الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

ـ يلاحظ أن هذه الأوامر والنواهي جاءت في سياق الخطاب لبني إسرائيل ، ثم يلاحظ أن بقية المقطع كانت إما في تعليل صدور هذه الأوامر والنواهي ، أو في دروس تعطى لهذه الأمة من خلال ذلك بما يعمق ضرورة الالتزام بهذه المعاني جميعا ، ثم يلاحظ من خلال دراسة سورة البقرة ، أن هذه الأوامر والنواهي أحد اثنين إما شىء قد طولبنا به من قبل ، أو شىء سنطالب به فيما بعد :

فمثلا في مقدمة سورة البقرة والمقطعين بعدها عرفنا قضية الإيمان والصلاة والزكاة وعدم نقض الميثاق ، ووصل ما أمر الله به أن يوصل. وعدم الإفساد في الأرض وألا نبيع دين الله بشىء من الدنيا ، وكل ذلك قد جاء بصيغة الأمر والنهي لبني إسرائيل هنا.

وسنرى فيما يأتي في السورة أمرا لنا بالاستعانة بالصبر والصلاة ، وتحذيرا لنا من كتمان شىء مما أنزل الله ، وتعريفا لنا على البر ، وكان ذلك مما صدرت فيه الأوامر والنواهي لبني إسرائيل ، ومن ثم ندرك أن هذا المقطع الذي يتوجه فيه الخطاب لبني إسرائيل هو بمثابة التهييج لنا على تنفيذ ما سبق ، وبمثابة التأسيس لما سنطالب به فيما يأتي من السورة.

ـ كنا قلنا من قبل : إن المقطع الثالث يتألف : من مدخل وفصلين. المدخل وقد رأيناه ، والفصل الأول ينتهي في الآية (٧٤). وهو يتألف من فقرتين الفقرة الأولى : لها صلة بقوله تعالى (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ.) والفقرة الثانية : لها صلة بقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.) والفصل الثاني له صلة بقوله تعالى : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.)

وهكذا نجد أن الفصلين اللاحقين للمدخل في هذا المقطع ، إنما هما بمثابة تعليل لهذه الأوامر والنواهي التي صدرت لبني إسرائيل مع إعطاء الدروس للأمة الإسلامية خلال ذلك لتعرف أن لها الإمامة بحق ، وأن عليها ألا تقع في خطأ السير في طريق المغضوب عليهم والضالين. ولعل القارىء بهذا وبما مر أدرك الصلة بين هذا المقطع وما قبله وما بعده ، ولا زال في هذا الموضوع كلام فلننتقل إلى الفقرة الأولى من الفصل الأول من هذا المقطع.

١٤١

الفقرة الأولى من الفصل الأول :

تمتد هذه الفقرة من الآية (٤٧) إلى نهاية الآية (٦٢) وهذه هي :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١))

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦))

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ

١٤٢

الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(٥٧))

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً

١٤٣

فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

كلمة في هذه الفقرة :

تقص علينا هذه الفقرة نماذج من نعم الله على بني إسرائيل : من تفضيلهم على عالم زمانهم ، ومن إنجائهم من فرعون ، ومن إنزال التوراة عليهم ، ومن قبول توبتهم من بعد ما عبدوا العجل ، ومن إحيائهم بعد ما أماتهم عقوبة لهم ، ومن تظليل الغمام على آبائهم وإنزال المن والسلوى ، ومن فتح بعض البلدان عليهم ، ومن سقيهم ماء بشكل معجز ، ومن إباحة لما طلبوه مما اشتهته أنفسهم. ولكن هذا التذكير بالنعم يأتي في طيه تذكير بمواقفهم الخائنة مع وجود هذه النعم. بل تستقر الفقرة على ذكر العقوبات الكبرى من ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، ورجوعهم بغضب الله ، إلا من كان منهم مؤمنا يعمل الصالحات ، وذلك للإشعار بأنه لا أحد له دالة على الله إذا خالف. وذلك درس لنا أيتها الأمة وتوطئة لما سيأتي بعد من دروس أخرى ؛ من خلالها يتعمق في نفوس هذه الأمة : أنه لا ينبغي أن يكون في قلوب أبنائها شعور بأي نوع من أنواع الأستاذية لليهود عليها فضلا عن غيرهم. نلحظ هذا من قوله تعالى : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ.)

وكان جل جلاله في الفاتحة علمنا أن ندعوه : (... غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.)

لقد كان بعض الذين لهم احتكاك ببعض الأديان السابقة ، يرون لأهل هذه الأديان ميزة يظهر ذلك من بعض التعبيرات التي وردت على ألسنة بعض الأنصار رضوان الله عليهم ، ويظهر ذلك في أن قريشا في بعض الأحوال سألت بعض أهل الكتاب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويظهر ذلك في أن خديجة نفسها رضي الله عنها استفسرت عما حدث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغار بأن سألت ورقة بن نوفل ، وإذ جاء الإسلام تقريرا للحق وتصحيحا لكل التصورات والمعتقدات الفاسدة ومن جملتها معتقدات وتصورات أهل الكتاب ، فلا بد من أن يحرر المسلمون من مشاعر التبعية للآخرين ، ولا بد أن يربوا على الأستاذية للآخرين ، ومن ثم فإن هذا المقطع يخدم في جملة ما يخدم في هذا الشأن ، وهذه الفقرة تضع أساسا في ذلك.

تفسير الفقرة :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) يتجه الخطاب مرة ثانية إلى بني إسرائيل بذكر النعم التي أنعمها على آبائهم وأسلافهم. (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) : أي فضلهم على سائر الأمم من أهل زمانهم بإرسال الرسل منهم وإنزال

١٤٤

الكتب عليهم. قال أبو العالية في تفسيرها : «بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان ، فإن لكل زمان عالما» أقول : هذا فهم بعض أهل التفسير لظاهر التفضيل ، والقرآن قد أطلق التفضيل ومن ثم فقد يكون التفضيل لهم على غيرهم مع اشتراك غيرهم معهم في مثل ما ذكر من الأسباب. وتفضيلهم على العالمين من أعظم نعمه عليهم ، ولكنه خص بالأمر بالتذكر ، بعد الأمر بتذكر النعم ، لأهمية ذلك ، فالعقلية اليهودية منطبع فيها أن اليهود شعب الله المختار مهما فعلوا ومهما أساءوا ومهما أفسدوا ، وأن هذه صفة أبدية لهم مهما كفروا ومهما عصوا ، ولذلك فإنه يذكر بهذه النعمة ابتداء بين يدي تعداد النعم الذي في طياته التأنيب على الانحراف ، ليستقر ذلك على العقوبة الأبدية لهم إن لم يراجعوا أنفسهم في الولوج في حمى الأمة المرحومة أبدا ، إن ذكر ذلك على انفراد كما قلنا له أهميته الخاصة. وبعد هذا التذكير المجمل بالنعم وبالتفضيل يتجه الخطاب إليهم بالتذكير بالآخرة .. (وَاتَّقُوا يَوْماً.) أي : يوم القيامة الذي من صفاته : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً.) أي : لا يغني أحد عن أحد ، فلا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة شيئا من الحقوق التي لزمتها (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) الضمير في (منها) يرجع إلى النفس المؤمنة أي لا تقبل منها شفاعة للكافرة فهو كقوله تعالى في سورة المدثر : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ،) فهذا أبلغ رد على اليهود الذين يزعمون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وعلى النصارى الذين يزعمون أن عيسى يحمل عنهم خطاياهم ، وعلى أمثالهم ، ممن كفر بعد إيمان. وتشبث المعتزلة بالآية في نفي الشفاعة للعصاة من المؤمنين مردود بالنصوص كما سنرى لأن المنفي شفاعة الكفار (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) : أي لا يقبل منها فداء ، فالعدل هنا الفدية والبدل (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لا أحد يعينهم ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله ، قال ابن جرير : «يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع ولا يقبل منهم عدل ولا فدية ، بطلت هنالك المحاباة ، واضمحلت الرشا والشفاعات ، وارتفع من القوم التناصر والتعاون وصار الحكم إلى الجبار ، العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء ، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. أقول : وفي تذكيرهم باليوم الآخر وبعض قوانينه الصارمة بعد أمرهم بتذكر النعم وتفضيلهم إشعار لهم أنهم مكلفون ومحاسبون ، وأن ذلك يقتضي منهم شكرا لا بطرا ، وطاعة لا معصية ، قياما بحق الله لا فرارا منه. وهذا يدلنا على أن السياق ... سياق تذكير وتأنيب ودعوة ، وهي في النهاية إعطاء دروس لهذه الأمة ، ألا تقع فيما وقعت فيه أمم أخرى. وللأسف فإن الكثيرين من أبناء أمتنا واقعون فيما وقع فيه اليهود في سيرهم الطويل كما

١٤٥

سنرى ، ثم بعد الأمر بتذكر النعم وتذكر التفضيل وبعد الأمر بتوقي عذاب اليوم الآخر تتجه الفقرة إلى تذكيرهم بنعم الله الكبرى عليهم واحدة فواحدة ، وكل نعمة تذكر ، يصدر التذكير بها بقوله تعالى (وَإِذْ) فيكون التقدير : واذكروا إذ ، فحيثما وردت (إِذْ) فيما يأتي فإنها أمر بتذكر نعمة. ومن ثم فما بقي من الفقرة فهو أمر بتذكر النعم تفصيلا بعد الأمر بتذكرها إجمالا والملاحظ أن بعض النعم التي ذكروا بها كانت من نوع قبول التوبة بعد انحراف خطير يذكر ، وأن بعضها ذكر وذكر ما رافقه من انحراف ، فكان ذلك كله تمهيدا لاستحقاقهم العقوبة الأبدية لهم وهي :

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) : والتي لا مخرج لهم منها إلا بمتابعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي ذلك كله دروس لهذه الأمة تحذرها من أن تفعل ما فعلوا :

١ ـ (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.)

يقول تعالى : اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ خلصتكم وأنقذتكم من أيدي فرعون وقومه ، وقد كانوا يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب بذبح الأبناء وإبقاء البنات للخدمة ، وفي ذلك تعريض العرض للفتنة وفي ذلك محنة عظيمة لكم فتذكروا الخلاص منها. (والآل) بمعنى : الأهل ، وخص استعماله بأولي الخطر ، كالملوك وأشباههم ، وفرعون علم على من ملك مصر قديما ككسرى لملك الفرس ، وسامه بمعنى : أولاه. وسوء العذاب : أشده وأفظعه. والبلاء : يطلق على النعمة والنقمة على حسب تقدير اشتقاقه ، وههنا يصلح للوجهين فإن أشير به إلى صنع فرعون كان المراد به المحنة ، وإن أشير به إلى الإنجاء كان نعمة ، وجمهور المفسرين على أن البلاء هنا المراد به المحنة.

٢ ـ (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أمروا بتذكر هذه النعم استقلالا ، مع أنها جزء من نعمة الخروج من مصر ، لما في كل منها من نعمة عظيمة ، يذكرهم تعالى كيف أنه بعد أن أنقذهم من آل فرعون وخرجوا مع موسى خرج فرعون في طلبهم ففرق الله بهم البحر فخلصهم منهم وحجز بينهم وبينه وأغرقه مع من معه وبنو إسرائيل ينظرون ، ليكون ذلك أشفى لصدورهم وأبلغ لإهانة عدوهم. ومعنى (فَرَقْنا) فصلنا بين بعض وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم

١٤٦

وقد بقي يوم الإنجاء مشهورا عند بني إسرائيل يعظمونه. فقد روى البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه والإمام أحمد عن ابن عباس قال : «قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال : ما هذا اليوم الذي تصومون؟ قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجى الله ـ عزوجل ـ فيه بني إسرائيل من عدوهم ؛ فضامه موسى عليه‌السلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا أحق بموسى منكم فصامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بصومه.

٣ ـ (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ* ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.)

يذكرهم تعالى قائلا : واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه ، وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر. والضمير في (مِنْ بَعْدِهِ) يعود على موسى والتقدير من بعد ذهابه إلى الطور إذ اتخذوا العجل إلها وعبدوه. فههنا ذكرهم بنعمة العفو عنهم على فظاعة الجرم الذي ارتكبوه وهم حديثو عهد بالخروج ومعجزاته.

٤ ـ (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.) الكتاب : التوراة والفرقان : ما يفرق بين الحق والباطل ، وهو هنا : إما الآيات التي أعطيها موسى كالعصا واليد ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام ؛ فهذه نعمة رابعة أنعمها عليهم أنه أنزل عليهم كتابا ليهتدوا بهديه.

٥ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ ، فَتابَ عَلَيْكُمْ ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.)

في هذه الآية توبة الله على بني إسرائيل من عبادة العجل ، فلم تقبل التوبة إلا بأن قتل بعضهم بعضا ، ومع شدة هذا فإن الله يمن عليهم أن تاب عليهم وقبل توبتهم ، والبارىء هو : الخالق الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت ، والتواب هو : المفضال بقبول التوبة مرة بعد مرة ولو كثرت الذنوب واسم الرحيم في هذا السياق يشير إلى معنى : أن رحمته من السعة بحيث يعفو عن الذنب وإن عظم إذا تاب صاحبه ، وأي ذنب أعظم من الشرك؟ وأي ظلم للنفس أكبر من هذا الظلم الذي وقع فيه بنو إسرائيل؟ إذ تركوا بعد المعرفة عبادة العليم الحكيم الذي برأهم إلى عبادة البقر الذي يضرب به المثل في الغباوة

١٤٧

والبلادة ، فاستحقوا هذا العقاب الذي نزل بهم. وقتل النفس الذي أمروا به يحتمل معاني من جملتها وهو الأرجح أن يقتل من لم يعبد العجل من عبده وأن يستسلم الآخر ، أو أن يقتل كل منهم من لقيه من أهل وولد وغير ذلك. ولا شك أن تنفيذ هذا الأمر من بني إسرائيل منقبة لهم تظهر فيه حكمة الله في تفضيلهم على عالم زمانهم. وقد قال الله في الآية : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) أي : إن التوبة والقتل خير من الإصرار على المعصية عند الله. وفي هذه الآية دروس منها : أن الذنب لا يمر بلا عقوبة مهما كان فاعلوه إلا إذا شاء الله أن يعفو. وفي ذلك تذكير لليهود بأن يخففوا من دعاواهم مع الله وأمام خلقه. ومن الدروس في الآية أن المؤمن لا يبالي في ذات الله أن يقتل أهله أو قومه أو تقتل نفسه ، ومن الدروس في الآية درس للجاهلين بالله الذين يتصورون أن كل ما يجري من معصية لله في هذه الأرض ، لا يجوز معه لأهل الله أن يتحركوا إلا في حدود الكلمة ، وإذا فكروا في شىء آخر فكأنهم أخلوا بقوانين السماء والأرض ، إن هؤلاء جهلة بالله وجهلة بالإسلام.

٦ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.)

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يأمرهم الله عزوجل في هذه الآيات أن يتذكروا مجموعة نعم : بعثهم بعد إماتتهم ، وتظليلهم بالغمام مع إنزال المن والسلوى ، ولكنه تذكير يرافقه تذكير آخر بظلمهم وتعنتهم :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) : أي عيانا ومعاينة (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) الصاعقة ههنا : إما صوت سمعوه فصعقوا وماتوا وإما نار أحرقتهم. (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) البعث : هو الإحياء بعد الإماتة ، وأصل كلمة البعث في اللغة : الإثارة وفي قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) دليل على أن السياق لازال يصب في موضوع التذكير بالنعم.

والفارق بين سؤال موسى ربه أن يراه وسؤالهم الرؤية : أن موسى سأل الرؤية مع الإيمان شوقا لله ، وهؤلاء سألوا تعنتا وكفرا ، إذ علقوا الإيمان بموسى بعد ظهور معجزاته حتى يروا ربهم جهرة ، والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم ، ولا يجوز اقتراح الآيات عليهم ، وسؤالهم لم يكن سؤال استرشاد بل سؤال تعنت وعناد فعوقبوا على ذلك بالصعق والموت. فدل ذلك على عظم الجرم ، وما أكثر من يطلب

١٤٨

هذا الطلب من أهل عصرنا مع زيادة وقاحة ، فبنوا إسرائيل طلبوا الرؤية وعلقوا عليها الإيمان ، وإن من أبناء عصرنا من كتب طالبا الرؤية من أجل أن يؤذي الله في زعمه. ألا ما أجهل الكافر وأغباه وما أحمقه وأضله وما أعظم حلم ربنا!؟ ولكن ما أعده الله لأعدائه في الدنيا والآخرة كثير. وهل الذين طلبوا الرؤية هم الجميع ، أو هم السبعون الوارد ذكرهم في سورة الأعراف؟ قولان للمفسرين وسنقف في سورة الأعراف وقفات طويلة مستعرضين الروايات اليهودية مع النقد فإلى هناك. وقد ناقشنا موضوع تعليق الإيمان بالله على رؤيته وسماعه في كتابنا «الله جل جلاله» وقد اتضح لنا من خلال ما مر هنا وما مر من قبل في قصة بني إسرائيل أو في قصة آدم كيف أن معصية الله لا تمر بدون عقوبة للفرد أو للجماعة أو للأمة فما أكثر غفلة الناس.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) : أي جعلنا الغمام يظلكم ، وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو وسننقل في سورة الأعراف ما تذكره الروايات الإسرائيلية.

قال ابن كثير ملخصا عبارات المفسرين في شرح المن قال : «فمنهم من فسره بالطعام ومنهم من فسره بالشراب ، والظاهر والله أعلم أنه كل ما من الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد. فالمن : المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة ، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا ، وإن ركب مع غيره صار نوعا آخر». وهناك حديث صحيح رواه البخاري يستأنس به هنا وهو : «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين» وأما السلوى : فالمشهور الذي يكاد يكون عليه إجماع المفسرين أنها طير ، وفسر بأنه السمانى وهو طير أكبر من العصفور ، وقال بعضهم غير ذلك. ووجد من قال بأن السلوى هي العسل. (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.)

قال ابن كثير : «أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا .. فخالفوا وكفروا ، فظلموا أنفسهم هذا مع ما شاهدوه من الآيات والمعجزات القاطعات وخوارق العادات».

قال ابن كثير تعليقا على هذه الآية :

«من ههنا نتبين فضيلة أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته منها عام تبوك في

١٤٩

ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملأوا كل وعاء معهم ، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملأوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر فهذا هو الأكمل».

٧ ـ (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.)

هذه نعمة أخرى يأمرهم الله عزوجل بتذكرها وهي الفتح بعد التيه ، ويأمرهم أن يشكروه على نعمة الفتح والرخاء بأنواع من الطاعة ، وهم العطاش إلى الفتح والاستقرار بعد تشرد طويل ، وهم المحتاجون إلى العيش الرغد بعد تيه طويل ، ومع ذلك لم يقابلوا ذلك بما ينبغي.

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) الظاهر أن هذا القول لهم بعدما خرجوا من التيه بعد وفاة موسى عليه الصلاة والسلام في عهد يوشع بن نون خليفة موسى على قومه والقرية إما بيت المقدس أو أريحا ، (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) أي هنيئا واسعا (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) الباب باب القرية أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها ، وسجدا جمع ساجد أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله تعالى وتواضعا له ، وهل المراد بالسجود هنا الركوع أو الخضوع ، أو السجود الحقيقي؟ أقوال للمفسرين والظاهر أنه السجود الحقيقي. (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أمروا أن يجمعوا مع الفعل القول فيطلبوا من الله أن يحط عنهم ذنوبهم فالحطة : مشتقة من الحط وهو هنا إما طلب حط الذنوب ، أو أن مسألتنا وأمرنا حطة أي تواضع لجلال الله ، أو أمر الله حطة بمعنى : أنه موضوع علينا. (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) : الخطايا جمع خطيئة وهي الذنب ، وعدوا (على الطاعة في القول والفعل) غفران الذنب للمذنب والزيادة في الثواب للمحسن ، فكيف كان موقفهم من الأمرين :

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار ، فخالفوه إلى قول ليس معناه ما أمروا به ، قيل : قالوا بدل حطة : حنطة ، وأمروا بالسجود حال الدخول ، فبدلوا بأن دخلوا زاحفين على أستاههم. (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) أي عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) الفسوق هو

١٥٠

الخروج عن طاعة الله. وقد كرر تعبير (الَّذِينَ ظَلَمُوا) في الآية الأخيرة مرتين زيادة في تقبيح أمرهم وإيذانا بإنزال الرجز عليهم لظلمهم.

أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدا وقولوا : حطة فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا حبة في شعرة» أقول : وهذا نص في التبديل الذي فعلوه فلا محل لكلام آخر. وأما ما هو الرجز الذي نزل بهم فللمفسرين أقوال وليس هناك من نص خاص في هذا الموضوع. قال الضحاك : عن ابن عباس «كل شىء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب». وقال أبو العالية : الرجز الغضب وأخرج ابن جرير بسنده عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن هذا الوجع والسقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم». وأخرج النسائي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم». لكن هذين النصين ليسا في الحادثة التي نحن فيها عينا ، ولكن بعض المفسرين استأنس بهما ففسر الرجز هنا بالطاعون وبالبرد ، والله أعلم.

وفي الآيتين إشعار بأن النعمة ينبغي أن يقابلها شكر ، والشكر قول وعمل ، وفيهما إشعار أن الأمر بالقول والفعل ينبغي أن يكون تنفيذه حرفيا لا تبديل ولا تغيير ، وأن المعصية لا تمر بلا عقوبة ، والملاحظ أن السياق كلما تقدم يوضح لنا طبيعة جديدة من طبائع يهود ، ليكون ذلك تأسيسا لفهم مواقفهم من الدعوة الجديدة ، ولتعتبر هذه الأمة فلا تقع فيما وقع به غيرها ، والطبيعة الجديدة لليهود التي عرفناها في هاتين الآيتين هي التحريف في التنفيذ. ثم يأمرهم الله عزوجل بأن يتذكروا نعمة أخرى :

٨ ـ (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.)

يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه الصلاة والسلام حين استسقاني لكم ، وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم ، وتفجيري الماء لكم من اثنتي عشرة عينا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها ، فكلوا من المن والسلوى ، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد واعبدوا الذي سخر لكم ذلك ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها.

والاستسقاء : طلب السقيا من الله والألف واللام في الحجر ، هل هي للعهد أو

١٥١

للجنس؟ قولان للمفسرين فإن كانت للعهد فذلك إشارة إلى حجر معلوم ، وإن كانت للجنس فذلك إشارة إلى أي حجر ، والانفجار هو : السيلان بكثرة وكانت اثنتا عشرة عينا على عدد أسباط بني إسرائيل ، وقد عرف كل سبط ـ أي فروع ابن من أبناء يعقوب ـ عينهم التي يشربون منها فأصبح أكلهم في التيه المن والسلوى وشربهم من العيون والكل من رزق الله ، والعيث أشد الفساد. ومعنى قوله تعالى (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم ، وبهذه الآية تمت صورة ما أعطي بنو إسرائيل في التيه لطعامهم وشرابهم ليكون ذلك تأسيسا للآية بعدها ، التي تعرفنا على طبيعة جديدة لليهود هي الطبيعة المتطلعة لغير ما أعطيت ، الطبيعة التي تتطلع إلى الدنىء الممنوع رغم ما بيدها من الخير الرفيع ، وقد نهتهم هذه الآية عن الفساد ولم تذكر لنا شيئا عن فسادهم ولكن الآية اللاحقة تؤكد إفسادهم في الأرض كما سنرى.

٩ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.)

الطعام الواحد هو المن والسلوى ، وإنما قالوا : على طعام واحد وهما طعامان لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يتبدل ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها يقال : لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا ، والبقول : ما أنبتته الأرض من الخضار ، والمراد به في النص أطايب البقول ، والقثاء معروفة وهي والخيار صنف واحد ، والفوم هو الحنطة على لغة قريش ، أو الحمص على لغة الشام ، أو الثوم ، وقد قرأ به ابن مسعود ، أو هو كل ما يختبز.

والأدنى : هو الأقرب منزلة والأدون مقدارا ، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار ، والخير في الآية هو الأرفع والأجل ، ومصرا في الآية منكرة أي : أي مصر من الأمصار يوجد فيه ما سألتم ، والذلة الهوان ، والمسكنة : الاستكانة فاليهود أذلاء وأهل مسكنة من طبيعتهم التصاغر والتفاقر ومعنى «باءوا بغضب من الله» أي صاروا أحقاء بغضبه ـ أو حقوا على رأي الكسائي وباء معناها رجع.

يقول تعالى في الآية : واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاما

١٥٢

طيبا هنيئا نافعا سهلا ، واذكروا ضجركم مما رزقناكم ، وسؤالكم استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها. فكان جواب موسى : أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه ، هذا الذي ذكره المفسرون. ولكني ألمح مع التأنيب الإباحة ، أخذا من السياق الذي يعدد النعم فكأنهم مع نزولهم عن المقام الأعلى أبيح لهم أن يحصلوا على مثل هذه الأشياء بالنزول إلى الأمصار المجاورة لهم في رحلة التيه ، وبهذا يكون قد انتهى تعداد النعم ثم بعد ذلك يذكر الله عزوجل ما عوقبوا به بعد موسى بكثير.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ.) ثم علل جل جلاله لهذه العقوبة : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.) فالكفر بالآيات وقتل الأنبياء والعصيان والاعتداء ، هي سبب استحقاقهم للذلة والمسكنة والغضب من الله بعد سير تاريخي طويل ، وبعد إنعام كثير وبعد تفضيل الله إياهم على عالم زمانهم.

إنها عقوبة تأتي بعد فترة من المرحلة التي قص الله علينا من أنباء الإنعام عليهم ، ولكنه جل جلاله وهو يقص علينا من أنبائهم في المرحلة الأولى ، هيأ أذهاننا لنصل إلى هذه النتيجة من خلال ما رأيناه من تعنتهم في الطلب وتحريفهم للأمر ، وظلمهم واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير ، وذلك كله في العصر الأول ، إن بذور الأخلاق الفاسدة الكبرى التي أدت إلى عقوبتهم النهائية كانت موجودة عند بعضهم حتى في العصر الأول عصر موسى ويوشع. عليهما‌السلام.

ثم تأتي آية أخيرة في الفقرة :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.)

من المعلوم أن الأمة كلها لا تقع في المعصية بل يبقى أفراد ملتزمون مطيعون وهم لما يفعله الآخرون كارهون ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئا ، هؤلاء ما محلهم في أمتهم؟ ما حظهم من العقوبة الدنيوية والأخروية؟ مع أنهم يقومون بحق الله ، إن هذه الآية تأتي لتقرر أن فضل الله عزوجل سابغ على أمثال هؤلاء في كل أمة من الأمم ، فهم بمنجاة من العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية والذين هادوا هم : اليهود ، والنصارى هم من

١٥٣

نصروا المسيح وللمفسرين في الصابئين اتجاهان ، الاتجاه الأول : أنهم قوم بأعيانهم تجد بقاياهم الآن في العراق يعبدون النجوم والملائكة ، والاتجاه الثاني : أنهم كل من فارق الباطل إلى الله ولا يعرف ما هو الدين الصحيح ، وذهب بعض العلماء أنهم الذين لم تبلغهم دعوة نبي ولم يدخلوا في عبادة غير الله.

ويجب أن يكون واضحا أن المقصود بهؤلاء من المذكورين إنما هم المؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا والعاملون بدين الله (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً.)

وحتى لا يقع لبس نقول : إنه لم يعد الآن نجاة لا ليهودي ولا لنصراني ولا لصابىء ولا لمجوسي ولا لغير ذلك إلا بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا إذا لم تبلغه الدعوة ، وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار».

وعلى هذا فاليهود المعنيون في الآية : هم من كانوا قبل عيسى ممن لم يشاركوا في المعصية واستمروا على الإيمان ، أما اليهودي الذي لم يؤمن بعيسى بعد بعثته فإنه هالك ، والمراد بالنصارى ، النصارى الذين كانوا قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن استمروا على الإيمان الصحيح والعمل الصالح ولم ينحرفوا بانحراف الناس ، أما بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكل نصراني هالك إذا لم يدخل في الإسلام. وكذلك الصابئون فإنهم ناجون حتى بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحكم مفارقتهم قومهم إذا أريد بهم هذا المعنى ، أما بعد البعثة فكل من لم يؤمن هالك.

وصدرت الآية بالكلام عن الذين آمنوا ، والمراد بهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنهم الآخرون وجودا ، لأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضين والغيوب الآتية فكان الإيمان علما عليهم.

إن أهل الإيمان والعمل الصالح لهم السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلون ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه.

وبهذا انتهت الفقرة الأولى من الفصل الأول من المقطع الثالث.

كلمة في هذه الفقرة وسياقها :

ـ دلنا على نهاية هذه الفقرة أنها ختمت بمثل القاعدة التي ختمت بها قصة آدم. ودلنا على ذلك أيضا : أن الفقرة كلها كانت في التذكير بالنعم ، ثم ختمت بقاعدة ، ثم

١٥٤

تأتي فقرة أخرى تذكر بالميثاق وبشيء آخر ، وإذن ففي القرآن علامات للمتأملين على بدايات ونهايات الفقرات والمقاطع والأقسام وذلك سيتضح معنا شيئا فشيئا.

ـ يلاحظ أن هذه الفقرة ختمت بقوله تعالى :

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لاحظ التشابه بين نهاية هذه الفقرة ونهاية قصة آدم : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.) وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن المقطع الذي جاء بعد قصة آدم كان نموذجا لأمة أنزل عليها وحي ، وما هو موقفها من هذا الوحي ، لتأخذ هذه الأمة دروس ذلك.

ـ بدأ هذا المقطع بأوامر ونواه موجهة لبني إسرائيل :

وكان الأمر الأول (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وجاءت هذه الفقرة في التذكير بالنعم الجلى عليهم.

وكان الأمر الثاني والثالث : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.)

وستأتي الفقرة الثانية في التذكير بالعهد والتذكير بالخشية : ولذلك تبدأ الفقرة الثانية بقوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ ..) وتنتهي بقوله تعالى (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ.)

فالصلة واضحة بين مدخل المقطع وبين الفصل الأول من المقطع في فقرتيه فلننتقل إلى الفقرة الثانية من الفصل الأول.

الفقرة الثانية من الفصل الأول من المقطع الثالث :

تمتد هذه الفقرة من الآية (٦٣) إلى نهاية الآية (٧٤) وهذه هي :

١٥٥

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧))

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)

١٥٦

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢))

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

كلمة عامة في هذه الفقرة :

تتحدث الفقرة في جولتها الأولى عن الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل ، وماذا فعلوا فيه ، وتتحدث في جولتها الثانية عما عوقب به المخالفون لأمر الله في البست ، وتتحدث في الجولة الثالثة عن حادثة كشف القاتل ، ثم تنتهي الفقرة بآية تتحدث عما أصيبت به قلوب بني إسرائيل من قسوة زادت على قسوة الحجارة وهي في جولتيها الثانية والثالثة تبرز من مظاهر الجلال الإلهي ما يستجيش أعظم مظاهر الرهبة من الله جل جلاله.

التفسير

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) بقبول ما في التوراة (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) قال ابن عباس : إنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ.) أي : خذوا التوراة بجد واجتهاد وعزيمة ، وذلك بالعلم والعمل (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ.) أي : بحفظه ودراسته وتذكره وعدم نسيانه والغفلة عنه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.) أي رجاء أن تكونوا من المتقين الناجين عند الله (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ.) أي : ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به ، أي إنهم بعد ذلك الميثاق المؤكد العظيم انثنوا عنه ونقضوه (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بتأخير العذاب عنكم أو بتوفيق الله إياكم للتوبة عليكم وإرسال النبيين والمرسلين إليكم (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.) أي : الهالكين بنقضكم ذلك الميثاق في العذاب بالدنيا والآخرة (وَلَقَدْ

١٥٧

عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) هم أهل (إيلة) إيلات اليوم أي العقبة ، وعلمتم هنا بمعنى عرفتم والاعتداء في السبت مجاوزة ما حد لهم فيه ، وذلك أنهم جاوزوا ما حد لهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد (فَقُلْنا لَهُمْ : كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ.) أي : كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغار والطرد. (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) النكال العبرة المانعة (لِما بَيْنَ يَدَيْها.) أي : من بحضرتها من القرى الذين يبلغهم خبرها وما حل بها (وَما خَلْفَها.) أي : لمن يأتي بعدها بالخبر المتواتر عنهم (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.) أي : وزاجرا وعبرة لكل تقي سمع خبرها ، يدخل في ذلك من نهوهم ويدخل في ذلك المتقون خلال العصور ومنهم هذه الأمة ، والضمير في قوله تعالى (فَجَعَلْناها) يعود إلى القرية. وتأتي القصة مفصلة في سورة الأعراف وسنرى هناك كيف احتالوا للصيد يوم السبت بما ظاهره أنهم لم يفعلوا شيئا يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناد جيد مخاطبا أمتنا «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل».

وقد بين لنا ما مر من هذه الفقرة خلقان جديدان من أخلاق اليهود وطبائعهم :

١ ـ إعراضهم عن الوحي المنزل إليهم مع كثرة المؤكدات وقوة الدواعي للإقبال.

٢ ـ تحيلهم على التخلص من الأوامر والنواهي بمراعاتها ظاهرا ومخالفتها باطنا والواجب المراعاة الظاهرة والباطنة.

ثم يتجه السياق لتبيان طبيعة أخرى من طبائع اليهود هي الطبيعة الجدلية ليتم في نهاية الفقرة تحديد معالم الطبيعة اليهودية لتخاطب هذه الأمة على ضوء ذلك فتأخذ الدرس الأول في طريقة التعامل مع هذه الطبيعة في الفصل الثاني من المقطع :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو الهزء نفسه (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) العياذ واللواذ بمعنى واحد ، والجهل والسفه هنا بمعنى واحد ، وقد استعاذ موسى من الجهل لأن الهزء في مثل هذا من باب الجهل والسفه وفيه تأنيب لهم إذ لم يعرفوا مقام الرسول وأنه لا يليق به ما نسبوه إليه (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) هذا سؤال عن حالها وصفتها (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ : إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي لا مسنة ولا فتية وإنما هي نصف بين الفارض والبكر وسميت المسنة فارضا لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) أي افعلوا ما أمرتم

١٥٨

به ، وفي ذلك إشعار لهم في أن البيان كاف وعليهم أن ينفذوا (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها؟ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ : إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع. والسرور : لذة في القلب تكون عند حصول نفع أو توقعه وههنا وصفت البقرة بأنها تسر الناظرين لحسنها ، فرؤية الحسن من لذات القلب (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) هذا تكرار للسؤال عن حالها وصفتها واستكشاف زائد ليزدادوا بيانا لوصفها (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أي : أن البقر العوان والأصفر كثير فاشتبه علينا ، هذا تعليل لطلبهم مزيد بيان (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) أي إلى البقرة المراد ذبحها أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل أخرج ابن أبي حاتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو لا أن بني إسرائيل قالوا : وإنا إن شاء الله لمهتدون لما أعطوا ولكن استثنوا» ، (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) لا ذلول أي لم تذلل للكراب وإثارة الأرض (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي ليست من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحروث (مُسَلَّمَةٌ) أي عن العيوب وآثار العمل (لا شِيَةَ فِيها) أي لا لمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة فهي صفراء كلها (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أي بالحق البين ، أي بحقيقة وصف البقرة بحيث لم يبق إشكال في أمرها (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أي حصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها وما كادوا يفعلون ذلك ، إما لغلاء ثمنها أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل والآن تأتي بداية القصة.

قال المفسرون أول القصة مؤخر في التلاوة وهو قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ..) وذلك لأن السياق يقص قصة بني إسرائيل ههنا تعديدا لوجود الجنايات منهم وتقريعا لهم عليها ، وهاتان القصتان وإن كانتا متصلتين فتستقل كل واحدة منهما بنوع من التقريع ، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك ، والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة ، وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولذهب المراد في تثنية التقريع.

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) خوطبت الجماعة لوجود القتيل فيهم وهذا يشعر بمسؤولية الجماعة كلها عما يقع فيها. (فَادَّارَأْتُمْ فِيها.) أي : فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي يدفع ، أو المعنى فتدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فيدفع المطروح عليه الطارح ، أو لأن الطرح في نفسه دفع. (وَاللهُ

١٥٩

مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.) أي : مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوما (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها.) أي : اضربوا القتيل ببعض البقرة المذكورة في الجزء الأول من القصة ، وهذا الضمير هو الذي ربط بين جزئي القصة فضربوه فحيي فأخبر عن قاتله (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى.) أي : كهذا الإحياء يحيي الله الموتى يوم القيامة؟ (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.) أي : يريكم دلائله على أنه قادر على كل شىء فتعملون على قضية عقولكم وهي أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء جميعها لعدم الاختصاص ، ثم عقب الله ـ عزوجل ـ على ما مر بقوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ.) أي : من بعد إحياء القتيل أو من بعد كل الآيات المارة ، ووصف القلوب بالقسوة بيان عنها أنها لم تعد تقبل موعظة ولا اعتبارا ، واستعمال حرف العطف (ثم) الذي يدل على التعقيب المتراخي يشير إلى أن المفروض أن لا تقسو قلوبهم بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها كإحياء القتيل وغير ذلك من الآيات المارة. (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً.) أي : فهي في قسوتها كالحجارة وأشد قسوة ، أو أن بعضها كالحجارة قسوة وبعضها أشد قسوة من الحجارة أي أن منهم من هو هكذا ومنهم من هو هكذا. (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) هذا بيان لزيادة قسوة قلوبهم على الحجارة ، يعني أن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير ، ومنها ما ينشق انشقاقا بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضا ، وقلوبهم لا تندى ولا تنبض بقطرة خير ، ومن الحجارة ما يتردى من أعلى الجبل من خشية الله وقلوبهم لا تخشى. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) هذا تهديد ووعيد وفيه إشارة إلى أن قسوة القلب ينتج عنها أعمال سيئة وأن الله لا يغفل عن عمل.

فوائد :

١ ـ قالوا في خشية الحجارة وترديها ، إنه مجاز في انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع على ما يريد فيها ، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به.

وقالوا المراد بها الحقيقة : على معنى أنه يخلق فيها الحياة والتمييز وليس شرط خلق الحياة والتمييز في الجسم أن يكون على بنية مخصوصة عند أهل السنة ، وعلى هذا قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ..) (سورة الحشر) ومنه قوله عليه‌السلام في الحديث الصحيح عن أحد : «هذا جبل يحبنا ونحبه» ومنه حنين الجذع المتواتر ، ومنه ما في صحيح مسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن».

١٦٠