم يصح فيها شىء عن رسول رب البرية صلى‌الله‌عليه‌وسلم وياليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا

٢٤٩

يصدقها العاقل ولو كانت أضغاث أحلام».

ـ وهناك أكثر من بابل والمراد في الآية (بابل العراق) ومما استدل به العلماء على أن بابل في الآية هي بابل العراق ما رواه أبو داود وسكت عنه. وهي علامة الحديث الحسن عنده : «أن عليا مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال : إن حبيبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة» قالوا عن هذا الحديث : «ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين»

فصل في التشبه :

يغلط كثير من الناس في موضوع التشبه ومن ثم فإننا نحب أن نضع أساسا في هذا الموضوع هنا ، ثم يتضح لنا بعد ذلك شيئا فشيئا :

كل بني الإنسان يشتركون في أمور ، في كونهم يأكلون وينامون ويتناكحون ويتناسلون والإنسان يشترك مع الحيوان في أمور ، فما هو التشبه المنهي عنه؟

هناك التشبه الذي ورد النهي عنه في النصوص ، كالنهي عن إقعاء الكلب ، وافتراش الثعلب ، ونقر الديك في الصلاة ، وكالنهي عن تشبه الرجال بالنساء فيما هو من خصوصيات النساء ، وعن تشبه النساء بالرجال فيما هو من خصوصيات الرجال.

ثم هناك تشبه بالكافرين فيما هو علم على الكفر ، أو تشبه بالفاسقين فيما هو علم على الفسوق ، أو تشبه بالكافرين والفاسقين فيما به تترك فريضة أو سنة ، أو فيما يحقق مصلحة للكفر والكافرين ، في مثل هذا يطبق النهي الوارد عن التشبه.

فليس كل تشبه منهيا عنه ، وسنرى ما يوضح هذه الشؤون في التفسير وفي كتاب الأساس في السنة وفقهها بما نعرف حدود ذلك بدقة.

فصل في النسخ :

ألف في موضوع الناسخ والمنسوخ الكتب الكثيرة ، وتبحث عادة قواعده

٢٥٠

وتفصيلاته في كتب أصول الفقه وننقل لك ههنا من كلام القرطبي في تفسيره ما يلائم حدود هذا التفسير :

قال القرطبي : «... معرفة هذا الكتاب أكيدة ، وفائدته عظيمة ، لا تستغني عن معرفته العلماء ، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء ، لما يترتب عليه في النوازل من الأحكام ومعرفة الحلال من الحرام ، روى أبو البختري قال : دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس فقال : ما هذا؟ قالوا : رجل يذكر الناس فقال : ليس برجل يذكر الناس لكنه يقول : أنا فلان ابن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال : لا .. قال : فاخرج من مسجدنا فلا تذكر فيه. وفي رواية أخرى : أعلمت الناسخ من المنسوخ قال : لا قال : هلكت وأهلكت. ومثله عن ابن عباس رضي الله عليه.

قال علماؤنا .. : جائز نسخ الأثقل إلى الأخف كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين (أي في القتال) ويجوز نسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان على ما يأتي بيانه في آية الصيام ، وينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة كالقبلة ، وينسخ الشىء لا إلى بدل كصدقة النجوى. وينسخ القرآن بالقرآن ... وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة وذلك موجود في قوله عليه‌السلام «لا وصية لوارث» وهو ظاهر مسائل مالك ، وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي ... والحذاق أيضا على أن السنة تنسخ بالقرآن ، وذلك موجود في القبلة ، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى وفي قوله تعالى (في سورة الممتحنة) (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقريش ، والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا ، واختلفوا هل وقع شرعا (أقول : في كون كل الحذاق هذا مذهبهم فيه نظر) ولا يصح نسخ نص بقياس إذ من شرط القياس ألا يخالف نصا ، وهذا كله في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي.

(وهناك) ... نسخ الحكم دون التلاوة ومثله صدقة النجوى ، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم ، وقد تنسخ التلاوة والحكم معا ومنه قول الصديق رضي الله عنه كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر» ومثله كثير.

٢٥١

والذي عليه الحذاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول كما يأتي بيانه في تحويل القبلة ، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله ، وهو موجود في قصة الذبيح وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس على ما يأتي بيانه في سورتي الإسراء والصافات.

... الجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي ، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى ، وقيل : إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه كقوله تعالى (في سورة النحل) (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) وهناك يأتي القول فيه ...

ـ اختلفت عبارات أئمتنا في حد النسخ (أي في تعريفه) فالذي عليه الحذاق من أهل السنة : أنه إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخيا ، هكذا حده القاضي عبد الوهاب والقاضي أبو بكر. وزاد : لولاه لكان السابق ثابتا. فحافظا على معنى النسخ اللغوي إذ هو بمعنى الرفع والإزالة وتحرزا من الحكم العقلي ، وذكرا الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيرها ، وليخرج القياس والإجماع إذ لا يتصور النسخ فيهما ولا بهما وقيد بالتراخي لأنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا نسخا ، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله.

وقال القرطبي : «أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة».

وقال : لمعرفة الناسخ طرق منها : أن يكون في اللفظ ما يدل عليه كقوله عليه‌السلام : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، ونهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرا ونحوه» ومنها أن يذكر الراوي التاريخ مثل أن يقول سمعت عام الخندق وكان المنسوخ معلوما قبله ، أو يقول نسخ حكم كذا بكذا ، ومنها : أن تجمع الأمة على حكم أنه منسوخ وأن ناسخه متقدم وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه نبهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية والله الموفق للهداية.

فصل في التأويل :

تعمدنا عند قوله تعالى (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ

٢٥٢

كُنْ فَيَكُونُ) أن نذكر أن هناك اتجاهين : اتجاها يمرها كما جاءت ، واتجاها يحملها على المجاز ، مع أننا نفضل المذهب الأول في مثل هذه النصوص وذلك من أجل هذا البيان :

إن كثيرين من الناس يحملون على التأويل والتعطيل دون إدراك دقيق للتأويل المذموم ، لقد لا حظنا عند الكلام عن بني إسرائيل أن بني إسرائيل إنما ذموا بتحريفهم كلام الله على علم منهم بالتحريف (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وسنرى عند قوله تعالى (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أن هناك اتجاهات تقف على قوله تعالى (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل ما تشابه من القرآن ، ولا أعرف أن اتجاها من الاتجاهات حارب التأويل إلا وقد اضطر للتأويل ، والمراد به هنا إخراج معنى اللفظ عن ظاهره إلى معنى مجازي ، ولذلك فإنني أقول :

إنه لا يصح أن يكون موقفنا تشنجيا ونحن نقرأ كلام الراسخين في العلم وهم يعرضون لنا وجهات نظرهم ، ما داموا ممن شهدت لهم الأمة بالرسوخ في العلم ويتكلمون في الحدود التي تحتملها اللغة العربية ، وبالشكل الذي لا يعارض القرآن بعضه بعضا ، أو لا تتعارض به النصوص ، ومع أنني أرجح دائما في آيات الصفات عدم التأويل مع التنزيه ، إلا أنني لا أرى مانعا من عرض اتجاهات العلماء في الفهم ومناقشتها ورؤية الحجية أو عدمها في كلامهم ، مع أنني من خلال تجربتي الشخصية وبعد التمحيص للتأويلات ومن خلال ما أفهمنيه الله عزوجل لبعض آيات الصفات أشعر أن كلام الله عزوجل عن ذاته لا يسعه إلا تعبيره عن ذاته ، فسبحانه وتعالى ما أجله وأعظم صفاته وأرفع كلماته. ولكن كما قلت فهذا لا يمنع أن نرى فهوم العلماء لكل آية ولكل حديث مهما كان ، وإني أعتقد أنه ما دام المسلم في دائرة فهوم الراسخين في العلم من هذه الأمة فيما لا يتعارض مع البديهيات ومع الإجماع فإنه لا يقرب من دائرة الضلال.

فصل في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) :

هناك مجموعة من المسائل تثار أثناء الكلام عن هذه الآية منها المسائل الفقهية ومنها ما له علاقة في معرفة الذات الإلهية :

أولا : هل هذه الآية منسوخة؟ في ذلك قولان ، والذين ذهبوا إلى النسخ لهم في توجيهها قولان ، ومن محص هذه الأقوال وجد أنها لا يترتب عليها خلاف عملي إلا

٢٥٣

قليلا ، إذ الجميع متفقون على وجوب التوجه إلى الكعبة في الأحوال العادية ، والجميع متفقون على وجوب التحري حيث جهلت الجهة في ليل أو نهار ، وإذا صلوا أجزأتهم ، واختلفوا هل على من تبين له بعد أن صلى أنه صلى لغير القبلة هل عليه الإعادة؟ قولان والحنفية على عدم الإعادة ، والجميع متفقون على أنه إذا اشتد الخوف صلوا إلى أي جهة قدروا ، في صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا (قياما على أقدامهم) وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجميع متفقون على أن المتطوع في الصلاة على دابته في السفر يجوز له أن يصلي إلى أي جهة قدر ، ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه بين سفر المسافة والسفر القريب ، وذهب أبو يوسف إلى جواز التطوع على الراحلة ولو في المصر واختاره أبو جعفر الطبري حتى للماشي.

ثانيا ـ وفي باب العقائد يثور نقاش في المراد بقوله تعالى (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) فللعلماء في النص اتجاهان : الاتجاه الأول هو عدم التأويل مع التنزيه فلله وجه ليس كمثله شىء ، وعلى هذا فإن معنى الآية : لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال (عَلِيمٌ) بأعمالهم ما يغيب عنه منها شىء ، ولا يعزب عن علمه صغير أو كبير.

والاتجاه الثاني هو التأويل ، وهذه نماذج من أقوال السلف في الآية : قال عكرمة عن ابن عباس (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال : قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا. وقال مجاهد : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة» وقال ابن جرير : «.. وقال آخرون ... لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية لأن له تعالى المشارق والمغارب وأنه لا يخلو منه مكان».

قال ابن كثير تعليقا على آخر الكلام : وفي قوله «وأنه تعالى لا يخلو منه مكان ، إن أراد علمه فصحيح ، فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شىء من خلقه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا».

وقد ذكر ابن جرير وجها آخر للآية فقال : «ويحتمل : فأينما تولوا وجوهكم في

٢٥٤

دعائكم لي فهناك وجهي أستجيب لكم دعاءكم ... قال ابن جريج قال مجاهد : لما نزلت (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قالوا : إلى أين فنزلت فأينما تولوا فثم وجه الله

أقول : ولنا عودة على هذا الموضوع عند قوله تعالى في سورة القصص :

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.)

فصل : في الفرية الكبرى : أن لله ولدا.

إن هذه الفرية التي تكاد تكون مستمرة في تفكير الكثيرين في تاريخ البشرية تسللت إلى الديانة النصرانية من خلال بولس الذي حرف دين المسيح عليه الصلاة والسلام.

إن هناك دراسة صدرت لعالم مسيحي شغل منصب رئيس قسم تاريخ الأديان في جامعة باريس اسمه (شارل جنيبير) تحت عنوان «المسيحية نشأتها وتطورها». في هذه الدراسة يثبت المؤلف أن المسيحية الحالية هي بولس وأن في أفكار بولس صبت كل الديانات المعروفة وقتذاك ومما يقوله المؤلف مما له علاقة بموضوعنا :

«تعبير ابن الله لا يرد سوى مرة واحدة في أعمال الرسل (٩ / ٢٠) ويقدم لنا في تلك المجموعة باعتباره تعبيرا خاصا ببولس».

«ولكن بولس لم يكن ليدرك في ذلك الوقت كل ما ترتب على مفهوم ابن الله بعد ذلك من مشاكل في فلسفة الدين لا تحصى» «فاليهود كانوا يطلقون عبارة «خادم يهوه» على كل إنسان يظنون لديه إلهاما ... وكلمةRais تعني في نفس الوقت «خادم» أو (طفل) تماما كالكلمة اللاتينيةPuem وعلى هذا يكون التطور من (Rais) أي طفل إلى (Uios) أي ابن ، أمرا في غاية البساطة ، وقد حدث مثل هذا التطور اللفظي فعلا في النصوص اليهودية ـ المسيحية (كمجموعة أعمال الرسل) عندما نقل بعضها إلى رسائل بولس».

والمؤلف لا يعتبر أن العملية تمت عند بولس بشكل لفظي بل كانت مرادة كجزء من فلسفة تعليلية لا بد منها لسد ثغرات.

وهكذا تسللت هذه الفرية إلى الديانة المسيحية فكانت استمرارا ودعما لاتجاه باطل في التفكير البشري لا يشك عاقل ببطلانه.

يقول الشيخ عبد الحليم محمود مترجم الكتاب في مقدمته : «ونفى المؤلف عن

٢٥٥

المسيح عليه‌السلام القول بالتثليث : هذا القول الذي لا يفهمه المسيحيون أنفسهم ، ولا يفهمه كل من له عقل ، إن الثلاثة ليست واحدا كما يقولون ، وإن الواحد ليس ثلاثة كما يقولون ، وأي عقل يمكنه أن يفهم أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة؟».

أقول إن مأساة المسيحية أنها أرادت أن توفق بين التوحيد الذي أتى به موسى وعيسى ، وبين كلام بولس فوصلت إلى اللامعقولية ثم قدستها ، يقول الشيخ عبد الحليم محمود : ويقول القديس أو غسطين (وهو من أكبر فلاسفة النصرانية) مبررا كل هذا اللامفهوم بلا مفهوم جديد إنه يقول : «أومن بالمسيحية لأنها دين غير معقول».

وهكذا حكمت المسيحية على نفسها باللا معقولية من هذه البداية فدخلت في سلك الأباطيل. إنه يستحيل في منطق العقل أن يجتمع كمال الإله مع البنوة ، لأن النبوة فيها معنى الجزئية ، والله منزه عن الأجزاء ، وفيها معنى الافتقار ، والله منزه عن ذلك.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ* سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) «سورة الزخرف».

فائدة :

بمناسبة الكلام عن قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) قال ابن كثير : «وقال الإمام أحمد ... عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة فقال : (أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، لافظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، ويفتح به أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا) انفرد بإخراجه البخاري ... قال عطاء : ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعبا قال بلغته : «أعينا عمومى وآذانا صمومى وقلوبا غلوفا» أخرج هذه الزيادة الحافظ أبو بكر بن مردويه.

أقول : إن هذا النقل الصحيح عن ابن عمرو بن العاص له أهميته الكبيرة ، إذ كان عند عبد الله بن عمرو زاملتا بعير من كتب أهل الكتاب ، فهو من المتتبعين لهذه القضايا في كتب أهل الكتاب ، كما كانت في عصر النبوة ، وسأنقل في سورة الأعراف البشارة

٢٥٦

الموجودة في ما يسمى بالتوراة الحالية ، وسنرى هناك عجيبة من العجائب ، ومعجزة من معجزات هذا القرآن.

فائدة :

بمناسبة قوله تعالى (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى ...) قال ابن كثير : «قال قتادة : «وبلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) قلت : هذا الحديث مخرج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو» أقول : في الظاهر لا توجد مناسبة بين ذكر هذه الرواية وسياق الكلام في تفسير هذه الآية ، والذي أتصوره أن ابن كثير ساق ذلك حتى لا يتوهم متوهم بأن إرضاء اليهود والنصارى هو الطريق للنصر بل هو القتال ليظهر الإسلام.

فائدة :

عند قوله تعالى (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) قال ابن كثير : «وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) حيث أفرد الملة : على أن الكفر ملة واحدة ، كقوله تعالى في سورة (الكافرون) (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار ، وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا ؛ لأنهم كلهم ملة واحدة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه ، وقال في الرواية الأخرى كقول مالك : إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى كما جاء في الحديث والله أعلم».

فصل في ألوية الخداع والرد المكافىء :

عند قوله تعالى (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) يقول صاحب الظلال : «إنها العقيدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان ، إنها هي العقيدة. هذه حقيقة المعركة التى يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة ، إنها معركة العقيدة المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما ، ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين! إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى ، ويرفعان عليها أعلاما شتى في خبث

٢٥٧

ومكر وتورية ، إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة ، ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا أعلام المعركة. لم يعلنوها حربا باسم العقيدة ـ على حقيقتها ـ خوفا من حماسة العقيدة وجيشانها ، إنما أعلنوها باسم الأرض والاقتصاد والسياسة والمراكز العسكرية وما إليها ، وألقوا في روع المخدوعين الغافلين منا ، أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها ، ولا يجوز رفع رايتها. وخوض المعركة باسمها ، فهذه سمة المتخلفين المتعصبين ، ذلك كي يأمنوا جيشان العقيدة وحماستها ، بينما هم في قرارة نفوسهم : الصهيونية العالمية ، والصليبية العالمية ـ بإضافة الشيوعية العالمية ـ جميعا يخوضون المعركة أولا وقبل كل شىء لتحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلا فأدمتهم جميعا.

إنها معركة العقيدة ، إنها ليست معركة الأرض ، ولا القلة ، ولا المراكز العسكرية ، ولا هذه الروايات المزيفة كلها ، إنهم يزيفونها علينا لغرض في نفوسهم دفين ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها ، فإذا نحن خدعنا بخديعتهم لنا فلا نلومن إلا أنفسنا ونحن نبعد عن توجيه الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته وهو سبحانه أصدق القائلين (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) فذلك هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه وما سواه فمرفوض ومردود! ولكن الأمر الحازم والتوجيه الصادق : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) على سبيل القصر والحصر ، هدى الله هو الهدى ، وما عداه ليس بهدى ، فلا براح منه ولا فكاك عنه ، ولا محاولة فيه ولا ترضية على حسابه ، ولا مساومة في شىء منه قليل أو كثير ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ...».

أقول : إنه في فترات الضعف الإسلامي الأخيرة لم يزل العالم يتعامل معنا على أساس مصالح بمبادىء ومصالح ، ونحن الخاسرون في كل صفقة ، وعلينا أن نعمل لنكون أقوياء ، فنفرض على العالم أن يتعامل معنا مصالح بمصالح ، وضمن موازين عادلة ، وحيث تجيز شريعتنا.

فصل خاتم في المعجزات وخوارق العادات :

لاحظنا من خلال مقطع بني إسرائيل كثرة المعجزات وخوارق العادات في حياة بني إسرائيل ، وفي حياة أمتنا منذ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى عصرنا ظهرت معجزات وكرامات ، وخوارق عادات كثيرة ، حتى إن بعض أولياء هذه الأمة ظهرت على أيديهم خوارق للعادات كثيرة ، هذا الشيخ عبد القادر الجيلاني يقول عنه ابن تيمية رحمه‌الله :

٢٥٨

إن كراماته منقولة تواترا وابن تيمية معروف تدقيقه في هذه الشؤون.

ومن عرف الله لم يستغرب وقوع المعجزة أو الكرامة ، فالله الذي خلق السموات والأرض بكلمة (كن) والذي خلق الأسباب والقوانين ؛ لا يعجزه أن يخرق السبب والقانون ؛ معجزة لنبي أو كرامة لولي ، ولكن علينا في الحالتين أن نتثبت من الوقوع.

فإذا ما حدثنا القرآن عن الوقوع فإن من البدهيات أن يوجد عندنا التسليم ، وكذلك إذا حدثتنا السنة ، وفي كرامات الصحابة والتابعين والأولياء حتى عصرنا ، علينا أن نتثبت ، فإذا صح النقل ولم يكن ثمة مبرر شرعي للرفض فالأصل التصديق ، وقد حدثنا الله في القرآن عن أولياء أكرموا بكرامات كمريم ، وجليس سليمان الذي عنده علم من الكتاب. والعجيب أن يسري الإنكار من المجتمعات الكافرة إلينا في هذه الشؤون ، إن المجتمعات الكافرة لا تظهر فيها كرامات ؛ لأنها كافرة ولذلك فهي ترفض مبدأ خرق القانون ، أما نحن فالأمر يختلف ، فعندنا بفضل الله أولياء وعباد وزهاد ، ولم تزل الكرامات تجري على أيديهم ، وقد رأينا من كرامات بعض شيوخنا ما نجزم به ، ولكن الأعجب من ذلك أن يسري هذا الإنكار حتى على المعجزات التي أخبر عنها القرآن ، فيظهر ذلك بمحاولات التأويل لظواهر الآيات ، بحيث تؤول كل المعجزات على أنها عادات ، وذلك من عمى القلب وضعف اليقين بل هو الكفر نسأل الله العافية.

وليكن هذا الفصل خاتمة الفصول. ولنعد إلى سياق السورة حيث وصلنا إلى المقطع الرابع في القسم الأول من سورة البقرة وهو مقطع الحديث عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

المقطع الرابع من القسم الأول من سورة البقرة :

يمتد هذا المقطع من الآية (١٢٤) إلى نهاية الآية (١٤١) يبدأ بقوله تعالى (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ...) وينتهي بقوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى ، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.)

٢٥٩

يبدأ المقطع بالكلام عن إبراهيم ، وينتهي بالكلام عن إبراهيم ، ومن أدنى تأمل للمقطع يرى أن المقطع يتألف من ثلاث فقرات واضحة المعالم تضمها وحدة جامعة ، والفقرتان الثانية والثالثة تنتهيان بآية واحدة هي قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) وهذا هو المقطع في فقراته الثلاث.

الفقرة الأولى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ

٢٦٠