الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)

٢٠١

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣))

كلمة في هذه الفقرة وسياقها :

لأول مرة تتصدر كلمة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب المؤمنين في سورة البقرة وذلك بعد الدروس الكثيرة التي أخذها المؤمنون ، وبعد الجولة المباشرة مع بني إسرائيل في قضية الإيمان ، وجاء الخطاب مطالبا أهل الإيمان بالتحرر من أسر متابعة اليهود حتى في التعابير ، ومحذرا من الوقوع فيما وقعوا فيه من سوء الأدب مع الله. وجاء السياق معرفا أهل الإيمان على العواطف الحقيقة للكافرين تجاه المسلمين ، وعارضا لكثير من الأقوال والأفعال الخاطئة والموقف الصحيح منها. ومن ثم فإن الفقرة تناقش مجموعة

٢٠٢

الأوهام والتصورات الأساسية عند اليهود والنصارى من كون الشرائع السابقة لا يجوز نسخها ، ومن كون الجنة حكرا على هؤلاء مع انحرافهم عن الدين الحق! ومن كون أهل كل باطل لا يرون غيرهم على شىء! ، ومن ادعاء الولد لله ، ومن طلب سماع كلام الله واقتراح الآيات ، ومن كون بقايا أهل الكتاب كلهم على هوى ورغبة في أن يحملوا الناس على أهوائهم. وفي الفقرة توجيهات لهذه الأمة تساعدها على تحمل عبء الصراع مع الكفر وأهله ، وفيها موازين تعرف بها حقائق وكليات ، ويتضح في هذه الفقرة تماما أن هذا المقطع وإن كان في سياقه العام يدعو بني إسرائيل للصلاح والإصلاح ، ولكن الهدف الأول هو هذه الأمة ، وإصلاحها ، وتربيتها ، وتعليمها ، والارتقاء بها.

إن هذه الفقرة مبدوءة ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهو الخطاب الأول بهذه الصيغة في القرآن ، فكأن ما قبله إنما كان من أجل وجود الشخصية المؤمنة ، حتى إذا وجدت الشخصية المؤمنة من خلال كل المعاني السابقة أصبحت مؤهلة للخطاب الخاص بها.

ومن هنا فإننا نستنتج أن ما قبل هذا الخطاب ضروري في قضية الإيمان ، فالإيمان العملي الكامل غير الإيمان النظري الذي لا يواجه به صاحبه كل شىء حوله بعقلية المؤمن.

ونتيجة لذلك فإننا نقول : إن هذه الفقرة من الأهمية في المكان الكبير على اعتبار أنها أول خطاب مباشر للمؤمنين بلفظ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فالمعاني الموجودة فيها والتوجيهات ذات أهمية خاصة :

ففيها وجهت الأمة المسلمة نحو الاحتراس الكامل من متابعة غيرها ، أو الوقوع في أسر مصطلحاته ، وفيها عرفت الأمة أن عدوها لا يريد بها خيرا ، ولا يريد لها خيرا بل ينفس عليها أي خير يصيبها من ربها ، وفيها وجهت الأمة نحو التسليم المطلق لله في أحكامه وشرائعه ، ينسخ ما شاء ويثبت ما شاء ؛ فهو ذو القدرة المطلقة والعلم المحيط ، وفيها وجهت الأمة نحو الاحتراس من السير على طريق بني إسرائيل في تعنتهم وسؤال رسولهم ما لا ينبغي ، وفيها وجهت الأمة نحو الحرص على الإيمان وعدم استبداله بالكفر ، وفيها عرفت الأمة على الرغبة الملحة عند أهل الكتاب عامة من أجل صرف هذه الأمة عن دينها ، وفيها وجهت الأمة نحو الصلاة والزكاة كمرتكزين رئيسيين للبقاء في هذا الدين ، وفيها تمت الدلالة على الطريق للإيمان بالكتاب وهو تلاوته حق التلاوة.

إن كل قضية من القضايا التي تعرضت لها الفقرة ذات أهمية بالغة جدا. فأية غفلة عنها ، أو جهل بها ، أو انحراف عن الأخذ بها ؛ يترتب عليه شر كبير وبلاء مستطير.

٢٠٣

إن دروس ما مر من قبل في هذا المقطع تأتينا هنا بشكل مكثف فلنعرف ذلك.

التفسير :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) ذكر لي بعض الدارسين للغة العبرية أن كلمة (راعينو) ومشتقاتها لا زالت تستعمل في اللغة العبرية الحالية كلمة سباب. هذه الكلمة يشبهها في اللغة العربية من حيث اللفظ مع اختلاف المعنى كلمة (راعنا). فكان اليهود يستعملون هذه الكلمة في خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متسترين بمعناها العربي ، وهم يريدون الإساءة. وكان المسلمون يظنون باليهود خيرا فتابعوهم على ذلك ؛ فأنزل الله الآية. وبعض المفسرين ظنوا أن سبب النهي عن استعمال كلمة (راعنا) أن اليهود كانوا يستعملونها ويريدون (الرعونة) ولا يبعد أن يكون هناك صلة بين اللغة العبرية وهذا المعنى في الاشتقاق.

قال السدي : «كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا لقيه فكلمه قال : ارعني سمعك ، واسمع عير مسمع ، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء تفخم بهذا ؛ فكان ناس منهم يقولون اسمع غير مسمع (غير سامع) ، وهي كالتي في سورة النساء فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا راعنا». وقال الحسن : الراعن من القول السخري منه ، نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يدعوهم إليه من الإسلام.

قال ابن كثير : نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم ، وذلك أن اليهود كانوا يعنون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص ، عليهم لعائن الله ، فإذا أرادوا أن يقولوا : اسمع لنا ، يقولون : راعنا ويورون بالرعونة ...

والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ...)

أخرج الإمام أحمد .. عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم».

وأخرج أبو داوود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من تشبه بقوم فهو منهم».

٢٠٤

قال ابن كثير : ففيه دلالة على النهي الشديد ، والتهديد والوعيد ، على التشبه بالكفار ، في أقوالهم ، وأفعالهم ولباسهم ، وأعيادهم ، وعياداتهم ، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها.

وقال النسفي في الآية :

كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ألقى عليهم شيئا من العلم : راعنا يا رسول الله ، أي راقبنا وانتظرنا حتى نفهمه ونحفظه ، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي (راعينا) فلما سمعوا بقول المؤمنين (راعنا) افترصوه وخاطبوا به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يعنون تلك المسبة ، فنهي المؤمنون عنها ، وأمروا بما هو في معناها وهو انظرنا ، من نظره إذا انتظره.

يقول صاحب الظلال :

«فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مواجهة ، فيحتالون على سبه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن هذا الطريق الملتوي الذي لا يسلكه إلا صغار السفهاء ، ومن ثم جاء النهي للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة ، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى ، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته ؛ كي يفوتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه ، واستخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود يشي بمدى غيظهم وحقدهم ، كما يشي بسوء الأدب وخسة الوسيلة وانحطاط السلوك ، والنهي الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله لنبيه ، وللجماعة المسلمة ، ودفاعه سبحانه عن أوليائه ، بإزاء كل كيد وكل قصد شرير من أعدائهم الماكرين».

أقول : إن هذه الحادثة تدل على أن اليهود لا يتركون فرصة يسيئون إلينا بها إلا اهتبلوها مهما كانت هذه الفرصة صغيرة أو خسيسة ، وإن أمثالهم كثيرون ، وعلينا أن نكون يقظين بحيث لا نعطي عدوا فرصة.

وأول درس يستفاد من الحادثة والآية : أن يحذر المسلم من خداع الألفاظ التي يطلقها الكافرون ومن متابعتهم عليها ، ولعل غياب هذه الحقيقة عن أذهان المسلمين كان من أعظم أسباب كوارثهم ، فقد تابعوا أعداء الله والإسلام في شعاراتهم وألبستهم وعاداتهم وأفكارهم وتقويمهم للأشياء ، وإذا بآلاف الألوية الكافرة ترتفع في أرض الإسلام ، ويلتف حولها أبناء المسلمين ، واللواء الحقيقي للمسلم لواء الله ورسوله لم يعد يحمله إلا القليل ، ولو أن المسلم عقل الانحراف النفسي والعقلي للكافرين عامة لأدرك خطر المتابعة ، ولو أن المسلم عقل الوضع النفسي والعقلي للكافرين عامة لعرف أن هؤلاء

٢٠٥

الكافرين جميعا أعداؤه ، وأنهم لا يريدون به خيرا ، ولا يريدون له خيرا كما سنرى في الآية اللاحقة للآية التي نحن بصددها. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا) أي وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة ، وليكن سماعكم سماع قبول وطاعة ، ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ولليهود وأشباههم من الكافرين جميعا ممن يسبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويسيئون الأدب معه ، ويرفضون السماع له عذاب مؤلم.

أخرج ابن أبي حاتم : «أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال : اعهد إلي فقال : إذا سمعت الله يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فارعها سمعك ، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه».

ثم تأتي الآية التالية للآية الأولى لتؤكد أن الكافرين ـ سواء كانوا كتابيين أو مشركين ـ يكرهون أن يصيب المسلمين أي خير من ربهم. فهي تكمل الآية السابقة فكأنها تقول للمسلم : كيف تتابع أعداء الله وتقلدهم وتترك طاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وأعداء الله يعادونك ، ويحاربونك ، ويكرهون لك الخير :

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الخير هنا الوحي ، وبين الله عزوجل في هذه الآية شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين الذين حذر الله تعالى من تقليدهم ومحاكاتهم ؛ ليقطع المودة بيننا وبينهم. ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يقول تعالى (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) المراد بالرحمة هنا النبوة والوحي والشريعة (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) وفي هذا إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم على الرسول وعلى المستجيبين له.

بين سياق المقطع الانحراف الخطير الذي وقع فيه أهل الكتاب ، فكان مقتضى هذه المعرفة أن يكون المسلم في علاقته بأهل الكتاب ـ فضلا عن غيرهم ـ على حذر ، وخاصة في المتابعة والطاعة ، وكيف لا وقد خصت هذه الأمة بالخير وبالفضل ، أفتترك هذه الأمة هذا الخير وهذا الفضل وتتابع أعداءها ممن لا خير عندهم ولا فضل ولا يريدون بهذه الأمة خيرا.

ثم يأتي بعد ذلك قوله تعالى :

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ

٢٠٦

قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لم تظهر حكمة مجىء هاتين الآيتين في هذا السياق وفي هذا المكان كما ظهرت في عصرنا. إذ في العصور المتأخرة صاغ أهل الكتاب في زعمهم نظريات النقد الرئيسية الكاذبة لإسلامنا ، وكان منها نقد الإسلام من خلال موضوع النسخ ، فكان عملهم استمرارا لعمل أسلافهم في زمن النبوة.

فأسلافهم في زمن النبوة نقدوا الإسلام من خلال ما ينسخ من حكم ويوضع من حكم جديد ، وأتم هؤلاء النظرية فرفضوا أن يكون الإسلام ناسخا لما قبله ؛ بحجة أن دين الله واحد والله واحد ، فلماذا ينسخ الله شرعه؟ فكون النسخ موجودا في الشريعة الإسلامية ، وكون الشريعة الإسلامية تعتبر نفسها ناسخة لما قبلها ؛ فذلك علامة على أن هذه الشريعة ليست من عند الله. ومن أعظم من تولى الرد عليهم في هذا الموضوع وفي غيره رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه «إظهار الحق» الذي لم يؤلف في الإسلام مثله في موضوعه ، إذ أقام عليهم الحجة من كلامهم ، ومن نصوص ديانتهم التي يعتمدونها في مجموع المسائل التي أثاروها. فبرهن في موضوع النسخ من خلال ما يعتمدونه على أن التوراة نسخت أحكاما كانت قبلها في بني إسرائيل ، وأن الإنجيل قد نسخ أحكاما في التوراة ، بل إن رسل المسيح ـ في زعمهم ـ قد نسخوا أحكاما في الإنجيل ، وأن التوراة قد نسخت أحكام فيها بأحكام أخرى.

بعد هذه المقدمة أصبح بإمكاننا أن ندرك محل هاتين الآيتين في سياق الفقرة : خص الله هذه الأمة بالفضل والخير ؛ بإنزاله عليها شريعته الأخيرة الناسخة لسواها. والكافرون الذين لا يريدون لهذه الأمة خيرا ينكرون أن تنسخ شريعة لاحقة شريعة سابقة. وبالتالي فإنهم يعتبرون الإسلام باطلا. وهم إذ يزعمون هذا الزعم فكأنهم يعتبرون الله عاجزا ، وهم بذلك لا يعرفون إحاطة علم الله ، فتأتي الآيتان لترد هذا كله وتبطله. ففي الآيتين تأكيد لفضل الله على هذه الأمة وتوضيح ، وهذا يستدعي من هذه الأمة أن تعرف فضل الله عليها ، فلا تستجر إلى متابعة أهل الضلال ، بل أن تشكر الله على نعمه بالسماع والمتابعة ، وبهذا نعرف صلة هاتين الآيتين بسياق الفقرة التي بدايتها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا) ولنبدأ عرض الآيتين :

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) طعن اليهود في النسخ فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا فنزلت هذه الآية. والنسخ لغة : التبديل. وشريعة : بيان انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي فكان تبديلا في حقنا ، بيانا محضا في

٢٠٧

حق صاحب الشرع. والإنساء : أن يذهب بحفظها من القلوب (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) أي نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه ، أي في الحكم بالنسبة لمصلحة المكلفين إما أنفع وإما أرفق وإما أكثر ثوابا. قال قتادة : فيها تخفيف ، فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي ، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي قادر فهو يقدر على الخير وعلى مثله وعلى أفضل منه (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو يملك أموركم ويدبرها ، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يلي أموركم (وَلا نَصِيرٍ) أي ناصر ينصركم من العذاب. قال ابن كثير : «يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء ، فله الخلق والأمر وهو المتصرف ، فكما خلقهم كما يشاء ؛ يسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء ، ويصح من يشاء ، ويمرض من يشاء ، ويوفق من يشاء ، ويخذل من يشاء ، كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء ، ويحرم ما يشاء ، ويبيح ما يشاء ، ويحظر ما يشاء ، وهو الذي يحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ ؛ فيأمر بالشىء لما فيه من المصلحة التي يعلمها ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى. فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله ، في تصديق ما أخبروا ، وامتثال ما أمروا ، وترك ما عنه زجروا. وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود ، وتزييف شبهتهم ـ لعنهم الله ـ في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا ، وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا. قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه‌الله : فتأويل الآية ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيرى ؛ أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وأنهى عما أشاء ، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء ، وأقر فيهما ما أشاء ثم قال : وهذا الخبر وإن كان خطابا من الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه الخبر عن عظمته. فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة ، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما ، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته ؛ وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما يشاء ، ونهيهم عما يشاء ، ونسخ ما يشاء ، وإقرار ما يشاء ، وإنشاء ما يشاء من إقراره ونهيه ، قلت (القائل ابن كثير) الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد. فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى ؛ لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما

٢٠٨

يريد مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية ، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك ، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها ، وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها ، أمر إبراهيم بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل ، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل ؛ كيلا يستأصلهم القتل ، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدقونه».

وفي الصلة بين قوله تعالى (ما نَنْسَخْ) وبين ما قبلها زيادة على ما ذكرنا ، ما قاله الألوسي : «ومناسبة الآية لما قبلها أن فيه ما هو من قبيل النسخ ؛ حيث أقر الصحابة رضي الله عنهم مدة على قول (راعنا) وإقراره صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الشىء منزل منزلة الأمر به والإذن فيه ثم إنهم نهوا عن ذلك ، فكان مظنة لما يحاكي ما حكي في سبب النزول ، أو لأنه تعالى لما ذكر أنه (ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) كاد ترفع الطغام رؤوسها وتقول : «إن من الفضل عدم النسخ .. فأتى سبحانه بما ينكس رؤوسهم ويكسر ناموسهم ويشير إلى أن النسخ من جملة فضله العظيم ، وجوده العميم ، أو لأنه تعالى لما أشار إلى حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا ، عقبه بما يبين سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاعنين فيه فليتدبر» اه. وفي حكمة النسخ يقول صاحب الظلال : «فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال في فترة الرسالة هو لصالح البشرية ولتحقيق خير أكبر تقتضيه أطوار حياتها» اه. وسنعقد للنسخ فصلا بعد أن ننهي عرض المقطع ولننتقل إلى آية أخرى في الفقرة وهي :

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)

(أم) في اللغة العربية تأتي متصلة ، وتأتي منفصلة ، تأتي متصلة إذا سبقت بهمزة استفهام وجاءت حرفا معادلا له تقول (أجاز زيد أم خالد) وتأتي منفصلة إذا لم تسبق بشىء من هذا لفظا أو تقديرا ، وتكون في هذه الحالة حرف إضراب تقديره (بل) قال الألوسي : جوز في (أم) هذه أن تكون متصلة وأن تكون منقطعة ، ثم أخذ يوجه الاتصال والانقطاع ، وذكر كيف أن بعضهم جزم بالانقطاع ، والألوسي احتمل الاتصال لسبق (أم) بقوله تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ورده بعضهم لأن الخطاب في الآية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بينما الخطاب في الآية الثانية.

٢٠٩

للمؤمنين. والذي أرتاح إليه أن (أم) متصلة ولكن همزتها هي التي مرت معنا في ابتداء الفصل في قوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ.)

في الفصل الأول من هذا المقطع : سئل موسى من قبل بني إسرائيل أن يريهم الله جهرة ، وسألوا موسى أن يخرج الله لهم من بقول الأرض ، وفي الفصل الأول تبينت معالم الطبيعة اليهودية ، ثم جاء الفصل الثاني مصدرا بقوله تعالى :

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ..) وسار السياق موئسا المسلمين من إيمان هؤلاء ثم جاء قوله تعالى (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ ..) ناهيا المسلمين أن يسألوا كما سأل بنو إسرائيل ولكن بعد أن اتضحت النفسية اليهودية بشكل أجلى.

فالفصل في سياقه الرئيسي يقول للمسلمين :

لا تطمعوا أن يؤمنوا لكم ، ولا تسألوا رسولكم كما سألوه ، هذا على القول بأن (أم) متصلة. أما على القول بأنها منفصلة فإن المعنى يكون : بل أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل. وفي حالة اتصال (أم) أو انفصالها فالإنكار هو المقدر ولنا عودة على السياق :

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) قال ابن كثير : «أي بل تريدون أو هي على بابها في الاستفهام وهو إنكاري» وقال : والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شىء على وجه التعنت والاقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه‌السلام تعنتا وتكذيبا وعنادا (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) أي ومن يشتر الكفر بالإيمان (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال ، وهذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم ، والانقياد لهم ، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم ، بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر ولنا عند هذه الآية وقفتان :

الوقفة الأولى حول أهمية هذا التوجيه :

إن بني إسرائيل عندما بعث لهم موسى عليه‌السلام كانوا أمة مستعبدة ، ثم تخلصوا من العبودية وبقوا حدثاء عهد بها ، وكانوا حدثاء عهد بالكتاب ، ومن ثم كانوا يسألون ما لا يسأل ، ويتعنتون ويخالفون ، وقد أعطى الله هذه الأمة دروسا عن

٢١٠

هؤلاء. ولقد كونت هذه الأمة في قلب الجزيرة العربية حيث لا عبودية سابقة ، فانتفت الظروف وأخذنا الدروس ، فالمفروض أن تكون أمتنا بمنأى عن الأسئلة الساذجة أو المتعنتة أو التي لا تليق بالأمة الربانية. وأهم الأسئلة التي وجهها بنو إسرائيل لموسى (عليه‌السلام) في هذا السياق تعليقهم الإيمان به برؤية الله جهرة ، وهو طلب متعنت ظالم ، وطلبهم طعام الرخاء ، وهو طلب أمة مسترخية ، والأمة المسترخية لا تستطيع تحمل أعباء جهاد طويل المدى. إن هذا التوجيه يراد به من الأمة أن تبتعد عن مثل هذا النوع من السير الخاطىء الذي سارت به بنو إسرائيل ، واقرأ هذه النصوص لترى كيف كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نماذج صدق في كل حق :

في الصحيحين عن المغيرة «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال» ... وتنفيذا لمثل هذا ولمثل ما ورد في الآية :

يقول البراء بن عازب : «إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشىء فأتهيب منه ، وإن كنا لنتمنى الأعراب» أي نتمنى أن يأتي الأعرابي فيسأله فنتعلم.

وقال ابن عباس : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما سألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ .. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ...) اه. يعنى هذا وأشباهه فما أعظم هذا الجيل! فهم لم يكتفوا ألا يسألوا طلب تعنت بل لم يسألوا حتى على شاكلة أخرى إلا حيث الضرورة القصوى.

الوقفة الثانية في سياق هذه الآية :

ـ إذا اعتبرنا (أم) في الآية منقطعة فإن محل الآية مع ما قبلها وما بعدها على الشكل التالي :

نهى الله المؤمنين أن يحاكوا اليهود في أدنى شىء ، وأمرهم أن يسمعوا وبين لهم أن الكافرين جميعا لا يرغبون لهذه الأمة أدنى خير من الله ، بينما خص الله عزوجل هذه الأمة بمزيد فضله ؛ بأن أنزل عليهم رسالته وخاتمة شرائعه ، وبذلك نسخت هذه الشريعة الشرائع السابقة ، ومن ثم جاءت آية النسخ وما بعدها لتعلل للنسخ كله رادة

٢١١

على أهل الكتاب. وفي هذا السياق تأتي هذه الآية (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا ..) ناهية المسلمين عن السؤال المتعنت ، مبينة لهم أن بداية السير في الضلال هو السؤال المتعنت ، فالآية تأتي بعد أن بين الله عزوجل لهذه الأمة فضله عليها ؛ لتدلهم على ما لا ينبغي فعله ، قياما بشكر الله ، ولتبين لهم أن مما تسلب به هذه النعمة العظيمة عنهم هو السؤال المتعنت كسؤال قوم موسى لموسى. إذا تقرر هذا فلنلاحظ :

بدأت هذه الفقرة بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا) ثم بعد آيات جاء قوله تعالى (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) إن السياق كأنه يقول لنا :

إنكم إن واتيتم اليهود بمثل (راعنا) فستصلون في النهاية إلى أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى ؛ لأنهم لا يريدون بكم خيرا ، ويثيرون الشبهات والشكوك ضد إسلامكم ودينكم من مثل شبهة النسخ وغيرها.

ولو أننا تتبعنا واقع أبناء المسلمين الذين لا يكتفون بالسؤال كما سئل موسى من قبل بل يقولون ما هو أفظع ، لو أنك تتبعت : ما الذي أوصل المسلمين إلى مثل هذا لوجدته تلك البدايات من المواتاة لأعداء الله في أشياء ظاهرها صغير ، ومن ثم تأتي الآية اللاحقة لتبين كيف أن أهل الكتاب يودون لو أنهم أرجعونا كفارا ، فأمام هذه الرغبة فإنه لا ينبغي أن نواتيهم في بدايات توصلنا إلى نهايات خطيرة نضل بها عن سواء السبيل.

هذا ما نراه في محل هذه الآية ضمن السياق إذا اعتبرنا أن (أم) منقطعة. قال الألوسي : والمراد على التقديرين (اتصال «أم» أو انفصالها) توصيته المسلمين بالثقة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وترك الاقتراح بعد رد طعن المشركين أو اليهود في النسخ ، فكأنه قيل لا تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات البينة واقتراح غيرها ؛ فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان ، وفي هذه التوصية كمال المبالغة والبلاغة حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها فضلا عن السؤال. يعني من شأن العاقل أن لا يتصدى لإرادة ذلك ولم يقل سبحانه كما سأل أمة موسى أو اليهود للإشارة إلى أن من سأل ذلك يستحق أن يصان اللسان عن ذكره ـ وإذا اعتبرنا أن (أم) متصلة على الوجه الذي ذكرناه من أنها متصلة بالهمزة في قوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ) فإن السياق يكون على الشكل التالي :

٢١٢

يبدأ الفصل بقوله تعالى :

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) ثم يسير الفصل مبينا فساد قلوب هؤلاء ليستقر على الأمر بعدم محاكاة هؤلاء في شىء مبينا كراهيتهم لإنزال الله على هذه الأمة وحيا واصلا إلى سنة الله في النسخ ، فشريعة نسخت وشريعة وجدت ، فإذا استقر السياق على هذا جاء قوله تعالى :

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ ...)

فصار السياق الرئيسي :

لا تطمعوا أن يؤمنوا لكم ، ولا تسألوا كما سألوا رسولهم ، وكأن الطمع بإيمانهم مع ما هم فيه قد يؤدي إلى سؤال رسولنا أسئلة في غير محلها.

ثم تأتي بقية الفصل وفيها تعليل لكلا القضيتين لعدم الطمع بالإيمان ولعدم السؤال فيأتي بعد ذلك.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ...)

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ...)

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ ...)

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ...)

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ...)

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ ...)

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ...)

فناس هذه مواقفهم وهذه أقوالهم كيف يتابعون؟ وكيف يطمع بإيمانهم؟ وكيف يكونون محل قدوة للمسلمين؟

٢١٣

إنه على القول بأن (أم) حرف معادل للهمزة في قوله تعالى : «أفتطمعون ..» نرى وحدة الفصل الثاني في هذا المقطع بشكل واضح ، ولكنه اتجاه لم نره في كتب التفسير التي اطلعنا عليها ، ولذلك فنحن نسجله مع ذكر انفرادنا به ولننتقل إلى ما بعد ذلك في الفقرة :

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) في هاتين الآيتين شرح حال من أحوال أهل الكتاب بالنسبة لنا ، والموقف المكافىء لذلك ، ومحل هاتين الآيتين في السياق أنهما بمثابة البيان والتفصيل لحكمة النهي عن المتابعة الوارد في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) والوارد في قوله تعالى (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ ...) كما أنهما تعليل لعدم الطمع في الإيمان الوارد في قوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ...) إذ السياق واحد.

قال ابن كثير في تفسير الآيتين :

يحذر تعالى عباده المؤمنين من سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر ، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم ، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح ، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه.

أقول : إن الآيتين فيهما شرح حال ، وإلزام بموقف ..

ـ أما شرح الحال فهو : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) أي أن يردوكم ، وهل المراد بالكثير هنا العلماء منهم أو العلماء والعامة ، وبالتالي فلا يخرج منهم إلا من آمن سرا. قولان للمفسرين. (مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) هذه علة الرغبة في أن يردونا مرتدين. والحسد هو : الأسف على الخير عند الغير ، والحسد من عند النفس هو الحسد النابع عن شهوة النفس لا من قبل التدين والميل مع الحق ، فحسدهم متبالغ منبعث من أصل أنفسهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) أي من بعد علمهم بأنكم على الحق ، كانوا يعلمون أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢١٤

يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فكفروا به حسدا وبغيا إذ كان من غير بني إسرائيل.

قال الألوسي : «فإن من شاهد هاتيك المعجزات الباهرة والآيات الزاهرة يبعد عنه كيفما كان عدم تبين الحق ومعرفة مطالع الصدق ، إلا أن الحظوظ النفسانية ، والشهوات الدنية ، والتسويلات الشيطانية ؛ حجبت من حجبت عن الإيمان ، وقيدت من قيدت في قيد الخذلان» أه هذا هو شرح حال الكثيرين من أهل الكتاب. فما هو الموقف الذي ألزمنا به؟

ـ وأما الموقف الذي ألزمنا به فهو :

(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) أي فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة. (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) الأمر هنا إما مفرد الأوامر وإما مفرد الأمور. فإن كان مفرد الأوامر فالمراد بالآية (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) أي بالقتل والقتال. وفي إسناد صحيح عن أسامة بن زيد قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتأول من العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بالقتل فقتل الله به من قتل من صناديد قريش.

أما إذا كان الأمر في الآية مفرد الأمور فالمراد به القيامة ، أو المجازاة يومها ، أو قوة الرسالة وكثرة الأمة ، أو المراد به نصر الله وفتحه ، وعلى القول الأول فالآية منسوخة بآيات القتال ، وعلى القول الثاني فالآية محكمة غير منسوخة ، وعلى القول بأنها محكمة فنحن مأمورون بالصفح والعفو حتى يأتي النصر والفتح والغلبة ، وعندئذ فإن حكم الله ينفذ فيهم ، ومحاكمنا تحاكم شططهم ، وسلطتنا تمنع تجاوزاتهم ، وتحول دون مكرهم ، وتحظر مؤسساتهم التي يقيمونها لفتنة المسلمين وخديعتهم.

وعلى القول بأنها محكمة فهي واحدة من آيات محكمات في شأن التعامل مع أهل الكتاب ، وقوتنا وضعفنا هي التي تحكم موقفنا وخطتنا ، وضرورات حركتنا هي التي تحدد الموقف المختار ثم قال تعالى :

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على الانتقام منهم ، ويقدر على الإتيان بما

٢١٥

شاء من أمر. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) قال الألوسي : أمرهم بالمخالقة والالتجاء إليه تعالى بالعبادة البدنية والمالية ؛ لأنها تدفع عنهم ما يكرهون (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) أي تجدوا ثوابه عنده (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يضيع عنده عمل عامل ، أمرهم بالعفو والصفح ، ثم حثهم على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة حتى يأتي الله بالنصر. وأخبرهم تعالى أنه لا يغفل عن عمل عامل ولا يضيع لديه سواء كان خيرا أو شرا ، فإنه سيجازي كل عامل بعمله. قال ابن جرير في قوله تعالى (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) : وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر فإن فيه وعدا وأمرا وزجرا ، وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه.

وفي سبب نزول هاتين الآيتين يروي ابن إسحاق عن ابن عباس أنه قال : كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد اليهود للعرب حسدا ؛ إذ خصهم الله برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ...) أقول : والقاعدة عند المفسرين أن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. فالآية عامة وإن كان سبب نزولها ما ذكر.

فائدة : تظهر فائدة الخلاف في كون قوله تعالى (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) منسوخا بآيات القتال من مثل قوله تعالى في سورة التوبة (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ومن مثل قوله تعالى أيضا في سورة التوبة (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ.) أو أنها غير منسوخة على تفسير الأمر في قوله تعالى (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) بأنه مفرد (الأمور) تظهر فائدة الخلاف في عصرنا بشكل واضح ؛ حيث فقد الإسلام والمسلمون السلطان السياسي ، فهل هم في هذه الحالة مأمورون بالصفح والعفو أو لا؟ ذهب أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي بأن الآية منسوخة ، وعلى هذا فالصيغة الوحيدة للتعامل بيننا وبين أهل الكتاب هي القتال حتى يعطوا الجزية.

لكن يلاحظ أن ابن كثير عندما ذكر المعنى العام للآية قال :

(حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) من النصر والفتح وعلى هذا فالمراد بأمر الله هو الأمر

٢١٦

القدري وهذا يعني أنه إذا كان للمسلمين النصر والفتح فللمسألة وجهة أخرى غير الصفح والعفو ، إذ في تلك الحالة يحال هؤلاء إذا كانوا من مواطني الدولة المسلمة إلى القضاء الإسلامي ، أما إذا لم يكن للمسلمين السلطان والدولة فإن الصفح والعفو يسعانهم في معاملتهم لأهل الكتاب ، على أنه في هذه الحالة يكون العفو والصفح مباحين للمسلمين ، ويجوز لهما غير ذلك كالقتال أخذا من وجهة النظر الأخرى.

فخلال السير للوصول إلى أن تكون كلمة الله هي العليا يخير المسلمون بين عدة مواقف على حسب ما تقتضيه عملية السير ، والآية تشعرنا بأن الموقف الأصلح في التعامل مع أهل الكتاب هو العفو والصفح حتى يتم النصر ، ولكن هذا كله يكون إذا لم يكن الصراع مباشرا مع أهل الكتاب. ومن سبب النزول ندرك أن هذه الآية صورتها فيما إذا كان أهل الكتاب على الأرض الإسلامية نفسها ، ولعل الصفح والعفو هو الموقف المناسب لمسلم يعيش بين أهل الكتاب على الأرض الكافرة.

إنني أرى أنه مادام أهل الكتاب على الأرض الإسلامية مواقفهم منا في حدود الرغبات والأقوال ، أن نعاملهم بالصفح والعفو ، وأن يكون هذا جزءا من خطتنا ونحن نسعى لاسترداد السلطان السياسي للمسلمين. أما إذا تجاوزت مواقفهم ذلك بأن حملوا السلاح وقرروا أن يستعملوه ضدنا ، أو أنهم بدأوا يستعملونه ضدنا ، فالأمر وقتذاك يختلف .. أما الموقف من دولة اليهود فسنراه إذا جاءت مناسبته في هذه السلسة.

كلمة في السياق :

قلنا عن سياق الآيتين بأنهما بمثابة البيان والتعليل للنهي الذي جاء من قبل عن متابعة أهل الكتاب ، وبعد هاتين الآيتين يذكر الله عزوجل مجموعة من الأقوال والمواقف لأهل الكتاب ، فمثلا يأتي بعد هاتين الآيتين قوله تعالى (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) والمفسرون يقولون بأن الواو من (وقالوا) حرف عطف يعطف (قالوا) في هذه الآية على قوله تعالى (ود) من الآية (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً)

٢١٧

وإذن فسيعرض الله عزوجل علينا مجموعة من الأقوال والمواقف هي بمثابة البيان والتعليل للنهي عن متابعة أهل الكتاب فضلا عن غيرهم. وإذا تذكرنا أننا في نهاية الفصل الذي بدىء بقوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ..) فإن هذه المواقف والأقوال تكمل الصورة الداعية إلى ترك الطمع بإيمان أهل الكتاب مع دعوتهم وإقامة الحجة عليهم. وإذا تذكرنا أن هذه الفقرة هي نهاية المقطع الذي بدأ بدعوة بني إسرائيل للدخول في الإسلام فإن ذلك كذلك يفسر لنا عرض مجموعة من أقوالهم وأفعالهم ومناقشتهم فيها وتعليمنا الرد عليها أو الموقف الحكيم منها لأننا دعاة وهم مدعوون فلا بد أن نعرف كيف نناقشهم. إن عرض هذه الأقوال والمواقف في هذه الفقرة وفي نهاية الفصل الثاني وفي نهاية المقطع كله مرتبط بما سبقه جميعا فهو يخدم قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ...)

ويخدم قوله تعالى :

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ...)

ويخدم قوله تعالى :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.)

وسنرى عند استعراض كل موقف وقول محله في السياق وخدمته لما سبق.

١ ـ (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.)

يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها ، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم ، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك ، إن دخول الجنة متعلق بالإخلاص لله والاتباع لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن كان كذلك نال رضوان الله.

٢١٨

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) أي وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ، فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما صاحبه وبين ذلك في آية لاحقة (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) التي تمنوها على الله بغير حق. أشير بالآية هنا إلى الأماني المذكورة في الآية وفي الفقرة وهي أمنيتهم ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا ، وأمنيتهم ألا يدخل الجنة غيرهم ، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم ، والأمنية على وزن أفعولة من التمني مثل الأضحوكة ، (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي هلموا حجتكم وبينتكم على اختصاصكم بدخول الجنة. وهات : بمنزلة هاء بمعنى أحضر (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أنكم أهل الجنة. (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) في قوله (بَلى) إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ومعنى (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) أي من أخلص نفسه لله لا يشرك به غيره. ومعنى (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي مصدق بالقرآن ومتبع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن كثير : «فإن للعمل المتقبل شرطين أحدهما أن يكون خالصا لله وحده ، والآخر أن يكون صوابا موافقا للشريعة ، فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل ، وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضا مردود على فاعله ، وهذا حال المرائين والمنافقين» فلا بد من أن يسلم المؤمن لله وجهه قال صاحب الظلال : والوجه رمز على الكل ولفظ (أسلم) يعني الاستسلام والتسليم الاستسلام المعنوي والتسليم العملي ، ومع هذا فلا بد من الدليل الظاهر على هذا الاستسلام (وَهُوَ مُحْسِنٌ) فسمة الإسلام هي الوحدة بين الشعور والسلوك ، بين العقيدة والعمل بين الإيمان القلبي والإحسان العملي ، بذلك تستحيل العقيدة منهجا للحياة كلها ، وبذلك تتوحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها ، وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله :

(فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور ، وأمنهم مما يخافونه من المحذور ، فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه ، ولا هم يحزنون على ما مضى مما يتركونه ، قال سعيد بن جبير : «فلا خوف عليهم يعني في الآخرة ، ولا هم يحزنون يعني لا يحزنون للموت» ، وهكذا رأينا

٢١٩

المقولة الأولى لليهود والنصارى في هذه الفقرة والرد عليها ، فالله عزوجل ذو العدل الكامل والكمال المطلق ، يدخل جنته بالإسلام له والإخلاص له والعمل بشرعه ، وليس دخول الجنة بالأماني والتمنيات.

كلمة في السياق :

ـ مر معنا في الفقرة الثانية من الفصل الثاني قوله تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) وقد جاء في هاتين الآيتين تفصيل لنوع أمانيهم الباطلة وهي اعتقادهم أنهم سيد خلون الجنة بلا إحسان ولا إسلام. ومن كان يعتقد أن الجنة خالصة له فكيف ينتقل مما هو فيه إلى شىء آخر! إن صلة ذلك بقوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ...) لا تخفى.

ـ إن الآيتين تبينان ضمنا أن من اجتمع له الإسلام والإحسان في العمل هو الذي يدخل الجنة ، وأن اليهود والنصارى ليسوا كذلك مع اعتقاد كل منهم أن له الجنة ، فهل يليق والأمر كذلك أن يتابع أهل الإسلام أمثال هؤلاء : ومن هنا نجد الآيتين مرتبطتين بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا ..) فههنا مزيد بيان في شأن ترك متابعة أهل الكتاب.

وبعد هذه المقولة لأهل الكتاب والرد عليها تأتي المقولة الثانية :

٢ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.)

تبين هذه الآية أن كل فئة من الناس تدعي أنها على الحق وأن غيرها على باطل ، اليهود يدعون هذا والنصارى يدعون هذا ، والذين لا يؤمنون بكتاب أصلا يدعون هذا كذلك ، والله وحده هو الحكم فيما اختلف فيه الناس ، واليوم الذي سيحكم فيه هو يوم القيامة.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) أي على شىء يصح ويعتد به ، (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) أي يصح ويعتد به. بين الله تعالى بهذا تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم. (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) أي والحال أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب ، وحق من حمل التوراة والإنجيل وآمن به ألا يكفر بالباقي ، لأن كل واحد من الكتابين مصدق للآخر ، فشريعة التوراة والإنجيل كل منهما قد كانت

٢٢٠