الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

١٨١

كلمة في هذه الفقرة :

١ ـ لقد رأينا أن مدخل هذا المقطع دعا اليهود إلى الإيمان بالقرآن :

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ)

ورأينا الفقرة الأولى من الفصل الثاني تيئس المسلمين من الطمع بإيمان اليهود ، ثم تأتي الفقرة الثانية من الفصل الثاني فترينا أن عند اليهود خللا في إيمانهم بكتابهم أصلا ، ثم تأتي هذه الفقرة لتبدأ حوارا مفتوحا مع اليهود في قضية الإيمان والأسباب الصارفة لهم عن الإيمان بالقرآن ، وأنها ليست إلا الطبيعة الكافرة المستكبرة الفارة من الهدى إلى الضلال ، فهي إذن استمرار للفصل الأول المبدوء بقوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ..) ومن ثم فهي تحدثنا عن أن عادة بني إسرائيل أن يكذبوا ، ويقتلوا كل رسول لا يوافق كلامه أهواءهم ، وتحدثنا عن أسباب أخرى يرفضون من أجلها الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقيم عليهم الحجة بشكل ثم بآخر ، فهي استكمال لعرض الأسباب والعوامل التي تحول بينهم وبين الإيمان بالقرآن.

٢ ـ في الفصل الأول من هذا المقطع جاء قوله تعالى (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) وتأتي هذه الفقرة فترينا تفصيلات ، في قتلهم الأنبياء ، وكفرهم بالآيات ، وعصيانهم ، واعتدائهم بعد أن وجدت الأسس اللازمة لهذه التفصيلات ، ولتخدم هذه التفصيلات هنا السياق السابق ، واللاحق بشكل أجدى.

٣ ـ دعاهم مدخل هذا المقطع إلى الإيمان والتقوى :

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ.)

ونجد في هذه الفقرة (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ)

(وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ)

ونجد أن خاتمتها هي : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.)

١٨٢

فالفقرة هذه إذن تناقش مواقفهم من الدعوة الموجهة إليهم ، ومن قبل كان عرض لمواقفهم ، فهناك عرض ، وههنا حوار مباشر.

٤ ـ يلاحظ أن المعاني في الفقرة تتعانق ومن ثم تتكرر بدايات بعينها ، فالآية الأولى في الفقرة مبدوءة بقوله تعالى (وَلَقَدْ) وكذلك الآية (٩٢) وكذلك الآية (٩٩) والآية (٨٩) مبدوءة بكلمة (وَلَمَّا) وكذلك الآية (١٠١) وفي الفقرة ورد قوله تعالى (أَفَكُلَّما) وبعد اثنتي عشرة آية قوله تعالى (أَوَكُلَّما) وهذا كله يعطينا مؤشرات على وحدة الفقرة كما سنرى.

٥ ـ ومن خلال النقاش الطويل مع بني إسرائيل في قضية الإيمان بالقرآن والهدى المنزل من الله عزوجل ، تتضح للمسلم مجموعة الأمور التي تصرف عن الإيمان بالقرآن ، ويتعمق لديه حس المعرفة بالطبيعة اليهودية العابثة التي ستكون بينها وبين المسلمين مواجهات خلال العصور.

والفقرة مع تعانق معانيها فإنها تكاد تنقسم إلى ثلاث مجموعات ، كل مجموعة فيها درس ، بل دروس ، ولنبدأ عرض المجموعة الأولى :

المجموعة الأولى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل ، يقال قفاه به إذا أتبعه إياه ، (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي المعجزات الواضحات ، كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه ، والأبرص ، والإخبار بالمغيبات (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي بالروح المقدسة ، ومعنى القدس في الأصل الطهارة. وما هي هنا؟ للمفسرين أقوال ، منهم من قال : إنه جبريل ؛ لأنه يأتي بما فيه حياة القلوب ، ومنهم من قال : إنه الإنجيل ؛ لأنه كالقرآن روح من عند الله (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا.) (سورة الشورى) ومنهم من قال : إنه اسم الله الأعظم ، الذي كان يحيي به الموتي. قال ابن جرير : وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال : الروح في هذا الموضع جبريل .. أقول ويؤيد هذا الاتجاه قول الله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ ..) (سورة الشعراء) فسمى جبريل في هذه الآية روحا ، ويؤيد هذا الاتجاه ما رواه البخاري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أيد حسان بروح القدس ؛ كما نافح عن نبيك». وفي بعض الروايات : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لحسان : «اهجهم أو هاجهم وجبريل معك». (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) أي بما لا تحبه وتريده (اسْتَكْبَرْتُمْ

١٨٣

فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) أي تعظمتم عن القبول والمتابعة ، ففريقا كذبتموهم كعيسى ومحمد ، وفريقا تقتلونهم كز كريا ويحيى. قال الزمخشري في قوله تعالى (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) «إنما لم يقل وفريقا قتلتم ، لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضا ، لأنهم حاولوا قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسم والسحر».

في الآية نعت بني إسرائيل بالعتو ، والعناد ، والمخالفة ، والاستكبار على الأنبياء ، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم ، آتى الله موسى الكتاب فحرفوه ، وبدلوه ، وخالفوا أوامره ، وأولوها ، وأرسل الرسل بعده يحكمون بشريعته ، فكانوا يعاملونهم أسوأ معاملة ، من التكذيب إلى القتل. ثم ختم الله أنبياء بني إسرائيل بعيسى عليه‌السلام ، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ، وأعطاه الله من المعجزات الكثير وأيده بجبريل ، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له ، وصدهم وعنادهم ، وكل هذه المواقف من الأنبياء سببه أن الأنبياء يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم ، فالأمر بالنسبة لهم معكوس ، إنهم بدلا من أي يضبطوا أهواءهم على شرع الله يريدون أن يكون شرع الله تابعا لأهوائهم ، وأمة هذا شأنها لا يستغرب موقفها الكافر من رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أشبه حال الكثيرين من أبناء عصرنا بهذا الذي عليه اليهود : إذا حدثتهم عن الإسلام بما يوافق هواهم قبلوا وإلا كذبوا ؛ وإن كان لهم سلطان قتلوا ، وما أكثر من يجعل الإسلام تابعا لأهواء الناس من الحاكمين والمحكومين ، حتى صعب على أهل الإخلاص والعلم أن يبينوا الإسلام للناس كما هو ، لكثرة مسايرة الأهواء فأين هذا من الحديث؟

«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».

همزة الاستفهام في قوله تعالى (أَفَكُلَّما) تفيد التوبيخ ، والتعجب ، وأي عجب أكبر من تكذيب الرسل ، وقتلهم ، والاستكبار عن متابعتهم ، والسماع لهم ، ومن يستحق اللوم أكثر من هؤلاء؟

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي هي مخلوقة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تفقهه ، وقيل غلف تخفيف غلف جمع غلاف ، أي قلوبنا أوعية للعلوم ، فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره ، أو أوعية للعلوم فلو كان ما جئت به حقا لقبلنا ، والقول الأول أقوى بدليل الحديث «وقلب أغلف مربوط على غلافه .. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر» وقولهم هذا يدل على طبيعة متبجحة تتبجح بالكفر ، وتفتخر بقساوة القلب ، وما أكثر ما تجد هذا النوع من الناس (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي بل طردهم وأبعدهم بسبب كفرهم الذي اختاروه لأنفسهم. هذا رد

١٨٤

من الله عليهم أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك ؛ لأنها خلقت على الفطرة ، والتمكن من قبول الحق ، وإنما طردهم بكفرهم وزيغهم (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) أي فإيمانا قليلا يؤمنون ، وهو إيمانهم ببعض الكتاب ، أو ببعض الوحي ، وقيل القلة بمعنى العدم و (ما) في الآية مزيدة أي لا يؤمنون بشىء. وقيل : فقليل منهم من يؤمن ، والأقوى الأول. دلت الآية على أن الإيمان ببعض الكتاب أثر من آثار الطرد من رحمة الله ، وأن سبب الطرد هو الكفر ، وأن من أسباب الكفر اتهام الله ، والتبجح في الوصف الكافر.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي ولما جاء اليهود القرآن المصدق للتوراة (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي على المشركين. ذكر ابن كثير عن ابن عباس : «أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل ، وبشر بن البراء بن معرور ، وداود بن سلمة : يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن أهل شرك ، وتخبروننا بأنه مبعوث ، وتصفونه بصفته ، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشىء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله في ذلك من قولهم (وَلَمَّا جاءَهُمْ) ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) أي فلما جاءهم ما عرفوه من الوحي والنبوة كفروا به بغيا وحسدا وحرصا على الرياسة (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي فلعنة الله عليهم. ووضع الاسم الظاهر بدل الضمير للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم ، أو أن المعنى : أن لعنة الله على كل كافر ، واليهود دخلوا في ذلك دخولا أوليا ؛ لأنهم أحق الناس أن يؤمنوا. (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الشراء هنا البيع. والبغي الحسد. فصار المعنى : بئسما باعوا به أنفسهم ، باعتياضهم الكفر بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدلا من تصديقه ومؤازرته ونصرته ، وإنما حملهم على ذلك ، البغي ، والحسد ، والكراهية لأن ينزل من الوحي على من يصطفيه من عباده ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا حسد أفظع من هذا النوع من الحسد لأنه معاندة مباشرة ، واعتراض مباشر على الذات الإلهية (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) أي رجعوا بسبب سيرهم هذا مستوجبين مستحقين الغضب على الغضب. أي الغضب المترادف ، غضب بسبب ما ضيعوا من التوراة ، وغضب بسبب كفرهم بعيسى وبالإنجيل ، وغضب بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن ، ومن ثم فقد فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (في الفاتحة) بأنهم اليهود لأنهم يعرفون الحق ويجحدونه وينحرفون عنه

١٨٥

ويعاندونه. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي مذل ، إذ لما كان كفرهم سببه البغي ، والحسد ، ومنشأ ذلك التكبر ، قوبلوا بالإهانة ، والصغار. أخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس ، يعلوهم كل شىء من الصغار ، حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار ، يسقون من طينة الخبال ، عصارة أهل النار».

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي إذا قيل لليهود صدقوا بالقرآن واتبعوه (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة ، ولا نقر إلا بذلك (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) يعني بما بعده (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) أي غير مخالف له ، وفيه رد لمقالتهم ، وتسفيه لهم ، وإقامة حجة عليهم ، لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها فمن عرف الله وعرف كتابه ؛ آمن بكل رسول له ، وآمن بكل كتاب له أنزل أو ينزل وهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الرسل بشرت به التوراة ، والكتاب المنزل عليه يصدق ما في التوراة ، فكيف يكفرون به! ولكنها ليست أول مواقفهم السيئة (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيا ، وعنادا ، واستكبارا على رسل الله ، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي ، وهكذا أهل الباطل في كل زمن يفرون من الحق ويحتجون بما ليس حجة ، بل بما به الحجة عليهم ، فهم متناقضون وليس كمواقفهم وأفعالهم دليل على ما في قلوبهم ، فهؤلاء ناس يدعون أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم وبسبب ذلك يرفضون الإيمان بالوحي الجديد ، فأقام الله عليهم الحجة بأنهم ليسوا مؤمنين بما أنزل عليهم ، بدليل أنهم كانوا يقتلون أنبياءهم ، وبدليل أنهم عبدوا العجل في زمن موسى مع كل الآيات التي رأوها.

قال تعالى مقيما عليهم تتمة الحجة :

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) البينات هي الآيات الواضحات ، والدلائل القاطعات ، كالطوفان ، والجراد ، والقمل ، والدم ، والعصا ، واليد ، وفرق البحر ، لقد جاءكم موسى بالآيات الواضحات ، ثم اتخذتم العجل معبودا من دون الله ، من بعد ما ذهب موسى إلى الطور لمناجاة الله عزوجل ، وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه ، من عبادتكم العجل ، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله ، أو أنتم قوم من عادتكم الظلم ، فإذا كان هذا شأنكم ، وموسى موجود بين أظهركم ، أتدعون الآن أن إيمانكم بالتوراة هو الذي يجعلكم لا

١٨٦

تؤمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن! إنها الطبيعة الكافرة في مواقفها وأفعالها وأقوالها.

وبهذا انتهت المجموعة الأولى من الفقرة.

كلمة في هذه المجموعة وسياقها :

١ ـ بدأت المجموعة بآية مبدوءة ب (وَلَقَدْ) وانتهت بآية مبدوءة ب (وَلَقَدْ) وتأتي مجموعة بعدها مبدوءة ب (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) مما يوحي بأننا أمام مجموعة جديدة ، وفي الآية الأولى من هذه المجموعة ورد قوله تعالى (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وجاءت خاتمة المجموعة لتقول (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ.)

٢ ـ في هذه المجموعة حوار مباشر مع اليهود في قضية الإيمان بالقرآن ، ومناقشة الصوارف التي يطرحونها ، وإقامة حجة عليهم فيها من خلال مجموعة الأمور التي تدل على أن هذا الموقف الظالم هو استمرار لمواقف ظالمة أخرى.

٣ ـ وقد سبقت هذه المجموعة بخاتمة الفقرة السابقة :

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) فكانت هذه المجموعة بمثابة استمرار لنقاش يفضح دعواهم الإيمان سابقا ولا حقا ، واستكمالا للحجة عليهم ، كما جاءت هذه المجموعة في سياق الفصل المبدوء بقوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) فقدمت لنا مجموعة معان سابقة تجعل إيمان هؤلاء ميئوسا منه.

٤ ـ ونكرر أن هذه المجموعة جزء من جولة من النقاش المباشر مع بني إسرائيل في أجواء قوله تعالى (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) وذلك بعد فقرات سابقة كان الكلام في الغالب يأتي بشكل غير مباشر في هذا الموضوع بالذات.

فلننتقل إلى عرض المجموعة الثانية من هذه الفقرة :

المجموعة الثانية :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) كرر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأولى ، ولأنها في المرة الأولى ذكرت في معرض ، وههنا تذكر في معرض آخر (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) أي خذوا التوراة أخذا قويا واسمعوا ما أمرتكم به فيها ، سماع قبول وعمل (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي سمعنا قولك ، وعصينا أمرك ،

١٨٧

أمروا أن يكون سماعهم سماع طاعة ، فكان سماعهم سماع عصيان ، (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم ، فداخلهم حبه ، والحرص على عبادته ، كما يتداخل الصبغ الثوب ، وقوله (فِي قُلُوبِهِمُ) بيان لمكان الإشراب (بِكُفْرِهِمْ) أي بسبب كفرهم ، واعتقادهم التشبيه. (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفر ومخالفة ، فكيف تدعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق وكفركم بآيات الله وعبادتكم العجل من دون الله؟؟.

هم يدعون الإيمان ، والإيمان يقتضي طاعة ، وهم يعصون ، هم يدعون الإيمان بالتوراة وليس في التوراة عبادة عجل ، فأي إيمان هذا الذي يأمرهم بعبادة العجل وبمحبته؟ فإذا كان هذا هو إيمانهم الذي سول لهم مثل هذه القبائح فإنه هوهو نفس الإيمان الذي يسول لهم أفظع قبيح ، وهو عدم الإيمان بالقرآن.

وقوله تعالى (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) من باب الأسلوب التهكمي ، لأن الأصل في الإيمان ألا يأمر صاحبه بمثل هذا وفي قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم.

هذه أول حجة عليهم في هذه المجموعة تكمل حجج المجموعة السابقة عليهم في رفضهم الإيمان بحجة إيمانهم بالتوراة.

ثم تأتي الحجة الثانية.

ويتجه السياق إلى التحدي ، ليضع اليهود على المحك في قضية الإيمان ، ليثبت لهم بما لا يقبل الجدل أنهم غير مؤمنين ، وأنهم كفرة ، وذلك أنهم إذا كانوا صادقين في دعواهم من أنهم أهل الحق ، وأنهم عباد الله المصطفون ، وأنهم غير مكلفين بالاستجابة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا يقتضي أن يكونوا هم المستحقين ثواب الله الذي أعده لأوليائه في الآخرة التي يؤمنون بها ، والإنسان الذي يثق بهذا الثواب ، ويعرف أن الآخرة خير من الدنيا ، يتمنى هذه الآخرة ، ويفضلها على الدنيا ، وبالتالي فإن الموت أحب إليه من الحياة فهل هم كذلك؟ لا ؛ إذن فهم كاذبون ..

أو يقال : من كان مطمئنا إلى أنه على الحق ، وإلى أن غيره ليس كذلك ، فهو على استعداد لأن يدعو الله أن يميت من كان على الباطل هو أو خصمه ، وهو يفعل هذا وهو مطمئن إلى النتيجة ، فإذا كان اليهود يرفضون هذا ، فذلك علامة على أنهم يعلمون حق العلم أنهم على الباطل.

١٨٨

هذه هي الحجة الثانية التي يأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقولها لهم ، وهذه الحجة يمكن أن تكون صياغتها إما على الشكل الأول ، أو على الشكل الثاني ، على حسب اتجاهات المفسرين في التفسير فلنر الآيات :

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) معنى (خالِصَةً) أي سالمة لكم فالمعنى : إن كنتم تعتقدون أن الدار الآخرة لكم دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين فيما تقولون ، لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها تخلصا من الدار ذات الشوائب ، كما نقل عن العشرة المبشرين بالجنة أن كل واحد منهم كان يحب الموت ويحن إليه. هذا هو المعنى العام المتبادر إلى الذهن عند تلاوة الآية ، وهو الذي يرجحه ابن جرير ، ولكن هناك اتجاها آخر لابن عباس في الآية يرجحه ابن كثير ونحن هنا ننقل عبارة ابن جرير ، وكلام ابن كثير مع شىء من الحذف. قال ابن جرير : فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره ، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم ، وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف .. فقال لفريق اليهود إن كنتم محقين فتمنوا الموت ، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان ، وقرب المنزلة من الله لكم ، بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذ تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ، ونصبها ، وكدر عيشها ، والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون من أن الدار الآخرة لكم خاصة دوننا ، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ، ونحن المحقون في دعوانا ، وانكشف أمرنا وأمركم لهم ، فامتنعت اليهود من ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها ؛ وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها ..».

وقال ابن كثير : فأما على تفسير ابن عباس أي في تفسير قوله تعالى (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أي ادعوا على أي الفريقين أكذب فأبوا ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل قيل لهم كلام نصف : إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس ، وأنكم أبناء الله وأحباؤه ، وأنكم من أهل الجنة ، ومن عداكم من أهل النار ، فباهلوا على ذلك ، وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم ، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة ، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة ؛ لما يعلمون من كذبهم وافترائهم ، وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، ويتحققونه. فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، وسميت هذه المباهلة تمنيا لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل بالموت

١٨٩

لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت ...».

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) أي الموت (أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي لن يتمنوه ما عاشوا بسبب ما أسلفوه من الكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحريف كتاب الله وغير ذلك ، وهو من المعجزات لأنه إخبار بالغيب ، وكانوا يستطيعون أن يكذبوا القرآن بإعلانهم أنهم يتمنون الموت ولكنهم لم يفعلوا. قال ابن عباس : «ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات». (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ومن علمه جل جلاله أنه تحداهم ، ومن علمه أنه أخبر أنهم لن يتمنوه ، وكان كما أخبر ، وفي النص تهديد لهم.

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) هذه تتمة الحجة عليهم في أنهم أهل باطل. ظهور هذا الحرص العظيم عندهم على الحياة ، فهم كالمشركين في هذا الحرص ، أو أشد حرصا من المشركين ، فلو كان إيمانهم بالله واليوم الآخر سليما ، واستقامتهم موجودة لما كانوا كذلك ، والتنكير في لفظ (حَياةٍ) يدل على أنهم يرغبون بالحياة المتطاولة مهما كان نوع هذه الحياة ، فهم أحرص الناس على طول العمر ؛ لما يعلمون من مآلهم السىء ، وعاقبتهم الخاسرة عند الله لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ.) هل الضمير (أَحَدُهُمْ) يعود على المشركين أو على اليهود؟ قولان للمفسرين فعلى القول أنه يعود على اليهود يكون المعنى : أن اليهود أحرص الناس على الحياة وهم أحرص من المشركين عليها ، حتى أن أحدهم يتمنى لو عمر ألف عام ، وعلى القول بأن الضمير يعود على المشركين يكون المعنى : أن المشرك يود لو عمر ألف عام فهو حريص على الحياة ومع ذلك فاليهود أحرص منه على الحياة ، وفيه توبيخ عظيم لليهود لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ، ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا ، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم ، فإذا زاد في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقا بأعظم التوبيخ ، وإنما زاد حرصهم على الذين أشركوا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار ، والمشركون لا يعلمون ذلك. قال مجاهد : «حببت إليهم الخطيئة طول العمر». وقد دلت الآية على أن المؤمن الحق يحب الآخرة أكثر من الدنيا ، ويحب الموت أكثر من الحياة ، وقد أدبنا رسولنا عليه الصلاة والسلام ألا نتمنى الموت لضر أصابنا ، بل نقول : «اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وأمتني ما كان الموت خيرا لي ، واجعل لحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحة لي من كل شر ، وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون». ثم قال تعالى :

١٩٠

(وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) أي وما تعميره بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) من خير وشر وسيجازي عليه.

ثم تأتي الحجة الثالثة عليهم في هذه المجموعة :

إن دين الله واحد ، ومن أحب الله أحب ملائكته كلهم ، وأحب رسله كلهم ؛ فوالى الجميع ولم يعاد أحدا منهم ، واليهود ليسوا كذلك ، فهم يوالون في زعمهم رسولا ويعادون رسولا ، ويوالون ملكا ويعادون ملكا ، فهاهم يعادون جبريل ويزعمون أنهم يوالون ميكائيل فأي طبيعة طبيعتهم؟ وأي تناقض عندهم؟ وإذ كانوا كذلك فذلك دليل على أنهم ناس منحرفون عن الحق وعن الربانية الخالصة فما هم بأهل الله وليسوا على دينه.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ.)

معنى كلمة جبريل عبد الله ، وكذلك كلمة ميكائيل ، وقيل بأن جبريل معناها خادم الله ، وذكر جبريل وميكال بعد الملائكة والرسل من باب عطف الخاص على العام ، فإنهما دخلا في الملائكة وفي عموم الرسل ، ثم خصصا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه ، وقرن معه ميكائيل في اللفظ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم وميكائيل وليهم ، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا ، ولأنه أيضا ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان ، كما قرن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ابتداء الأمر ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته الرئيسية. وميكائيل موكل بالنبات والقطر ، ذاك بالهدى وهذا بالرزق ، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة ، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام من الليل يقول : «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهاة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».

وإنما قال (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) ولم يقل فإن الله عدو له ؛ لإظهار أن من عادى رسولا فقد عادى الله ، ومن عادى الله فإن الله عدو له. فالمجىء بالاسم الظاهر بدل الضمير ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر كعداوة الأنبياء ، ومن عاداهم عاداه الله. وفي قوله تعالى في وصف جبريل (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى

١٩١

قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أكثر من رد عليهم :

١ ـ أنه لا وجه لمعاداة جبريل حيث نزل كتابا مصدقا للكتب بين يديه فلو أنصفوا لأحبوه ، وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم.

٢ ـ وفي الآية رد عليهم من حيث إنهم حاربوا جبريل لأنه ينزل بالحرب والشدة فقيل : فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضا ولكن للمؤمنين ، فالمؤمنون يحبونه.

إنه من عادى جبريل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدقا لما بين يديه من الكتب المتقدمة ، وهدى لقلوب المؤمنين ، وبشرى للمؤمنين بالجنة ، فهو رسول ملكي من رسل الله عليهم الصلاة والسلام ، ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل ، ومن كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل ، ومن عادى الله وملائكته ورسله من الملائكة والبشر فإنه يكون كافرا ويعاديه الله. وقد ذكر ابن كثير روايات كثيرة لها علاقة بالآية ، إما في سبب نزولها ، أو في شاهد على مضمونها حول ما كان يصرح به اليهود من عداوة لجبريل. منها ما رواه الإمام أحمد من جملة محاورة طويلة لليهود مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قالوا : إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال : جبريل عليه‌السلام. قالوا : جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا. لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان ، فأنزل الله : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ...) وفي قصة إسلام عبد الله بن سلام كما رواها البخاري أنه عليه الصلاة والسلام عندما ذكر جبريل قال عبد الله ابن سلام : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ عليه‌السلام هذه الآية ، ونكتفي بهاتين الروايتين عما سواهما.

وإذ قامت عليهم الحجة على أنهم على باطل من خلال ما رأينا تأتي الآية الأخيرة في المجموعة جازمة بأن هذا الرسول قد أنزلت عليه المعجزات الواضحات ، وأن الفاسقين عن أمر الله وحدهم هم الذين يكفرون بهذه المعجزات ، وبالتالي فهم لا يؤمنون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يتابعونه قال تعالى :

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي معجزات واضحات (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك ، وتلك الآيات هي هذا القرآن المعجز ، وما حواه من معجزات ، ونبوءات صادقات ، ودقائق وخفايا لا يعلمها إلا الله ، ومن ذلك ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والإخبار عما تضمنته

١٩٢

كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم ، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم ، وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة. فأطلع الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابه على ذلك ، فكان في ذلك دليل على أن هذا القرآن من عند الله ، وهو شاهد صدق على أن محمدا رسول الله لمن أنصف من نفسه ، ولم يسر في هلاكها بأن سار في طريق الحسد والبغي ، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة سليمة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات البينات من غير تعلم تعلمه من بشر ، ولا أخذ شيئا منه من آدمي ، بل هو أمي لم يقرأ كتابا ومع ذلك فهو يخبرهم بما في أيديهم على وجهه ، فلهم في ذلك عبرة وبيان ، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون ، وهذا بعض الأمر من شأن هذا القرآن ، فلا يكفر بعد ذلك بهذه الآيات وهذا القرآن العظيم إلا الفاسقون أي المتمردون من الكفرة ، وفي ذلك إشارة إلى أن من لم يؤمن من أهل الكتاب فإنه فاسق عن أمر الله متمرد عليه.

عن ابن عباس قال : قال ابن صوريا القطويني لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا محمد : ما جئتنا بشىء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك ، فأنزل الله في ذلك قوله (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ ،) دلت الآية من خلال سبب نزولها ومن خلال لفظها على أن القرآن العظيم هو المعجزات القاطعات الدلالة ، الواضحات البينات على رسالة رسولنا عليه الصلاة والسلام. فهو وحده كاف ، ولا زال الخلق يكتشفون كل يوم جديدا من معجزاته ، ومع ذلك فالله عزوجل قد أكرم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنواع من المعجزات أخرى.

وبهذه الآية تنتهي المجموعة الثانية :

كلمة في المجموعة الثانية وسياقها :

١ ـ استقرت هذه المجموعة على قوله تعالى (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) كما استقرت المجموعة السابقة على قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) لاحظ التشابه بين الآيتين الخاتمتين : موسى جاء بالبينات فظلموا بها ، ومحمد جاء بالبينات فكفروا بها

ولقد استقرت كل من المجموعتين على آية فيها تقرير أن ما جاءهم كاف لإيمانهم ، وكل من هاتين الآيتين قد جاء بعد حجج عليهم في شأن قضية الإيمان. وقد رأينا ذلك أثناء عرض المجموعتين.

٢ ـ لقد جاءت هذه المجموعة لتكمل الرد على اليهود الذين يرفضون الإيمان بالقرآن

١٩٣

بسبب من إيمانهم بالتوراة ، فأبطلت دعاواهم الكاذبة من خلال ثلاث قضايا ، ولذلك تجد أن أمر الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قل) قد تكرر ثلاث مرات في المجموعة ، وفي كل مرة ورد فيها الأمر : (قل) كانت هناك حجة ضدهم ، ومن هنا ندرك الصلة المباشرة بين المجموعة الثانية والمجموعة الأولى ، ومحل ذلك في سياق الفصل المبدوء بقوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ..) لا يخفى فلننتقل إلى المجموعة الثالثة.

المجموعة الثالثة والأخيرة في الفقرة :

تتألف هذه المجموعة من أربع آيات فلننقلها ليتضح لنا سياقها ومحلها مع فقرتها :

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

١٩٤

كلمة في هذه المجموعة وسياقها :

١ ـ يلاحظ أن هذه الفقرة كلها بدأت بآية فيها :

(أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ.)

وأن هذه المجموعة بدأت بقوله تعالى :

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) فكأن هذه المجموعة تكمل ما بدأته المجموعة الأولى ، وحرف الواو في (أو كلما) كأنه يعطف الآية الأولى في هذه المجموعة على ما ورد في الآية الأولى من المجموعة الأولى.

٢ ـ وفي المجموعة الأولى ورد قوله تعالى :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ ...)

والآية الثانية من هذه المجموعة هي قوله تعالى :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ.)

فالتكامل في الفقرة في مجموعاتها الثلاث واضح ، خاصة وقد رأينا كيف أن وحدة المجموعتين الأولى والثانية واضحة ، وتكاملهما واضح ، وتأتي هذه المجموعة لترينا بوضوح وحدتها ، وأنها في نفس الوقت جزء من كل ما تحتويه فقرتها.

٣ ـ يأتي بعد هذه المجموعة خطاب مباشر لأول مرة في سورة البقرة بصيغة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ....) وهذا يدلنا على أننا أمام فقرة جديدة ، ولكنه في الوقت نفسه ندرك أن هذه المجموعة قد أكملت الحجة على بني إسرائيل ، إن في دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم ، أو في رفضهم الإيمان بالقرآن وبمحمد عليه الصلاة والسلام ، إنه لم يتوجه الخطاب لأهل الإيمان بصيغة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد هذه المجموعة إلا بعد أن قامت الحجة على اليهود ، وعرفت هذه الأمة واقعهم ، عندئذ آن الآوان أن يتوجه الخطاب لأهل الإيمان أن يتحرروا من كل مظهر من مظاهر التبعية لليهود ، بل ليناقشوا ويحذروا ويتحدوا ويعلموا ويتميزوا ويعملوا ويعتبروا ..

٤ ـ في المجموعة الثانية (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ..) وفي هذه المجموعة بيان لطبيعتهم الغادرة ، وفضح لهم كيف أنهم يرفضون رسالة الرسول

١٩٥

المصدق لما معهم ، وكيف أنهم في الوقت نفسه يتبعون الشياطين والسحر ، بينما هم يزعمون كما عرضته علينا المجموعة الأولى أنهم لا يتبعون القرآن ؛ لأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا)

وبذلك كملت المجموعات الثلاث بعضها بعضا ، فكانت فقرة واحدة إذ بمجموعها بينت كيف أنهم يتركون ما أمروا به ، ويقتلون أو يكذبون من أمروا بمتابعته ، ويتابعون من أمروا بمحاربته ، ويعملون ما أمروا بتركه. ولنبدأ عرض الآيات :

العرض والتفسير :

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) نبذه أي نقضه ورفضه وقوله (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يدل على أن الذي يتولى النقض هم البعض ، قال الحسن البصري : «نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه ، يعاهدون اليوم وينقضون غدا». أقول : فعلينا أن نلاحظ دائما في التعامل معهم هذا المعنى ، فمن لم يضع هذا المعنى في حسابه يكون من الغافلين ، صحيح أن الذي ينقض العهد فريق ، ولكن الآخرين يؤيدون النقض ، ويقبلونه ويرضون به ، إن لم يكن علنا فسرا أو ضمنا ، هذا ما نأخذه من الآية بشكل دائم ، ولكن إذا ربطنا هذه الآية بقوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) فإنه يخرج معنا معنى مرتبط بموقفهم من الرسل ، وقد سجل هذا المعنى ابن كثير : حين قال :

«وقال مالك بن الصيف (من اليهود) حين بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق ، وما عهد إليهم في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله ما عهد إلينا في محمد وما أخذ علينا ميثاقا» فأنزل الله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ...) فكأن الفريق على هذا التفسير هو الجيل من أجيالهم. قال ابن كثير : «قلت : فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ، ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره ، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته».

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) إذا نظرنا إلى هذه الجملة من خلال التفسير الأول كان معناها : بل أكثرهم لا تظهر عليه ثمرات الإيمان من تمسك بالعهود ووفاء لها ، وإذا نظرنا إلى الآية من خلال التفسير الثاني كان المعنى : بل أكثرهم لا يؤمنون بمن أخذ عليهم

١٩٦

العهد أن يؤمنوا به ، ومن ثم قال السدي فيها : «(أي) لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وقال النسفي : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بالتوراة وليسوا من الدين في شىء ، فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا ولا يبالون ، (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ.) أي : ولما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدق لما معهم من التوراة (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ.) أي : طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم وهو التوراة بما فيه البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، أو كأنهم ليسوا أهل كتاب سابق يعلمهم ، والذين أوتوا الكتاب في الآية هم اليهود ، ونبذ الكتاب وراء الظهور مثل لتركهم له وإعراضهم عنه ، مثل بما يرمى به وراء الظهور استغناء عنه وقلة التفات إليه ، ويلاحظ أن كلمة (فريق) تكررت في هذه الآية والتي قبلها ، هناك في معرض نقض الميثاق ، وهنا في معرض ترك اتباع التوراة في موضوع الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبين الآيتين ارتباط لا يخفى على اللبيب ، ثم تأتي الآية الثالثة وارتباطها بما قبلها واضح لوجود حرف العطف إذ تبتدىء الآية بقوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) فصار التقدير نبذ اليهود كتاب الله ، واتبعوا إملاءات الشياطين ، وكتب السحر ، والشعوذة هذه طبيعتهم : إعراض عما كلفوا به مما ينفعهم في دنياهم وأخراهم ، واتباع لما حظر عليهم مما يظنون أنه ينفعهم في دنياهم.

وقبل أن نبدأ شرح الآية نحب أن نلفت النظر إلى قضيتين : الأولى السحر ، والقضية الثانية حول هاروت وماروت ، فالآية في سياقها تعرضت لهاتين القضيتين. وقد جرى خلاف كثير بين العلماء في تفسير الآية بسبب هاتين القضيتين ونحن سنعقد فصلين حولهما بعد أن ننهي عرض المقطع حتى يبقى عرض السياق مستمرا وسنقتصر على أدنى ما يلزم من كلام للعرض فليلاحظ ذلك.

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) هذه الآية معطوفة على ما قبلها فبنو إسرائيل نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا .. قال ابن كثير : أي واتبعت اليهود ـ الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به ، وتتحدث به الشياطين على ملك سليمان ، وعداه ب (على) لأنه ضمن (تتلو) تكذب ومعنى (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ.) أي : على عهد ملكه وفي زمانه (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) هذه تبرئة لسليمان من الكفر والسحر ، وحكم على الشياطين بالكفر باستعمال السحر وتعليمه (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.) أي : يعلم الشياطين الناس

١٩٧

السحر ، ومن ثم صدر الحكم عليهم بالكفر بهذا السبب مع أنهم كفار في الأصل ، يفهم من ذلك أن السحر الذي هو سحر يلازمه الكفر. (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) للمفسرين في (ما) من قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) مذهبان : الأول أنها نافية ، والثاني على أنها اسم موصول ، وعلى أنها نافية يفهم النص مجموعة فهوم ، وعلى أنها اسم موصول يفهم النص مجموعة فهوم ، وسنعقد لذلك فصلا أما الآن فنقول : إن إحدى الاتجاهات الرئيسية في النص : أن هذين ملكان أنزلهما الله ـ عزوجل ـ ليعلما الناس السحر ليستطيعوا أن يفرقوا بين السحر والمعجزة ، ومن ثم فإنهما كانا يقولان لمن يتعلم (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) بأن تعمل بالسحر وتسحر (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ.) أي : فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف ، وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر سوء منظر ، أو خلق أو بغضة أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة ، والمرء هو الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ.) أي : وما هم بضارين بالسحر أحدا إلا بعلم الله ومشيئته وقضائه (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ.) أي : يضرهم في دينهم وأخراهم وليس له نفع يوازي ضرره أصلا. دل ذلك على أن تعلم السحر ضرر محض

قال النسفي : وفيه دليل على أنه واجب الاجتناب كتعلم الفلسفة التي تجر إلى الغواية. أقول : المطالعة في كتب الفلسفة حرام على من ليس عنده مناعة ضدها ، وهذا بحث يقتضي فصلا (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.) أي : ولقد علم اليهود الذين استبدلوا السحر عن متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من نصيب ، فالخلاق هو النصيب (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.) أي : ولبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضا عن الإيمان ومتابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لو كان لهم علم بما وعظوا به ، ولكنهم لا علم عندهم ، إنما نفى العلم عنهم مع إثباته لهم بقوله (وَلَقَدْ عَلِمُوا) لأن معناه لو كان عندهم علم يعملون به ، جعلهم حين لم يعلموا بعلمهم كأنهم لا يعلمون (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.) أي : ولو أنهم آمنوا بالله ورسله والقرآن ، واتقوا الله باجتناب المحارم وترك ما هم عليه من نبذ كتاب الله ، واتباع كتب الشياطين ، لكان ثواب الله خيرا لهم مما هم فيه ، فالمثوبة الثواب ، وقد حكم عليهم بالجهل بقوله (لَوْ

١٩٨

كانُوا يَعْلَمُونَ) لتركهم العمل بالعلم.

كلمة في الفقرة وسياقها :

هذه الفقرة هي إحدى فقرتين تواجهان بشكل مباشر بني إسرائيل في أقوالهم وأفعالهم في قضية الإيمان ، والملاحظ أن هذه الفقرة انتهت بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ولو أننا رجعنا إلى مدخل هذا المقطع لوجدنا قوله تعالى هناك : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.)

فالشىء الذي طالبتهم به الآيتان هناك ، جاء النقاش على أشده معهم في شأنه في هذه الفقرة.

وهكذا رأينا أن ذلك المدخل الذي طالبهم بأوامر ونواه ، قد جاء الفصل الأول ، وفقرتان من الفصل الثاني ، كتعليل وتفصيل للمطالبة بتلك الأوامر والنواهي.

ثم تأتي فقرتان في الفصل الثاني لتواجها اليهود مواجهة في قضية الإيمان بالقرآن ، ولتحددا لهذه الأمة طريقها في العلاقة مع بني إسرائيل ، وليعطي المقطع كله دروسا لهذه الأمة في كيفية التعامل مع الأوامر والنواهي ، ولننتقل إلى الفقرة الثانية في هذه المواجهة أي إلى الجولة الثانية وهي الفقرة الرابعة في الفصل الثاني من المقطع والذي بدايته (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ...) والذي ينصب الكلام فيه على قضية الإيمان :

الفقرة الرابعة من الفصل الثاني من المقطع الثالث :

تمتد هذه الفقرة من الآية (١٠٤) إلى نهاية الآية (١٢١) ثم تأتي بعد ذلك آيتان هما خاتمة المقطع فينتهي المقطع بنهاية الآية (١٢٣) وهذه هي الفقرة مع خاتمة المقطع :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)

١٩٩

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨))

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)

٢٠٠