الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

١
٢

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الناشر

الحمد لله ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما ، وملء ما شئت ـ يا رب ـ من شيء بعد. والصلاة والسلام على حبيبنا محمد وآله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد ...

إنني وأنا أكتب هذه الكلمات تقديما لهذا التفسير الجليل ، أزداد إيمانا على إيمان ، وثقة على ثقة ، بقول الصادق المصدوق ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «... واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ...». ذلك لأنني منذ أسست (دار السلام) عام ١٣٩٣ ه‍ وأنا أطمع وأطمح ... أطمع ـ من قرارة نفسي ـ في أن أقدم عملا قيما ، أخدم به كتاب الله ـ تبارك وتعالى ـ وأنفع به أمتي التي أنتمي إليها ... وأطمح ـ في نفس الوقت ـ إلى أن يكون هذا العمل جديدا كل الجدة ، لم يسبقني أحد إليه ؛ فإني أكره منافسة الناس في أرزاقهم فأحب أن أنشر ما لم أسبق إليه.

وفي عام ١٣٩٨ ه‍ أرسل إلي المؤلف الكريم هذا المصنف التفسيري الضخم الذي بين أيديكم. وأحسست ـ ساعتها ـ أن العمل أكبر من إمكانياتي ، إلا أنني استعنت بالله وهو خير معين ، وأعددت العدة النفسية لهذا العمل الذي كنت أطمح لمثله.

وبعد بضعة أشهر حضر إلي ناشر كريم من بيروت ، أقدر مني في هذا المجال وأطول باعا. حضر إلي وهو يحمل رغبة الشيخ المؤلف ـ أعزه الله ـ في أن يشار كني جهدي في هذا العمل ، رغبة من فضيلته في أن يخرج هذا الكتاب مخدوما خدمة تامة تليق بمقام كتاب الله تعالى. فتنازلت عن حقي كاملا للأخ الناشر متمنيا له ـ من كل قلبي ـ التوفيق والسداد.

ودارت الأيام دورتها ، وقدر الله أن يحدث ببيروت ما حدث ، بحيث أصبح متعذرا على الأخ الناشر إتمام هذا العمل بعد أن قطع شوطا كبيرا في تنضيد حرفه. فاعتذر الأخ الناشر عن إتمام العمل لظروف خارجة عن إرادته ـ ومرة أخرى ـ أدبا ولطفا من فضيلة الشيخ المؤلف ـ يرسل إلي مستشيرا ، ماذا يفعل؟ وكأنه يرشحني من جديد لهذا العمل. وشاءت أقدار الله أن يصيبني هذا الخير بعد أن أخطأني في المرة الأولى ، وعاد إلي هذا التفسير لكي أقوم بطبعه ، ويكون أول عمل لي في مجال خدمة كتاب الله العزيز ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد.

ولعل من حكمة الله العزيز في هذا العمل أن أخطأني في المرة الأولى ؛ لأنني لم أكن على مستوى

٥

القدرة الكاملة لإتمام مثل هذا العمل الكبير القيم ، الذي هو جزء من أساس تبني أمتنا الحبيبة بناءها عليه صرحا شامخا عاليا ، هذا الأساس هو الفهم الدقيق لكتاب الله والوعي العميق بأبعاده ومتطلباته ، حتى يكون ثمرة ذلك الفهم الإيمان العميق بالله تعالى والالتزام بما أوجب بعد ذلك.

وهذا المصنف التفسيري غني عن القول بأن فيه من الجديد الكثير ، فإنه قد تفرد بأشياء لم يسبق إليها ، خاصة مسألة تقديم أول نظرية متكاملة عن الوحدة القرآنية في القرآن الكريم. كما أنه استفاد من القديم وأعمل فيه بعض التهذيب بما يناسب حاجة عصرنا ، فلكل عصر حاجته ومشاكله التي يواجهها. ولن أطيل الحديث عن هذا التفسير ، وأترك الحكم للقارىء الكريم ولأولي العلم بخاصة.

وأما عن المؤلف فلن أعرف أو أمتدح الرجل ، فهو غني عن التعريف على مستوى العالم الإسلامي وغيره ، وما أقول إلا دعاء من كل قلبي له بالتوفيق والسداد والرشاد في كل أمر من أموره.

وأود أن أوجه الكلمة لكل من يقرأ أو يطالع هذا التفسير ألا يألو جهدا في النصيحة. فإن وجد تقصيرا أو نقصا في أي جانب من جوانب التفسير فليتصل بالناشر مباشرة ، فإن النقص يعتري كل البشر ، وقد جعل رسولنا الكريم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ النصيحة هي الدين ، وليثق القارىء الكريم في أن أي ملاحظة مهما كان حجمها ومهما كانت لهجتها ، ستؤخذ في الاعتبار وستكون محط عناية وتقدير ؛ ذلك أن المؤمن مرآة أخيه فكونوا لنا مرآة حتى نصل ـ إن شاء الله ـ بهذا العمل وبغيره من الأعمال إلى أقصى ما يصل إليه البشر من الدقة والإحكام.

ولا أنسى في هذا المقام أن أقدم شكري وتقديري ومحبتي لأسرة دار السلام من مصححين وإلى أقسام المونتاج والتصوير والجمع وإلى مندوبي المبيعات والمحاسبين ، لما قدموا ، فهم نعم الإخوة ، حاولوا جهدهم إخراج هذا التفسير على أفضل ما يستطيعون ، جزاهم الله خيرا وأحسن إليهم.

وأخيرا وليس آخرا .. أقول : اللهم إن أحسنت فمن فضلك وكرمك ، وإن كانت الأخرى فمن نفسي. أرجوك حسن العاقبة وأن ألقاك وأنت راض عني ، فاجعل اللهم هذا العمل ذخرا لي إلى يوم ألقاك ، يوم لا ينفع مال ولا بنون. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الناشر

عبد القادر البكار

٦

مقدمة سلسلة

الاساس في المنهج

هذه السلسلة تتألف من ثلاثة أقسام :

القسم الأول : الأساس في التفسير.

القسم الثاني : الأساس في السنة وفقهها.

القسم الثالث : الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص.

وهذا القسم الأخير بمثابة المفاتيح لأمهات القضايا ، التي تلزم دارس الكتاب والسنة ، أو تصلح كمقدمات لدراسة الكتاب والسنة ، سواء كانت هذه القضايا مرتبطة بأصول الفقه ، وكيفية انبثاق الأحكام عن الكتاب والسنة ، أو كانت مرتبطة بقضايا اختلاف الفقهاء ، وأسباب اختلاف الفرق الإسلامية ، فضلا عن الكلام في قضايا الحكم العقلي والعادي والشرعي ، ومحل كل «وصلة كل» من الثلاثة بالآخر ، إلى غير ذلك.

ولا يظنن ظان أن تسميتي لهذه السلسلة باسم الأساس في المنهج ، وكذلك في استعمالي كلمة الأساس في كل من أقسامها الثلاثة أن ذلك تزكية لها وإشعار بإحاطتها ، فالأمر ليس كذلك ، بل كل ما أحلم به هو أن أقدم لإخواني المسلمين أساسا يبنون عليه ، ولكن حرصت على أن يكون أساسا غاية في القوة والمتانة.

٧

إن القارىء سيرى بإذن الله كيف أن هذه السلسلة تعطيه أساسا في فهم القرآن ، وأساسا في السنة وفقهها ، بل ستعطيه كذلك أساسا في أشياء كثيرة من توحيد إلى فقه إلى سلوك ... إلى غير ذلك ، بل ستعطيه أساسا لفقه الدعوة الإسلامية ، وأساسا لنظرة المسلم إلى القضايا المعاصرة ؛ ولكن نرجو ألا يطالبنا المسلم بأكثر من الأساس ، وإن كنا قد نقدم أكثر من ذلك أحيانا. ولقد حرصنا فيما حرصنا عليه في هذه السلسلة بأقسامها الثلاثة على أن ندل المسلم على أسباب اختلاف الأمة الإسلامية في فرقها الاعتقادية مبرهنين على الاعتقاد الحق بأدلته الساطعة ، كما حاولنا أن نبرز أسباب اختلاف الأئمة المجتهدين ، وكيف أن الاجتهاد كان ضرورة لا بد منها ، وكيف أن من أهم ميزات المجتهد استشرافه الشامل لمجموع النصوص ، وقدرته على أن يضع كل نص في محله بالنسبة لمجموع النصوص ، ولقد حاولنا في هذه السلسلة أن نبرز منطلقات الأئمة المجتهدين وحججها ، وما ترتب على الاختلاف في المنطلقات من آثار ، وكما حرصنا على إبراز ذلك كله ، فقد حرصنا على أمور كثيرة أخرى ستضح في هذه المقدمة ، وكلها تقتضيها احتياجات عصرنا إذ كانت هذه الاحتياجات في الحقيقة هي الدافع الأول نحو العمل في هذه السلسلة ، فهي خدمة تضاف إلى خدمات هذه الأمة لكتاب ربها تعالى ، ولسنة نبيها عليه الصلاة والسلام ، إنه لم تخدم نصوص في تاريخ هذا العلم كما خدمت نصوص القرآن الكريم ، ونصوص السنة النبوية المطهرة ، حتى إن مجموعة العلوم التي وجدت لأنواع من هذه الخدمة تبلغ العشرات بل المئات ، ومجموعة الكتب التي ألفت لهذه الخدمة لا يمكن حصرها ولا إحصاؤها فضلا عن الكتب التي تعتبر انبثاقا عن علوم انبثقت من الكتاب والسنة ، ومع هذا كله فإن لكل عصر احتياجاته التي تختلف عن احتياجات عصر سبقه ، ومن ثم فلا بد من ملاحظة احتياجات عصرنا ، لمعرفة ما ينبغي أن يضاف إلى المكتبة القرآنية والحديثية مستفادا مما قدمه المؤلفون في عصور سابقة ، مع ملاحظة أن ما قدمه السابقون يكاد ألا يكون عليه مزيد ، ولا في شأنه مستزيد ، ومن ثم فإن المؤلف المعاصر ليس عليه في الغالب إلا أن يتخير من تحقيقات السابقين في كثير من الأمور ، وأن يكون تخيره ملاحظا فيه احتياجات العصر.

[بعض احتياجات عصرنا]

إذا اتضح هذا الأمر ، فلنر بعض احتياجات عصرنا بالنسبة للقرآن الكريم ثم بالنسبة للسنة المطهرة ، وبعض جوانب الخدمة التي نرغب أن نقدمها نتيجة لذلك في بعض أقسام هذه السلسلة :

٨

(الأساس في التفسير) و (الأساس في السنة وفقهها) و (الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص)

أولا : بالنسبة للقرآن :

أ ـ دندن علماؤنا حول الصلة بين آيات السورة الواحدة وحول الصلة بين سور القرآن وحول السياق القرآني ؛ وجاءت نصوص تتحدث عن أقسام القرآن : قسم الطوال ، وقسم المئين ، وقسم المثاني ، وقسم المفصل. ولم يستوعب أحد من المؤلفين الحديث عن هذه القضايا ـ في علمي ـ بما يغطيها تغطية مستوعبة. وفي عصرنا ـ الذي كثر فيه السؤال عن كل شىء ـ أخذ كثيرون من الناس يتساءلون عن الصلة بين آيات القرآن الكريم وسوره ، وعن السر في تسلسل سور القرآن على هذه الشاكلة المعروفة. فأصبح الكلام في هذا الموضوع من فروض العصر الذي نحن فيه. ولقد من الله علي في أن أسد هذه الثغرة مصححا الكثير من الغلط في هذا الشأن ، ومضيفا أشياء كثيرة لم يسبق أن طرقها أحد.

ب ـ في عصرنا وجدت علوم كثيرة ، هذه العلوم قدمت فهوما جديدة للنصوص ، أو أنها رجحت فهوما قديمة ، وبسبب من هذه العلوم وبسبب من الوقائع التي انبثقت عنها ، طرحت تساؤلات حول كثير من معاني القرآن ، وكأثر عن ذلك كله كان لا بد من عرض للقرآن الكريم يغطي ذلك كله .. ولقد حاولت في قسم التفسير أن أقدم جوابا لتساؤلات وتبيانا لنصوص ، وإقامة حجة في شأنها بالنسبة لقضايا العلوم والدراسات الحديثة بحسب الإمكان.

ج ـ وفي عصرنا كثرت الشبه والاعتراضات على القرآن ، وعلى إمكانية انبثاق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عنه ، ووجدت مفاهيم واتجاهات مزخرفة ومعاكسة ، محليا وعالميا ، ضد بناء الحياة المعاصرة على أساس قرآني ، والمسلمون الحقيقيون يتحركون حركتهم الصعبة في البيان والتبيين ، لإقناع هذا العالم بأن القرآن هو الكتاب الرباني الوحيد ، الذي تكلف به البشرية بحق ، وهذا يقتضي عملا وجهدا يكافئان ذلك. ونرجو أن يكون قسم التفسير من هذه السلسلة قد أعطى هذا الموضوع حقه.

٩

د ـ ولقد ابتعدت الشخصية المسلمة كثيرا عن التحقق بمعاني القرآن ، وابتعدت الأمة الإسلامية كثيرا عن تمثل كتاب الله ، ولا بد من بذل جهد لإعادة المطابقة بحيث تعود الشخصية الإسلامية إلى أن يكون القرآن خلقها ، وبحيث يعود القرآن إلى الظهور في حياة الأمة المسلمة ، فتكون تجسيدا لمعانيه. وذلك موضوع متشعب الجوانب ولعل هذا التفسير يؤدي دورا فيه فإنه من أهم ما ينبغي أن يشتغل به ذهن المسلم المعاصر.

ه ـ والمسلم المعاصر يعجبه أن يأخذ خلاصة التحقيق بأدلته المباشرة في أمر ما ، أما التحقيق نفسه فإنه يولع به طبقة من الناس. ومن ثم فحتى أمهات كتب التفسير كثيرا ما يضيق المسلم العادي ذرعا وهو يقرؤها ، وكثيرا ما يضيع وهو يرى أقوالا متعددة ، وروايات كثيرة ومناقشات لا حصر لها ، وهذا كله ينبغي أن يختصر للمسلم غير المختص ليكون فهم كتاب الله متيسرا للجميع. ولقد راعيت في قسم التفسير هذه الضرورة بحيث لم أقدم فيه إلا ما له مساس مباشر في فهم القرآن دون مخالط كثير.

و ـ وفي عصرنا هناك قضايا إسلامية مطروحة ، ومناقشات تدور بين المسلمين أنفسهم ، بعض هذه القضايا استمرار لمناقشات قديمة ، سببها الاختلاف المذهبي أو الخلاف الاعتقادي ، وبعضها وليد عصرنا ، وهذا موضوع لا بد من الاستقرار فيه على شىء ، وقد حاولت في هذه السلسلة كلها أن أغطي هذا الموضوع في كل مناسبة ذات صلة بشىء من ذلك. هذه أبرز النقاط التي تعتبر احتياجات عصر ، والتي استهدفتها في قسم التفسير وبعضها مستهدف في السلسلة كلها.

وهناك نقاط أخرى لم تكن هدفا في حد ذاتها بل جاءت بسبب ظروفي التي بدأت فيها العمل في التفسير :

إنه من الواضح أن كل من يرغب في أن يشتغل بالتفسير سيجد نفسه بين أمرين :

ـ الأول : أن قسما من التفسير الذي يريده سيجده في أي تفسير معتمد ، وهو بالتالي لا يحتاج إلا إلى نقله وأحيانا إلى تبسيطه.

١٠

ـ الثاني : أن الأغراض الخاصة التي يحب المفسر أن يحققها في تفسيره عليه أن يبذل جهدا خاصا من أجلها ، حتى إنه ليحتاج أن يقرأ مئات الصفحات ، من أجل أن يغطي نقطة صغيرة جدا. ولم يكن باختياري أنني لتحقيق النوع الأول اعتمدت في الابتداء على تفسيرين فقط هما : تفسير ابن كثير وتفسير النسفي ، إذ لم يتوفر لي في سجني في المرحلة التي ابتدأت فيها العمل إلا هذان التفسيران ، وهما تفسيران مشهوران يغلب على الأول التفسير بالمأثور ، ويغلب على الثاني قضايا التحقيق المختصر لأمور اعتقادية أو مذهبية ، مع محاولة كل من التفسيرين أن يغطي المعنى الحرفي لآيات القرآن الكريم ، فأقبلت على هذين التفسيرين محاولا من خلالهما أن أغطي المعاني الحرفية لكتاب الله تعالى ، وأحيانا المعاني الإجمالية ، ومحققا خلال ذلك ما أستطيع تحقيقه من أغراض هذا التفسير ، على أن أكمل فيما بعد ـ إذا تغيرت ظروفي ـ كل ما استهدفته من هذا التفسير. ولقد حاولت في المرحلة الأولى من العمل أن أضمن هذا التفسير خلاصة التفسيرين ومجمل الفوائد الموجودة فيهما تاركا ما لا يتفق وأهداف هذا التفسير ، وكنت أرى حرص الكثيرين من المسلمين على استيعاب تفسير ابن كثير ، ولم أزل أرى فشل الكثيرين في استيعاب هذا التفسير ، بسبب هو ميزة في حق العالم ، ومتعب في حق الرجل العادي ، وهو ذكر ابن كثير للأسانيد والروايات المتعددة والأقوال الكثيرة في الموضوع الواحد ، ومن ثم فقد حاولت أن أريح القارىء العادي من مثل هذا فأخذت خلاصة ما في هذا التفسير من معان إجمالية ، أو معان حرفية ، أو فوائد مذكورة فيه ؛ حتى إنه ليستطيع قارىء تفسيري هذا أن يطمئن إلى أنه أخذ تفسير ابن كثير دون ما يمله الرجل العادي منه ، مضافا إليه تحقيقات وفوائد كثيرة مبثوثة في تفسير النسفي ، حتى ليكاد أن يكون هذا التفسير كذلك مستوعبا الكثير مما هو موجود في تفسير النسفي ، تاركا نقل أمور كثيرة لا تتمشى مع أهداف هذا التفسير ؛ فكانت هذه القضايا ميزة لهذا التفسير ، ولكنها ميزة لم تكن مستهدفة في الأصل ، ومن خلال هذين التفسيرين وضعت الأساس الذي بنيت عليه هذا التفسير ، ثم بعد ذلك بدأ العمل الذي تم به هذا التفسير كما يراه القارىء.

وسيرى القارىء أنني كعادتي في كل ما أجمعه ، لا أكلف نفسي عناء صياغة شىء يحتاجه كتابي ، إذا كان غيري قد صاغه الصياغة التي أرضاها ، أو التي تقصر عنها صياغتي أصلا. فليس الهدف إلا وجه الله عزوجل ، وما سوى ذلك فإنني أرجو أن أتجاوزه. ولم يزل علماؤنا ينقلون في كتبهم الفصول الطويلة ، وأحيانا لا ينسبونها إلى أصحابها ، معتمدين فكرة أن أي تجديد في علم أو فن تعطي صاحبه حق النقل دون

١١

العزو ؛ على أنني لا أفعل ذلك بل أنقل وأعزو ؛ وإنما ذكرت هذا من باب الاعتذار ، ومن باب الاعتذار كذلك أقول :

إنه من الظلم لهذا التفسير أن يقول قائل : إن هذا التفسير هو خلاصة لكتابين ، كما أنه من الظلم أن يقول قائل : إن إحياء علوم الدين للغزالي هو مجرد دمج لكتابي : قوت القلوب ، والرعاية. على أنني لا أدعي أن لهذا التفسير ميزة على تفسير ابن كثير أو تفسير النسفي بل أريد أن أقول : إن في هذا التفسير شيئا آخر ، هو من الكثرة بمكان مما يحقق أهداف هذا التفسير ولم يكن هدفا أصلا لابن كثير أو للنسفي رحمهما‌الله.

وبعد هذا الاستطراد الذي اضطرنا إليه استكمال ميزات هذا التفسير ، في سياق الكلام عن بعض احتياجات عصرنا في شأن عرض القرآن في هذا العصر ؛ نرجع إلى ذكر الأسباب الموجبة ، التي أدت إلى إيجاد هذه السلسلة والتي هي احتياجات العصر كما ذكرنا ، فنذكر بالنسبة للسنة بعض ما نراه احتياجات عصر.

ثانيا : بالنسبة للسنة :

أما بالنسبة للسنة ، فإنني أرى أن احتياجات عصرنا في شأنها مجموعة أمور :

١ ـ المسلم المعاصر عنده رغبة في أن يتعرف على السنة المتواترة والصحيحة والحسنة السند ، ويحتاج إلى كتاب جامع لذلك كله ، على أن يكون هذا الكتاب مضبوطا شكله مشروحا غريبه.

٢ ـ والمسلم غير المتخصص بالحديث يهمه كذلك أن يأخذ الجوهر ـ دون ما احتاجه هذا الجوهر لحمايته ـ أي هو يحرص على أن يقرأ متون السنة دون أسانيدها.

٣ ـ والمسلم المعاصر بحاجة إلى أن يفهم السنة فهما صحيحا وأن يأخذ الجواب الشافي على كثير من الإشكالات ، وأن يعرف كثيرا من الأمور التي يتلجلج في قلبه سؤال عنها.

٤ ـ وهناك شبهات حول السنة يثيرها أعداء الله عزوجل ، وهناك مناقشات حادة حول الكثير من الأمور بين المسلمين أنفسهم في شأن فهم الكثير من متون السنة ، وكل ذلك يحتاج المسلم المعاصر إلى أن يرتاح قلبه في شأنه.

١٢

وقد كنت أحس بضرورة وجود الكتاب الذي يخدم في هذه الشؤون ، وغيرها مما رأيناه وسنراه ، ولكن ما العمل؟ ولم أكن أستطيع وخاصة في المراحل الأولى من سجني أن أصل إلى أي كتاب إلا بصعوبة شديدة ، ومن ثم لم أكن أطمع في أن أقدم خدمة مستوعبة في شأن السنة تحقق كل الأمور التي أعتبرها احتياجات عصرنا ، كما لم يكن بإمكاني أن أقدم التحقيق المناسب الذي يخدم أغراض هذه الاحتياجات ، ومن ثم فقد رأيت أن أعمل بقدر المستطاع المتاح ، مما سنرى حدوده في مقدمة الكلام عن القسم الثاني من هذه السلسلة ، وهو بفضل الله كثير طيب. هذه مجمل أمور في شأن الكتاب والسنة أعتبرها من احتياجات عصرنا ، وأرجو أن أكون قد قدمت خدمة لا بأس بها فيها ويأتي القسم الثالث ليضع الأساس في ضبط مسار الفهم.

ولئن كان المشتغلون قديما في خدمة الكتاب والسنة يفترضون في الغالب أنهم يخاطبون إيمانا كاملا ، وبالتالي فإنهم لا يتكلفون كثيرا لما يخدم قضية الإيمان ؛ فإنني أعتبر أن من واجبات العصر أن نلاحظ قضية الإيمان : إن في عرض المعاني ، أو إبراز ما يلزم لذلك.

ففيما يتعلق بعرض السنة فإنه ينبغي على الباحث أن يلاحظ هذا الموضوع حتى في عملية ترتيب أبحاث السنة.

وأما بالنسبة للتفسير فإذا لم تخدم قضية الإيمان فيه في عصرنا المادي والشهواني فكأن المفسر لم يفعل شيئا ، إن الله عزوجل يقول : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً.) فالأصل الأصيل هو أن يتعمق الإيمان بتلاوة الآيات ، وعلى المفسر أن يساعد في ذلك.

إن كثيرا من التفاسير ـ كما قلنا ـ يفترض سلامة الإيمان وكماله ، ومن ثم يركز على النكت والشروح والفوائد ومناقشة الخصوم ، وكل ذلك له فوائده ، ولكن هذا التفسير يريد صاحبه أن يكون أداة لرفع درجات اليقين ، بحيث لا يخلص القارىء من صفحة إلى صفحة إلا وقد ارتقى يقينه ، هذا مع تصحيح التصورات وزيادة العلم.

إن من أهداف هذه السلسلة خدمة قضية زيادة الإيمان ، وإصلاح الاعتقاد والعمل.

ولقد حرصت على أن أربط بين أقسام هذه السلسلة برباط ، مع أنه جرت عادة المؤلفين أن يخصوا الكتاب بالتأليف وكذلك السنة وكذلك الأصول دون أن يتكلف

١٣

الواحد منهم لتأليف متسلسل يضمها مكتفيا بما استقر في ضمير المسلم من أنه سيأخذ حظه من الكتاب ومن السنة ومن الأصول كل من مصادره. لكني وجدت أن الربط بين الكلام عن الكتاب والسنة والأصول في سلسلة واحدة مفيد لأسباب متعددة ، أولها : الاختصار ، فبدلا من أن يبحث الباحث قضية واحدة فيفصلها ههنا وههنا فإنه يكتفي بالتفصيل في مكان واحد. ثم إن السنة هي المبينة للكتاب ، فالوضع الكامل أن تدرس معه. ولكي أضمن الاقتراب من الكمال في الفهم ، حرصت على أن تكون السلسلة شاملة لعرض نصوص الكتاب والسنة ، ثم إن الحركة الإسلامية وهي تنطلق مصححة لأوضاع محلية أو لأوضاع عالمية أو لإرث موروث أو لدخن مختلط أو وهي تقيم الحجة على الناس كل الناس مسلمين وغير مسلمين ، لا بد أن تقدم الفهم الحق للكتاب والسنة ، اللذين هما أصل الإسلام على طريقة سواء وضوابط هذا الفهم كل ذلك وغيره من معان متعددة كلها يصب في كون المسلم لا بد له من معرفة بنصوص الكتاب والسنة ، ولا بد له لتحقيق كمالاته من الاطلاع على الكتاب والسنة ، ولا بد له من فهم لنصوص الكتاب والسنة فهما صحيحا يحفطه من الخطأ ، كل ذلك دعاني لإصدار هذه السلسلة تحت عنوان واحد (الأساس في المنهج) لأن منهج الحق يتمثل في الكتاب والسنة كليهما.

وشىء بدهي أن أوضح في هذه السلسلة موضوع أن الإسلام تغطية كاملة لشوؤن الحياة ، وأن أبين أنه يستحيل شىء مما وصل إليه الإنسان من حقائق علمية ينقضه نص من نصوص الكتاب والسنة ، بل إن الكثير مما وصل إليه الإنسان من حقائق علمية قطعية كان لصالح إثبات أن الكتاب والسنة حق خالص ، وكيف أن عصرنا قد أبرز من معجزات الكتاب والسنة ما تقوم به الحجة على أهل جيلنا أكثر من أي جيل مضى ، كل ذلك شىء عادي أن أبرزه في هذه السلسلة.

وفي سلسلتنا (في البناء) أشرنا أكثر من مرة إلى هذه السلسلة ووعدنا هناك أن نحقق هنا نعاني بعينها ، ونرجو أن نفي بوعودنا كلها في هذه السلسلة بإذن الله.

ومن المعلوم أنه ينبثق عن نصوص الكتاب والسنة كثير من المواضيع ، ومن ثم فلا نطمع أن نخص كل موضوع بعنوان. على أننا سنستعين بالفهارس للدلالة على وجود بعض المواضيع التي تعتبر أهم من غيرها.

١٤

وسنعطي قضايا الحكم العقلي والشرعي والعادي ، وأصول ذلك وصلة ذلك بالنصوص أهمية خاصة.

هذا كله مراعى في تأليف هذه السلسلة ودافع نحو تأليفها غير أن هناك أسبابا بعينها كانت هي الأقوى في الدفع نحو هذا التأليف وهذه هي :

١

تعتبر العصور المتأخرة ومنها عصرنا عصور الامتحان لكل شىء ؛ لأن الإنسان في الغالب قد شك في كل شىء ، خاصة وأن الشعوب التي ملكت السيطرة المادية على العالم ، والتي أصبحت نتيجة لذلك هي التي تصدر الأفكار وتدعو إليها وتفلسفها ، وتحاول ـ سواء كانت رأسمالية أو شيوعية ـ أن تصوغ الأمور بالقالب الذي تريد.

إن هذه الحكومات والشعوب جعلت كل شىء محل امتحان في الظاهر ، ولكنها في الواقع قد أصدرت أحكامها سلفا في كثير من الأمور ، وتحاول باسم الامتحان أن توصل الناس إلى ما تريد في الاعتقاد والسلوك وغير ذلك ، وارتبط ذلك كله بعملية تناحر هائلة جبارة على المواد الخام وعلى السيطرة على العالم ، وبقضية الصراع من أجل البقاء ، ومن ثم فقد سخر في عملية الامتحان الظاهري للأشياء وفي عملية صبغ الأشياء بالفكر المسبقة ، سخر لهذا الموضوع من الإمكانات والطاقات ما لا يخطر بالبال ، فأصبحت الأشياء كلها محل امتحان وكادت تتغير كل المسلمات القديمة لدى أكثر الناس ، والقليل من الناس هم الذين بقوا في مثل هذا الجو الضاغط الفظيع محتفظين بمسلماتهم ، وقليل من هذا القليل هو الذي احتفظ بالمسلمات على بصيرة. وأمام هذا كله لا بد من عرض شامل واستعراض كامل لنصوص الإسلام التي هي بالدليل والبرهان تشكل المسلمات الوحيدة الصحيحة في هذا العالم ، أو أنها وحدها الميزان الصحيح الذي توزن به المسلمات.

هذه النصوص التي هذا شأنها والتي ليس أمام أحد خيار إلا قبولها والتسليم لها ، وهذا العرض الشامل والاستعراض الكامل هما أول دافع قوي نحو إصدار هذه السلسلة ؛ لأنه بدون العرض الشامل والاستعراض الكامل تبقى ثغرات كبيرة يمكن أن ينفذ من خلالها المشككون ، فتسهل بدون ذلك عملية سقوط المتشككين ، فضلا عن كون ذلك واجب العصر ، إذ لكل عصر واجبات على أهل الحق ، يقتضيها حق العصر وهذه إحدى أهم واجبات هذا العصر.

١٥

٢

وفي عصرنا طرحت كثير من الأمور نفسها بشكل حاد ، فأصبح لا بد من إجابة شافية كاملة عنها ، واختلط الأمر واختلطت الإجابات ، فكان لا بد من عملية تمييز شاملة كاملة للإجابة الصحيحة من ناحية ، وللتوضيح من ناحية أخرى ، وإذا كانت نصوص الإسلام هي الإجابة الشاملة والكاملة على كل قضية تخطر ببال الإنسان ، وهي التي من خلالها يتم التمييز الشامل الكامل ، فإن هذه النصوص لا بد أن تفهم في إطارها الصحيح لتعطي الجواب ، ويتم التمييز ويكون الوضوح. إن كل تساؤل حاد لا يحتمل عصرنا تأخير الإجابة عليه أو السكوت عنه ، وإجابة شاملة على كل الأمور لن تتم إلا من خلال عرض شامل لكل النصوص لأن الله عزوجل جعل كتابه تبيانا لكل شىء (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) وبدون السنة التي هي بيان للقرآن ، لا يتم البيان قال تعالى (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.) وبدون علم الأصول لا يستطيع الإنسان أن يضع الأمور في مواضعها.

٣

وفي عصرنا انطلق كل شىء من عقاله بحرية كاملة دون أي التزام مسبق في الظاهر كما رأينا. ولكن الأمر العجيب أن كل شىء يخدم قضية الحق أبعد لصالح الهوى ، وكل شىء يخدم قضية اليقين أبعد لصالح الظنون. وكل ذلك يعطى صفة علمية يتم الإيهام بأنها قطعية ، وهي باطل في جوهرها.

فعلى سبيل المثال : لقد انطلق علم الجيولوجيا والبيولوجيا والمستحاثات وغير ذلك من العلوم ، وبدأت الحفريات عن الآثار وعن غيرها للوصول إلى حقائق ، فإذا جاءت النتائج تؤيد النصوص الدينية استبعدت ، وإذا جاءت لغير صالح نوع من النصوص الدينية المحرفة تبنيت وحمل بسببها على كل دين ، حتى ولو كانت نصوصه لا تتناقض مع هذه المكتشفات ، وأصاب الإسلام من ذلك الكثير.

نجد مثلا دارسي التاريخ الفرعوني في مصر يرجحون أن جثة فرعون الذي عاصر موسى موجودة حتى الآن. والقرآن يذكر النجاة البدنية لفرعون من الغرق مع إثباته الغرق. وفي ذلك دليل على أن القرآن هو الذي أعطى الجواب الكامل الصحيح على هذا

١٦

الموضوع ، وأن القرآن ليس مستمدا من روايات الكتب السابقة كما يزعم الزاعمون ؛ لأن ما يسمى بالتوراة ـ الحالية ـ تذكر غرق فرعون دون أن تذكر نجاة جثته. فبدلا من أن يرى فيما ذكره القرآن دليلا على الوحي وعلى أن القرآن وحي إلهي ، تكون المسألة أن يشكك في كل الوحي الإلهي ، بسبب أن ما يسمى بالتوراة حاليا ـ وهي محرفة كما سنرى بالدليل ـ عارضت مكتشفات أثرية.

والحفريات التي تمت في العراق أوصلت إلى ملحمة جلجامش التي تحدثت عن نوح عليه‌السلام وعن الطوفان ، وأوصلتنا هي وغيرها إلى أن الطوفان كان مشهورا معروفا ، وأن قصة نوح عليه‌السلام كانت معلومة معروفة ، ثم تذكر هذه الحفريات كما يقول أنطون مورتكات في تاريخ الشرق الأدنى القديم الذي عربه توفيق سليمان وآخران :

(لقد صنفت المصادر المحلية التي ترجع إلى ما بعد الطوفان سلالة كيش الأولى في ثلاثة وعشرين ملكا بلغ مجموع حكمهم (٢٤) ألف سنة. ثم تتبعها سلالة أوروك الأولى باثني عشر ملكا وصل مجموع حكمهم مدة زادت عن ألفي سنة).

هذا ما أوصلت إليه الحفريات وفيه دليل على أن الناس في الماضي كانوا يعمرون فعندما يحكم ثلاثة وعشرون ملكا أربعة وعشرين ألف سنة فذلك دليل على أن ما ذكره القرآن من رقم (٩٥٠) سنة في حق نوح عليه‌السلام تسنده الحفريات ، وأن الإنسان في الماضي كان يعمر أكثر من إنساننا الحالي ، ولكن هذه القضية نفسها تعرض على أنها مستبعدة أصلا فما أوصلت إليه الحفريات مرفوض إذا! ولماذا الحفريات إذا! إن هذا يؤكد أن الإنسان الحالي في الغالب عنده أحكام مسبقة يحاول أن يفسر الأشياء بها لا أن يصل إلى الحق. ويذكر الدكتور حسن زينو المتخصص في الجيولوجيا في كتابه (التطور والإنسان) كيف أن الحفريات أوصلت إلى اكتشاف الإنسان العملاق ، وكيف أن الحفريات أعطتنا جثة إنسان أضخم من إنساننا الحالي بست مرات وهذا يؤيد النصوص التي تذكر أن الخلق لم يزل يتناقص منذ خلق آدم كما سنرى ، ولكن بدلا من أن يكون مثل هذا الاكتشاف يخدم قضية الإيمان فإنه يصاغ صياغة تخدم قضية الكفر. وقل ذلك في أمور كثيرة.

١٧

لقد انطلق الإنسان بحرية كاملة في كل شأن فوصل إلى حقائق تخدم قضية الإيمان فرفضها ، ووصل وأوصل إلى تخريب وضلال في العقل والوجدان ، وفي السلوك والاجتماع وفي السياسة والاقتصاد ، وهو مصر على أن يستمر في هذا الطريق. ومن ثم فقد آن الأوان أن يقول المسلم لهذا العالم كلمته الحاسمة ، وبداية ذلك العرض الشامل لنصوص الإسلام وإقامة الحجة في شأنها على أنها الحق الخالص.

لقد آن الأوان للمسلم أن يرجع الأمور إلى نصابها في هذا العالم ، الذي انطلق كل شىء فيه في غير مساره الصحيح ، ليرجع الأشياء كلها إلى المسار الصحيح ، بأن تصبح كلمة الله هي العليا ، وبداية ذلك كله أن تفهم كلمة الله فهما صحيحا ، وأن تفهم كلمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهما صحيحا ، وأن تقام الحجة بكلمات الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العالم.

٤

إن الوحي الإلهي في صيغته الصحيحة الوحيدة حاليا ، يتمثل بالدليل والبرهان بما أنزل الله عزوجل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرآن وحكمة ، هذا القرآن الذي كانت مهمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه البلاغ والبيان هو حجة الله على خلقه ، وهو حجة الله على أن محمدا عبده ورسوله. هذا القرآن الذي هذا شأنه ؛ لا بد من إبراز كمال الحجية فيه ، وما أكثر الحجج وأكبرها ، إنه كلمات الله إلى هذا العالم ، فلا بد من إقامة الحجة فيه ، ولا بد من الإجابة على شبهات الخلق في شأنه. ومن آخر هذه الشبه وأعجبها ما تثيره الآن أكثر دوائر الكفر بشكل مهذب أو وقح حول الوحدة القرآنية والصلة بين سور القرآن بعضها ببعض ، أو آيات القرآن بعضها ببعض ، كما ترى نموذج ذلك في مقدمة (كلود كاهن) في تاريخه ، مع أن هذا الموضوع وحده هو من أعظم مظاهر الإعجاز في القرآن كما سنرى في هذه السلسلة ، ولكن الأمر يحتاج إلى بيان ، فكانت هذه السلسلة وخاصة جزؤها الأول هي هذا البيان. ومع البيان لمثل هذا الشأن وغيره مما تندفع به الشبه وتقوم به الحجة ، فهناك محاولة الفهم الصحيح لكلمة الله وكلمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عصر أصبحت فيه كثير من النصوص تفهم فهما خاطئا ويبنى على هذا الفهم الخاطىء أحكام خاطئة.

١٨

٥

ثم إنه منذ العصور الأولى وجدت عقلية حرفية ، تحاول أن تفهم نصوص الكتاب والسنة غير مراعية طرائق العرب في الخطاب والفهم ، كما وجدت عقلية تأويلية تنطلق بالتأويل بدون ضوابط ، وهناك عقلية تريد أن تفهم الأصل على ضوء الفرع ، وعقلية تنسى الأصل وتستيقظ على الفرع ، وكل ذلك لا يسع المسلمين أن يبقوا على غفلة عنه في عصر المخاض لميلاد الدولة الإسلامية العالمية بإذن الله تعالى.

هذه النقاط الخمس تشكل الدوافع الأقوى لإصدار هذه السلسلة ، ولكن هل استطعت أن أحقق هذه الأحلام؟ لا أقول ههنا شيئا فلي كلمة في الختام ، ولكن أستعين بالله عزوجل وأبدأ ، وأرجو ألا يندم أحد سهر الليالي في قراءة هذه السلسلة ، بل إنني لأرجو أن ينتهي القارىء منها وقد شعر أنه بحاجة إلى أن يقرأها مرة ومرة. وإني لأعتبر السلاسل الأربع التي أصدرتها : سلسلة الأصول الثلاثة ، وسلسلة في البناء وسلسلة إحياء الربانية ، وهذه السلسة مما لا ينبغي أن يتجاوزها طالب علم إلا وقرأها ، فضلا عن إنسان له دور الداعية أو المربي في هذه الأمة ، لأنني أعتبرها جميعا احتياجات عصر.

وإني لأرجو أن أكون بهذه السلاسل قد أجبت على كل شبهة ، وأعطيت جواب الحركة الإسلامية على كل المسائل المعاصرة. ومن ثم فإنني أرجو أن تكون نقاط علام مضيئة على طريق طويل ، وضع النقاط الأولى فيه حسن البنا ، ووضع النقاط التالية فيه حسن الهضيبي ، ووضع نقاطا مضيئة كثيرة فيه سيد قطب وغيره من أبناء هذه الحركة في الشرق الإسلامي وعلى امتداد هذا العالم ؛ فإن الكثيرين قد وضعوا من هذه النقاط على هذا الطريق ، وأخص بالذكر منهم الأستاذ أبا الأعلى المودودي ، وشيخنا أبا الحسن الندوي ، فجزى الله الجميع خيرا. ولئن وضعت اسمي بين هذه الأسماء اللامعة ، فما ذلك إلا لتشجيع القارىء على قراءة هذه السلاسل ، وإلا فإنني بفضل الله أعرف مكاني وهو الجندية الخالصة لهذه الدعوة الربانية.

هذا ونسأل الله أن يعين وأن يتقبل إنه سميع مجيب. اللهم آمين. ولنبدأ في القسم الأول من هذه السلسلة مبتدئين بالمقدمة المباشرة لقسم الأساس في التفسير.

١٩

مقدمة

الأساس فى التفسير

٢٠