الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

٢ ـ قال ابن كثير : والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) وهذه القصة ، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، وقصة إبراهيم عليه‌السلام والطيور الأربعة ، ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما كما قال أبو داوود الطيالسي .. عن أبي رزين العقيلي قال ، «قلت يا رسول الله : كيف يحيي الله الموتى؟ قال أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضرا قال بلى قال : كذلك النشور أو قال كذلك يحيي الله الموتى».

٣ ـ قال ابن جريج قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم ، وأيم الله لو لم يستثنوا «أي لو لم يقولوا إن شاء الله» لما بينت لهم آخر الأبد».

ومن ثم فعلينا أن نترك التشديد في الأمور ، وأن نسارع إلى امتثال الأوامر وترك النواهي من غير تفتيش وكثرة سؤال.

٤ ـ قال بعض العلماء : إنما أمروا بذبح البقرة دون غيرها لأنها أفضل قرابينهم ، ولعبادتهم العجل.

٥ ـ قال المسيب بن رافع : ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وتصديق ذلك في كلام الله (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.)

٦ ـ نقل المفسرون أقوالا كثيرة في تحديد العضو الذي ضرب به القتيل.

وقال ابن كثير تعليقا : هذا البعض أي شىء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به وخرق العادة به كائن ، وقد كان معينا في نفس الأمر فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى ، ولكن أبهمه ولم يجىء من طريق صحيح عن معصوم بيانه فنحن نبهمه كما أبهمه الله.

٧ ـ اختلف علماء العربية في معنى (أو) في قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) بعد الإجماع على استحالة كونها للشك ، فقال بعضهم : (أو) ههنا بمعنى الواو ، وقال آخرون : (أو) ههنا بمعنى بل ، وقال آخرون : المراد بذلك الإبهام على المخاطب ، وقال بعضهم : معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة ، وإما أن تكون أشد منها في القسوة ، وهذا الذي رجحه ابن جرير.

١٦١

٨ ـ أخرج ابن مردويه والترمذي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي». وأخرج البزار عن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من الشقاء : جمود العين ، وقساوة القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا».

وبعد : فإننا نحب خلال عرض المقطع ألا نكثر من الفوائد وألا نعقد فصولا حتى لا يكون ذلك على حساب وضوح السياق ، فلنؤخر من ذلك إلى نهاية المقطع ما لا يضر تأخيره.

كلمة في السياق :

ـ انتهينا حتى الآن من عرض مدخل المقطع الثالث ومن عرض الفقرتين الأولى والثانية منه واللتين تشكلان الفصل الأول منه ، وقد رأينا أن الفصل قد ارتبط بالآية الأولى من المدخل وهي قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فجاء الفصل مذكرا بالنعم ، مذكرا بالميثاق ، مذكرا بالخشية من الله. ونلاحظ أن الفصل الثاني يبدأ بخطاب أمتنا (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ...)

ومن مطلع الفصل الثاني ومما مر معنا من قبل ندرك أن ما اتجهنا إليه في التقسيم إلى فقرات ومقاطع له أدلته التي تدلنا فيها المعاني على ذلك ، وواضح كذلك من بداية الفصل اللاحق أنه مرتبط بالآية التالية في المدخل على الآية التي فصل فيها الفصل الأول : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ ....)

ـ قلنا أثناء الكلام عن مدخل المقطع : إن مجموعة هذه الأوامر والنواهي هي العلاج الكامل للطبيعة اليهودية. ورأينا من خلال الفصل الأول دليل ذلك ، ويكفي أن نشير إلى الآية التي ختم بها الفصل (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ ..) لندرك أنه لا دواء إلا قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وسيتضح لنا من خلال الفصل الثاني أن ما اتجهنا إليه كان صحيحا في هذا الشأن ، وبهذه المناسبة نقول :

إن أمتنا نفسها بعد سير طويل قد تعقدت نفسيات الكثير من أبنائها حتى إنه لم يعد يصلحهم إلا أن ينفذوا مجموعة هذه الأوامر والنواهي بسير جاد لترجع نفوسهم إلى صفائها وهذا يقتضي من المربين أن يلحظوا ذلك عمليا إذا ما واتاهم مسلم يريد العودة الكاملة إلى الله ، كما أن على الوعاظ أن يركزوا عمليا على مجموعة هذه القضايا ، وألا يقتصروا على واحد منها كطريقة بعضهم إذ يكتفون بتذكير المسلمين بماضيهم فقط.

١٦٢

ـ ورد معنا في هذا الفصل قوله تعالى :

(فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) وفي ذلك ما يذكرنا بقوله تعالى في بداية سورة البقرة : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فالمقطع يعمق فيما يعمق التقوى والالتزام بها ، ويعمق قضية الالتزام بالأمر وترك النهي ، وذلك تعميق للالتزام بالأمر والنهي اللذين بدأ بهما القسم كله ، (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) .. (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ...) وقد مر معنا في المقطع الأول من القسم الأول قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ....) وقد رأينا في هذا الفصل نموذج ذلك ، والصورة الكلية للوحدة الشاملة في السورة ستتكامل معنا شيئا فشيئا فلننتقل إلى الفصل الثاني في المقطع الثالث.

الفصل الثاني في المقطع الثالث :

هذا الفصل يبدأ بقوله تعالى مخاطبا هذه الأمة :

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ....)

وينتهي بقوله تعالى :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ...)

ثم تأتي خاتمة المقطع.

فالفصل كله في قضية الإيمان.

إن مدخل المقطع قد دعا اليهود إلى الإيمان :

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.)

والملاحظ أن الفصل كله في هذا.

ولا نلاحظ أن المقطع تحدث عما له صلة فيما بعد ذلك من آيات المدخل وذلك ـ والله أعلم ـ لأن تنفيذ الأوامر وترك النواهي اللاحقة متوقف على قضية الإيمان ، فإذا دخلوا فيها أصبح الخطاب متوجها لهم بتلك القضايا مع المؤمنين ، وإذا لم يدخلوا في الإيمان فلا فائدة في بحثها معهم ، غير أنه من مجىء تعريف البر فيما بعد ، ندرك أن نقاشا له صلة بالمعاني المذكورة في هذا المقطع لا زال مفتوحا مع بني إسرائيل فالصلات في السورة بعيدة الأغوار.

١٦٣

ـ يمتد هذا الفصل من الآية (٧٦) إلى نهاية الآية (١٢١) حيث تأتي خاتمة المقطع وهو يتألف من أربع فقرات ، بعضها طويل وبعضها أقصر ، وكلها كما قلنا تعالج قضية إيمان بني إسرائيل ونؤثر أن يكون الكلام منصبا على العرض والسياق ، حتى ننتهي من عرض الفقرات ثم بعد ذلك نذكر بعض الفوائد ونعقد بعض الفصول فلنبدأ عرض الفقرة الأولى من الفصل الثاني :

الفقرة الأولى :

تمتد هذه الفقرة من الآية (٧٥) إلى نهاية الآية (٨٢) وهذه هي :

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩))

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ

١٦٤

عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

كلمة في هذه الفقرة وسياقها :

ـ تبين لنا هذه الفقرة علة رئيسية من علل عدم إيمان اليهود وهي عقليتهم التحريفية المنافقة ، وأن هذا يرافقه أماني جاهلة عند العامة وكذب على الله عند العلماء ، كما تبين لنا علة جرأتهم على كل شىء ، وهي تصورهم أنهم سيعذبون أياما معدودة ثم يكون مآلهم الجنة ، وقد ناقشت الفقرة هذا كله.

ـ يلاحظ أن قصة آدم ختمت بالقاعدة :

(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.)

وأن الفقرة الأولى من الفصل الأول من هذا المقطع ختمت بقوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.)

وأن هذه الفقرة وهي الأولى في الفصل الثاني ختمت بقوله تعالى :

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وكما أنه بعد الفقرة الأولى من الفصل الأول جاء قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) فإنه بعد هذه الفقرة الأولى من الفصل الثاني يأتي قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ..) أن هذا كله يؤكد أن تقسيما ما موجود في سور هذا القرآن للمتتبع ، كما أن مجىء هذه الخاتمة لهذه الفقرة هنا تدلنا على صحة ما ذكرناه من قبل ، من أن قصة بني إسرائيل بعد قصة آدم إنما تخدم في ذكر نموذج على أمة أنزل عليها هدى ، وكيف كان موقفها من هذا الهدى ، فهي توضيح عملي للقاعدة التي ختمت بها قصة آدم.

١٦٥

ـ يلاحظ أنه في مدخل المقطع الثالث جاء قوله تعالى :

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ.)

وفي هذه الفقرة يأتي قوله تعالى :

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ.) ويأتي قوله تعالى :

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً.)

إن هذا يؤكد ارتباط هذه الفقرة بما يقابلها من مدخل المقطع كما كنا تحدثنا عنه من قبل.

ـ وبعد فلأول مرة في سورة البقرة يتوجه الخطاب مباشرة إلى الأمة الإسلامية وذلك في هذه الفقرة بقولة تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ ..) فقد سبق من قبل خطاب لبني إسرائيل ، وقبل ذلك توجه الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَبَشِّرِ) وقبله توجه الخطاب إلى الناس جمعيا ، وقبل ذلك خوطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكاف الخطاب (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ولأول مرة يتوجه الخطاب إلينا بشكل مباشر بقوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ ...) وذلك بعد مجموعة الدروس التي أخذتها الأمة في سورة البقرة ، وكأن الدروس الماضية كافية لإيجاد نضج خاص في الذات العامة للأمة ، والخطاب في هذه الفقرة هو في حقيقته درس في المواجهة بين هذه الأمة واليهود ، بعد أن اتضحت إلى حد كبير الصورة التاريخية لليهود ، وفي هذا الدرس تتقرر مجموعة حقائق لها علاقة باليهود ، ومواقفهم ، وأسبابها ، والرد عليهم ، وتأنيبهم وغير ذلك ، ففي هذه الفقرة إذن يتجه السياق لخطاب هذه الأمة ؛ لتضع قدمها حيث ينبغي أن توضع في آرائها بالآخرين ، وفي مواقفها ، وفي معرفة أعدائها وتحليل مواقفهم ، وذلك كله يؤكد ما ذكرناه من قبل أن هذا المقطع إنما يقدم لأمتنا نموذجا على أمة أنزل عليها الوحي ، وكيف كان موقفها من ذلك ليعطيها دروسه ، ولكن في الوقت نفسه فإن المقطع يخدم قضايا أخرى كثيرة منها : دعوة بني إسرائيل ، وإقامة الحجة عليهم ، ومنها توضيح صراط المغضوب عليهم والضالين لتجتنب ، ومنها ومنها مما لا يحيط بأسراره إلا الله ، ثم يأتي من أعداء الله من يتساءل أين الصلات بين الآيات في السورة الواحدة والصلة بين السور في القرآن ، ألا إنه العمى وحده هو الذي يجعل هؤلاء لا يبصرون عمق الصلات.

ـ قد يكون مناسبا قبل أن نبدأ عرض الفقرة أن نذكر بعض ملامح الشخصية اليهودية مما وضحه لنا الفصل الأول :

١٦٦

١ ـ طبيعة مسارعة إلى الشرك ٢ ـ طبيعة متعنتة تطلب ما لا يصح طلبه كرؤية الله ٣ ـ طبيعة فاسقة محرفة ٤ ـ طبيعة مفسدة شهوانية ٥ ـ طبيعة كافرة مكذبة بالآيات ٦ ـ طبيعة تكره الحق وتقتل أهله ولو كانوا أنبياء ٧ ـ طبيعة محتالة على الأوامر والنواهي ٨ ـ طبيعة غادرة تنقض المواثيق حتى مع الله ـ جل جلاله ـ ٩ ـ طبيعة مجادلة.

ولنبدأ عرض الفقرة :

التفسير :

(أَفَتَطْمَعُونَ) أيها المؤمنون (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ.) أي : ينقاد لكم هؤلاء اليهود بالتصديق والطاعة والاستجابة لدعوتكم (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ.) أي : طائفة ممن سلف منهم (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ.) أي : التوراة (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ.) أي : يتأولونه على غير تأويله (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.) أي : من بعد ما فهموه على الجلية ، ومع هذا فهم يخالفونه على بصيرة مع علمهم أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله ، يفهم من ذلك أنه متى وجدت هذه العقلية التحريفية فلا أمل يرتجى عندها في قبول الحق ومتابعته.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا.) أن صاحبكم رسول الله ولكنه إليكم خاصة (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ.) أي : في حال اختلائهم ببعضهم يقول بعضهم لبعض : لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم. وقال ابن عباس : «وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم فأنزل الله (وَإِذا لَقُوا .. لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ.) أي : تقرون بأنه نبي ، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا : اجحدوه ولا تقروا به. وقال النسفي في تفسير هذا الجزء من الآية أي : أتخبرون أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما بين الله لكم في التوراة من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه ، جعلوا محاجتهم به وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله ألا تراك تقول : هو في كتاب الله تعالى هكذا ، وهو عند الله هكذا ، بمعنى واحد. وقيل في قوله تعالى : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) إنه إضمار مضاف والتقدير أي : عند كتاب ربكم. وقيل : ليجادلوكم ويخاصموكم به بما قلتم لهم عند ربكم في الآخرة ، يقولون كفرتم بعد أن وقفتم على صدقه

١٦٧

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن هذا حجة عليكم حيث تعترفون به ثم لا تتابعونه ، دلت هذه الآية على أن من طبيعة اليهود أن يظهروا خلاف ما يبطنون مع عدم الإكراه ، وأنهم يقولون للناس شيئا ويقولون فيما بينهم شيئا آخر ، كما دلت الآية على أن هذا النوع من المواقف سببه عدم معرفة الله حق المعرفة ، وإلا لو أنهم يعلمون أن الله يعلم السر وأخفى لعلموا أن الحجة قائمة عليهم اعترفوا أو لم يعترفوا ولذلك قال تعالى : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) إنهم جهلة بالله ؛ ولذلك فإنهم يقولون ما يقولون ، فإذا كان هذا حال أهل العلم منهم فما بالك بالعامة ، إن الآية الآتية تصور لنا حال هؤلاء العامة : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الأمي : هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة ، والمراد بالكتاب هنا التوراة ، والأماني : جمع أمنية وهي التمني الذي لا يرافقه عمل ، وقد تأتي بمعنى الكذب ، أو بمعنى التلاوة غير المتعمقة ، والأرجح أن المراد بها ههنا الأول ، فمعنى الآية : ومن اليهود من لا يحسن القراءة والكتابة ، فهم لا يطالعون التوراة فيتحققون بما فيها ، فهم لا يعرفون إلا ما هم عليه من أماني من أن الله يحبهم ، ويعفوا عنهم ، ويرحمهم على ما هم عليه كائنا ما كان ، وما هم في هذا إلا ظانين ؛ لا يستندون في ما هم فيه على يقين.

ذكر في هذه الآية العامة المقلدون ، وفيما قبلها العلماء المحرفون ، والمنافقون والمضللون ، وهذا هو التقليد المذموم أن يوجد إمام يتبعه متبع على غير هدى ، ومن الضلال الفظيع تأويل كتاب الله على غير ما يحتمله نص الكتاب وما تشعبت فرق الضلال إلا عن مثل هذا ، وما تضل العامة في الغالب إلا بسبب أئمة الضلال الذين يحرفون كتاب الله ، أو يتأولونه بهوى ، أو ينسبون إلى الله ما لم يقله أو يحكم به ، وعلماء اليهود فعلوا هذا كله ، والآية التالية تذكر فعلة من فعلاتهم ، والدواعي التي دعتهم لذلك وما يستحقونه من عقاب عليها قال تعالى :

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) عن ابن عباس : «الويل المشقة من العذاب» .. وقال الخليل بن أحمد : الويل شدة الشر. وقال سيبويه : ويل لمن وقع في الهلكة ، وويح لمن أشرف عليها وقال بعضهم : الويل الحزن.

وقال الحسن البصري : «الثمن القليل الدنيا بحذافيرها» ومن الدنيا المال والزعامة والجاه وعلى هذا فمعنى الآية.

أن الهلاك والعذاب للكتبة الوضاعين الذين يكتبون كتبا مختلقة من عند أنفسهم ،

١٦٨

ويزعمون أنها من عند الله وليست كذلك ، ومن أجل كسب يسير كهذه الدنيا الفانية وما فيها أو بعض ما فيها ، فويل لهم مرتين : مرة على ما كتبوا ومرة على ما كسبوه من مال حرام ، والآية وإن جاءت في سياق الحديث عن بني إسرائيل فإنها عامة.

قال عبد الرحمن بن علقمة : سألت ابن عباس رضي الله عنه عن قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) قال نزلت في المشركين وأهل الكتاب.

ثم قال تعالى :

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) مجىء هذه الآية بعد ما قبلها بمثابة البيان لأسباب هذه المواقف الخائنة.

إن جرأة اليهود على التحريف والتبديل ، وعلى الكيد والمكر والحسد والخداع ومعاندة الأنبياء ، وغير ذلك من صفاتهم ومواقفهم ، إن ذلك كله سببه هذا الاعتقاد الفاسد أن مدة مكثهم في النار أياما معدودة ، ثم إن مجىء الآية بعد الآية التي ذكرت كتاباتهم المختلقة ، ونسبتهم إياها إلى الله يوحي كذلك بأن هذا مما اختلقوه وقالوا هو من عند الله ، وفي الوقت نفسه فإن الآية تسجل واحدة من الأماني الكاذبة التي ربي عليها عامة اليهود. (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) فهذه إحدى الأماني المظنونة ، وقد ردت الآية على زعمهم في هذا الموضوع. وعلينا أن ندرك هنا بعمق كيف أن تصور الإنسان عن اليوم الآخر يؤثر تأثيرا كاملا في مواقفه فإذا كانت هذه المواقف اليهودية الفظيعة أثرا من آثار هذه العقيدة التي رأيناها وذلك شىء منصوص عليه في سورة آل عمران :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ.)

إذا كانت هذه مواقف اليهود بسبب هذه العقيدة ، فكيف تكون مواقف الذين لا يؤمنون باليوم الآخر أصلا! فكيف تكون مواقف الذين يتصورون أن الله لا يعذبهم أبدا! وللأسف فإن كثيرين من عامة المسلمين وعلمائهم يستشعرون الأمن من النار ومن عقاب الله ، وذلك أقل ما يقال فيه أنه من الكبائر كما نص عليه الفقهاء.

في الأيام المعدودة أقوال منها أنها سبعة أيام ، ومنها أنها أربعون يوما ، ولا شك أن

١٦٩

التحديد هو مما سمعه علماء المسلمين منهم أو عنهم ، وهناك حديث رواه البخاري والنسائي وأحمد فيه كلام لليهود أمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس فيه تحديد والأمر واسع ولا تهمنا معرفته

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة فيها سم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجمعوا لي من كان من اليهود ههنا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أبوكم؟ قالوا : فلان قال : كذبتم أبوكم فلان فقالوا صدقت وبررت ، ثم قال لهم : هل أنتم صادقي عن شىء إن سألتكم عنه؟ قالوا : نعم يا أبا القاسم ، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أهل النار؟ فقالوا نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا ثم قال ...».

وبإجمال نقول تفسيرا للآية :

يقول تعالى فى الآية إخبارا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ثم ينجون منها ، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) أي بذلك ، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده ، ولكن هذا ما جرى ولا كان ولذا أتى ب (أَمْ) التي بمعنى بل في الرد على زعمهم ، أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه ، ثم بين الله عزوجل أن الأمر عنده هو :

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.)

يقول تعالى : ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون ، بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته ، وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات ، فهذا من أهل النار ، والخطيئة هنا الشرك كما هو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وأما الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة إذ إنهم آمنوا بما كفر به الآخرون ، وعملوا بما ترك الناس من دين الله ، أخبر الله بالآية أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له.

وللمفسرين كلام كثير في قوله تعالى (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)

١٧٠

قال النسفي : بلى من كسب شركا ؛ وسدت عليه مسالك النجاة بأن مات على شركه (أي فهذا الذي أحاطت به خطيئته) فأما إذا مات مؤمنا فأعظم الطاعات وهو الإيمان معه فلا يكون الذنب محيطا به ؛ فلا يتناوله النص ، وبهذا التأويل يبطل تشبث المعتزلة والخوارج.

وقيل في تفسير إحاطة الخطيئة : أي استولت عليه كما يحيط العدو ولم يتخلص منها بالتوبة.

وعلى كل حال فإن الخطايا ، ولو لم تكن كفرا ، فإنها بريد الكفر ، فإذا سار الإنسان في طريق الخطايا ، فإنه بذلك يجني على قلبه شيئا فشيئا حتى يصل إلى الكفر عندما تحيط به الخطايا.

أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب لهم مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة ، فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجىء بالعود ، والرجل يجىء بالعود ؛ حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا ؛ فأنضجوا ما قذفوا فيها» وفي هذا الموضوع نصوص كثيرة سنراها.

كلمة في الفقرة الأولى :

ـ بينت هذه الفقرة أن لليهود عقيدة هي أنهم يتصورون أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودة ، وبسبب من هذه العقيدة فعامتهم غلبتهم الأماني الكاذبة ، وهم وراء علمائهم ، وعلماؤهم كذابون على الله منافقون ، ويحرفون الكلم عن مواضعه ، فكتاب الله يحرفونه ويزيدون على ذلك الاختلاق على الله ، وناس هذا شأنهم لا طمع في إيمانهم ، ومن ثم فإن هذه الفقرة قطعت الطريق على حسن الظن باليهود ما دامت طبيعتهم على هذه الشاكلة ، والطريق أمامهم مفتوح إذا أرادوا الإيمان ، وقد حدده الله عزوجل في مدخل المقطع ، ولكن أن يتوهم المسلمون في هذا الشأن فذلك شىء آخر ، وبهذا أعطت الفقرة المسلمين دروسا : درسا في انحرافات أمة عن دين الله ، ودرسا في حدود حسن الظن بهذه الأمة ، ودرسا في أن على المسلمين ألا يقعوا فيما وقعت فيه هذه الأمة ، وألا يسيروا فيه ، وللأسف فإن كثيرا من الفرق التي انشقت عن جسم الأمة الإسلامية كان سبب ضلالها هو غياب درس هذه الفقرة عنها.

ـ بعد أن بينت هذه الفقرة محل اليهود في قضية الإيمان بالإسلام فإن السياق الآن سيتجه لإقامة الحجة عليهم في قضية الإيمان هذه.

١٧١

إن دعواهم الرئيسية في عدم إيمانهم هي : أن إيمانهم بما أنزل عليهم يكفيهم ويغنيهم وينجيهم ؛ ومن ثم تأتي الفقرة التالية لتنقض هذا الزعم نوع نقض ، وتأتي الفقرة الثالثة لتنهي هذه المزاعم إنهاء كاملا فلنر الفقرة الثانية :

الفقرة الثانية من الفصل الثاني من المقطع الثالث :

تمتد هذه الفقرة من الآية (٨٣) إلى نهاية الآية (٨٦) وهذه هي :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

١٧٢

كلمة في هذه الفقرة وسياقها :

١ ـ يلاحظ أن الفقرة الأولى من الفصل الأول انتهت بقوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ... مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وأن الفقرة الأولى من الفصل الثاني انتهت بقوله تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فهناك تشابه بين نهاية الفقرة الأولى في الفصل الأول ، وبين نهاية الفقرة الأولى من الفصل الثاني. وكما أن الفقرة الثانية من الفصل الأول بدأت بقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) فإن الفقرة الثانية من الفصل الثاني تبدأ بقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ...)

٢ ـ يلاحظ أن هذه الفقرة ذكرت مضمونين لميثاقين أخذا على بني إسرائيل بينما مرت معنا من قبل كلمة الميثاق دون أن يذكر مضمون لها ، فههنا يأتي بعض التفصيل في قضية الميثاق ، وتأخير التفصيل إلى هذا الموضع يقدم لنا أكثر من درس مرتبط بمجموع ما مر من قبل ، ولو أن هذه الفقرة جاءت قبل ذلك لكانت خدماتها للسياق أقل مما أعطته ههنا كما سنرى.

٣ ـ جاءت هذه الفقرة بعد ذكر ادعاء اليهود أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودة ، وبعد الرد عليهم من خلال قاعدة كلية ، فكانت هذه الفقرة بمثابة تفصيل أو تمثيل لأنواع من الأعمال ارتكبوها يستأهلون فيها العذاب الشديد والخلود ، ولذلك تختم هذه الفقرة بقوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ ..) ، (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) إنهم يستحقون ذلك بسبب من نقضهم الميثاق في شأن العبادة والمعاملة ، وبسبب من نقضهم الميثاق في شأن التطبيق الشامل للتوراة.

وجاءت هذه الفقرة بعد الفقرة التي تبدأ بقوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ..) فهي تعمق عند المسلمين فهم النفسية اليهودية التي تعقدت فلم تعد تستجيب لدعوة الإيمان ، كما جاءت مقدمة للفقرات التي تناقش اليهود في لب قضية دعاواهم الإيمانية مقيمة الحجة عليهم بأنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.)

١٧٣

٤ ـ قلنا : إن هذا الفصل يفصل ويعلل لما يقابله من الأوامر والنواهي التي وردت في مدخل المقطع وهي :

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) وهذه الفقرة ختمت بقوله تعالى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) ... فالفقرة تبين أن اليهود اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، وخلطوا الحق بالباطل ، وأنهم نقضوا الميثاق في قضية الصلاة والزكاة والتوحيد واتباع الهدى المنزل عليهم ، وهذا كله يقتضي تجديد المطالبة بالأوامر والنواهي التي أهملوها ، وكان ذلك من خلال رسالة جديدة ودعوة جديدة.

٥ ـ وقصة آدم انتهت كما رأينا بقاعدة (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وفي هذه الفقرة يرينا الله عزوجل موقف هؤلاء مما طالبهم الله عزوجل به من الهدى وخيانتهم في ذلك واستحقاقهم بذلك عذاب الله.

وفيما قبل قصة آدم :

ذكر من صفات المتقين في مقدمة سورة البقرة : الإيمان والصلاة والإنفاق واتباع الكتاب ، ثم جاءت دعوة عامة للتوحيد والعبادة ، وجاء تحذير من نقض العهد والإفساد في الأرض وقطع ما أمر الله به أن يوصل ، ونلاحظ أن هذه الفقرة أعطتنا درسا في ذلك كله بينت لنا أن بني إسرائيل أمروا بعبادة الله وبالصلاة والزكاة فأعرضوا إلا قليلا ، وأن بني إسرائيل طبقوا بعض الكتاب وأهملوا بعضه الآخر ، وأنهم نقضوا العهد والميثاق مع الله ، وكيف أنهم يقتلون أنفسهم وهو إفساد ، وكيف أنهم لا يقومون بحق أخوة الإيمان وهو قطع لما أمر الله به أن يوصل ، وهكذا نجد أن الفقرة مرتبطة بما قبلها مباشرة من الآيات ، وتخدم في سياق فصلها وفي سياق مقطعها ، وتخدم في تعميق معاني كل المقاطع السابقة عليها ، وتخدم في تعميق معاني مقدمة السورة وهي تأتي حلقة في سلسلة ، فهي بمثابة المكمل لما سبق والمقدمة لما لحق.

٦ ـ يلاحظ أنه بعد مدخل المقطع الأول جاء خطاب لبني إسرائيل وجاءت موعظة ثم بدأ التذكير بالنعم ، والملاحظ أن الموعظة انتهت بقوله تعالى (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) وهنا تختم الفقرة بقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ

١٧٤

عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.) لاحظ جملة (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ولو أنك تأملت المعاني التى مرت معنا حتى الآن في المقطع ، والمعاني التي تأتي معنا لرأيت عجبا فكأننا في هذه الفقرة في نهاية شىء ، وكأننا فيما يأتي في بداية جديدة ضمن إطار كلي هو المقطع ضمن إطار أكبر هو السورة.

بدأ الفصل الأول بعد مدخل المقطع بهذا النداء :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.)

فكان هذا النداء بمثابة المقدمة للفصلين الأول والثاني ونلاحظ أن المقطع كله ينتهي بمثل هذه المقدمة.

وجاء الفصل الأول ، وجاءت الفقرة الأولى والثانية من الفصل الثاني ، وجاء تذكير بالنعم ، وجاء تذكير بالعقوبة الصارمة القطعية ، وختمت الفقرة الثانية من الفصل الثاني بقوله تعالى (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) فكأن ههنا خاتمة التقرير لأسباب الموعظة في بداية الفصلين ليكون الآن عرض جديد وتغير فى أسلوب الخطاب والمعالجة ولذلك يأتي بعد هذه الفقرة قوله تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ ....)

إننا أمام سياق يشبه أن يكون جديدا بالنسبة لما سبقه وكأن هذه الفقرة تعتبر خاتمة من وجه لجولات في المقطع.

وكأن مقطع بني إسرائيل في النهاية يتألف من مدخل وفصلين وكل فصل يتألف من فقرتين ، نهاية الفقرة الأولى في الفصلين متقاربة ، وبدايات الفقرة الثانية من الفصلين متشابهة ، ثم بعد ذلك عندنا في المقطع مناقشات ودروس ، ولنبدأ عرض الفقرة الثانية في الفصل الثاني من المقطع الثالث.

التفسير :

تعطينا هذه الفقرة درسين من خلال موقفين لليهود لهما علاقة بالعهود المأخوذة عليهم وموقفهم منها ، وكلا الدرسين مبدوء بكلمة (إذ) التي تأتي عادة في هذا السياق بعد أمر محذوف تقديره (اذكر) ولا شك أن الذي يتذكر هو المسلم وحده ، إذ هو الذي

١٧٥

يستفيد من كتاب الله ، فإذ يتذكر المسلم ما أمروا به ، وما فعلوه ، وما عوقبوا به نتيجة لذلك فإنه يكون قد استفاد من الدرس.

الدرس الأول :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) الميثاق هو العهد المؤكد غاية التوكيد (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) هذا إخبار في معنى النهي وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الانتهاء والامتثال وهو يخبر عنه (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى) أي القرابة (وَالْيَتامى) جمع يتيم : وهو الذي فقد أباه قبل الحلم إلى الحلم (وَالْمَساكِينِ) جمع مسكين وهو الذي أسكنته الحاجة (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أي قولا هو الحسن في نفسه لإفراط حسنة ، يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذ ميثاقهم على ذلك ، وأنهم تولوا عن ذلك كله ، وأعرضوا قصدا وعمدا وهم يعرفونه ، ويتذكرونه ، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وبهذا أمر جميع خلقه ، ولذلك خلقهم ، وهذا هو أعلى الحقوق ، وأعظمها ، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له ، ثم بعده حق المخلوقين وأكبرهم وأولادهم بذلك حق الوالدين ، والأقربين ، ثم اليتامى والمساكين ، فهؤلاء يستحقون الإحسان ؛ لأن اليتامى لا كاسب لهم ؛ والمساكين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم ، أما الناس كل الناس فلهم الكلمة الطيبة ولين الجانب (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قال الحسن البصري : «فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس حسنا» وقد ناسب أن يأمر بالإحسان بالقول بعد الإحسان في الفعل ؛ ليجتمع طرفا الإحسان الفعلي والقولي ، ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك ، وهو الصلاة والزكاة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ثم أخبر أنهم تولوا عن ذلك كله (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) أي تركوا كل ما أمروا به ونهوا عنه وراء ظهورهم ، وأعرضوا عنه على عمد ، بعد العلم به إلا القليل منهم. وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء كما سنرى ، وكم من هذه الأمة قد أعرض. بينت هذه الآية كيف كان موقفهم القولي ، وإعراضهم عن العبادة ، والإحسان الفعلي ، والقولي ، وعن الصلاة والزكاة.

وبمناسبة هذه الآية فلنذكر بهذين الحديثين :

في الصحيحين عن ابن مسعود «قلت : يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال : الصلاة على وقتها. قلت : ثم أي؟ قال : بر الوالدين. قلت : ثم أي؟ قال : الجهاد في

١٧٦

سبيل الله ..» وأخرج مسلم والترمذي والإمام أحمد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تحقرن من المعروف شيئا وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق».

الدرس الثاني :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضا (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي لا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه ولا ينفيه جعل غير الرجل بمثابة نفسه إذا اتصل به أصلا أو دينا ، وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة ، كما قال عليه‌السلام «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» ثم قال تعالى :

(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به وتعترفون على أنفسكم بلزومه.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) كانوا في المدينة المنورة فريقان طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج ، والطائفة الأخرى النضير وقريظة وهم حلفاء الأوس ، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم ، والأوس والخزرج أهل شرك ، يعبدون الأوثان ، ولا يعرفون جنة ولا نارا ، ولا بعثا ولا قيامة ولا كتابا ، ولا حلالا ولا حراما ، يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر ، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ويخرجونهم منها. (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) كانوا إذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة الذي جاء فيها (إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا أخذته فأعتقته) ، فهم يطبقون التوراة في هذا الجانب ويخالفونها في غيره مما ذكر قبله (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ.) فالإخراج حرام عليهم وكذلك القتل وكذلك مظاهرة غيرهم على بعضهم.

قال السدي : «أخذ الله عليهم أربعة عهود ترك القتل ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة ، والفداء فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء. قال تعالى مؤنبا : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أي أتفادونهم بحكم التوراة ،

١٧٧

وتقتلونهم ، وتخرجونهم ، وتظاهرون عليهم ، مع أن التوراة تحرم هذا ، جعلت الآية التطبيق إيمانا وعدم التطبيق كفرا. قال السدي : فإذا أسر رجل من الفريقين كلاهما ، جمعوا له حتى يفدونه فتعيرهم العرب بذلك ، ويقولون كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم ، وحرم علينا قتالهم. قالوا فلم تقاتلوهم؟ قالوا إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا فذلك حين يخبرهم الله تعالى :

(فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ) أي فما جزاء من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض (إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إلا ذلة وهوان بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) أشد العذاب هو الذي لا روح فيه ولا فرح جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الأعمال القبيحة والسيئة ، ولكن له سننا (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة واختاروها عليها اختيار المشتري. دلت الآية على أن سبب الخلل في التطبيق هو محبة الدنيا وتفضيلها على الآخرة (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم فليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه.

وبمناسبة قوله تعالى (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) نحب أن نلفت النظر ههنا إلى أن اليهود ، أو النصارى ، أو أبناء الأديان ، يرون أنهم بسبب من كونهم يهودا ، أو نصارى ، أو غير ذلك ، فإنهم سينصرون يوم القيامة ، وأن من ينتسبون إليهم سينصرونهم ، وقد قطع الله عزوجل في هذه الآية طمع اليهود من ذلك بسبب من أعمالهم. وكثيرون من أبناء المسلمين غلب عليهم هذا التفكير أنهم سينجون عند الله مهما اقترفوا ، وكثيرون من صوفية المسلمين غلب عليهم هذا التفكير حتى أصبحت تجد صوفيا لا يصلي ، ولا يزكي ، ولا يهتدي بكتاب الله ، ويوالي الكافرين ، ويؤمن بشعاراتهم المعطلة للكتاب ، ويتصور مع هذا أن نسبته إلى فلان من الناس ، أو إلى الطريقة الفلانية ، تنجيه عند الله.

وبمناسبة قوله تعالى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) نقول :

لقد أخذ الله على هذه الأمة ما أخذ على بني إسرائيل في وجوب إقامة أحكام القرآن ، فطبقت في عصورها المتأخرة بعضا وتركت بعضا ؛ فابتلاها الله بما ابتلاها به ، من الذلة ، والهوان ولعذاب الآخرة أشد.

وها نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري نعاني من الذلة والهوان ، بأن سلط الله

١٧٨

علينا أمم الكفر ، حتى سلط علينا اليهود أذل خلق ، وتلك عقوبة نسيان جزء من كتاب الله :

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وها نحن نلنا خزي الدنيا ونعوذ بالله من ذلك ومن عذاب الآخرة ، (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) إنه لا خلاص لنا مما نحن فيه بالدنيا ، ولا نجاة لنا في الآخرة ، إلا بالعودة الكاملة لكتاب الله ، بتطبيقه كله ، في محيط الفرد ، والأسرة ، والدولة ، والأمة. وإلا فإن الذلة مستمرة ، وكل محاولة للخروج منها عن غير هذا الطريق محاولة فاشلة. قال عمر رضي الله عنه : «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله» ، وقد رأينا أن سبب التطبيق الجزئي هو استحباب الدنيا على الآخرة ، فبداية الدواء إذن أن نغرس في قلب المسلم تفضيل الآخرة على الدنيا ، وأن نغرس في قلبه حب الآخرة ، وطريق ذلك العلم بالكتاب والسنة ، والعمل ، ومجالسة الصالحين من عباد الله.

كلمة في السياق :

بقيت عندنا فقرتان من الفصل الثاني في المقطع الثالث ثم خاتمة المقطع ، والحقيقة أن هاتين الفقرتين بمثابة جولتين في النقاش المباشر مع بني إسرائيل ، فهما من ناحية امتداد للفصل الثاني ، لأنهما نقاش في قضية الإيمان ، ومن ناحية أخرى فهما يشبهان أن يكونا فصلا جديدا في المقطع ، فهما يمثلان استمرارية من ناحية ، واستقلالية من ناحية أخرى ، ولذلك فسنعرضهما على أنهما جولتان في هذا الفصل ، مع اعتبارنا إياهما فقرتين من فقرات أربع تشكل الفصل الثاني كما رأينا من قبل.

الفقرة الثالثة من الفصل الثاني

تمتد هذه الفقرة من الآية (٨٧) إلى نهاية الآية (١٠٣) وهذه هي :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ

١٧٩

اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١))

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)

١٨٠