الأساس في التفسير - ج ١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٣

به ، وكل ذلك من بنات أفكارهم ، وقد جاءت الآيتان تصحح ذلك كله ، ومن ثم فهي تعرف على الله في سياق أمر الله للناس بالعبادة ، ومن ههنا ندرك صلة الآيتين ببداية المقطع ، وهذا شىء سنراه كثيرا من كون بداية المقطع لها صلة بكل آيات المقطع.

٤ ـ جاءت هاتان الآيتان بعد الآية التي أمر الله عزوجل بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات فكان في هاتين الآيتين الإنذار المقابل للتبشير وذلك لمن ضل عن طريق الله عزوجل ، وهكذا نجد كيف أن الآيتين مرتبطتان بما قبلهما مباشرة ومرتبطتان بمقدمة السورة بأقوى رباط.

والآن لننتقل إلى الفقرة الثالثة في المقطع الأول من القسم الأول من أقسام سورة البقرة.

الفقرة الثالثة :

المعنى الحرفي : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ؟) الاستفهام بكيف هنا يفيد الإنكار والتعجب فكأنه قال : أتكفرون بالله وفيكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان ، والأموات : جمع ميت كالأقوال جمع قول وهو عادم الحياة أصلا ، وذلك حال كون الإنسان ترابا إذ النطفة من الغذاء ، والغذاء من التراب ، والحياة الأولى هي حال كون الإنسان في الرحم فما بعد ذلك حتى يموت. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) للبعث ؛ (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي تصيرون إلى الجزاء ، أو التقدير : ثم يحييكم في قبوركم ثم إليه ترجعون للنشور. وإنما أنكر اجتماع الكفر مع ما ذكر ، لأن ما ذكر يقتضي شكرا وخشية ، لا كفرا وإدبارا وغفلة. (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم ، أما في دنياكم فظاهر إذ ما من شىء إلا وهو لصالح الإنسان بشكل من الأشكال ، وأما في دينكم فلما يؤدي النظر في ذلك إلى معرفة بالله وتذكر للآخرة ، فملاذ الدنيا تذكر بثواب الآخرة ، ومكارهها تذكر بمكارهها (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعدما خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شىء آخر والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل ثم استوى إلى فوق (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) معنى تسويتهن : تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور أو إتمام خلقهن ، ومن فعل هذا كله كان علمه محيطا فليتق الإنسان الله الذي يعلم كل شىء فيعلم تقلبه في كل حال وسره وعلانيته.

١٠١

كلمة في السياق :

١ ـ بدأت الفقرة الأولى من هذا المقطع بالدعوة إلى عبادة الله وتوحيده وجاءت الفقرة الثانية فزادتنا تعريفا على الله ثم جاءت الفقرة الثالثة فناقشت الكافرين بالله ، وأقامت عليهم الحجة من خلال ظاهرتي الحياة والعناية.

٢ ـ يلاحظ أن المقطع بدأ بقوله تعالى (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وأن الآيتين الأخيرتين منه بدأتا بالتذكير بذلك (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ،) والآن لنحاول أن نبحث عن حكمة تسلسل فقرات المقطع :

في الفقرة الأولى ذكر الطريق إلى الله كاملا ، ومن جملة ما ذكر في الفقرة الأولى وجوب معرفة الله وإقامة الحجة على أن القرآن لا ريب فيه ، وجاءت الفقرة الثانية في سياقها الرئيسي فزادت معرفتنا بالله ونفت شبهة عن هذا القرآن ، وجاءت الفقرة الثالثة لتناقش الكافرين في كفرهم بالله ، وتأخير الفقرة الثالثة فيه إشارة إلى أن باطل الأباطيل الكفر بالله ، فقد جاءت الفقرة الثالثة بعد قوله تعالى (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ،) فمجىء قوله تعالى (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ..) بعد ذلك فيه إشارة إلى أن السبب الأول في ضلال الكافرين والمنافقين هو الكفر بالله ، وهكذا نجد أن الفقرة اللاحقة تخدم في كل ما سبقها وجميع الفقرات على غاية من التلاحم مع بعضها ، والمقطع كله كما رأينا شديد الصلة بالمقدمة.

٣ ـ فوائد

١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) ننقل هذه النقول : في الصحيحين عن ابن مسعود قال : «قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك». وفي حديث معاذ : «أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» وفي الحديث «لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان». وعن ابن عباس قال : قال رجل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما شاء الله وشئت قال : أجعلتني لله ندا قل : ما شاء الله وحده» وأخرج ابن مردويه والنسائي وابن ماجه عن الطفيل بن سخبرة قال : رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت : من أنتم؟ قالوا : نحن اليهود. فقلت : إنكم لأنتم القوم ، لو لا أنكم تقولون عزير ابن الله ، قالوا : وإنكم لأنتم القوم لو لا أنكم

١٠٢

تقولون : ما شاء الله وشاء محمد. قال : ثم مررت بنفر من النصارى فقلت : من أنتم؟ قالوا : نحن النصارى. قلت : إنكم لأنتم القوم لو لا أنكم تقولون المسيح ابن الله. قالوا : وإنكم لأنتم القوم لو لا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فقال : هل أخبرت بها أحدا؟ قلت : نعم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا : ما شاء الله وحده.

وقال ابن عباس في تفسيره قوله تعالى (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) «الأنداد هو الشرك. أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول : لو لا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، ولو لا البط في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل : لو لا الله وفلان ، لا تجعل فيها (فلان). هذا كله به شرك» أقول : وقد غرقت كثير من البيئات في مخلات التوحيد الكبرى أو الصغرى ، فعلى العلماء أن يتقوا الله فيقوموا بكل ما يحمي جناب التوحيد كأعظم واجب على الإطلاق ، ولنختم هذه النقول بهذا النص :

أخرج الإمام أحمد بإسناد قال عنه ابن كثير : إنه حسن ، عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله عزوجل أمر يحيى بن زكريا عليه‌السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن ، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، وأنه كاد أن يبطىء بها ، فقال عيسى عليه‌السلام : إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن ، فقال : يا أخي ، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. قال فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد ، وقعدوا على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن : أو لهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده ، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم ؛ فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت ؛ فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وأمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك مثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى

١٠٣

عنقه وقدموه ليضربوا عنقه وقال لهم : هل لكم أن أفتدي نفسي منكم فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وأمركم بذكر الله كثيرا ، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فتحصن به وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله. قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنا آمركم بخمس ؛ الله أمرني بهن : الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله ، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ، ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم قالوا : يا رسول الله ، وإن صام وصلى؟ فقال : وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ، فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عزوجل المسلمين المؤمنين عباد الله».

٢ ـ قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أو قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم ، كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه ، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها ، فكل سورة من القرآن معجزة ، لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة ، بل ما كان في حجم السورة القصيرة من السور الطوال ، يقوم به الإعجاز وتثبت به الحجة. ولقد تحدى القرآن العرب ـ والتحدي للعرب تحد للناس جميعا من باب أولى ؛ لأنهم أفصح الأمم والقرآن بلغتهم ـ مرات عديدة أن يأتوا بشىء مثله ، ومع شدة عداوتهم له وبغضهم لهذا الدين عجزوا عن ذلك. ولقد قال تعالى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) ولن : تفيد النفي المؤبد في المستقبل أي : ولن تفعلوا ذلك أبدا ، وهذه أيضا معجزة أخرى ، وهو أنه أخبر خبرا جازما قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين. وكذلك وقع الأمر ، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن ، وأنى يتأتى ذلك لأحد ؛ والقرآن كلام الله خالق كل شىء وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ، ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز وجوها ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى وسنرى ذلك في هذا التفسير حيث جاءت مناسبة. في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» ا ه. وذلك لأن معجزات الرسل خارجة عن ماهية الوحي أما في رسالة رسولنا فالقرآن نفسه معجزة بل معجزات.

١٠٤

٣ ـ قال ابن مسعود في تفسير قوله تعالى (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) : «هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين» رواه ابن جرير.

وأخرج الإمام مسلم عن ابن مسعود قال : سمعنا وجبة فقلنا ما هذه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى مقرها». أقول : فهذا دليل على أن النار موجودة الآن ، وأن الصحابة كان يكشف عن أسماعهم فيسمعون شيئا من أمر الغيب.

٤ ـ سيقت آية (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) لبيان أن ما استنكره الجهلة من الكفار ، واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل ، ليس بموضوع للاستنكار والاستغراب ؛ لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ، وإدناء المتوهم من المشاهد ، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به كذلك ، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك ، ألا ترى أن الحق لما كان واضحا جليا تمثل له بالضياء والنور ، وإن الباطل لما كان بضد صفته تمثل له بالظلمة؟ ولما كانت حالة الآلهة التي جعلها الكفار أندادا لله لا حال أحقر منها وأقل ، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن ، وجعلت أقل من الذباب ، وضربت لها البعوضة فالذي دونها مثلا فمثل هذا التمثيل لا يستنكر ولا يستبعد ، إذ المثل مضروب في محله مسوق على قضية مضربه ، كما سيقت الآية لبيان أن المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والنظر في الأمور بناظر العقل ، إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أنه الحق ، وأن الكفار الذين غلب عليهم الجهل والإثارة الغوغائية ، إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقضوا عليه بالبطلان وقابلوه بالإنكار ، غوغائية وتشويشا دون مبرر. فلم يزل الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وخشاش الأرض فقالوا : أجمع من ذرة ، وأجرأ من الذباب ، وأسمع من قراد ، وأضعف من فراشة ، وآكل من السوس ، وأضعف من البعوضة ، وأعز من مخ البعوضة ، والله جل شأنه خاطب البشر من حيث ما ألفوه من فنون الخطاب ، فبدلا من أن يشكر الإنسان الله على ما قرب إليه من معان ، كفر!! وما أكثر ما نرى المحجوج والمبهوت يدفع الواضح وينكر اللائح.

٥ ـ ذكر الله عزوجل ثلاث صفات استحق بها ـ من استحق ـ الضلال وهي صفات مشتركة في الكافرين والمنافقين ، والحديث الشريف ذكر أن للمنافقين ثلاث

١٠٥

خصال ، ولأبي العالية جمع لطيف بين هذه الصفات جميعا يقول أبو العالية فيما ذكره ابن كثير :

«ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا ائتمنوا خانوا ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض. وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث إذا حدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا ائتمنوا خانوا». وفيما ذهب إليه أبو العالية دليل لما ذهبنا إليه أن الآية في الفقرة الثانية شملت الكافرين والمنافقين ، ومن درس حال من تنطبق عليهم صفات المنافقين المتقدمة في مقدمة السورة قبل وصولهم إلى حكم البلاد في عصرنا وبعد الوصول إلى الحكم عرف مصداق ما ذكره أبو العالية.

٦ ـ في قوله تعالى عن الفاسقين في الفقرة الثانية من المقطع .. (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) قال ابن جرير : «الخاسرون جمع خاسر وهم : الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته ، كما يخسر الرجل من تجارته بأن يوضع من رأسماله في بيعه وكذلك المنافق والكافر خسرا بحرمان الله إياهما رحمته التي خلقها لعباده في القيامة وهم أحوج ما كانوا إلى رحمته».

وقال الضحاك عن ابن عباس «كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب» أقول : وهذا شىء مهم جدا في فهم النصوص فكثير من الناس غلطوا فكفروا عصاة المؤمنين بسبب عدم فهم مثل هذه الدقائق.

٧ ـ قال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قال : كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى ، فهذه ميتتان وحياتان فهو كقوله (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً ..) نقل هذا التفسير ابن كثير وهو نص مهم في تفسير الآيتين ، لأن بعض المفسرين فسر الموتة الأولى : بأنها عندما كان الإنسان نطفة فاستغل ذلك بعض المضللين بأن أصبح يقول : إن النطفة فيها حياة فكيف تعتبر ميتة بينما تفسير ابن عباس يجعل الموتة الأولى مرحلة ما قبل النطفة مرحلة الترابية ، إذ ذرات النطفة قبل أن تتخلق كانت غذاء ، وقبل ذلك كان

١٠٦

الغذاء ترابا وهواء وماء ، وذلك كله عديم حياة وإذن فهذا التفسير عن ابن عباس أبعد عن الإشكال.

٨ ـ استدل الكرخي وأبو بكر الرازي بقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها خلقت مباحة في الأصل ومنه القاعدة : «الأصل في الأشياء الإباحة» وهذا مبحث من مباحث علم أصول الفقه.

٩ ـ النصوص القرآنية قطعية الدلالة في أن السموات والأرض خلقت في ستة أيام ، ولكن لم يرد نص في الكتاب والسنة يوضح ماهية هذه الأيام الستة ، وماذا تم في كل واحد منها على التعيين ، نقول هذا لأن علماء الكون لهم كلام طويل في موضوع تطور الأرض حتى وصلت إلى ما هي عليه فحتى لا يظن ظان أن هناك كلاما قطعيا في الكتاب والسنة حول هذا الشأن فيعارض به الأبحاث العلمية أحببنا الإشارة إلى هذا الموضوع.

كل ما في الأمر أن هناك كلاما عن أهل الكتاب في هذا الموضوع ، وهو كلام متناقض متهافت ساقط علميا ، وفي كل الأحوال لا ينبغي أن يحسب على الكتاب والسنة أو على الإسلام بشكل عام ، وهناك قضية موهمة وهي أن الإمام مسلما روى حديثا في هذا الموضوع ، فلننقل الحديث وتعليق ابن كثير عليه لنعرف الخطأ في هذا الشأن :

عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي فقال : «خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الإثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» قال ابن كثير : «وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم ، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب (أي كعب الأحبار اليهودي الأصل ثم أسلم) ، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار ، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا وقد حرر ذلك البيهقي» ا ه كلام ابن كثير. أقول : والنص إذا فهمناه على أنه شرح للأيام الستة وما حدث فيها فإنه يناقض القرآن لأن اليومين الأخيرين من الستة تم فيهما خلق السموات كما نص القرآن على ذلك في سورة فصلت ولهذا وغيره أنكره المحدثون وعلى فرض صحة رفعه ، فإنه يحمل على تسلسل الخلق دون أن يعتبر تفسيرا للستة التي خلق الله بها السموات والأرض ، وعلى ألا يعتبر ذلك

١٠٧

تسلسلا متواليا بل أن يفهم على أنه في سبت من السبوت تم خلق التربة ثم في أحد من أيام الأحد فيما بعد تم خلق الشجر ، والملاحظ أن هذا النص إذا فهم في إطاره الحرفي وعلى أنه تفسير للأيام الستة فإنه لا يتفق مع القرآن ، ولا حتى مع رواية ما يسمى الآن بالتوراة ، لأن التوراة المحرفة الحالية تزعم أن الله فرغ من الخلق يوم الجمعة ، وأنه لم يعمل شيئا يوم السبت ، وعلى كل فقد رأيت ترجيح المحدثين لاعتبار النص كتابيا وليس حديثا شريفا. وهناك نص عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكان قبل إسلامه من أحبار اليهود يقول : «إن الله بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين في الأحد والإثنين وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء وخلق السموات في الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة». ولنا على هذه الرواية أكثر من عودة فالأمر يحتاج إلى بحث طويل ولنا عنده وقفات.

٤ ـ فصول شتى

فصل في السموات :

هناك ألفاظ لها في الأصل معانيها اللغوية ، ويعطيها الشارع معان شرعية ، وأحيانا يستعملها الشارع بمعناها اللغوي ، وأحيانا بمعناها الشرعي الخاص الذي أعطاها إياه ، وهذا يقتضي دقة في الفهم عن الشارع. مثال ذلك : كلمة السماء فهي في أصل اللغة تدل على العلو ، والشارع يستعملها أحيانا بهذا المعنى ، ثم هي في هذا المعنى تستعمل للدلالة على العلو القريب وأحيانا على العلو كله ، والشارع حدثنا عن السموات السبع وهي من حيث إنها في جهة العلو تتفق مع أصل الوضع اللغوي ، ولكنها في اصطلاح الشارع تدل على شىء بعينه من مجموع هذا العلو.

في مجموع هذه الأمور زلت أقدام وتزل أقدام ويقع خطأ كبير ، وفي المقطع الذي مر معنا وردت كلمة السماء أربع مرات : (وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) وفي اجتهادي أن اللفظ الأول للسماء في الآية الأولى يراد به جهة العلو كلها ، واللفظ الثاني للسماء في نفس الآية يراد به السماء القريبة أي : منطقة تشكل السحاب. وأما اللفظ الأول للسماء في الآية الثانية فهو يوافق اللفظ الأول لها في الآية الأولى وأما السموات السبع فيراد بها السموات في الاصطلاح الخاص. بعد هذا العرض السريع لهذا الموضوع فلنتحدث عن بعض مقولات علماء الطبيعة في عصرنا :

يقدر علماء الطبيعة أن عمر مجرتنا التي تشكل مجموعتنا الشمسية جزءا منها حوالي

١٠٨

عشرة مليارات من السنين ، بينما يعتبرون أن عمر الأرض والشمس حوالي أربع مليارات ونصف من السنين ، فعمر الأرض إذن أقل بكثير من عمر المجرات ، فالسماء بمجموعها إذن أقدم من الأرض ، ونتيجة لهذا فإن بعض الدارسين وقع في حيرة ، بسبب أن القرآن يذكر أن السموات خلقت بعد الأرض ، وسبب الحيرة أنهم لم يفرقوا بين السماء بالمعنى الأعم والسموات السبع بالمعنى الأخص ، فالنص القرآني يثبت أن السموات السبع بالمعنى الأخص قد خلقت بعد الأرض ، ولكن القرآن يثبت كذلك أن الأرض قد خلقت بعد السماء بالمعنى الأعم.

لقد زعم بعض الباحثين أن السموات السبع هي هذه المجرات أو هي الكواكب وهذا الذي أوقعهم في الخطأ مرتين ومن أجل وضع الأمور في نصابها نقول :

تستعمل كلمة السماء في القرآن على أكثر من استعمال ، فأحيانا تطلق على ما علا ، فيدخل في ذلك الجو والنجوم والسموات والمجرات ، وأحيانا تذكر ويراد بها السموات السبع التي هي سكن الملائكة ، وإليها تعرج أرواح المؤمنين وإليها كان معراج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتي في أعلاها الجنة ، وسقفها عرش الرحمن ، وعدم التفريق بين المعنى الاصطلاحي للسموات وهي هذه السبع وبين السماء مطلقا كما هو معناها في اللغة مزلة قدم في فهم كتاب الله ، والسموات الواردة في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ،) إنما هي السموات في المصطلح الذي ذكرناه ، وهي سماوات يجب أن نؤمن بها فمن أنكرها كفر ، ولكن هل هي غيبية أو لا؟ أو هي فوق المجرات كلها أو لا؟ هذه كلها قضايا تحتملها النصوص وعبارات العلماء ، ولا يترتب عليه كفر أو إيمان وسنتعرض له في محله ولا يؤثر على العقيدة الجهل به ، ولكن هناك قضية تفرض نفسها في عصرنا وهي أن ظاهر الآية هنا ـ ويؤكد هذا المعنى الآيات الواردة في سورة فصلت ـ يذكر أن السموات السبع خلقت بعد الأرض ، بينما قال الله تعالى في سورة النازعات : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ، أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فههنا ذكر دحو الأرض بعد خلق السماء والذي أتجه إليه في هذا الموضوع : أن السموات السبع التي ذكرنا مواصفاتها خلقت بعد الأرض ، أما السماء ككل أي هذه المجرات فإنها خلقت قبل الأرض ويؤيد هذا الاتجاه أن الله ـ عزوجل ـ قد ذكر أن خلق السموات والأرض قد كان قبله شىء آخر وذلك قوله تعالى في سورة هود (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) وبهذا

١٠٩

الاتجاه الذي اتجهناه نكون قد جمعنا بين النصوص ، وبعد أن سجلت هذا الاتجاه في مسودة التفسير رايت أن الألوسي في تفسيره قد نقل عن بعض الإسلاميين ما يشبه هذا الاتجاه يقول في الصفحة (٢١٧) من الجزء الأول من تفسيره. «والذي يفهم من بعض عبارات القوم ... أن المحدد ويقال له سماء أيضا مخلوق قبل الأرض وما فيها ، وأن الأرض نفسها خلقت بعد ، ثم بعد خلقها خلقت السموات السبع ، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات ، ثم ظهر عالم الحيوان ، ثم عالم الإنسان» أقول : هذا النقل يحتاج إلى نقاش في بعض أجزائه ولكنه يؤيد أصل ما اتجهنا إليه ، وينبغي أن يكون واضحا أن القرآن يثبت قدم المجرات على تشكل الأرض ، وهذا من أعظم المعجزات التي تدل على أن هذا القرآن من عند الله.

فصل في إعجاز القرآن ومعجزاته :

رأينا أن الإعجاز شىء مشترك في القرآن كله ، ففي أصغر سورة أو بقدرها يقوم الإعجاز ، ويثبت التحدي ، وتقوم حجة الله عزوجل على الخلق بأن هذا القرآن من عند الله ، ولكن هناك معجزات أخرى في هذا القرآن زائدة على أصل الإعجاز ، إن كل معنى في القرآن يستحيل أن يكون أثرا عن علم بشري ، سواء كان حديثا عن ماض أو آت أو سر من أسرار هذا الكون يشكل في حد ذاته معجزة تزيد على مجرد الإعجاز ، إن الإعجاز حاصل في القرآن سواء وجد إخبار عن مستقبل أو لا ، وجد كلام عن قضية علمية أو لا ، فإذا وجد شىء من ذلك وجدت معجزة زائدة على الإعجاز الموجود في سور القرآن كلها ، وهذا معنى سيتضح شيئا فشيئا ، وإنما نبهنا على ذلك لأن كثيرا من المؤلفين يتساهلون في التعبير عن هذه الأمور ولا حرج في ذلك ، ولكنه كلام تقتضيه دقة العرض العلمي لهذا القرآن الكريم ، وبهذه المناسبة نقول : إن من أهم واجبات الدعاة في هذا العصر أن يعرفوا معجزات القرآن ، وأن يمتلكوا القدرة على فهم إعجازه ، وأن يحسنوا العرض لهذا كله ، فما من شىء أقرب من إقامة الحجة وأكثر تأثيرا في النفس من مثل هذا ، إن سيرنا في هذا الطريق وامتلاكنا ناصية البيان فيه يختصر لنا الطريق في الدعوة إلى الإيمان بالله وبالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالإسلام بآن واحد.

فصل في قضايا عقدية :

مر معنا في هذا المقطع قوله تعالى (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) فدل ذلك على أن الله عزوجل هو الذي يخلق الهداية والضلال ، على أن ذلك له أسبابه كما رأينا

١١٠

(وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ، الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ..) وهذا يؤيد ما اتجه إليه أهل السنة والجماعة في مسألة خلق الأفعال في أنهم يثبتون الأسباب ويسندون الخلق لله ، فكل شيء بعلمه جل جلاله وإرادته وقدرته ابتداء واستمرارا ، ولقد رأينا النقول التي نقلناها بمناسبة قوله تعالى (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) وكيف أن الصحابة اعتبروا من مخلات التوحيد الاعتماد على الأسباب أو نسبة الأفعال إليها دون ملاحظة أن ذلك لم يكن إلا بالله.

وأهل السنة والجماعة يرون أن الإيمان هو التصديق ، ويعتبرون العمل بالإسلام علامة كمال ، ومن ثم فلا يحكمون بكفر من صدق إذا أخل إلا إذا كان في تصديقه خلل ، أو أتى ناقضا يخل بأصل الإيمان ، ومن أدلتهم على ذلك قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فالعطف في اللغة العربية يقتضي المغايرة ، ومن ثم فإن العمل الصالح غير الإيمان.

ولعل أحدا من الناس يضايقه ذكر مثل هذه المعاني ولهؤلاء نقول : إننا لسنا أمام خيار ، فلقد ثارت هذه المسائل في التاريخ وأثيرت وإما أن نقدم للمسلمين اليوم خلاصة التحقيق فيها ليكون عند المسلم مناعة ضد الخطأ ، أو نسكت فيقع المسلم في الاتجاهات الخاطئة ، ونحيل المسلم على رسالتنا «جولات في الفقهين الكبير والأكبر» ليرى فيها ضرورة ما ذكرنا.

فصل في بعض دروس مقدمة السورة والمقطع الأول من قسمها الأول :

رأينا في المقطع أن الله عزوجل أقام الحجة على الكافرين من خلال ظاهرتي الحياة والعناية ، وأقام الحجة على وجوب عبادته وتوحيده من خلال ظاهرتي الخلق والعناية ، وعرفنا على أسباب الضلال ومظاهره ، وعرفنا على طريق الهداية ومعالمها ، وطرق سمعنا خلال ذلك قضية التقوى وقضية العبادة كأهم قضيتين على الإطلاق ، ونحب هنا أن نضع بعض الأطر لنعرف محل قضية التقوى والعبادة في مجموع دين الله.

١ ـ ما من قضية من قضايا التكليف إلا وقد بينها الله عزوجل في كتابه أو سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بما أحال عليه الكتاب والسنة من أصول تستنبط منها أحكام الله ، وأن مجموع ذلك وغيره إنما هو إسلام أو من الإسلام.

٢ ـ إن أركان الإسلام الذي يقوم عليه بناؤه خمسة ، وقد ذكرت الفقرة الأولى من مقدمة سورة البقرة ثلاثا منها.

١١١

٣ ـ إن مجموع ما يطالب به المسلم من مجموع الإسلام هو التقوى حقيقة وطريقا والتقوى هي التي توصل إلى الشكر ، ويدخل فيها العمل بالإسلام والتحقق بالإيمان والارتقاء إلى مقام الإحسان ، وقد فصلنا هذا كله في كتابنا «تربيتنا الروحية».

وباختصار نقول :

إن المسلم مكلف بأن يعرف الإسلام ، وأن يعرف شموله ، وأن يؤمن به ، ومكلف بأن يأخذ حظه من العمل بالإسلام ، وبأن يتحقق بالإيمان ، وبأن يسعى للإحسان ، وبأن يتحقق بحقيقة التقوى ، وأن يصل بذلك إلى مقام الشكر ، وهذه معان نعرضها هنا باختصار وسنراها كثيرا فيما بعد ، وإنما أحببنا هنا أن نلفت النظر إلى مجمل ما درسناه بالنسبة لمجموع النصوص ، ولعله قد وضح لدينا أنه لكي لا نكون كافرين ولا منافقين : فإن علينا أن نتذكر عهودنا مع الله ولا ننقضها ، وأن نصل ما أمر الله به أن يوصل من رحم وأن نواد أهل الإيمان ونواليهم ، وأن علينا ألا نفسد في الأرض بصد عن سبيل الله أو بدعوة إلى كفر ، وأن علينا أن نؤمن وأن نعمل صالحا ، بإقام الصلاة والإنفاق والعبادة واتباع كتاب الله ، وأن نتذكر ـ إذا وقع في قلوبنا وسوسة ـ هذا القرآن وإعجازه ، وظواهر هذا الكون التي تدلنا على الله ، وأن نتذكر أن أمامنا نارا أعدها الله للكافرين ، وسنرى كيف أن هذه المعاني كلها ـ مما ورد ههنا ومما سيرد في سورة البقرة ـ ستفصل فيه سور كثيرة.

كلمة أخيرة في المقطع الأول من القسم الأول :

مر معنا حتى الآن من سورة البقرة مقدمتها والمقطع الأول من القسم الأول منها ، وقد رأينا صلة المقدمة بهذا المقطع وعمق الارتباط بين المقدمة وبين هذا المقطع ، ورأينا صلة ذلك كله بفاتحة الكتاب. هذا كله قد رأيناه ، والآن نحب أن نذكر شيئا هو : أن هذا المقطع هو أول مقطع في القسم الأول من أقسام سورة البقرة ، وإذ كان هو المقطع الأول ، فإن صلته ببقية مقاطع القسم صلة خاصة حتى ليكاد يكون كل مقطع من المقاطع التالية يعمق معاني تعرض لها المقطع بشكل من الأشكال ، وسنرى ذلك كله تفصيلا فلننتقل بعد هذه الإشارة إلى المقطع الثاني من القسم الأول من سورة البقرة ، وفيه قصة آدم ، وقد وصلنا إليها بعد أن وضح لدينا : «أن الإنسان سيد هذه الأرض ومن أجله خلق كل شىء فيها كما تقدم ذلك نصا ، فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شىء مادي ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعا ... فهذه الماديات كلها مخلوقة أو مصنوعة من أجله ، من أجل تحقيق إنسانيته ، من أجل تقرير وجوده الإنساني ...».

١١٢

«وأن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول ، فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها ، وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها ، وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج هما اللتان تقودان الإنسان وراءهما ذليلا سلبيا كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر». عن الظلال.

المقطع الثاني من القسم الأول :

يمتد هذا المقطع من الآية (٣٠) إلى نهاية الآية (٣٩) وهذا هو :

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى لْأَرْضِ خَلِيفَةً

قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ لدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)

وَعَلَّمَ ءَادَمَ لْأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى لْمَلَـٰئِكَةِ فَقَالَ أَنبِـُونِى بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلَآءِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَـٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ لْعَلِيمُ لْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَـٰـَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ لسَّمَـٰوَٰتِ وَلْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ سْجُدُوا لِـَادَمَ فَسَجَدُوا إِلَّآ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ لْكَـٰفِرِينَ (٣٤)

وَقُلْنَا يَـٰـَادَمُ سْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ لْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ لشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ لظَّـٰلِمِينَ (٣٥)

١١٣

فَأَزَلَّهُمَا لشَّيْطَـٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا هْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ

وَلَكُمْ فِى لْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ (٣٦)

فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَـٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ لتَّوَّابُ لرَّحِيمُ (٣٧)

قُلْنَا هْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ فَلَا خَوْفٌ

عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَلَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِـَايَـٰتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ (٣٩)

١ ـ كلمة عامة في هذا المقطع وسياقه :

ـ يقص الله عزوجل علينا في هذا المقطع قصة آدم (عليه‌السلام) والحكمة في خلقه وكرامته على الله عزوجل ، وتمرد الشيطان بسببه وإغواء الشيطان لآدم وزوجه وإهباط الله عزوجل آدم وزوجه والشيطان إلى الأرض والقاعدة التي قررها لهم حين الإهباط (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.)

ـ جاءت قصة آدم بعد قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فبعد أن أخبرنا الله عزوجل عن تهيئة الأرض لنا ، أخبرنا عن قصة خلقنا وما ركبه فينا من استعدادات ؛ لاحظ الصلة بين قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وبين : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) لاحظ ذكر الأرض في كل من الآيتين فإذا ما لاحظت الصلة المباشرة بين قصة آدم وبين الآية التي سبقتها فلنحاول أن نرى صلة هذا المقطع بما قبله :

بدأت سورة البقرة بكلام عن المتقين والكافرين ومما ذكرته :

(الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لاحظ صلة ذلك

١١٤

في القاعدة الكلية التي تختم بها قصة آدم : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فبعد أن قرر الله عزوجل في المقدمة ما قرر ، تأتي قصة آدم فكأنها تقول : إن اتباع هداي هو شرطي عليكم من الابتداء ، ومن ثم فقصة آدم تعمق قضية الاهتداء بكتاب الله ، وتحذر من قضية المخالفة والكفر ، وهي في الوقت نفسه تعمق معنى الصراط المستقيم والسير فيه ، ومعنى تنكب صراط المغضوب عليهم والضالين الذي ورد في آخر فقرة من الفاتحة.

ـ رأينا أنه قد جاء بعد مقدمة سورة البقرة مقطع : في بدايته أمر ونهي. الأمر : هو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ.)

والنهي هو قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.)

وفي قصة آدم نجد أمرا ونهيا.

الأمر هو (اسْجُدُوا لِآدَمَ.)

والنهي هو (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ.)

وقد حدثت مخالفة للأمر والنهي فكان العقاب ، فقصة آدم جاءت لتعمق ضرورة الالتزام بطاعة الأمر واجتناب النهي.

وفي هذا القدر من ذكر الصلة بين قصة آدم وما سبقها من سورة البقرة كفاية وللكلام تتمة فلننتقل إلى ذكر التفسير :

٢ ـ التفسير :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (إذ) بإجماع المفسرين متعلقة بفعل أمر تقديره (اذكر) فأن يأمرنا الله عزوجل بعد ما مر من مقدمة السورة والمقطع الأول بتذكر هذه القصة ، فذلك دليل على ارتباط هذه القصة بما قبلها ، وورودها ضمن سياق متسلسل يخدم المعاني التي سبقتها كما رأينا ، وكما سنرى. والمراد بالخليفة في الآية : آدم وذريته ولم يقل خلائف أو خلفاء لأنه أريد بالخليفة آدم واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كما تستغني بذكر أبي القبيلة في قولك مضر وهاشم ، وهل هو خليفة عن الله؟ أو خليفة عن الجن؟ أو خليفة عن خلق آخرين؟ أقوال للمفسرين أقواها الأول وليس هناك نص قطعي في الموضوع ، والخليفة في اللغة : من خلف فلان فلانا في

١١٥

أمر إذا قام فيه مقامه بعده. عن ابن مسعود : أن الله قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قالوا : ربنا وما يكون ذاك الخليفة؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قال ابن جرير : فكان تأويل الآية على هذا : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي ، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه. (قالُوا) أي الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.) أخبرهم بذلك ليسألوا هذا السؤال فيجابون بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلاف الإنسان قبل كونه ، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون : يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ولا يصدر منا شىء من ذلك وهلأ وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) : أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء والعاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم. وإنما عرفوا أن الخليفة الجديد سيفسد في الأرض ويسفك الدماء إما بإخبار من الله تعالى ، أو من جهة اللوح ، أو قاسوا ما سيكون على شىء معروف لديهم من قبل ، ومعنى : (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) أي ننزهك ونبرئك من كل نقص وعيب متلبسين بالشكر لك ، ومعنى : (نُقَدِّسُ لَكَ) أي ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ، فَقالَ : أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قالُوا : سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) علم آدم أسماء المسميات كلها ، فأراه الأجناس التي خلقها وعلمه أن هذا اسمه فرس ، وهذا بعير ، وهذا سحاب ، وهذه مجرة ، وهذه شمس ، وهذا نجم ، حتى القصعة والمغرفة ، ثم عرض المسميات على الملائكة وطالبهم أن يخبروه عن أسمائها إن كانوا صادقين في ما اتجهوا إليه أنه يستخلف مفسدين سفاكين للدماء ، وفيه رد عليهم ، وبيان أن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله

١١٦

أن يستخلفوا ، فما كان جوابهم إلا أن قدسوه ونزهوه أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء ، وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم فهو العليم بكل شىء ، الحكيم في خلقه ، وأمره ، وفي تعليمه ، وعطائه ما يشاء ومنعه ما يشاء ، له الحكمة في ذلك والعدل التام .. (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أمر آدم أن يخبرهم بأسماء الأشياء كلها ، فلما ظهر فضل آدم عليه‌السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء ، ذكرهم بأنه جل جلاله يعلم الغيب الظاهر والخفي ويعلم ما يظهرونه في ألسنتهم وما كانوا يخفونه في أنفسهم ، وما أظهروه هو قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) .. والذي كانوا يكتمونه هو ما كان منطويا عليه إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته ومن المعتاد تعميم الخطاب وإرادة البعض. هذا الذي رجحه ابن جرير.

وبعد أن أرى الله عزوجل الملائكة مزية آدم ، أمرهم بالسجود له (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) هذه كرامة عظيمة من الله عزوجل لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، والجمهور : على أن المأمور به وضع الوجه على الأرض. وكان السجود تحية لآدم عليه‌السلام في الصحيح ، إذ لو كان لله تعالى لما امتنع عنه إبليس ، وكان سجود التحية جائزا فيما مضى ، ثم نسخ بشريعتنا ، وإبليس من الجن بالنص وهو قول الحسن وقتادة ، ولأنه خلق من نار والملائكة خلقوا من النور ، ولأنه أبى وعصى واستكبر ، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ولا يستكبرون عن عبادته ، ولأن الله عزوجل قال : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) ولا نسل للملائكة ، ودخل إبليس في خطابهم لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم ، قال الحسن : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس ، وقال شهر بن حوشب : كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة ، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء ، رواه ابن جرير ، وعن سعد بن مسعود قال : كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة يتعبد معها ، فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا ، فأبى إبليس فلذلك قال تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) (سورة الكهف) ، وللمفسرين اتجاهات أخرى في هذا المقام ولا طائل في ذلك ، وقد حسد عدو الله إبليس آدم عليه‌السلام على ما أعطاه الله

١١٧

من الكرامة وقال : أنا ناري وهذا طيني ، فامتنع عن السجود كبرا ، فكان بدء الذنوب الكبر ، فاقتضى ذلك طرده وإبعاده عن جنات الرحمة وحضرة القدس ، ومعنى قوله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي : وصار من الكافرين بإبائه واستكباره ورده الأمر.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ، وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس أنه أباح له الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغدا أي هنيئا واسعا طيبا والجنة هي نفسها دار الثواب وقالت المعتزلة : كانت بستانا في الأرض لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها والجواب : إنما لا يخرج منها من دخلها جزاء وقد دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها ليلة المعراج ثم خرج منها ، وأهل الجنة يكلفون المعرفة والتوحيد قال ابن جرير : «نهي آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة ، وقد قيل كانت شجرة البر ، وقيل كانت شجرة العنب ، وقيل كانت شجرة التين ، وجائز أن تكون واحدة منها ، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به» ا ه. وقد بين الله عزوجل لآدم وزوجته أنهما إذا قاربا الشجرة كانا من الظالمين ، لأنه لا ظلم للنفس أعظم من معصية الله ، ولا ضرر عليها أعظم من ذنبها ، فأي ظلم أكبر من أن تتجاوز ما حد الله لك بعد كل ما أعطاك بلا مقابل منك؟ (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) أي عن الشجرة أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها ، أي فأصدر الشيطان زلتهما عنها ، أو عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما. وزلة آدم بالخطأ في التأويل بحمل النهي على التنزيه دون التحريم. وهذا دليل على أنه يجوز إطلاق اسم الزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال بعضهم : لا يطلق اسم الزلة على أفعالهم كما لا تطلق المعصية ، وإنما يقال فعلوا الفاضل وتركوا الأفضل فعاتبهم ربهم وله عتابهم ، أما نحن فقد أدبنا الله بأن نتأدب معهم ، وذهب بعضهم أن ما فعله آدم كان قبل النبوة ، وبالتالي فلا خدش لموضوع العصمة فيما فعله آدم عليه‌السلام. (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) أي من النعيم والكرامة أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في (عنها).

١١٨

والسؤال : كيف توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) سورة (ص) والجواب : إنه منع من دخولها على جهة التكرمة كدخول الملائكة لا عن دخولها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء ، وبعضهم ذهب إلى أن الوسوسة مستطاعة له على البعد ، والرواية الإسرائيلية تذكر الحية كواسطة في الدخول وسنرى قيمة الروايات الإسرائيلية فيما بعد.

(وَقُلْنَا : اهْبِطُوا) الهبوط النزول والخطاب على رأي بعضهم لآدم وحواء وإبليس وبعضهم قال : الخطاب لآدم وحواء لأن إبليس أمر بالهبوط من قبل ، والمراد هما وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) على الوجه الأول فالمراد به عداوة إبليس للإنسان وعلى الوجه الثاني فالمراد به ما عليه الناس من التباغي والتعادي وتضليل بعضهم لبعض (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) المستقر إما موضع الاستقرار أو هو الاستقرار نفسه (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) المتاع : التمتع ، والحين : إما يوم القيامة أو الموت (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) أي استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها ، أي إن الله عزوجل ألهمه إياها والكلمات هن : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ،) (سورة الأعراف) (فَتابَ عَلَيْهِ.) أي فرجع عليه بالرحمة والقبول واكتفى بذكر توبة آدم لأن حواء كانت تبعا له. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.) التواب : الكثير القبول للتوبة ، والرحيم : الكثير الرحمة. (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً.) أي مجتمعين ، وكرر الأمر بالهبوط للتأكيد ، أو لما نيط به من زيادة قوله تعالى (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) إذ هي القاعدة الكلية التي سيكون عليها مدار فعل الله جل جلاله بهم (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) الهدى هنا هو : الرسول أو الكتاب أو الوحي ، أو هو : الكتاب أو الوحي بواسطة رسوله (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) الاتباع يكون بالقبول له والإيمان به والعمل. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما فاتهم من أمر الدنيا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا.) أي : جحدوا الهدى وكذبوا أهله مع مجيئهم بالآيات (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ.) أي : أهلها ومستحقوها (هُمْ فِيها خالِدُونَ.) أي : مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص.

١١٩

٣ ـ فوائد

(أ) أخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله عزوجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك ، والسهل والحزن والخبيث والطيب» قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. أقول : وهو نص في كون آدم لم يتطور عن شىء سبقه ، ولنا عودة على هذا الموضوع ، وأخرج مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها» وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال : «ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس» وقال الحسن : «لبث آدم في الجنة ساعة من نهار ، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا» وقال أبو موسى : «إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شىء ، وزوده من ثمار الجنة ، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير».

أخرج الحافظ أبو بكر بن مردويه عن أبي ذر قال : «قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبيا كان؟ قال : نعم. أنبيا رسولا يكلمه الله قبيلا» أي : عيانا.

(ب) يلاحظ من قصة آدم وموقف الملائكة من خلقه ، كيف أن العلم المحيط تنكشف به من الأسرار والحكم ما لا ينكشف بغيره ، وعلم الله أزلي ليس كمثله شىء ، ولكن من قصة آدم نأخذ درسا وهو أنه كلما ازداد العلم كان الحكم أصح ففي حياتنا الدنيوية نجد كثيرين ليسوا مرشحين لإصدار أحكام في كثير من القضايا لعدم إحاطتهم بها ، ومن ثم فإن أحكامهم تبقى قاصرة وهذا يجعلنا ـ وخاصة في أمر بناء الأمم واعتماد ما ينبغي اعتماده في شؤون الحكم والعامة والخاصة ـ نتأنى كثيرا فلا نصدر حكما إلا بعد استيعاب شامل للقضية التي بين أيدينا.

(ج) يلاحظ أن الملائكة عندما سئلوا عما لا يعلمون كان جوابهم (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) وهذا أدب رفيع أن يقول المسؤول عن شىء لا يدريه : لا أدري. قال القرطبي : وذكر الهيثم بن جميل قال شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال : في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري» وهو أدب نفيس. فقد اعتاد

١٢٠