الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

مشروعة في وقت ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد. (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) الذين لا يعلمون هم الجهلة الذين لا علم عندهم بما وراء هذه المادة ، ولا كتاب من الله كعبدة الأصنام والملحدين فهؤلاء يقولون لأهل كل دين ليسوا على شىء ومن عرف كلام ملحدي عصرنا من مثل : الدين أفيون الشعوب أدرك كيف أن القرآن يسع الزمان والمكان (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي يجمع بينهم يوم المعاد ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة.

روى محمد بن إسحق عن ابن عباس قال : لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رافع بن حرملة (من اليهود) : ما أنتم على شىء وكفر بعيسى وبالإنجيل ، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود ما أنتم على شىء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة ، فأنزل في ذلك من قولهما : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ ...) الآية. قال قتادة (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ.) قال : بلى. قد كانت أوائل النصارى على شىء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) قال : بلى. قد كانت أوائل اليهود على شىء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا» اه قول قتادة. قال ابن كثير : وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى ، أقول : قد وصف الله عزوجل غير اليهود والنصارى بأنهم لا يعلمون ، وإذن فمن لم يؤمن بالله ويتبع الوحي الذي أنزله فهو جاهل ، وأي جهل أكبر من الجهل بالله ، وأي جهل أكبر من الضرب في هذه الحياة بلا هدى من الله ، والعجيب أن هؤلاء يصفون أنفسهم أنهم علميون وقد انخدع كثير من أبناء المسلمين بهذه الدعاوى فضلوا.

كلمة في السياق :

ـ قص الله عزوجل علينا هذه المقولة لليهود والنصارى وغيرهم من الكافرين في سياق قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ...) وفي ذلك ما يعمق مفهوم عدم المتابعة وتحسين الظن في الطوائف الكافرة خاصة. ومع أن كلا منها على باطل فهو لا يرى أن غيره على شىء. ثم إن هذه المقولة جاءت في سياق الفصل المبدوء بقوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ...) ومن ثم فهي تعمق فكرة عدم الطمع بإيمان هؤلاء ما داموا على هذه النفسية ، وقد أشعرنا الله عزوجل بذلك في قوله (فَاللهُ

٢٢١

يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فكون الحكم سيكون بينهم يوم القيامة ، فذلك يشعر أنه لا أمل في تزحزحهم عن مواقفهم. وهكذا يقص الله عزوجل علينا. في نهاية هذا الفصل ، وفي الفقرة الأخيرة منه ، وفي خاتمة مقطع بني إسرائيل. المقولات الكبرى عند الناس لنحدد بذلك مواقفنا منهم ولنعرف دقائق تركيبهم النفسي واتجاهاتهم الخطيرة ، ثم يأتي بعد المقولتين السابقتين موقف.

٣ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ* وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ.)

كلمة في السياق :

تأتي هذه الآيات بعد الآية التي تعرض دعاوى أهل الباطل واتهاماتهم لبعضهم ، وكأنها تعطينا ميزانا نتعرف به على كذبهم جميعا. فأظلم الظالمين هو الذي يعطل المساجد فلا يذكر فيها اسم الله ويسعى في خرابها. وهذه المجموعات الثلاث تخرب مساجد الله ولا تتوجه له بخالص العبادة فإذن دعاواها باطلة. إلا أن السياق لم يأت بنقض دعاوى القوم بشكل مباشر بل يقرر حقائق مطلقة وجد من يدعي أو لم يوجد. ولكن الصلة بين هذه الآيات والمقولة السابقة موجودة وهذا الواقع يؤيد ذلك ، إن من يتذكر محاكم التفتيش وما ترتب عليها من تعطيل لذكر الله في المساجد ، ومن يعلم أن أربعة عشر ألفا من المساجد في سمرقند عطل الشيوعيون فيها ذكر الله ، ومن علم أن اليهود وراء كل تخريب أخلاقي وديني في هذا العالم ، وأن المسلمين وحدهم هم الذين حموا للنصارى كنائسهم ، ولليهود كنائسهم ، وللمجوس معابدهم ، على كفر هؤلاء جميعا يعلم أن المسلمين وحدهم هم أصحاب الحق في هذا العالم ولنا عودة على السياق فلنكتف الآن بهذا القدر.

التفسير :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أي لا أحد أظلم من الذي يمنع المساجد من أن يذكر فيها اسم الله (وَسَعى فِي خَرابِها) بأن قطع من يعمرها بذكره (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) قال ابن كثير : «هذا خبر معناه الطلب أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية». وهذا يفهم منه أن الله عزوجل أعطى الوصاية للمسلمين على هذا العالم وكلفهم أن

٢٢٢

يفرضوا سلطانه ويعلوا كلمته بحيث يخاف غيرهم من سلطان الله بخوفهم منهم فإذا أراد أن يدخل مساجد الله لا يدخلها إلا وهو خاضع خائف. فكيف يصح أن يكون له السلطان عليها.

قال النسفي : «أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا عن أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين عنها». (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي للمانعين قتل ، وسبي للحربي ، وذلة بضرب الجزية للذمي (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي النار هذا التفسير النسفي لهذه الآية وهو يؤكد أن المانعين لمساجد الله يدخل فيهم اليهود والنصارى والمشركون وغيرهم ، أي من غير المسلمين. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه ابتداءا من الربط الكامل في المعنى ما بين هذه الآيات والآية قبلها. فآية (وَمَنْ أَظْلَمُ ...) رد على اليهود والنصارى والذين لا يعلمون أنهم على شىء لأنهم جميعا ظالمون ، وتأكيد أن المسلمين وحدهم على شىء لأنهم لا يمنعون أحدا أن يذكر اسم الله في مسجد أو معبد. وهذه الآية آية (وَمَنْ أَظْلَمُ ..) من غوامض الآيات وخاصة في خاتمتها ولذلك فللمفسرين كلام كثير فيها واختلاف كثير :

اختلفوا في المراد بالمانعين فقال قوم اليهود ، وقال قوم النصارى ، وقال قوم المشركون وكل استدل بشىء. والذي أراه ـ ويظهر ذلك من خلال التاريخ والواقع ـ أن الجميع كذلك إذا كان لهم السلطان ولذلك فعلى المسلمين أن يكون لهم السلطان السياسي في هذا العالم ، لأنه ليس غير المسلمين مؤتمنين على حفظ حرمة أماكن العبادة لله في العالم.

واختلفوا في قوله تعالى (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) هل هو إخبار عن حال ، أو هو خبر بمعنى النهي ، أو هو وصف لما ينبغي أن يكون ، أو هو بشارة للمسلمين أن الحال سيكون كذلك ، وقد بسط ابن كثير هذه الأقوال وقدم القول بأنه خبر بمعنى النهي. وقدم النسفي القول بأنه وصف لما ينبغي أن يكون ، وجمعنا نحن بين القولين كما مر. ولمجرد توضيح القول الرابع ننقل عبارة ابن كثير فيه «وقيل إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام».

٢٢٣

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي بلاد المشرق والمغرب كلها لله وهو مالكها ومتوليها. (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ،) أي ففي أي مكان فعلتم التولية فثم وجه الله. والمعنى إنكم إذا منعتم من مسجد فقد جعلت لكم الأرض مسجدا وطهورا فصلوا في أية بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان. (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) أي هو واسع الرحمة يريد التوسعة على عباده (عَلِيمٌ) بمصالح عباده. وهناك مسائل تثار عند هذه الآية منها المسائل الفقيهة ومنها ما له علاقة بمعرفة الذات الإلهية وسنعقد بعد عرض المقطع من أجل ذلك كله فصلا.

كلمة في السياق :

جاءت هذه الآيات بين مقولتين بين قوله تعالى :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ ...) وبين قوله تعالى

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ....)

فهي بلاشك تعرض موقفا للكافرين وهو منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. وتبين للمسلمين الموقف المكافىء لهذا الظلم العريض وفي الوقت نفسه تبين للمسلمين أنه إذا حيل بينكم وبين المسجد فالأرض كلها لكم مسجد. وكما أن الآيات في سياقها العام أعطتنا هذا وأعطتنا ردا ضمنيا على مقولة اليهود والنصارى والجاهلين ، فإنها في سياق فقرتها تعمق المعاني التي من أجلها نهينا عن المتابعة لكافر ، وهي في سياق فصلها تعلل لعدم الطمع في إيمان اليهود وأمثالهم ، وهي في سياق مقطعها ترينا إحدى الانحرافات الخطيرة التي وقع فيها اليهود وغيرهم ، وتعطينا دروسا فيما ينبغي أن نفعله لمواجهة الانحراف والمنحرفين.

٤ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ* بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) اشتملت هاتان الآيتان على الرد على النصارى ومن أشبههم من اليهود الذين قالوا عزير ابن الله ، ومن المشركين ممن جعل الملائكة بنات الله وغيرهم من أصحاب هذه المقولة فأكذب الله جميعهم في دعواهم ، وقولهم إن لله ولدا وكان الرد عليهم في هاتين الآيتين في خمسة مواطن :

١ ـ في قوله تعالى (سُبْحانَهُ) أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا فمن

٢٢٤

عرف الله وجلاله وعظمته نزهه عن ذلك.

٢ ـ في قوله تعالى (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهن ، وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء ، والجميع عبيد له وملك له ، فكيف يكون له ولد منهم ، والولد إنما يكون من شيئين متناسبين ، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد؟ وهو العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له وجميع الأشياء له مخلوقة مربوبة.

٣ ـ في قوله تعالى (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) فالجميع مقرون له بالعبودية فلا يشذ أحد عن ذلك فمن كان هذا شأنه لا يكون أحد إلا عبد له سبحانه.

٤ ـ في قوله تعالى (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فمن ابتدع السموات والأرض على غير مثال سبق هو أجل من أن يكون له ولد.

٥ ـ في قوله تعالى (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) بين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه وأنه إذا قدر أمرا وأراد كونه فإنما يقول له (كن) أي مرة واحدة فيكون أي فيوجد على وفق ما أراد بين بذلك أيضا على أن خلق عيسى أو عزير أو الملائكة أو غير ذلك مما زعم الزاعمون أنه ابن لله بكلمة كن فكان ، كما أمر الله ومن كان كذلك لا يكون إلا عبدا قال ابن جرير : فمعنى الكلام : سبحان الله أن يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية وتقر له بالطاعة وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه. وهذا إعلام من الله لعباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله بنوته ، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته ..

المعنى الحرفي :

(وَقالُوا) أشهر القائلين بهذه الفكرة الضالة هم النصارى ولكنها فكرة شائعة عند كل الأمم تقريبا إما بشكل أو بآخر كما سنحقق ذلك في سورة براءة ، (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) قال النصارى : المسيح ابن الله وقال اليهود : عزير ابن الله وقال مشركوا العرب : الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) أي تنزيه له (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ

٢٢٥

وَالْأَرْضِ) أي هو خالقه ومالكه ومن جملة ذلك المسيح وعزير والولادة تنافي الملك (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي منقادون لا يمتنع شىء منهم على تكوينه وتقديره فهم مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مخترعهما لا على مثال سبق (وَإِذا قَضى أَمْراً) أي حكم أو قدر (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي احدث فيحدث وهو من كان التامة وهذا مجاز عن سرعة التكوين. فالمعنى أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه إباء وأكد بهذا استبعاد الولادة. لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت صفاته مباينة لصفات الأجسام فأنى يتصور التوالد ثم ، وإنما قالوا بأن (كن) أمر مجازي لأنه لا فرق بين أن يقال وإذا قضى أمرا فإنما يكونه فيكون وبين أن يقال فإنما يقول له كن فيكون. ولأنه لو كان أمرا على الحقيقة فإما أن يخاطب به الموجود والموجود لا يخاطب بكن أو المعدوم والمعدوم لا يخاطب. أقول : إنما يضطر العالم للخوض في مثل هذا إذا وجد من يجادل أما إذا وجد ذو القلب فإنه يتلقى مثل هذا بالتسليم ويترك الخطاب في قلبه من الأثر ما لا تتركه كلمة أخرى وسنعقد لهذا الموضوع فصلا.

أخرج البخاري في تفسير قوله تعالى (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ...) عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي : فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله : إن لي ولدا ، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا» وفي الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ؛ إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم».

كلمة في السياق :

جاءت هذه المقولة في سياق عرض أمهات من القضايا الرئيسية عند أهل الكتاب ، أو الكافرين عامة ؛ لتعميق فكرة عدم التلقي عنهم ، والاقتداء بهم كيف وهذا شأنهم في الضلال والكفر وإيذاء الله تعالى. والملاحظ أنه في سياق المقطع الذي هو خطاب لبني إسرائيل تذكر مقولات لهم ، أو لغيرهم ، أو لهم ولغيرهم ، مما يشير إلى أن السياق يريد أن يؤصل في قلوب هذه الأمة موقفا من الكفر عامة. فالمقطع في الأصل آت في سياق عرض نموذج على موقف من هدى أنزل على أمة من قبل. ثم تأتي بعد ذلك مقولة أخرى.

٢٢٦

٥ ـ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.)

يرجح ابن كثير أن القائلين هم كفار العرب. ويرجح هذا الاتجاه ذكر (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فيما مضى على أنهم غير اليهود والنصارى ممن لا وحي سماويا عندهم. ونحن نرجح أنه يدخل في كلمة (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) هنا كل من يسأل هذه الأسئلة ، سواء كان ملحدا ، أو مشركا ، أو كتابيا في الأصل ، فإنه بسؤاله مثل هذه الأسئلة دخل في سلك الذين لا يعلمون. إن هذه الطبقة الجاهلة من الناس تعلق الإيمان على تكليم الله إياها ، أو على مجىء الآيات هذا مع أن الآيات الكافية للإيمان موجودة ولكنه التعنت.

إن هذا النوع من المطالب المتعنتة ليس جديدا على منطق الكفر بل هو طريق الكفار في كل عصر. لذلك قال تعالى : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ.) وقد ناقشنا هذا الموضوع في أول كتابنا (الله جل جلاله) وبينا في ذلك الكتاب أن هذا الطلب غير علمي وغير عقلي. وقد رد الله عزوجل على هؤلاء هنا بقوله : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) فالآيات موجودة وهي كافية لأهل اليقين بوجود الله. وذكر كلمة (يُوقِنُونَ) هنا يشعر بأن طلاب هذه المطالب طالبوا بها من أجل الإيمان برسول الله ، فكأنهم قالوا فليكلمنا الله شاهدا أنك رسوله ، أو فلتأتنا آية تدلنا على ذلك. فكان الجواب أن الآيات قد جاءت واضحة لمن كان عنده يقين بالله. قال القرطبي في (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) أي يخاطبنا بنبوتك قال ابن كثير : وهو ظاهر السياق.

المعنى الحرفي :

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) من المشركين والملحدين وأهل الكتاب الذين بتركهم العمل بما يعلمون أصبحوا لا يعلمون (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) أي هلا يكلمنا الله كما يكلم الملائكة ، أو هلا يكلمنا الله بنبوتك (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) أي معجزة تشهد على نبوتك ورسالتك يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما قالوا هذا جحودا واستهانة لأن يكون ما آتى الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات كافيا للإيمان (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) إنها عقلية واحدة ، عقلية الجحود والشك في كل عصر ومصر تتكلم بلغة واحدة (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي تشابهت قلوب هؤلاء ومن قبلهم ، في العمي ، والجحود ، والشك ؛

٢٢٧

فتكلموا بلغة واحدة (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل لقوم ينصفون فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها ، والإذعان لها ، والاكتفاء بها عن غيرها ، أو يوقنون بأن الله موجود ؛ فهؤلاء لا تخفى عليهم آيات الله التي تشهد لرسالة رسله عليهم الصلاة والسلام بما في ذلك رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهكذا أكملت هذه الآية صورة الاتجاهات الكبرى التي تواجه الدعوة الإسلامية أقوالا وأفعالا ، وجاء هذا كله في سياق النهي عن متابعة أهل الكفر في أدنى شىء ، وفي سياق الانحراف عن هدى الله ، ثم تأتي بعد ذلك آيتان تتوجهان بالخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ* وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.)

المعنى :

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً) للمؤمنين بالثواب. (وَنَذِيراً) للكافرين بالعقاب (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) أي عن أصحاب النار أي لا نسألك عنهم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت ، وبلغت جهدك في دعوتهم. في هذه الآية مجموعة قضايا ١ ـ أن هناك رسولا بالحق مهمته التبشير والإنذار هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ٢ ـ وأن الذي أرسله هو الله رب العالمين ٣ ـ وأن الثواب والعقاب على الله ، وأن الله لا يسأل رسوله عن كفر من كفر به ، بل سيتحمل كل كافر مسؤوليته عن نفسه أمام الله. ومجىء هذه الآية بعد المقولات والمواقف السابقة للكافرين فيها إشارة إلى أن هذا الكفر الذي عليه هؤلاء سيجعلهم من أهل الجحيم ، وأن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبشر ، وأن ينذر ، وأنه لا عليه من هؤلاء. ثم قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) هذا تقنيط من الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين من رضى اليهود والنصارى عنهم ما داموا على الإسلام. (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي إن هدى الله الذي رضيه لعباده وهو الإسلام المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الهدى كله ليس وراءه هدى. وأن ما يدعون إليه ليس هدى بل هو هوى بدليل (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع ، وقد رأيت بعضها فيما مر (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي من العلم بأن دين الله هو الإسلام أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة. (ما لَكَ

٢٢٨

مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يرفع عنك عذاب الله (وَلا نَصِيرٍ) أي ينصرك من الله ويلاحظ أن الله عزوجل قال (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) أفرد الملة مع أنهما ملتان ؛ وذلك إشارة إلى أن ملة الكفر واحدة.

في هذه الآية وصف لحقيقة موقف اليهود والنصارى من هذه الأمة أن كلا من اليهود أو النصارى لا يرضيه من هذه الأمة إلا أن تترك الإسلام وتدخل في دينه ، وأن غير ذلك لا يرضيهم أبدا ولو تظاهروا بقبوله. إن نسيان هذا الدرس البليغ كان سبب الكوارث الكبيرة في عصرنا فقد حاول كثير من أبناء المسلمين أن يرضوا الكافرين ببعض التنازلات والمداهنات ؛ ظنا منهم أنهم يرضونهم بهذا القدر ، فلم يحصدوا إلا الغدر والقهر. فالآية تقول مخاطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخطاب للأمة كلها :

ليست اليهود والنصارى براضية عنك أبدا ؛ فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم ، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق ، وقل إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى يعني : هو الدين المستقيم ، الصحيح ، الكامل الشامل ، وأن ما أنتم عليه هو الهوى الذي عقوبته عند الله شديدة.

كلمة في السياق :

ـ بعد أن عرضت الفقرة مجموعة من المواقف والأقوال الظالمة والباطلة جاء قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) فدلل ذلك على أن الرسالة المصححة هي رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم جاء قوله تعالى (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) وفي ذلك إشارة إلى أن أصحاب هذه الأقوال والمواقف هم من أصحاب الجحيم ، وقد جاءت هذه الآية في سياق الفقرة المبدوءة بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) فكانت في محلها مبينة أن الحق في رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف يتابع الكافرون المستحقون للعذاب الأليم.

ـ وبعد عرض الأقوال والمواقف الضالة جاء قوله تعالى (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) أي حتى تتابعهم على مثل هذه المواقف والأقوال الضالة الظالمة (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) فالهدى هو في الإسلام.

جاءت هذه الآية في سياق قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ...) وفي ذلك إعلام بأن أي متابعة لأهل الكتاب من باب مسايرة الأهواء ، وأنها لا ترضيهم إلا

٢٢٩

إذا انحرفنا كاملا ، فالسياق في الفقرة يصب في قطع دابر المتابعة للكفر وأهواء أهله.

ـ وجاء هذا كله في سياق الفصل الذي بدايته (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) فجاءت الآيات مبينة ما يحول بينهم وبين الإيمان ، ومثبتة لنا على الإيمان ، وموصلة لنا إلى تبيان الطريق الصحيح للوصول إلى الإيمان ، وذلك في الآية الأخيرة من الفصل الثاني وهي قوله تعالى :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)

المعنى :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم مؤمنو أهل الكتاب ، وهو التوراة ، أو الإنجيل ، أو أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون الكتاب هو القرآن ، أو الجميع ، ويكون الكتاب المقصود جنس الكتاب (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) أي يقرؤونه حق قراءته ، في الترتيل ، وأداء الحروف ، والتدبر ، والتفكر ، والإيمان بمضمونه ، والعمل به. ومن ذلك إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة ، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار كما قال عمر بن الخطاب. ومن حق التلاوة ما قاله ابن مسعود : «والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويقرؤه كما أنزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله». ومن حق التلاوة ما قاله الحسن البصري : «يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه». ومن حق التلاوة ما قاله ابن عباس «يتبعونه حق اتباعه» (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) هذا خبر عن الذين آتيناهم الكتاب أي : من أقام كتاب الله كما وصفنا هو المؤمن به على الحقيقة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حيث اشتروا الضلالة بالهدى.

كلمة في السياق :

بهذه الآية انتهى الفصل الثاني في المقطع الثالث وهو المقطع الذي ابتدأ بخطاب بني إسرائيل ، وانتهى بخطاب بني إسرائيل ، في الآيتين اللتين سنذكرهما بعد قليل.

إن هذه الآية التي ختم بها الفصل الثاني الذي بدايته (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) دلت على طريق الإيمان وهو : تلاوة الكتاب حق التلاوة ، فمن قرأ التوراة حق التلاوة ، وصل إلى

٢٣٠

الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن تلا الإنجيل حق التلاوة وصل إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن تلا القرآن حق التلاوة وصل إلى الإيمان بالقرآن ، إن الآية تحتمل ذلك كله ، كما تحتمل الطعن في أهل الكتاب في أنهم لا يؤمنون بكتابهم أصلا ؛ لأنهم لا يتلونه حق تلاوته وهكذا ، فهذه الآية التي تختم الفصل تفهم فهوما عدة ، وكل فهم من فهومها يخدم السياق بشكل ما.

وكما بدأ الفصل الأول بقوله تعالى :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.)

فإن الفصل الثاني من هذا المقطع ينتهي بقوله تعالى :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.)

وبذلك ينتهي المقطع الثالث ولكنها نوع نهاية كما سنرى ، وهاتان الآيتان فسرناهما من قبل وتأتيان هنا معلنتين انتهاء الخطاب التفصيلي لبني إسرائيل بما بدىء به هذا الخطاب ، رابطتين آخر الكلام بأوله ، وفيهما تكرار للأمر ؛ زيادة في الحث ، فلعله ينفع التذكير اللاحق حيث لم ينفع التذكير السابق وقد آن الآوان ـ وقد انتهى المقطع ـ أن نتكلم كلمة أخيرة في سياقه ، قبل أن نعقد بعض الفصول التي وعدنا بها تفصيلا ، لأمور وردت معنا.

كلمة أخيرة في سياق المقطع الثالث :

ـ رأينا أن المقطع الثالث ـ مقطع خطاب بني إسرائيل ـ يتألف من مدخل وفصلين ، وأن فاتحة الفصل الأول هي خاتمة الفصل الثاني ، ورأينا أن المدخل فيه مجموعة أوامر ونواه ، في تطبيقها صلاح حال بني إسرائيل وأمثالهم ممن عقده سير طويل ، ثم رأينا أن الفصل الأول كان في أجواء الآية الأولى من المدخل ، وأن الفقرتين الأولى والثانية من الفصل الثاني كانت في أجواء الآيات الثلاث اللاحقة على الآية الأولى ، ثم جاءت الفقرة الثالثة في الفصل الثاني لتناقش في قضية الآية الأولى من هذه

٢٣١

الآيات الثلاثة ، على اعتبار أن ذلك يتوقف عليه كل ما بعده ، وبناء على هذا النقاش جاءت الفقرة الرابعة تعطي للأمة الإسلامية دروس التعامل مع أهل الكتاب والكافرين ، وترد على مقولاتهم الرئيسية ، ومن خلال هذه النظرة السريعة نلاحظ أن المقطع قد انتهى ولم تغط فيه كل الأوامر والنواهي الواردة في المدخل وذلك لأن الحوار لا زال مفتوحا مع أهل الكتاب ومن ثم فإنه في مقاطع لاحقة سيرد معنا ما يغطي أوامر ونواهي المقطع.

وهذا تفصيل ما ذكرنا :

الآية الأولى في المدخل هي قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.)

وقد جاء الفصل الأول بفقرتيه يغطي أوامر هذه الآية. ثم جاء قوله تعالى في المدخل :

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) وجاءت الفقرة الأولى والثانية من الفصل الثاني تغطي هذه الأوامر والنواهي.

ثم عادت الفقرة الثالثة في الفصل الثاني إلى الحوار في مضمون قوله تعالى :

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ.) ثم جاءت الفقرة الرابعة في الفصل لتحاور الكافرين في مقولاتهم الرئيسية ، وتدل على مواقفهم الظالمة ، وتعطي الأمة الإسلامية دروس ذلك ، ثم ختم المقطع.

وإذن ففي العودة إلى فتح الحوار في قضية الإيمان لم يتجاوز الحوار الآية الثانية في المدخل. فبقيت من آيات المدخل : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

وسنرى أن كتمان الحق سيرد معنا مرة بعد مرة ، في مقطع إبراهيم وفي مقطعين لاحقين. وبقي من آيات المدخل بلا تغطية قوله تعالى :

٢٣٢

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) وسنرى أن كلاما عن البر سيأتي. وبقيت من آيات المدخل بلا تغطية قوله تعالى :

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) وسنرى أن هذا الأمر سيتوجه إلينا فيما بعد في السورة. إنه إن قبل الكافرون الإيمان ؛ فقد أصبحوا مخاطبين بما يخاطب به المسلمون ، وإن رفضوه فلن يطبقوا ما يترتب عليه ، ولذلك فإن السياق سيترك الحوار المباشر مع هؤلاء في الغالب وإنما يذكر كثيرا من المعاني بشكل تقريرات ، وبهذا نكون قد عرفنا المقطع الثالث وبعض صلاته ببعضه وبما بعده.

ـ رأينا أن المقطع الثالث بدأ بمجموعة من الأوامر والنواهي هي العلاج الكامل لليهود وأمثالهم من أجل أن ينصهروا بدين الله ودعوته ، فبعد أن جاء النداء لكل الناس أن يسيروا في الطريق الموصل إلى التقوى ، خص بنو إسرائيل بنداء خاص ولكن هذا جاء بعد قصة آدم التي انتهت بالقاعدة : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وقلنا من قبل إن مجىء الكلام عن بني إسرائيل بعد قصة آدم هو بمثابة عرض نموذج على أمة أنزل عليها وحي وكيف تصرفت مع هذا الهدى لتأخذ هذه الأمة دروس ذلك ، ولإدراك هذا الهدف في الصلة بين قصة آدم وقصة بني إسرائيل نلاحظ أنه خلال المقطع تكرر كثيرا ذكر ما يشبه القاعدة التي ختمت بها قصة آدم ، فقد ورد في نهاية الفقرة الأولى من الفصل الأول :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.) وقد ختمت الفقرة الأولى من الفصل الثاني بقوله تعالى :

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.)

وقد ورد في الفقرة الرابعة من الفصل الثاني : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ

٢٣٣

فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ثم بعد آيات ورد قوله تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي الكتاب (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) فهذا المقطع إذن يعطينا درسا عمليا في أمة أنزل عليها وحي ، وكيف كان موقفها من هذا الوحي.

وبما أن لهذه الأمة استمرارها التاريخي ، وهي مخاطبة بالقرآن فمن ثم يندمج العرض للموقف التاريخي مع الموقف الجديد المتجدد ، ليرى الانحراف كله قديما وحديثا عن وحي الله ، لتأخذ الأمة الإسلامية دروس ذلك ولتواجه هؤلاء المنحرفين بما يناسب.

وعلى هذا فالصلات بين مقطع بني إسرائيل وبين مقطع آدم واضحة المعالم.

ـ ومن قبل مقطع آدم عليه‌السلام جاء المقطع الأول في القسم الأول من سورة البقرة وفيه نداء للناس جميعا بالتوحيد والعبادة والإيمان بالقرآن ، وضرورة الإيمان والعمل الصالح ، وضرورة ترك الفسوق ، المتمثل بنقض الميثاق ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل ، وترك الإفساد في الأرض ، ومناقشة الكفر ، وتبيان أن الأرض كلها للإنسان ، وجاء مقطع بني إسرائيل وفيه خطاب بما يحقق ذلك كله ، ودروس في ذلك كله وعواقبه.

لقد رأينا في مقطع بني إسرائيل كيف أخلوا بالتوحيد ، وبالعبادة ، وبالعمل الصالح ، وكيف نقضوا الميثاق ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض ، وكفروا ، فتعمق من خلال مقطع بني إسرائيل مضمون ما ورد في المقطع الأول سلبا وإيجابا

لاحظ مثلا أنه ورد في المقطع الأول : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)

وفي مقطع بني إسرائيل ورد : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ..)

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.)

ولو أننا تتبعنا الصلات بين مقطع (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ومقطع بني إسرائيل لاقتضى ذلك منا أن نعيد المقطعين كليهما.

٢٣٤

ـ ورأينا مقدمة سورة البقرة ، وجاء مقطع بني إسرائيل فأرانا الانحراف عن كتاب الله وعن الصلاة والزكاة ، وأرانا الكفر وما يؤدي إلى الكفر ، وأرانا ما ينبغي أن نلاحظه حتى نثبت على الإيمان والتقوى وما ينبغي أن نجتنبه.

ـ ومن قبل في سورة الفاتحة علمنا أن ندعو الله أن يجنبنا السير في طريق المغضوب عليهم والضالين ، ولقد رأينا في مقطع بني إسرائيل قوله تعالى (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) ، (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) لقد رأينا في هذا المقطع بيانا كثيرا حول طريق المغضوب عليهم والضالين ، ودلنا الله على معالم في السير لنبقى في الطريق المستقيم ، ولعل في هذا كفاية لإدراك سياق المقطع ، وصلته بما قبله وبما بعده.

وإذ قص الله عزوجل علينا في هذا المقطع قصة نموذج على أمة انحرفت عن الهدى ، فإن المقطع الرابع ـ وهو مقطع إبراهيم عليه‌السلام فيه قصة نموذج لمن قام بأمر الله كاملا ، وإذن فقصة آدم يعقبها مقطعان ، مقطع في أمة أنزل عليها وحي فانحرفت ، ومقطع في من أنزل عليه وحي فقام به كله ، مع دروس ذلك لهذه الأمة ومع قضايا كثيرة تعرض خلال ذلك

ـ وقبل أن ننتقل إلى المقطع الرابع في القسم الأول من أقسام سورة البقرة مقطع إبراهيم عليه‌السلام فإن علينا أن نفي بما وعدنا به من قبل من أننا بعد نهاية المقطع سنعقد فصولا.

فصل وفوائد حول آيات ومعان في المقطع :

فصل في فرعون الاضطهاد والخروج :

من معجزات القرآن أنه حدثنا عن النجاة البدنية لفرعون ، إذ إن كل الفراعنة ـ الذين هم مظنة أن يكونوا فرعون موسى ـ جثثهم موجودة الآن ، في الوقت الذي لا تتحدث فيه كتب العهد القديم والجديد عن النجاة البدنية لفرعون ، ومما بحثه الباحثون اعتمادا على نصوص العهد القديم وهي نصوص لا يستطيع الدارس أن يعتمدها إلا بحذر شديد. من هو فرعون موسى؟. وقد سجل (موريس بوكاي) في دراسته عن القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم مختصرا عن هذه الأبحاث ، فذكر أن هناك اتجاها يقول بأن فرعون موسى هو تحتمس الثاني ، وهناك اتجاه يقول بأنه أمينوفيس الثاني ، والاتجاه

٢٣٥

الذي يقويه المؤلف أن هناك فرعونين ، فرعون الاضطهاد وهو رمسيس الثاني ، وفرعون الخروج وهو ابنه منيتاح ، ويذكر المؤلف أنه في طريقه لمتابعة دراسة على جثة منيتاح لرؤية ما إذا كان مات ميتة غير عادية ، ولا يشعر الدارس للقرآن الكريم وهو يقرأ قصة موسى مع فرعون أنه أمام شخصيتين ، ولكن لنفرض فرضا أن الدراسات العلمية القطعية أوصلتنا إلى تحديد في شأن شخصية فرعون ، وأوصلتنا إلى أن هناك فرعونين فرعون الاضطهاد وفرعون الخروج ، فإن ذلك يكون أحد أسرار استعمال كلمة (الآل) في قوله تعالى (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ففرعون الاضطهاد إذا صح أنه رمسيس الثاني ، فإن آله (منيتاح) ابنه هو الذي تمت في عهده نجاة موسى وقومه ، وكل ذلك نتوقف فيه على معطيات قطعية تسمح لنا بهذا السير ، أما فقهاؤنا فقد استفادوا من استعمال كلمة الآل ههنا أحكاما فلنرها في الفصل التالي :

فصل في أحكام فقهية من (آل فرعون):

بمناسبة قوله تعالى (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) قال القرطبي : نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون ، وهم إنما كانوا يفعلون بأمره ، وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم ، وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله ، قال الطبري : ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به ، قال القرطبي وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : يقتلان جميعا هذا بأمره والمأمور بمباشرته ... وقال سليمان بن موسى : لا يقتل الآمر ولكن تقطع يداه ثم يعاقب ويحبس ، وهو القول الثاني ويقتل المأمور للمباشرة ... وقال زفر : لا يقتل واحد منهما وهو القول الثالث ... أقول : وعلى القول الثالث فكل منهما يستأهل التعزير ، وقد يصل التعزير إلى القتل إذا رأى الإمام ذلك. ومن هذه المسألة نعرف بعض الأحكام التي تنطبق على الظلمة وأعوانهم ، إذا أدال الله دولتهم ، وكيف ينبغي أن تكون محاسبتهم على ما اقترفت أيديهم ، إن أقل ما يجوز لنا أن نعاملهم به التعزير آمرين ومأمورين من خلال دعاوى ومحاكم يثبت فيها على كل واحد منهم أنه ظلم بأدنى شىء فيقتص منه.

فائدة :

يلاحظ أن الخطاب في المقطع توجه لبني إسرائيل جملة ، وأنب الجميع بفعل البعض ، وأنب اللاحق بفعل السابق ، ومن المعلوم ـ من الدين بالضرورة ـ أن الإنسان لا يسأل

٢٣٦

عن فعل غيره إلا في حالات المسؤولية المشتركة والتقصير ، أو في حالات يكون على الإنسان تكليف ما في حق الآخرين ، وإنما كان التأنيب شاملا ، للموافقة والاستمرار على فعل القبيح ، وعلى كل حال فإننا نأخذ من هذا درسا في ضرورة مراجعة الحال القلبي لنا ، فلا نقر خطأ وقع فيه أحد من هذه الأمة خلال العصور ، ونسعى ما استطعنا أن تستقيم أمورنا ، وأمور أمتنا لأن في ذلك نجاتنا جميعا.

اعتذار : كثيرا ما يحدث أن تتجمع التحقيقات في مكان واحد من التفسير ، وهذا يؤدي إلى تضخيم قسم من التفسير ، وضمور أقسام أخرى ، وهذا الذي دعانا أن نرجىء كثيرا من التحقيقات حتى تأتي مناسباتها الأكثر ملائمة ؛ حتى لا يتضخم تفسير سورة البقرة.

فصل في أكل الثوم والبصل :

بمناسبة قوله تعالى على لسان اليهود لموسى (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) قال القرطبي :

اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول : فذهب جمهور العلماء إلى إباحة ذلك للأحاديث الثابتة في ذلك ، وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا ـ إلى المنع وقالوا : كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به ... أقول : الأكل مباح ، ولكن إذا ترتب عليه إيذاء مطلق ، أو إيذاء لمن لا يتسامح بمثل ذلك ، فالكراهة حاصلة وسنرى الموضوع تفصيلا في قسم السنة.

فصل في الصابئة :

هل المراد بالصابئة في آية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) صابئة العراق الحاليين؟ وبالتالي فالآية تتحدث عن أسلاف لهم كانوا على حق ، أو المراد بهم من مال عن الدين الباطل إلى الدين الحق كالحنيفيين من العرب قبل الإسلام؟ قولان للعلماء ، وفي صابئة العراق قولان في جواز أكل ذبائحهم ، ونكاح نسائهم ذكرهما القرطبي ، والذي أرجحه عدم جواز ذلك لأنهم أفردوا باسم خاص عن أهل الكتاب ، وقد خص أهل الكتاب بجواز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.

٢٣٧

فصل في المسخ :

ذهب بعض المفسرين إلى أن المسخ الذي وقع بأهل القرية إنما كان مسخ قلوب وليس مسخ أجساد ، وليس هذا صحيحا ، بل هو اتجاه خاطىء ، فالمسخ كان صوريا معنويا كما قال ابن كثير ، إذ لا داعي يدعو إلى صرف النص عن ظاهره والنص صريح (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) قال الضحاك عن ابن عباس : فمسخهم الله قردة بمعصيتهم ، قال ابن عباس : «ولم يعش قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل» أقول : في هذا رد على من يتصور أن القردة الحالية يحتمل أن يكون أصلها بشرا قد مسخوا ، وهو موضوع سنراه فيما بعد وإنما انفرد بفكرة المسخ المعنوي مجاهد ، وفي الحديث الذي أخرجه مسلم في كتاب القدر في جواب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن سأله عن القردة والخنازير هي مما مسخ فقال : «إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك».

فصل في الاستهزاء والمزاح :

بمناسبة قول اليهود لموسى (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) قال القرطبي : في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه ، وأن ذلك جهل ، وصاحبه مستحق للوعيد ، وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل ، ألا ترى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمزح والأئمة بعده ...

فصل في السلم في الحيوان :

استدل بقوله تعالى (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) على صحة بيع السلم في الحيوان إذ إن الآية حصرت صفات البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق ، وهو مذهب مالك ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، وأحمد ، وجمهور العلماء ، وقال أبو حنيفة ، والثوري ، والكوفيون ، لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله ، وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان ، وعبد الرحمن بن سمرة ؛ وغيرهم ونحن نرجح التوسيع في باب السلم ؛ على اعتبار أن السلم أحد الحلول التي وضعها الإسلام في وجه الربا ، وهو البديل الأقوى كما سنرى ، ولكن على أن يراعى في حالة الفتوى شروط الأئمة المجيزين حتى لا نقع في مخالفة لإجماع.

٢٣٨

فصل في القتيل إذا وجد في محلة قوم :

بمناسبة حادثة القتيل الذي أحياه الله بضربه ببعض البقرة ، يثير المفسرون مجموعة مسائل : مسألة ما إذا قال القتيل دمي عند فلان ثم مات ، ومسألة ما إذا وجد قتيل في مكان ولا يعرف له قاتل وما ثم شهود ، أو كان شهود لكنهم نساء ، أو كان شاهد واحد ، وإنما بحثوا هذه المسائل هنا تفريعا على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخه شرعنا وهو مذهب جماهير العلماء.

يعتبر مالك أن قول القتيل : قتلني فلان أو دمي عند فلان ، أمارة كافية للحكم على المذكور ، ومنع ذلك عامة الفقهاء ؛ لاحتمال الخطأ والكذب ، وعامة الفقهاء أوجبوا القسامة إذا وجد قتيل في محلة وفيه أثر القتل ، والقسامة : أن يحلف خمسون يمينا أنهم ما قتلوا ولا يعرفون له قاتلا ، ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يمينا ، فإن كانوا أقل من ذلك ، أو نكل منهم من لا يجوز عفوه ، ردت الأيمان عليهم بحسب عددهم ، وهناك خلاف في كيفية الحكم بها : إذ ترى طائفة أن يبدأ فيها المدعون بالأيمان فإن حلفوا استحقوا وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرأوا ، وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرءون ، وهل يكون بالقسامة القصاص أو الدية؟ الراجح أن يكون فيها الدية ولا قصاص.

وأوجب الثوري والكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط ، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد ، قالوا : إذا وجد قتيل في محلة قوم ، وبه أثر حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عقله ـ أي ديته ـ عليهم ، وإذا لم يكن به أثر لم يكن على العاقلة شىء إلا أن تقوم البينة على واحد ، وذهب مالك والشافعي : إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم أنه هدر لا يؤخذ به أقرب الناس دارا ؛ لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به ، فلا يؤاخذ بمثل ذلك ، حتى تكون الأسباب التي شرطوها في وجوب القسامة وهي عند مالك إما دعوى القتيل أو شهادة امرأتين أو شهادة عدل.

فصل في التحريفيين من هذه الأمة :

رأينا تفسير قوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، ورأينا كيف أن الله عزوجل قطع عنا الطمع بإيمان أهل الكتاب ؛ بسبب من هذه العقلية التحريفية للنصوص ،

٢٣٩

وخلال مسيرة التاريخ الإسلامي وجد بين المسلمين طوائف ، جعلت للقرآن باطنا يخالف الظاهر ، وذلك كفر بإجماع المسلمين. هؤلاء حرفوا كلام الله وهم يعلمون حق العلم ماذا يعني كلام الله ، فهؤلاء وقعوا فيما وقع فيه اليهود من قبل ، وهؤلاء فيما يبدو يكاد ينقطع الأمل في عودتهم إلى الحق إلا بتوبتهم ، فكما أن اليهود إذ وقعوا في هذه المفسدة ينقطع الطمع في إيمانهم ، فهؤلاء وإن ادعوا أنهم هم خيار الناس ، يكاد أن ينقطع الطمع في فيئهم إلى الله عزوجل ، يدخل في ذلك كل طوائف الباطنية الذين يعطون الإمام حق الفهم الباطن للنصوص ، وبذلك عطلوا الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من الإسلام ؛ إذ أعطوا كل النصوص فهما يخالف الظاهر ، فسبقوا في ذلك اليهود أنفسهم ، كما دخل في ذلك طوائف من المتصوفة يحملون النصوص ما لا تحتمله من معنى ، وخرج من ذلك الذين يرون أن في القرآن من المعاني الدقيقة ما لا يحاط به ، ويسمون هذه المعاني باطنا ، فلا يتعارض عندهم ظاهر بباطن أي معنى دقيق مع معنى ظاهر ، وكل ذلك على ضوء الأصول الصحيحة للفهم ، كما خرج بذلك نوع من الوعظ هو بمثابة تداعي أفكار عند عرض آية يذكره أصحابه على أنه استطراد ، أو على أنه فوائد تعرض بمناسبة الآية لا على أنه تفسير للآية وهذا مزلق قديم خطير.

قال النسفي في عقائده : «والنصوص على ظواهرها فالعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد» قال التفتازاني تعليقا على هذه العبارة : «وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص محمولة على ظواهرها ، ومع هذا ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك ، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان». ويقول ابن الصلاح في فتاواه «الظن بمن يوثق به من الصوفية أنه إذا قال شيئا من أمثال ذلك لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم فإنه لو كان كذلك لسلكوا مسلك الباطنية وإنما ذكر ذلك منهم لنظير ما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير».

وقد شدد الشيخ محمد الفاضل بن عاشور على الألوسي في تفسيره إذ ذكر التفسير الإشاري فقال «قد فتح خرقا جديدا يقتضي أن هنالك طريقا لاستفادة المراد غير مقتضى الألفاظ وهو خروج عن قواعد أهل السنة : في أن الإلهام ليس من أسباب المعرفة ، وإذا كانت تلك المعاني مقصودة فكأن غيرها حائل دونها وبذلك صح له أن يسمي الفقهاء والعلماء في كثير من المقامات بأهل الحجاب مما أثار على تفسيره الطامة الكبرى من العلماء».

٢٤٠