الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

الكثيرون أن يهجموا على الحديث في كل شىء دون أن يكون عندهم علم فيه ، وإنما هي الظنون أو الأوهام.

(د) يلاحظ من قصة آدم أن استعداد الإنسان للعلم هو سر استخلافه (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ..) وفي عصرنا تبينت لنا آفاق هذا السر كثيرا حيث نرى ما استطاع الإنسان أن يكتشفه من أسرار هذا الكون ، ولكن للأسف فإن الإنسان سخر هذا من أجل التدبير لسفك الدماء وإفساد الأرض ، وكل ذلك بسبب غياب المسلمين عن حكم هذا العالم بكلمة الله ، ولكن أليس من المؤسف أن تكون حصة المسلمين منذ قرون في استكشاف هذا الكون ومعرفة أسراره أقل من غيرهم!؟ وكان هذا من عوامل سيطرة الكافرين ، إن على المسلمين أن يعودوا رجال قمة في كل اختصاص كوني.

(ه) يلاحظ من خلال قصة آدم أن الله عزوجل أبرز للملائكة مزية آدم ثم أمرهم بالسجود ، وكانت المزية هي العلم ، وهذا درس كبير في موضوع اختيار القيادات ، وهو شىء كنا نراه في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يري المزية ثم يؤمر كما فعل مع الوفد الذين أمر عليهم رجلا من أحدثهم سنا وليس من أشرفهم لأنه يحفظ سورة البقرة ، إن أهم قضية ينبغي أن تلاحظ في التقديم والتأخير هي العلم في القضية التي من أجلها يكون التقديم والتأخير ، وبمناسبة قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) يقول النسفي : أفادتنا الآية أن علم الأسماء فوق التخلي (أي التفرغ) للعبادة فكيف بعلم الشريعة؟!

(و) وفي قصة آدم من العبر الكثير ، فمن فهمها وأخذ عبرها استقام أمره ، ولذلك أمرنا الله أن نتذكرها فهي قصة البداية التي ينسحب أثرها على الزمان كله ، وهي قصة الفطرة ، ومن عبرها امتحان الإنسان بالشيطان وامتحان الناس بعضهم ببعض ، وهذا يقتضي من الإنسان العاقل أن يحذر لينجح في الامتحان ، ولا نجاح إلا بملازمة الأمر ومجانبة النهي ، ومن عبرها أن الله عزوجل عرف الإنسان فيها على طريق الخلاص من الذنب إذا وقع فيه وذلك بالتوبة. قال ابن عباس ذاكرا ما تم بين آدم وربه بعد الخطيئة قال آدم عليه‌السلام : يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قيل له : بلى. وكتبت علي أن أعمل هذا؟ قيل له : بلى. قال : أرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال : نعم». ومن عبرها أن الكبر بداية الخطأ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» ثم عرف الكبر بأنه «غمط الناس وبطر الحق». ومن

١٢١

عبرها أن امتحان الله رفيق فقد أعطى آدم الجنة ومنعه القليل ، وأباح لنا الكثير النافع ، ومنعنا القليل الضار ، أباح لنا الطعام وحرم علينا لحم الخنزير والميتة والدم ، أباح لنا الشراب وحرم علينا الخمر ، فالعاقل من وقف عند الحدود. ومن عبرها أن الشهوات الحسية والمعنوية باب الخطيئة ، فإن حرص آدم على الخلود وطاعته لشهوة الطعام كانا سبب الخطيئة ، وهذا دأب الإنسان في كل العصور ، فهو إما مغلوب بشهوة العز والمجد والرئاسة ، وإما مغلوب بشهوة الفرج والبطن ، فيسلك في هذا أو ذاك غير طريق الله إلا القليل. نسأل الله أن يجعلنا من أهله وأن يحفظنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

قال فتح الموصلي «كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها».

وقال الشاعر :

يا ناظرا يرنو بعيني راقد

ومشاهدا للأمر غير مشاهد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي

درج الجنان ونيل فوز العابد

أنسيت ربك حين أخرج آدما

منها إلى الدنيا بذنب واحد؟

وقال الرازي : «إن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي».

ويقول صاحب الظلال : «لعلني ألمح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادا ، كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه ، كانت تدريبا له على تلقي الغواية وتذوق العاقبة وتجرع الندامة ومعرفة العدو والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين ، إن قصة الشجرة المحرمة ووسوسة الشيطان باللذة ، ونسيان العهد بالمعصية ، والصحوة من بعد السكرة والندم وطلب المغفرة إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة ، لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلا استعدادا للمعركة الدائبة وموعظة وتحذيرا».

(ز) ومن دروس قصة آدم «أن الخطيئة فردية والتوبة فردية في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض ، ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده ـ كما تقوله نظرية الكنيسة ـ وليس هنالك تكفير لاهوتي كالذي تقول به الكنيسة : إن عيسى عليه‌السلام (ابن الله بزعمهم) قام بصلبه تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم ، كلا ،

١٢٢

خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصية ، والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة ، وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة ، تصور مريح صريح يحمل كل إنسان وزره ، ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط» عن الظلال.

٤ ـ فصول شتى :

فصل في الإسرائيليات :

فيما يتعلق بقصة آدم هناك ثلاثة تأثرات تأثر بها بعض الإسلاميين خلال العصور من الإرث الإسرائيلي ، فأدخلوها في كتبهم ، سواء كانت هذه الكتب كتب تفسير أو كتب تاريخ.

١ ـ أن الجنة التي أهبط منها آدم كانت جنة أرضية. ٢ ـ أن الحية هي التى كانت الواسطة في إدخال إبليس ليوسوس لآدم. ٣ ـ تاريخ الحياة البشرية وقدر الزمن ما بين آدم وبيننا. وهذا يقتضي منا أن نقف وقفة عند الإسرائيليات بشكل عام :

في تحقيق كتبه موريس بوكاي الفرنسي كجزء من دراسة خرجت تحت عنوان : «دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» يذكر كيف أن بحاثة القرن الثامن عشر لاحظوا أن بعض نصوص سفر التكوين ـ وهو السفر الأول فيما يسمي الآن بالتوراة ـ تذكر اسم يهوه ، وبعضها تسميه بألوهيم ، فاستدلوا بذلك على أن سفر التكوين يحتوي نصين جنبا إلى جنب قد أدمج أحدهما بالآخر ، ثم إن إيخهورن لاحظ نفس الملاحظة بالنسبة للأسفار الأربعة الأخرى ، وأن إيخهورن لم يكتف بذلك بل لاحظ أن أحد المصادر ينقسم إلى قسمين أيضا.

ثم يقول موريس بوكاي :

أما بحاثة القرن التاسع عشر فقد كرسوا جهدهم في البحث عن مصادر أكثر دقة وفي (١٨٥٤) كانت هناك أربعة مصادر مقبولة وتسمى بالأسماء التالية : الوثيقة اليهوية ، والوثيقة الألوهيمية وسفر التثنية ، والنص الكهنوتي ، وقد أفلح الباحثون في إعطائها أعمارا :

١ ـ تقع الوثيقة اليهوية في القرن التاسع قبل الميلاد وقد حررت في مملكة الجنوب.

٢ ـ أما الوثيقة الألوهيمية فهي أقرب تاريخيا وقد حررت بإسرائيل.

١٢٣

٣ ـ وأما سفر التثنية فينتمي إلى القرن الثامن قبل الميلاد في رأي أدموند جاكوب. وهناك بحاثة آخرون مثل الأب ديفويرون أنه ينتمي إلى عصر جوزياس (أي القرن السابع قبل الميلاد).

٤ ـ وأما النص الكهنوتي فينتمي إلى عصر النفي أو ما بعد النفي أي القرن السادس قبل الميلاد.

بهذا إذن يمتد تحرير نص أسفار موسى الخمسة على ثلاثة قرون بأقل تقدير ، ولكن المشكلة أكثر تعقدا من هذا ففي (١٩٤١) استطاع أ. لودز أن يميز في الوثيقة اليهوية ثلاثة مصادر وفي الوثيقة الألوهيمية أربعة ، وفي سفر التثنية ستة ، وفي النص الكهنوتي تسعة». وبعد كلام يقول موريس بوكاي :

«وبهذا يتضح تكون كتاب أسفار موسى الخمسة من أقوال موروثة مختلفة جمعها ـ بشكل يقل أو يزيد حذقا ـ محررون وضعوا تارة ما جمعوا جنبا إلى جنب ، وطورا غيروا من شكل هذه الروايات بهدف إيجاد وحدة مركبة تاركين للعين أمورا غير معقولة ، وأخرى متنافرة كان من شأنها أن قادت المحدثين إلى البحث الموضوعي عن المصادر».

والملاحظ أن الرواية الكهنوتية التي كتبت حوالي القرن السادس قبل الميلاد ، هي التي فيها تفصيلات عن ذكر بداية الخلق ، وعن ذكر تاريخ البشرية ، وفيها فكرة أن الله تعب أثناء خلق العالم فاستراح ، وهي قضايا يسهل على الباحث إما ردها مباشرة أو ردها من خلال أدنى عرض لمعارف الإنسان الحديثة.

وقد قام موريس بوكاي في كتابه بامتحان قضيتين مما ذكر في هذه الأسفار ، وهما قضية خلق العالم وقضية عمر الإنسان على ضوء المعارف الحديثة فلاحظ أن عمر العالم بالنسبة لسفر التكوين كان عام (١٩٧٥) ميلادية هو (٥٧٣٦) سنة قمرية بينما التقدير العلمي لتشكل النظام الشمسي هو أربع مليارات ونصف من السنين. كما لاحظ أن تسلسل ظهور الأشياء لا يتفق مع أي دراسة علمية لظهورها على أرض الواقع.

وتاريخ الإنسان كما يذكره سفر التكوين هو نفس الشىء بالنسبة لتاريخ خلق العالم فهو لا يعدو ستة آلاف سنة قمرية بينما نجد المعطيات العلمية تقول : «يمكن أن نؤكد اليوم وجود أطلال لإنسانية مفكرة وعاملة ويحسب قدمها بوحدات تتكون من عشرات من ألوف السنين».

١٢٤

ويقول موريس بوكاي : «هناك إذن استحالة اتفاق واضحة بين ما يمكن استنتاجه من المعطيات الحسابية لسفر التكوين الخاصة بظهور الإنسان على الأرض ، وبين أكثر المعارف تأسسا في عصرنا».

أقول : وقد مر معنا في مقدمة هذا التفسير كيف أن الدراسات الأثرية في ما بين الرافدين ، أثبتت أن إحدى الأسر التي حكمت بعض المناطق بعد الطوفان حكمت أربعا وعشرين ألفا من السنين.

وأن كل هذه المعاني تجعلنا حذرين من أن نحمل الإسلام معاني ، هي جزء من الإرث الكتابي السابق. إن موريس بوكاي في دراسته التي أشرنا إليها قال الكثير في نقد العهد القديم والجديد ، ولكنه بعد ذلك أكد كثيرا أنه لم يحدث قط أن النص القرآني عارضه أي اكتشاف علمي أو مقولة علمية.

إن علينا أن نكون دقيقين جدا ، ونحن ننقل عن أهل الكتاب ، أو نقرأ لهم حتى لا نحمل إسلامنا ما لا يحتمله.

إذا اتضح هذا ، فإنه بالنسبة لقصة آدم فنحن لا نقبل الرواية الإسرائيلية في خلق الكون أو في عمر الإنسان ، لأن ذلك يتنافى مع دراسات علمية صحيحة وقد رفض أهل السنة والجماعة فكرة أن الجنة التي هبط منها آدم أرضية ، ولم يذهب إلى ذلك ابتداء إلا بعض المعتزلة ، وبالنسبة لموضوع توسل إبليس بالحية للدخول إلى الجنة بعد أن طرد منها من أجل أن يوسوس لآدم ، فهذا موضوع لا نطالب بالإيمان به ، ولا علينا أن نكفر به ولكن حتى في مثل هذه المواضيع فإن ما يرافق عرض أصلها من تعبيرات وحكايات ، يرافقه الكثير من الخطأ وتفوته دقة الأداء النبوي بحيث يعطي صورة مشوهة عن الوحي ، وهذا وحده شىء خطير.

فصل في الشيطان :

كتب عن الشيطان ملايين الصفحات خلال العصور ، وممن عرض لنظرات الأمم والشعوب في هذا الموضوع (عباس محمود العقاد) في كتابه (إبليس). وهو في الكتاب يجلو الصورة المشرقة لهذا الدين في هذا الشأن ، شأن الإسلام في كل شىء ، إلا أن لنا ملاحظة على كل هذا النوع من الدراسات التي تسمى دراسات مقارنة ، إذ في كثير من الأحيان يخرج الإنسان من مثل هذه الدراسات بانطباع : أن الإسلام هو وجهة

١٢٥

نظر بين وجهات نظر أخرى ، وتأثير ذلك على تصورات المسلم وعلى قضية الإيمان سىء جدا.

إن النص القرآني الذي جعله الله ـ عزوجل ـ معجزا ، لكي يأخذ الإنسان منه الحكم القطعي في كل شىء ، وليكون ميزانا يزن به الخطأ والصواب ، لا يصح أن يعرض العرض الذي يوحي وكأنه وجهة نظر رفيعة فقط ، هذه ملاحظة ينبغي أن نضعها في حسابنا في أي دراسة مقارنة نفعلها ، وأن نستقبل كذلك على ضوئها كل دراسة مقارنة.

في قضية الشيطان كتب الكثير وذهبت البشرية في هذا الشأن مذاهب شتى ، وكان للتصورات الخاطئة في هذا الشأن التأثيرات الكثيرة ، إما على تفكير الناس أو على طرائق حياتهم ، أو على نمو طاقاتهم ، أو على تفجيرها ، والإسلام لا يتحمل شيئا من ذلك ، لأن الإسلام وضع هذا الموضوع في إطاره الحق والصحيح ، شأن الإسلام في كل شىء. ولكن بلا شك فإنه قد حدث خطأ في بعض الحالات ، وهو أن بعض الكاتبين خلال العصور ذكروا ما هب ودب في هذه الشؤون ، كما أن العلماء لم يتابعوا تصحيح الكثير من الأوهام المتضخمة في بعض البيئات حول قضايا الجن والشياطين ، مع أن هذا الموضوع غيبي ، وكل المواضيع الغيبية لا يصح أن يتلقى المسلم في شأنها إلا عن المعصوم ، أو بشكل تقوم فيه حجة شرعية معتبرة. وقد حدث تفريط ما في هذه الشؤون ، ومن جملة التفريط تفريط له صلة بموضوع الجن والشياطين.

وفي عصرنا حدثت حملات عنيفة على كل ما هو غيبي ، واتهمت العقلية التي تؤمن بالغيب حتى ولو كان هذا الغيب هو (الله) جل جلاله ، اتهمت هذه العقلية بأنها عقلية غير علمية ، بل اتهمت بأنها عقلية غبية ..!! دون تفريق بين العقلية الإسلامية التي لا تؤمن بغيب إلا إذا قام عليه دليل العقل أو دليل الشرع المعصوم من الخطأ ، وبين العقلية الغيبية الأخرى التي لا تستند في إيمانها الغيبي على دليل. ولم تكن هذه الحملة مستغربة من أصحابها الماديين الذين لا يؤمنون إلا بالحس ، فذلك مرض العصور ولم تخل البشرية من أصحابه منذ القديم ، ولكن الغريب أن يتجاوب مع هذه الحملة بعض من تصدروا لتوجيه المسلمين ، فحاولوا أن يؤولوا النصوص لصالح المادية ، ومن جملة ذلك النصوص التي لها صلة بالجن والشياطين فقالوا : بأن الشيطان رمز على الشر وعلى نوازع الشر عند الإنسان ، وإذن فهو ليس ذاتا ذات صفات.

١٢٦

ترى إذا كانت النصوص الواردة في شأن الجن والشياطين تؤول كلها على أنها ليست من باب الحقائق وإنما هي رموز لمعان فأي حقيقة إذن لا تؤول؟ إنه الكفر بالنصوص وليس التأويل لها.

إن الشيطان ذات من الذوات الغيبية نؤمن بوجودها ، كما نؤمن بكل غيب أخبرتنا عنه النصوص ، وموقفنا منه هو الموقف الذي أمرتنا به النصوص ، والقلب المؤمن الحي يميز بين نوعين من الإلقاءات يحسها في قلبه : إلقاء نفسه وهواجسها ، وإلقاء الشيطان ووساوسه.

إن المسلم الذي يعلم أن هذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، يعلم أن ما حدثه عنه القرآن هو الحق ، ويحاول دائما أن يبحث عن الفهم الصحيح لكتاب الله ولذلك قواعده التي لا تخطىء.

ولقد حاول بعض الكتاب في عصرنا أن يعطي الشيطان صفة البطولة في مواقفه النضالية ضد آدم ، وفي الاعتراض على الله ، وذلك من باب قوله تعالى في سورة الأنعام : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.) وحاول بعضهم أن يشلك من خلال : أن موقف إبليس كان بإرادة الله ، وذلك من باب التشويش لأن كون الأشياء كلها بإرادة الله لا ينفي اختيار المكلف ، ولقد كان إبليس مختارا في موقفه فاستحق العقوبة ، وموضوع اختيار المكلفين ، وأن ذلك وغيره بإرادة الله ، موضوع سيمر بنا فلا نقف عنده هنا ، إذ إن خطتنا في هذا التفسير ألا نقف عند كل مقام إلا بالقدر الذي يقتضيه المقام ، وموضوع الجن والشياطين سيمر معنا كثيرا فلنقتصر على هذا القدر فيه.

فصل في رفض الداروينية كتعليل لنشأة البشر :

إن نظرية داروين أصبحت منقوضة بأكثر من علم ، إن دراسة السائل المغذي للكائن الحي ليست لصالح نظرية داروين ، وإن حسابا رياضيا لتعميم الأجناس على ضوء نظرية داروين ليس لصالحها ، وإن نظام الوراثة وخصائصها وقوانينها ليس لصالح هذه النظرية ، وإن دراسة المستحاثات ليست لصالح هذه النظرية ، فالنظرية أصبحت منقوضة من جوانب شتى ، وحتى لو لم تكن منقوضة فإن قصارى ما يمكن أن تقدمه مجموعة ملاحظات ، وليس شرطا أن يكون لهذه الملاحظات تعليل وحيد.

١٢٧

إن الذين يفرون من الإيمان بالله ومن أنه هو الخالق ، يفرون إلى نظرية داروين ، ولكن إن استطاعوا أن يوجدوا نظرية تغنيهم في زعمهم عن أن الله هو خالق الحياة ، فقوانين الكون تدل على أن الله هو خالق الكون كله ، وبالتالي فلا ينفعهم الفرار من خلال نظرية داروين عن أن الله هو الخالق.

إن الله عزوجل في القرآن يقول : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) فهذا أمر من الله عزوجل لنا في أن ندرس خلق الكون وخلق الحياة ومن ثم فنحن المسلمين مطالبون بالدراسة المستطاعة ، وما توصلنا إليه الدراسة عن خلق الكون أو الحياة فنحن لا نتحرج منه بل نفهم على ضوئه النصوص إن كان من باب الحقائق العلمية.

والله عزوجل في آية أخرى في نفس السورة (سورة العنكبوت) يقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فأن نرى خلقا ثم خلقا ، فذلك دليل على قدرة الله ، أما أن يفهم فاهم أن ذلك دليل على استغناء الأشياء عن الله ، فذلك هو العمى الكامل في البصيرة.

لقد رأى الإنسان في عملية البحث عن مسيرة الحياة هياكل لمخلوقات تشبه إنساننا الحالي ، ووجودها أقدم من وجود إنساننا الحالي ، فهل هذا وحده كاف للقول بأن إنساننا الحالي قد تطور عن تلك؟ يقول الله عزوجل : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ.) سورة الكهف.

إن الله ـ عزوجل ـ في كتابه المعجز الذي خلق الإنسان يقول لنا : أنتم من ذرية آدم (يا بَنِي آدَمَ.) ويقول لنا : إن آدم : (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ،) أبعد هذا الوضوح وضوح في أصل نشأة آدم.

أما إذا كان لا بد من تعليل لوجود هذه الهياكل الشبيهة بالإنسان فهذه مجموعة تعليلات :

في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أكثر من اتجاه في التفسير : الاتجاه الأقوى أنه خليفة عن الله ، ولكن هناك اتجاهات أخرى ، فهناك من يقول بأنه خليفة عن خلق آخرين هم الجن.

ذكر ابن كثير عن ابن جرير عن ابن عباس قال : «إن أول من سكن الأرض الجن

١٢٨

فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضا فبعث الله إليهم إبليس فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال».

وهناك اتجاه نقله صاحب السيرة الحلبية عن بعض الصوفية أن أبانا آدم عليه‌السلام ليس هو أول آدم على الأرض بل خلق بشر ، ثم أفناهم الله ثم خلق بشر ، ثم أفناهم الله وهكذا مرات ومرات ثم خلق الله عزوجل أبانا آدم ، وعلى ذريته تقوم القيامة. فعلى هذا الاتجاه فنحن نخلف بشرا آخرين ، وقد يستأنس لذلك بقولة الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) على رأي من قال بأنهم قالوا ذلك لتجربة سابقة يعرفونها.

في الحديث الصحيح «إن الله خلق آدم على صورته» وبعض الشراح قالوا في تفسير هذا الحديث : أي على صورة الإنسان المضروب الذي بسببه قيل الحديث ، وعلى هذا الاتجاه فحتما إن آدم وذريته لهم سمت خاص بهم ، مع ملاحظة أن هناك نصوصا تذكر : أنه عندما خلق آدم في الجنة كان طويلا جدا وعلى هذا ، فالصورة واحدة ، والضخامة مختلفة ، وقد ذكر الدكتور حسن زينو المختص بالجيولوجيا في كتابه «التطور والإنسان» كيف أنه عثر على جثة ما يسمى بالإنسان العملاق ، وكيف أن بعض الهياكل التي عثر عليها كان ضرس الواحد منهم يعدل ستة أضعاف ضرس إنساننا الحالي ، فهو إذن يعدل ستة أضعاف إنساننا الحالي.

إن هذا الاكتشاف وحده يقلب كل التعليلات المادية رأسا على عقب. إن آدم خلق خلقا مباشرا بقدرة الله ، أما وجود أنواع من المخلوقات تشبه إنساننا الحالي فلا يعني هذا أن ذلك قد تحدر عنه آدم ، وإنما المسألة على الشكل التالي إما أن نعتبر تلك الهياكل هياكل بشر ، خلقوا قبلنا ثم انتهوا ، وإما أن نعتبرها هياكل لمخلوقات غير بشرية مندثرة.

أما النصوص فقطعية في أن آدم خلق مباشرة بيد الله ، وأما العلم فإنه يرفض رفضا قاطعا نظرية داروين ، ولتراجع ظاهرة الحياة في كتابنا «الله جل جلاله» ثم إن علينا أن نذكر نقطة مهمة جدا وهي أن نصوص الكتاب والسنة لا تحدد تاريخا لوجود آدم عليه الصلاة والسلام.

فصل في السجود لآدم وبعض دروسه :

ـ بمناسبة ذكر أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ، بحث بعض المفسرين هل الملائكة أفضل من البشر أو العكس؟ ولا خلاف بينهم أن الملائكة أفضل من فساق أهل

١٢٩

الإيمان ، فضلا عن الكافرين ، فالخلاف فيما سوى ذلك ، والذي استقر عليه بعضهم أن رسل البشر أفضل من رسل الملائكة ، ورسل الملائكة أفضل من أولياء المسلمين ، وأولياء الأمة الإسلامية أفضل من عامة الملائكة بعد الرسل.

ـ وبمناسبة ذكر السجود لآدم نحب أن نذكر بأن المسلم يسجد لجهة القبلة وهذه فريضة عليه ، ولكنه لو سجد لصنم فإنه يكفر ، ومن هنا نعلم أن قضية الكفر والإيمان قضية لها ضوابطها ولها أحكامها ، والفتوى الصحيحة المبصرة من أهلها ، هي التي تعطينا الجواب على كثير من الأمور التي تحتمل كفرا أو إيمانا. وقد اختلط الأمر في عصرنا كثيرا حتى أصبحت المعلومات من الدين بالضرورة ، محل نسيان أو جهل ، وهذا يقتضي من العلماء بيانا ، والعلماء مختلفون هل يكفر الإنسان وهو على الأرض الإسلامية ، إذا أنكر معلوما من الدين بالضرورة ، قبل البيان أو بعده؟ هناك اتجاهان للعلماء في ذلك ، ولكثرة الجهل في عصرنا ، ولكثرة التضليل ، فإننا نرجح الكفر إذا أصر المنكر بعد البيان ، على أن الأمر يحتاج إلى دقة فقهية ومعرفة صحيحة بالأمور المعلومة من الدين بالضرورة.

فصل في منصب الخلافة وضرورة إحيائه :

بمناسبة قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) تحدث القرطبي في تفسيره عن منصب الخلافة في صفحات طويلة مفيدة ، فليراجع كلامه ، وننقل هنا نبذا من كلامه ثم نعلق تعليقا موجزا على هذا الموضوع :

يقول القرطبي :

ـ «هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم «حيث كان عن الشريعة أصم».

ـ في شرائط الإمام وهي أحد عشر :

الأول : أن يكون من صميم قريش ... وقد اختلف في هذا.

الثاني : أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث وهذا متفق عليه.

١٣٠

الثالث : أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور ، وحماية البيضة (أي بيضة الإسلام أي عزه وجماعته) وردع الأمة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم.

الرابع : أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ، ولا فزع في ضرب الرقاب ولا قطع الأبشار.

الخامس : أن يكون حرا ولا خفاء باشتراط حرية الإمام وإسلامه وهو السادس.

السابع : أن يكون ذكرا سليم الأعضاء وهو الثامن ، وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماما وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما يجوز شهادتها فيه.

التاسع والعاشر : أن يكون بالغا عاقلا ولا خلاف في ذلك.

الحادي عشر : أن يكون عدلا لأنه لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق».

ـ «يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الأمة» ـ «الإمام إذا نصب ثم فسق بعد إبرام العقد فقال الجمهور : إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم .. وقال آخرون : لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شىء من الشريعة». «ويجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصا يؤثر في الإمامة» «ولما اتفق على أن الوكيل والحاكم وجميع من ناب عن غيره في شىء له أن يعزل نفسه ، كذلك الإمام يجب أن يكون مثله».

أقول : إن الناس في أمر إقامة فريضة الخلافة مقصرون ، وهم بذلك آثمون ، ولا شك أن الأمر في عصرنا معقد ولكن علينا أن نسير في الطريق المؤدي لإقامة الخلافة فمن سار في الطريق رفع الإثم عن نفسه ، وفي سلسلتنا في البناء : مباحث لها علاقة بمثل هذا فلتراجع.

فصل في تصحيح أخطاء :

ـ كثيرا ما يحدث أن يرى بعض المتتبعين للحفريات ظاهرة ما ، هي في الأصل حالة شاذة ، فيعتبروها أصلا يقيسون عليه ، وكثيرا ما يحدث أن بعض الكاتبين ينطلقون بانين على فكرة ما ، هي خاطئة في الأصل ، فيضعون النظرية ، والنظرية كلها

١٣١

مبنية على أصل فاسد ، نجد تطبيقات هذه المعاني في أكثر ما كتبه الكاتبون عن نشأة الإنسان وتاريخه القديم ، وعن نشأة اللغات. وقصة آدم تصحح لنا هذه المفاهيم كلها. فقد عرفنا من خلال الآيات كيف أن إنساننا الحالي كان يعلم ، وكان يتكلم من بداية خلقه ، فما يقوله بعضهم من كون الإنسان لم يضل إلى لغة الخطاب إلا متأخرا فخطأ ، وما يقوله بعضهم : عن فوضى جنسية في الابتداء فخطأ ، وما يقوله بعضهم : عن جهل مطبق في التعامل مع الأشياء فخطأ ، قد تكون هناك مراحل لاحقة أو ظواهر شاذة ، لكن آدم عليه‌السلام ، نزل إلى الأرض ، وهو مزود باللازم الأول للاستخلاف : العلم والبيان.

ـ ختمت قصة ادم في القاعدة الكلية (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.) هؤلاء أهل النار الذين هم أهلها ولكن قد يدخل النار عصاة المؤمنين ، فهؤلاء لهم وضع خاص.

أخرج الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«أما أهل النار الذين هم أهلها ، فلا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن أقواما أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة».

ـ يهول بعض الناس عندما يعلم أن أكثرية البشرية إلى النار ، ولا يهوله أن تكفر أكثرية البشرية بالله وتحاربه وتحارب أولياءه وشريعته ، إن الله يخلق الشجرة العظيمة ذات الثمر الكثير الطيب ، الشجرة كلها للنار في المآل وفي الثمر الخير ، إن شجرة البشرية خيرها في ثمارها ، وثمارها أهل الإيمان فلا ينبغي أن يغتر أحد بكثرة المفسدين ، وكثرة سفاكي الدماء ظلما ، وعليه أن يحقق حكمة الله في خلقه بالقيام بعبادته وشكره وذكره واتباع هديه باتباع كتابه.

٥ ـ كلمة أخيرة في المقطع وسياقه :

لعل القارىء من خلال ما مر قد ارتبطت لديه قصة آدم بالآيات التي قبلها. وأدرك سر طلب الله منا أن نتذكرها بعد ما عرفنا على أصناف الناس ، وبعدما عرفنا على الطريق إليه ، فجاءت قصة آدم بعد ذلك لتقول : إنكم إن كنتم من المتقين المهتدين

١٣٢

بكتابي ، فإنكم تكونون منسجمين مع القاعدة الكلية التي وضعتها لكم : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ،) وإن لم تكونوا كذلك تكونوا قد وقعتم فيما تهددكم الله به : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ،) ومع أننا قلنا ما فيه الكفاية في تبيان الصلة بين قصة آدم وما قبلها فإننا نؤثر أن نزيد الأمر وضوحا بذكر بعض الملاحظات :

١ ـ جاءنا في المقطع الأول أمر ونهي ، وجاءت قصة آدم لتبين لنا عاقبة الأمر والنهي ، وتدلنا على الطريق الذي ينبغي أن نسلكه إذا واقعنا المعصية.

٢ ـ عرفنا في المقطع الأول أن سر الضلال هو نقض العهود ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض ، وعلمتنا قصة آدم أن الإفساد في الأرض يتنافى مع حكمة خلقنا ، كما عرفتنا أن الأسباب الأولى للضلال تكمن في الكبر والحسد والشهوة والحرص.

٣ ـ عرفنا في المقطع الأول أن الأرض قد خلقت لنا ، وعرفنا في المقطع الثاني بعض أسرار استخلافنا في الأرض.

٤ ـ وفي تذكير الله عزوجل إيانا بكمال النعمة علينا ، إذ خلقنا لنكون خلفاء له في الأرض بإعطائنا كمال الاستعداد للتعلم الذي نستطيع به أن نقوم بمقتضيات الخلافة ، تهييج لنا على الطاعة فيما سبق ذكره وإبعاد لنا عن المعاصي التي سبق ذكرها.

٥ ـ وإذا كانت مقدمة سورة البقرة قد ذكرت متقين وكافرين. فقصة آدم عمقت لدينا قضية التقوى ، وأفهمتنا قضية الكفر.

٦ ـ وكان ذلك كله تعميقا لقضية السير في الصراط المستقيم وتنكب صراط المغضوب عليهم والضالين.

وصلات ذلك كله بما مر من قبل لا تخفى.

فلننتقل إلى المقطع الثالث من مقاطع القسم الأول من أقسام سورة البقرة.

١٣٣

المقطع الثالث من القسم الأول من أقسام سورة البقرة :

يمتد هذا المقطع من الآية (٤٠) إلى نهاية الآية (١٢٣) يبدأ بقوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.)

وينتهي بقوله تعالى :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ، وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.)

يأتي هذا المقطع بعد قصة آدم التي انتهت بقوله تعالى :

(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فكأن المقطع الجديد بعد هذه الخاتمة يقص علينا ـ كنموذج ـ قصة أمة أنزل عليها هدى وكيف كان موقفها من هذا الهدى ، وما هي الدروس التي ينبغي أن تأخذها أمتنا من ذلك.

إن هناك أمة قبلنا قد أنزل عليها هدى ، وبعث فيها رسل ، وكان مما أنزل عليها كتاب سماوي ثم كتاب آخر ، فهي على علم من الله ، وقد أخذ عليها عهودا وهي تعرف عن موضوع العهود والهدى والرسل ما لا يعرفه غيرها. فالمفروض أن تستجيب هذه الأمة لهدى الله الأخير ولكتابه الأخير. ولرسوله الخاتم ، خاصة وعندهم علم في كتبهم عنه ، ولهذا يتوجه الخطاب في السورة إليهم بعد أن خوطب الناس جميعا.

وإذ كانوا أهل الكتاب الأول ـ وللناس ثقة بعلمهم ، وقد يكون موقفهم المتعنت المتكبر من الهدى الجديد سببا في توقف بعض الناس ـ فقد اقتضى ذلك الكلام عن أخلاقهم ومواقفهم من رسلهم ومن الهدى الذي أنزل عليهم ـ لكيلا تستغرب مواقفهم المتعنتة الجديدة.

وإذ كان الهدى الجديد فيه معنى انتزاع الإمامة والقدوة من أمة ، إلى أمة فإن على

١٣٤

الأمة الجديدة أن تعرف ذلك فتخرج عن أي تبعية لغيرها في غير الحق.

وإذا كانت تلك الأمة لم تقم بحق الهدى الذي أنزل إليها حق القيام ، فإن هذا يسجل كدروس لكيلا تقع هذه الأمة فيما وقع فيه غيرها. وإذ كانت تلك الأمة سيكون لها مناقشات ومواقف من أمتنا فإن ذلك يقتضي أن توجه هذه الأمة لتعرف ما ينبغي فعله وقوله في مواجهة هذه المناقشات والمواقف.

ومن خلال ذلك كله يتضح الصراط المستقيم الذي ينبغي أن نسير فيه ، ويتضح صراط المغضوب عليهم والضالين لنتنكب السير فيه.

هذا كله بعض ما في هذا المقطع ، ولكن العرض كان فيه من صور الإعجاز ما يذهل : لقد دعا المقطع الأول في هذا القسم : الناس جميعا للسير في طريق التقوى بسلوك طريق العبادة والتوحيد ، ولكن إذا كان كل الناس تكفيهم توجيهات سريعة للوصول إلى حقيقة التقوى ، فإن أهل الكتاب الأول قد تعقدت أنفسهم ، فلا يكفيهم إلا أن يلاحظوا مجموعة توجيهات ليستطيعوا الانسجام والتفاعل والتسليم مع هذا الدين ولهذا الدين ، ومن ثم جاء المقطع متوجها بمجموعة أوامر ونواه لبني إسرائيل ، ثم أعقبه ما هو بمثابة التعليل لأسباب المطالبة بهذه الأوامر والنواهي ، وقد أعطيت هذه الأمة خلال ذلك كل الدروس اللازمة لإيجاد المناعة عندها ؛ إن في عدم الوقوع في ما وقع فيه هؤلاء ، أو في التحذير من تأثيراتهم السيئة. وخلال ذلك تتعمق كل المعاني التي مرت من قبل.

وهكذا نجد أن المقطع في محله من السورة يحقق مقاصد شتى ، وإذ كان كل كلام عنه قبل عرضه أقل مما ينبغي فلنبدأ العرض :

يتألف المقطع من مدخل وفصلين ، وكل فصل يتألف من فقرات ولطول المقطع فإننا سنعرض أجزاءه جزءا فجزءا.

مدخل إلى المقطع :

يمتد مدخل المقطع من الآية (٤٠) إلى نهاية الآية (٤٦) وهذا هو :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ

١٣٥

وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤))

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

التفسير :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) إسرائيل هو : يعقوب عليه‌السلام وذلك لقب له ، وذكر النعمة القيام بشكرها ، وطاعة الله مانحها ، والنعمة التي أمروا بذكرها هي : ما أنعم الله به على آبائهم من الإنجاء من فرعون وتفجير الحجر وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب وغير ذلك مما سنراه. (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) الوفاء بالعهد أداؤه تاما ، وعهد الله عليهم هو : ما أخذه عليهم مما قص الله علينا في القرآن ، والذي في جملته أن يتابعوا رسله وأن ينصروهم ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرسل ، وقد بشرت به التوراة فعليهم أن يؤمنوا ويتابعوا وينصروا ، فإن فعلوا أعطاهم الله عزوجل ما وعدهم به من تكفير السيئات ودخول الجنات. (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي فاخشون ولا تخشوا أحدا سواي أن أنزل بكم ما أنزلت بمن قبلكم من آبائكم من النقمات ، ولعذاب الآخرة أكبر .. (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ.) يعني به القرآن الذي أنزل علي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشتملا على الحق من الله تعالى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل في أصليهما السماويين قبل التحريف والتبديل. (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) قال ابن عباس : (أي) «ولا تكونوا أول كافر به وعندكم من العلم ما ليس عند غيركم» ، وهذا تعريض : بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ، والضمير في (به) يعود إلى القرآن (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية ، فالثمن

١٣٦

القليل هو الدنيا بحذافيرها ، فإنها قليلة بجنب رضوان الله ، ومن الدنيا الرئاسة والمال والجاه. (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) أي فخافون الخوف الذي يوصلكم إلى فعل الأمر ، وترك النهي. قال طلق بن حبيب : «التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله».

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لبس الحق بالباطل : خلطه ، وكتمان الحق : عدم إظهاره ، نهاهم عن الشيئين معا : ألا يلبسوا الحق بالباطل فيموهوه به ، وألا يكتموا الحق في حال علمهم أنهم لابسون وكاتمون ، لأن ذلك أقبح إذ ربما عذر مرتكب القبيح إذا كان جاهلا قال قتادة : (أي) «لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله هو الإسلام». وقال ابن عباس : «لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم» أقول : وكلام قتادة وابن عباس مما يدخل في النهي ، والنهي أعم. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمرهم أن يصلوا صلاة المسلمين ، وأن يدفعوا زكاة أموالهم كما يفعل المسلمون ، وأن تكون صلاتهم مع المسلمين ليكونوا معهم ومنهم. وقد استدل كثير من العلماء بقوله تعالى (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) على وجوب صلاة الجماعة.

أمرهم فيما مر أن يذكروا نعمته ، وأن يوفوا بعهده ، وأن يرهبوه ، وأن يكونوا أول المؤمنين بالإسلام ، وألا يعتاضوا عن الإسلام بالدنيا ، وأن يتقوا الله ، وألا يخلطوا الحق بالباطل ، وألا يكتموا الحق مع علمهم به ، وأن يقيموا الصلاة وأن يؤتوا الزكاة ، وأن يصلوا مع المسلمين في جماعاتهم ، فإن فعلوا هذا كانوا أبرارا على الحقيقة وهم يزعمون أنهم دعاة إلى البر وليس البر إلا هذا ، فالبر إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والبر صلاة وزكاة ووفاء بالعهد ... كما سنرى في آية البر ، ومن ثم فإن الله عزوجل بعد هذه الأوامر والنواهي خاطبهم موبخا ومعجبا من حالهم :

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) يأمرون الناس بطاعة الله وتقواه والالتزام بكتابه وهداه والوفاء بعهوده ، وهذا القرآن هو كتابه ومحمد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو كانوا صادقين في الدعوة إلى الله لآمنوا بما أنزل وبمن أنزل عليه والتزموا. ولكنهم كاذبون في دعواهم ودعوتهم ولذلك فإنهم بعيدون عن البر لأن الصادق في الدعوة يوجه الدعوة إلى نفسه أولا ، وهؤلاء يوجهون الدعوة إلى

١٣٧

غيرهم وينسون أنفسهم مع أنهم يتلون الكتاب الذي : هو التوراة هنا ، وهي تأمرهم بالبر الحقيقي وتعظهم. فصار معنى الآية : كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب ـ وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير ـ أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بما تأمرون به الناس ، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب ، وتعرفون ما فيه على من قصر في أوامر الله. أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه؟ أفلا تفطنون إلى ما أنتم صانعون بأنفسكم فتنتبهوا من رقدتكم وتبصروا من عمايتكم؟ ألا عقول لكم توصلكم إلى هذا؟!!

وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له ، بل على تركهم له ، فإن الأمر بالمعروف واجب على العالم ، ولكن الواجب الأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ، ولا يتخلف عنهم فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر ، فالصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله ، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه مع إثمه بالتفريط وقصوره ونقصانه ، فالآية إذن تلوم على الجانب الثاني ولا تنكر فعل الأول ، ومن ثم قال سعيد بن جبير : «لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شىء ما أمر أحد بمعروف ، ولا نهى عن منكر» قال مالك : (وصدق من ذا الذي ليس فيه شىء؟) لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة ، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم ، ولهذا جاءت الأحاديث والآثار في الوعيد على ذلك :

أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار ، فيقولون يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف ، وتنهانا عن المنكر؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه» هذه رواية أحمد.

وأخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء». وقد ورد في بعض الآثار : فإنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ليس من يعلم كمن لا يعلم.

وأخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار قال : قلت من هؤلاء؟ قالوا خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب ، أفلا يعقلون؟».

١٣٨

وبعد أن امرهم الله عزوجل ونهاهم ووبخهم دلهم على شىء إن يفعلوه سهل عليهم تنفيذ كل ما سبق قال تعالى :

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ)

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) على حوائجكم إلى الله ، وعلى البلايا والنوائب ، وعلى القيام بأمر الله كله ، وعلى ما يترتب من القيام بالأوامر السابقة من وفاء بالعهود والجهر بالحق والأمر بالبر والالتزام به ، وعلى إقامة ذلك أصلا استعينوا على ذلك كله بالجمع بين الصبر والصلاة. وفسر الصبر هنا بالصوم لقوله عليه‌السلام «الصوم نصف الصبر». ولتسمية شهر رمضان بشهر الصبر. وفسر الصبر بالاسترجاع لقول الله تعالى (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.) وفسرت الصلاة في الآية بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي للصلاة ، وفسرت بالصلاة المعروفة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. (وَإِنَّها) أي الصلاة على القول الراجح أو الاستعانة (لَكَبِيرَةٌ) أي ثقيلة شاقة. (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) الخشوع هو : الإخبات لله والتطامن ، أو هو الخوف والتواضع والخضوع الذي هو اللين والانقياد وقد عرفنا الله عزوجل من هو الخاشع بقوله :

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ.) والظن هنا : اليقين ، ولقاء الله : فسر بلقاء جزائه ، وفسر برؤيته ومعاينته بلا كيف ، وفسر الرجوع : بالعود إليه في الآخرة ، وفسر بعود الأمور كلها إلى مشيئته وحكمه. فالخاشع : هو من أيقن بلقاء الجزاء في الآخرة فهذا يعمل على حسب ذلك ، وأما من لم يوقن بالجزاء ، ولم يرج الثواب فإن التكليف عليه شاق ، والصلاة التي هي أولى العبادات تكون عليه مشقة خالصة.

قال ابن كثير : «والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص وإنما هي عامة لهم ولغيرهم» أقول : إنه ما من آية في القرآن إلا وهي موجهة للمؤمنين بشكل من الأشكال لأنهم هم المستفيدون وحدهم من كتاب الله. وعلى هذا فما مر وما يمر لا بد أن نعرف فيه هذه القاعدة كي نأخذ حظنا من كل آية ، فإذ يقص الله علينا شيئا حدث لبني إسرائيل فلكي نأخذ منه العبرة فنتجنب أو نستبشر أو نتعظ أو نعمل أو نتوقع أو نتعلم ، وهكذا الشأن في كل آية.

١٣٩

وفي تفسير قوله تعالى (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) قال ابن جرير : «العرب قد تسمي اليقين ظنا والشك ظنا ، والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر» وقد استشهد على ذلك ببعض الأبيات ليخلص إلى أن الظن في الآية معناه اليقين.

وقال مجاهد : «كل ظن في القرآن يقين». وقال : «كل ظن في القرآن فهو علم». ونحن مطالبون بأنواع من الصبر : الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي والصبر على الابتلاءات. وقد عرف سعيد بن جبير الصبر على المصيبة فقال : «الصبر اعتراف العبد لله بما أصيب به فيه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر».

والصلاة الكاملة : هي التي يراعي العبد فيها ما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية ، ومراعاة الآداب والخشوع واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات والأرض.

أخرج الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر صلى وفي رواية لغير أحمد : إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وقال حذيفة : رجعت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي وكان إذا حزبه أمر صلى». وقال علي رضي الله عنه : «لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح». وروى ابن جرير : أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر ، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ.)

كلمة في هذه الآيات وسياقها :

ـ في هذا المدخل للمقطع الثالث : خمسة عشر أمرا ونهيا ، أو ما له حكم الأمر أو النهي وهي بمجموعها العلاج الكامل للنفسية الكتابية حتى يصلح أمرها على مقتضى دين الله في صيغته النهائية والخاتمة ؛ الإسلام المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالكتابي لا ينصهر بهذا الدين إلا إذا لاحظ مجموع هذا وبقدر انصهاره بمجموع هذه الأوامر ، فإنه يكون أكثر صدقا.

١٤٠